أولًا: التطور الأخير١

تطوَّرت الظاهريات النظرية في اتجاه النظريات التطبيقية، فقد اكتملت ظاهريات الفعل كما تركها مؤسسها لظاهريات الموضوع أو أنطولوجيا الوجود الإنساني أو الأنطولوجيا النقدية.

رفع الرد الظاهرياتي، ويمكن الآن الوصف دون ممارسة التقويس مسبقًا،٢ ومع ذلك تظل ظاهريات الموضوع فرعًا من الظاهريات أكثر منها أنطولوجيا جذرية، وقد اعتبرت من قبل ظاهريات الحدس الوجداني كظاهريات حركية.٣
كان التطبيق باستمرار هو مصير كل علم نظري جديد، وفي بداية العصور الحديثة وُضعت المسائل اللاهوتية والدينية بين قوسين بالرغم من تسربها من أسفل إلى باقي العلوم، ثم أتت بعض العلوم الأخرى لرفع القوسين؛ لتغرق إلى الأذقان في المسائل اللاهوتية والدينية مطبقةً المنهج الجديد المكتشف حديثًا.٤ ومرةً أخرى وضع «الشيء في ذاته» بين قوسين من أجل الإبقاء على الظاهرة، ثم أتت علوم لترفع القوسين وتحاول الإبقاء على الظاهر، ثم أتت علوم أخرى لترفع القوسين وتحاول تحديد الشيء في ذاته، كإرادة أو ذات مطلقة أو روح مطلق،٥ وأخيرًا أتت الظاهريات كعلم نظري لتضع العالم بين قوسين، ثم رُفع القوسان وأصدرت أحكام على الوجود، بالعدم أو الوجود من أجل الموت أو الوجود في العالم.٦
وفي كل هذه الاتجاهات لم تطبق الظاهريات كمنهج، بل دُفعت إلى أقصى مداها، وأصبحت أنطولوجيا ظاهراتية، واسعة للغاية بحيث امتدت جذورها إلى الفلسفة وعلم النفس والأنطولوجيا النقدية.٧
وقد تحدَّدت بوضوحٍ العلاقة بين الظاهريات والأنطولوجيا في الجزء الثالث من «الأفكار»،٨ تظهر الأنطولوجيا داخل الشعور كما يبين ذلك «أصل العالم»، الأنطولوجيا ممكنة عن طريق تطبيق قاعدتَي المنهج الظاهرياتي؛ الرد والتكوين، ثم تضمن الأنطولوجيا موضوعية التصور الذي يشير ليس فقط إلى مقولات فارغة، بل إلى مناطق للشعور، وقد سُميت هذه الأنطولوجيا من قبل أنطولوجيا المناطق، وأول ظهور لأنطولوجيا الشعور هو مضمون الشعور ومضمون الماهية.٩ مضمون الشعور هو الموضوع الحي في الشعور، ضد الاتجاه الطبيعي. والماهية حقيقة موضوعية لها وجودها الفعلي، وليس فقط المثالي كما هو الحال في «نظرية المثل»، وبتعبير آخر، هناك ثلاثة أنواع من الأنطولوجيا؛ الأول الأنطولوجيا المادية، وهي أنطولوجيا الموضوعات الخارجية التي لم توضع بعدُ بين قوسين، والثاني الأنطولوجيا «الهيولانية» التي يتم الحصول عليها بعد وضع الأنطولوجيا الأولى بين قوسين، والثالث الأنطولوجيا الصورية التي تضمن موضوعية الأشياء باستقلالها الذاتي وشمولها. هذه الأنطولوجيا الثالثة هي الضامن لصدق المعطي الحي، بل وتستطيع تصحيح أخطاء الإدراك الحسي وتقويمه.
والأنطولوجيا هي تقريبًا اسم مرادف للرياضيات الشاملة التي تم البحث عنها بإصرار.١٠ والأنطولوجيا الترنسندنتالية التي تطوَّرت على نحو نسق كامل هي في نفس الوقت أنطولوجيا أصيلة وشاملة، وليست أنطولوجيا صورية فارغة، أنطولوجيا شاملة عيانية تتضمن كل إمكانيات مناطق الوجود طبق علاقات التضايف التي تتضمنها.١١ أنطولوجيا المناطق أنطولوجيا نظرية، وما زالت تبحث عن إقامة نظرية في المعرفة.١٢
لقد أعطت الظاهريات إمكانية تأسيس الأنطولوجيا عن طريق اكتشاف أنطولوجيا المناطق في الشعور، والأنطولوجيا كعلم شامل للوجود، وقد قامت أنواع الأنطولوجيا التي خرجت من الظاهريات على أسس وجدانية وشعرية ومعرفية،١٣ هي الأنطولوجيا المستمدة من الظاهريات، والتي وجدت فيها الظاهريات اكتمالها، وتنهي كل أنواع الأنطولوجيا التي تقوم على أسس فلسفية ونفسية أو على تأملات شخصية إلى أنطولوجيا واحدة، والأنطولوجيا العيانية.
الأنطولوجيا العيانية هي التي تكشف ماهيات الوجود ابتداءً من الخبرات الحية للوجود الإنساني،١٤ هي العلم الإنساني الوحيد الممكن للوجود الإنساني؛ فالظاهرة الإنسانية، النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية … إلخ، خبرة حية للوجود الإنساني، ولها مستواها الخاص في التحليل، لا تخضع لا للمصادرات الصورية ولا للقوانين الطبيعية، لها منطقها الخاص في الأنطولوجيا العيانية.

وربما لم يكن لفظ «الظاهريات» أفضل تسمية تطلق على العلم الذي تشير إليه؛ فاللفظ يحيل إلى الظاهر، وقد شعرت الظاهريات الأنطولوجية بهذا التطابق بين الاسم والشيء المشار إليه، والتأكيد على أن الظاهرة ليس مظهرًا بل ظهور بفضل المعنى الاشتقاقي لفعل «ظهر» ومنه «ظاهرة». الأنطولوجيا هي إذَن المعنى النهائي للظاهريات، والتحليل الوجودي للكيان الإنساني هو حتمًا أنطولوجيا، ولكنها ليست أنطولوجيا عيانية؛ إذ تستطيع خبرات الحياة اليومية إثبات نقيضها أو تفسير الخبرات التي تم تحليلها تفسيرًا آخر، الأنطولوجيا العيانية هي التي يتم تأسيسها في هذا العمل.

وقد وُجدت الأنطولوجيا الظاهراتية، أو بتعبير أكثر دقةً الأنطولوجيا الوجودية، بفضل عدد من القراءات المتعددة، ومن أجل أن تظهر كفلسفة فقد تأسَّست على بعض عبارات مستعارة من الفلسفة الرسمية، وهي تكوِّن الآن فلسفةً خاصة بعد نسيان نقطة البداية في الظاهريات النظرية، وقد تم رد المنهج الظاهرياتي إلى محوره الرئيسي، التحليل النظري للخبرات اليومية، وقبل تحليل الخبرة توضع الأشياء المادية بين قوسين، ثم يُرفع القوسان بسرعة من أجل إصدار أحكام على الوجود، دلالة الخبرة شيء، والحكم الصادر على الوجود شيء آخر، والخبرات موضوع التحليل من نوع واحد، وهي الخبرات السلبية؛ الموت، العدم، النفي، الكذب، سوء النية، الثرثرة، الانهيار، الاضطراب النفسي، الهم، القلق، الحصر … إلخ. أما خبرات الفرح والسعادة والأمل والإخلاص والتضحية … إلخ، فلا وجود لها تقريبًا، وأحيانًا يتم تحليلها من أجل التوجه نحو العدم، الرغبة عن طريق الاشمئزاز، والمحبة بالكراهية … إلخ. ويمكن لتحليل الخبرات السلبية أن ينتهي أيضًا إلى الوجود وليس إلى العدم، من الموت إلى الخلود، ومن الهم إلى الفعل، ومن الضيق إلى الخلق … إلخ.

(١) الأنطولوجيا الشعرية١٥

في «الوجود والزمان» يتم البحث عن الأشياء ذاتها، كما هو الحال في الظاهريات التي مهَّدت الطريق لإمكانية البحث أكثر من البحث الذي اكتمل من قبل.١٦ وخرج تحليل الشخصية من ميدان الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأحياء كي يصبح تحليلًا أنطولوجيًّا للوجود الإنساني.١٧ وقد استعمل عديد من الموضوعات الظاهراتية باستفاضة، مثل: فهم التجريبي وضرورته لتحليل العلامة والدلالة، التفسير كتعرف، التمييز بين الكل والمجموع، التحضير كصفة للإدراك الحسي من أجل الانتهاء إلى التحليل الأساسي للوجود الإنساني كوجود في العالم، وكوجود مع الآخرين، وكوجود مهموم، وكوجود من أجل الموت … إلخ.١٨
ويقبع المنهج الظاهرياتي في البحث كمنهج أساسي في «الوجود والزمان».١٩ وتكون المنهج الأنطولوجي من أجل الوصول إلى الأشياء ذاتها، ويخرج من الظاهريات؛ فالظاهريات ليست وجهة نظر ولا اتجاهًا، بل هي تصور منهج، ويتكون اللفظ من مقطعين «ظاهرة» و«لوجوس»، ولا يعني لفظ ظاهرة فقط المظهر، بل أيضًا الظهور، ومنه فعل «يشير إلى»؛ فالظاهرة هي الكشف، والانفتاح، وينتمي الفعل إلى الجذر φαί، ومنها لفظ «فوس» الذي يعني الضوء.٢٠

(٢) الأنطولوجيا الفلسفية٢١

يقوم «الوجود والعدم» أنطولوجيا مجاورة لأنطولوجيا «الوجود والزمان»، ويبين العنوان الفرعي «محاولة في الأنطولوجيا الظاهراتية» تحول الظاهريات إلى أنطولوجيا بدأها من قبل «الوجود والزمان»،٢٢ وقد أُخذت فكرة الظاهرة أو العلاقة بين النسبي والمطلق كنقطة بداية للتحليل، واستعمل «الرد» الظاهرياتي من أجل تجاوز الظاهرة الحسية بالرؤية الحدسية لماهيتها، وبعد الرد اعتبر «الشيء في ذاته» لا واقعيًّا، وأن وجوده هو المدرك، وأن كل معرفة هي معرفة بشيء، وتم التأكيد على ضرورة الواقعة من أجل إثبات استحالة رد الوجود إلى ما هو أقل منه في معرض نقد الدليل الأنطولوجي، لم تستمر الحدوس الأولى لمؤسس الظاهريات إلى نهاياتها، وظلت الأنطولوجيا على أرضية الظاهريات، وربط العدم بسلبية صورة الشعور. ولم تنجح الطبقة الهيولانية لصورة الشعور في تجاوز الذاتي إلى الموضوعي، ولا يكفي تحريك النواة الهيولانية بالقصديات وحدها التي تملؤها هذه الهيولى في الخروج من الذاتية، الشعور تجاوز وتعالٍ ومفارقة، وهو عدم إخلاص للمبادئ الأولى، ومع ذلك يظل لتحليل القصدية ما يبرره تمامًا، هذه هي الموضوعات الظاهراتية في مقدمة «الوجود والعدم» بحثًا عن الوجود لتأسيس الأنطولوجيا الظاهراتية.٢٣
وتم استعمال التحليل الظاهرياتي في وصف العدم؛ فالأحمر مجرد لأن اللون لا يوجد دون الشكل، ورد العالم إلى حالة التضايف مع مضمون الشعور بداية بالمجرد عن قصد، فهل اللاوجود نمط من وجود مضمون الشعور؟ والقصدية لها طابع انتزاع الذات، والقصديات الفارغة تكوِّن إلى حدٍّ كبيرٍ الإدراك، أليس هذا وقوعًا في الإدراك الخاطئ الشيئي؟ يظهر الوعي أساسًا كغياب، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي تبدأ منها معالجة مشكلة العدم.٢٤
وقد انتهى استكشاف الوجود إلى الوجود لذاته، ولتجنُّب الوقوع في خطأ النزعة الجوهرية تظل الظاهريات على مستوى الوصف الوظيفي، ومن ناحية أخرى صحيحٌ أن «الوجود المرئي» يجلب معه لكل «تجربة حية» تغييرًا كليًّا، ومع ذلك يظل الكوجيتو سابقًا على التفكير، الشعور المتأمِّل وحده يستطيع أن ينفصل عن الشعور المتأمَّل فيه، وعلى مستوى التفكير يمكن رفض العمل المشترك. وتساعد ضرورة الواقعة باعتبارها مكوِّنًا على إدراك بداهة الكوجيتو،٢٥ «أنا أفكر» مصيدة للطيور، مبهر وجذاب، وقد أعطى للشعور على نحو مفتعل استباقات من البنية التحتية، ليست القصدية إلا كاريكاتير للمفارقة المرجوة، واللحظة المتناهية في الصغر ليست إلا الحد المثالي لقرار دُفع إلى حدِّ اللانهائي، ويقوم المفكر فيه نفسه وكأنه كان موجودًا قبل التفكير، والحدس هو حضور الشيء بشخصه للشعور، وتستبعد الضرورة التي توجد بطريقة لا مشروطة اللون والشكل، والملاء يترك مكانه للخلاء، وليست المقولات إلا المرات المثالية للأشياء التي تتركها كلية دون المساس بها، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي يستعملها سارتر في وصف الوجود لذاته.٢٦
وقد تميَّز وجود الآخر بتحليل مفصَّل للنظرة،٢٧ ولا مكان للأنا وحدية؛ لأن اللجوء إلى الآخر شرط مسبق لتكوين العالم؛ فالعالم الذي يبدو للشعور هو عالم بين المونادات تحت مطرقة «الرد» الظاهرياتي، يبدو الآخر ضروريًّا حتى لتكوين الذات، الأنا ترنسندنتالي، يكوِّن الآخر، وينكشف في تجربتنا العيانية كغياب، باختصار، يتحول الآخر إلى سلسلة من الدلالات، والعلاقة الوحيدة بين وجودي ووجود الآخر هي علاقة المعرفة،٢٨ والآخر أكثر من ذلك، أكثر من وصف البنية الأنطولوجية لعالمي الذي يدعى أيضًا أنه عالم الآخرين.٢٩
ولا تكفي الحساسية كمادة هيولانية يحرِّكها القصد ﻟ «عامل التعاند» للموضوع،٣٠ تستطيع القصدية الوجدانية ولا شك أن تحدِّد العلاقات العيانية لوجود الآخرين، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي يبدأ فيها سارتر لاستكشاف الوجود من أجل الآخرين.٣١
وأخيرًا يأتي تحليل المقولات الثلاث؛ الملكية، والفعل، والوجود. يقدم الكوجيتو حقيقة الماهية مع أن الوجود يسبق الماهية، ويقوم الفكر الإرادي البسيط، ببنيته الانعكاسية، يستعمل التقويس بالنسبة للباعث، ويعلِّقه ويضعه بين قوسين، وهذا إعدام للباعث، ويظل الشعور لحظيًّا، ولا تستطيع الظاهريات إخراجه منها، هذه هي الموضوعات الظاهراتية التي تُستخدم من أجل استكشاف الجزء الأخير من «الوجود والعدم». الأنطولوجيا الظاهراتية هي إذَن فلسفةُ عدمٍ أكثر منها فلسفة وجود، تسودها رؤية سلبية للعالم.٣٢

وهكذا لم يطبق فقط المنهج الظاهرياتي، ولكن الظاهريات نفسها قد تغيرت تمامًا، صحيح أن الأنطولوجيا تحتوي على ثراء لغوي وتحليلي، ولكنها تقترب من الأدب، وتبتعد تدريجيًّا عن الفلسفة كعلم دقيق كما تصورتها الظاهريات، وكانت الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات هي أشكال التعبير المفضَّلة، وفي الأنطولوجيا الظاهراتية العلمية يغيب هذا الجانب الأدبي.

(٣) الأنطولوجيا العلمية (النفسية)٣٣

وتبدأ الأنطولوجيا الظاهراتية القائمة على أساس علمي بتطبيق المنهج الظاهرياتي في موضوع خاص مثل: الإدراك الحسي، السلوك، الانفعال، الخيال، الخيالي … إلخ. ويطبق المنهج على نحو غير مباشر بنقد النظريات النفسانية في الاتجاه الطبيعي، ولا يتلاءم علم النفسي التجريبي ولا علم النفس العقلي مع الظاهرة النفسية؛٣٤ ومن ثَم تُستعمل الظاهريات كأساس شعوري لنقد علم النفس الحالي، وإذا كان علم النفس الوصفي أساس الظاهريات فقد أدَّت الظاهريات خدمة جليلة لعلم النفس الوصفي، كما أدَّى علم النفس الوصفي نفس الخدمة لعلم النفس، كلٌّ في عصره؛ فقد ساعدت الظاهريات على نشأة تيار جديد في علم النفس هو علم النفس الظاهرياتي.
ولا ينفصل علم النفس عن الأنطولوجيا؛ فالأنطولوجيا أساس كل علم تجريبي بما في ذلك علم النفس، يتحدد كل علم في علاقته بالأنطولوجيا قبل أن يكون معرفة، وقد تحددت بوضوحٍ العلاقة بين الظاهريات وعلم النفس في «الأفكار» الجزء الثالث، وهو العمل الذي تظهر فيه الظاهريات كعلم مكتمل،٣٥ وأعيد تناول الموضوع فيما بعد في «الظاهريات النفسية» كنموذج،٣٦ والسؤال المطروح هو: كيف تقوم الظاهريات على علم النفس الوصفي وتنفصل عنه؟ وكيف تقدم له ولعلم النفس بوجه عام خِدماتٍ جليلةً؟
و«علم نفس السلوك» تطبيق من نوع آخر للمنهج الظاهرياتي،٣٧ يضع السلوك الانعكاس الشرطي بين قوسين من أجل تكوين السلوك الأسمى، كما يضع النظام الفيزيقي والنظام البيولوجي بين قوسين من أجل تكوين النظام الإنساني في الشعور الإدراكي كحل جديد للمشكلة القديمة، صلة النفس بالبدن.
وتُعتبر «ظاهريات الإدراك الحسي» ضمن أكثر التطبيقات إحكامًا للمنهج الظاهرياتي،٣٨ لم تُعرض الظاهريات فقط في جوانبها المنهجية، رفض الأحكام المسبقة القديمة، والعود إلى الأشياء ذاتها، ولكن أيضًا في نتائجها، مثل اكتشاف جسد العالم المرئي للوجود لذاته وللوجود في العالم كميادين للاستكشاف، واستُعملت بعض التحليلات الظاهرياتية مثل: الظاهريات كوصف وليس كتفسير أو مجرد تحليل، الرد الظاهرياتي كاكتشاف للعالم، إدراك ماهيات العالم الحي، اكتشاف القصدية كتقاطع بين الذاتية المتطرفة والموضوعية المتطرفة.٣٩
ويبين «المرئي واللامرئي» بوضوح تجاوُزَ الظاهريات إلى الأنطولوجيا، لم يعد المنهج الظاهرياتي يطبق في ميدان نفسي، سلوكًا أو إدراكًا حسيًّا، بل تم نقده باعتباره منهجًا حدسيًّا ما زال ينتمي إلى نظرية المعرفة.٤٠ وتم تجاوز التمييز التقليدي بين الواقعة والماهية في المنهج الظاهرياتي، لم تعد الماهية موجودًا فعليًّا ثابتًا يمكن البحث عنه بفعل الشعور بتحويله من واقع إلى مثال، والتمييز بين الزمان والمحل ما زال ينتمي إلى ثنائية نظرية المعرفة، في حين أن التعشيق ثنائية،٤١ ويمكن فكه في الوجود في العالم.٤٢
ويتبع «مخطط نظرية الانفعالات» نفس مسار «الخيال»؛ فهي دراسة نفسية ظاهراتية؛٤٣ إذ يقع، أي علم النفس، إما في النزعة العقلية أو النزعة التجريبية، وتعتبر النظريات التقليدية الانفعال مجموعة من الظواهر الفيزيولوجية أو النفسية للشعور، بل إن النظريات التي تقوم على الغائية تظل على المستوى الآلي، كما أن نظرية السلوك الانفعالي أيضًا غير كافية، وكل هذه النظريات الفيزيولوجية والسلوكية والانفعالية الوظيفية تحيل إلى الشعور.٤٤ ودون اللجوء إلى نظرية التحليل النفسي يبدأ تأسيس نظرية ظاهراتية، الشعور الانفعالي هو أولًا شعور بالعالم؛ فالعالم هو الطرف الموضوعي للانفعال.٤٥
أما «الخيالي» فهو دراسة في علم النفس الظاهرياتي للخيال كما يصرح العنوان الفرعي،٤٦ ويتطلب المنهج الظاهرياتي تحليل الموضوع كصورة ذهنية وليست الصورة الذهنية كموضوع، ويستبعد خطأين: المفارقة في النزعة العقلية، والحلول في النزعة التجريبية. الصورة الذهنية شعور؛ هي ظاهرة تخضع تقريبًا للملاحظة، يضع الشعور الخيالي موضوعه كعدم، ويعطي نفسه كتلقائية تنتج وتحفظ الموضوع كصورة ذهنية، وتوصف هذه الصورة الذهنية في مجموعات: صورة شخصية، صورة كاريكاتيرية، علامة. ويتعلق كل هذا الوصف القصدي للصورة الذهنية باليقيني؛ أي بالموضوع الخارجي كصورة ذهنية، وهناك نوع آخر من الصور الذهنية، وهو المحتمل الذي يقدِّمه الموضوع الداخلي للشعور مثل: المعرفة، التعاطف، الحركة، الصورة الذهنية؛ ومكوناتها: الكلمة والشيء. وتلعب الصورة دورًا في الحياة النفسية عن طريق الرمز والمخططات الرمزية والتصوير الذي يتطلب نوعًا خاصًّا من السلوك، صحيح تستطيع الصورة أن تظهر في إطار مرضي أو في الحلم كما تظهر في الشعور وفي العمل الفني.

وقد طُبق المنهج الظاهرياتي أيضًا في ميادين نفسية أخرى، الخيال والخيالي والانفعالات.

ففي «الخيال» تم تحليل الصورة كنمط لوجود الأشياء،٤٧ فلا يستطيع المنهج العقلي، وهو أساس كل المذاهب الميتافيزيقية الكبرى،٤٨ ولا المنهج الوضعي وهو أساس كل النظريات النفسية،٤٩ أن يدرك ماهية الصورة، المنهج الظاهرياتي وحده، وهو أساسًا منهج استنباطي، هو الذي يستطيع ذلك، ليس كموضوع عقلي وليس كموضوع مادي بل كقصد متبادل.٥٠
وظاهريات اللغة مقاربة لوصف ماهية اللغة ابتداءً من العالم الحي في حركتين، من المثال إلى الواقع، ومن الواقع إلى المثال. الأولى تكوِّن اللغة في المعية الزمانية، والثانية تكوِّن اللغة في المتوالية الزمانية،٥١ وتوجد علاقة الدال بالمدلول في «الترسيب»؛ أي في التراكم الدلالي.٥٢

والأنطولوجيا الظاهراتية التي تقوم على أساس علمي ترد الظاهريات إلى مصادرها، خاصةً مصدرها النفسي، وتظل الأنطولوجيا العيانية التي تحيل إلى أطر إنسانية أكثر إخلاصًا للظاهريات من الأنطولوجيا العلمية التي تستمر في أداء مهمة إصلاح علم النفس الراهن.

(٤) الأنطولوجيا النقدية٥٣

استُعمل المنهج الظاهرياتي من أجل وصف واقع المعرفة، وهي المهمة الرئيسية لنظرية المعرفة، وتوصف الأشياء ذاتها قبل أي نقاش بين المثالية والواقعية. إن مجرد وصف كل جوانب الظواهر الميتافيزيقية والنفسية والمنطقية لا يقدم إلا المعرفة الساذجة، وهي أقل أهمية من المعرفة العلمية، ومما لا شك فيه أن السمات التي يمكن الحصول عليها تعبر عن البنية المثالية الجوهرية والقبلية للظاهرة، والظاهريات لا تتعامل مع ظواهر فعل الشعور الترنسندنتالي بل ظواهر الموضوع،٥٤ وظاهريات ظواهر الأفعال ترتبط أيضًا بتصور حلولي للمعرفة، وخاضعة للحكم المسبق المثالي؛ ومن ثَم من الضروري فتح القوسين، ويمكن تصور وصف للماهيات لا يفترض هذا الرد الترنسندنتالي.٥٥
ولا يمنع المنهج الظاهرياتي من وصف نفسي موازٍ للوصف الظاهرياتي دون افتراض رد مبدئي، بل على العكس يتوجه الوصف إلى موضوع الشعور، ويتوجه أيضًا إلى موضوع موجود بالفعل في الزمان والمكان حتى بعد ممارسة «الرد الظاهرياتي».٥٦ وإذا كان للظاهرة معنًى إيجابي في الظاهريات فهي كل ما يتجلى، إنها الوجود ذاته، بل هي في الأنطولوجيا النقدية مجرد طريق للوصول إلى الوجود، الظاهرة ليست كل شيء، وتختلط الظاهريات بالفلسفة، يقينًا إن وصف الميدان الترنسندنتالي ليس إلا الخطوة الأولى لنقد التجربة الترنسندنتالية والمعرفة الترنسندنتالية بوجه عام، وهي المرحلة الثانية، ومع ذلك ليست الظاهريات إلا خطوة نحو الأنطولوجيا النقدية.٥٧
وإذا كانت القصدية في قلب الظاهريات فليس لها هذه الأهمية في الأنطولوجيا النقدية، فهي لا تعبر إلا عن الجانب النفسي للظاهرة وليس الجانب الميتافيزيقي، ليس الموضوع قصديًّا فحسب، ولكنه له وجود في ذاته ومستقل عن المعرفة.٥٨
ليست الأنطولوجيا النقدية توجهًا ظاهراتيًّا جديدًا فقط، ظاهريات الموضوع، بل هي أيضًا رد فعل على الكانطية الجديدة؛٥٩ فقد كان مفهومها للموضوع تشويهًا لمشكلة المفارقة وخلطًا في رؤيتها للقيم في مشكلة المعرفة،٦٠ هذا بالإضافة إلى أن المنطق فيها لم يكن يقوم على شيء؛٦١ فليس الحكم هو المشكلة الكبرى في نظرية المعرفة، ولم يكن في الكانطية الجديدة تمييز كافٍ بين موضوع المعرفة وخلقها العقلي.٦٢ صحيح أن الكانطية الجديدة رد فعل نقدي بعد الرومانسية الدينية للفلاسفة بعد كانط، ومع ذلك ترفض الأنطولوجيا النقدية التوحيد بين الميتافيزيقا والنقد. المعرفة إدراك الوجود، والذات والموضوع من الوجود، والميتافيزيقا علم يتوجه نحو الوجود، وتتضمن مشكلة المعرفة ميتافيزيقا الوجود، بل إن الميتافيزيقا هو علم الوجود ذاته.
وطبقًا للأنطولوجيا النقدية تتضمن المعرفة جانبًا ميتافيزيقيًّا؛ لأن المعرفة أساسًا إدراك للوجود، تخضع الذات إلى وجود سابق سلفًا، ولا يوجد استقلال للروح بالنسبة لكل مادة موجودة سلفًا كما تفترض الكانطية الجديدة.٦٣ تتضمن مشكلة المعرفة جوانب نفسية وميتافيزيقية ومنطقية، في حين أن الكانطية الجديدة لا تتعامل إلا مع الجانب المنطقي، والمنطق ليس منطقًا صوريًّا بل منطق وجود.
وما زالت الأنطولوجيا النقدية مرتبِطة بالتراث الفلسفي بالمعنى الدقيق، ومتميزة عن الأنطولوجيا الوجودية، وتكوِّن حركة مستقلة عن الظاهريات وعن الأنطولوجيا الظاهراتية بالمعنى الدقيق.٦٤
١  Ibid., pp. 149–62.
٢  التقويس έποχή.
٣  انظر الفصل الأول، ثالثًا: الظاهريات السكونية والظاهريات الحركية.
٤  هذه هي حالة ديكارت والديكارتيين.
٥  هذه حالة كانط والفلاسفة بعد كانط.
٦  وهذه حالة هوسرل والفلاسفة بعد هوسرل، فلاسفة الوجود.
٧  جان بول سارتر: الوجود والعدم J. P. Sartre: L’Etre et le Néant، «محاولة في أنطولوجيا ظاهراتية» Essai d’Ontologie Phénoménologique. وأيضًا هيدجر: الوجود والزمان M. Heidegger: Sein und Zeit. تضم المقدمة عبارة «سؤال عن معنى الوجود» Die frage nach dem Sinn von Sein، في حين أن عنوان الجزء الأول الذي يكون العمل كله ينتهي بعبارة «سؤال عن الوجود» Die frage nach dem Sein. وحذف لفظ «المعنى» Der Sinn له دلالته. Sein und Zeit, p. 2, 41 الهيولانية Hylétique.
٨  Ideen III, p. 76–92.
٩  مضمون الشعور Noême.
١٠  شامل Universelle، صحيح Authentique، نظرية Eidétique.
١١  Méditations Cartésiennes, p. 132-3.
١٢  Ideen, I, p. 35-6.
١٣  الأنطولوجيا الوجدانية ماكس شيلر، والأنطولوجيا الشعرية عند هيدجر، والأنطولوجيا المعرفية عند هارتمان، وقد نشأت الأنواع الثلاثة في ألمانيا.
١٤  «المعرفة الأنطولوجية» أو «الأنطولوجيا العيانية» هما الاسمان اللذان أطلقهما بوارييه Poirier على فكر جان جيتون Jean Guitton، Revue Montalembert: Jean Guitton, Numero special 4/5, p. 215–42.
١٥  Ex. Phéno. pp. 151-2.
١٦  M. Heidegger: Sein und Zeit, p. 33.
١٧  Ibid., pp. 47-8.
١٨  Ibid., pp. 50-51, 77, 166, 218, 244, 333، الوجود الإنساني Dasein, La Réalité humaine، التفسير Explication، التعرف Identification، الكل Tout ، التحضير Présentification.
١٩  وقد أهدى Sein und Zeit إلى هوسرل Paragraphe 7, p. 27–39.
٢٠  يشير إلى φus, φαί, φaivθαί.
٢١  Ex. Phéno. pp. 152–6.
٢٢  Zein und Zeit عام ١٩٢٦م، بينما ظهر «الوجود والعدم» L’Etre et le Néant عام ١٩٤٣م.
٢٣  J. P. Sartre: L’Etre et le Néant, p. 12, 14–7, 22, 24, 26–8.
الشيء في ذاته Noumen، الوجود Esse، المدرك Percipi، صورة الشعور Noèse، الطبقة الهيولانية La couche hylétique.
٢٤  الوجود Le Non-Etre. Ibid., p. 37-8, 41-2, 62-3, 101.
٢٥  الوجود لذاته l’Etre pou-sor، تجربة حية Erlebniss، العمل المشترك Mitmachen.
٢٦  l’Etre et le Néant, pp. 115–7, 126, 145, 221, 236, 241. ويحيل سارتر إلى كتاب هوسرل «محاضرات في الشعور الداخلي بالزمان» Ibid., p. 165.
٢٧  Ibid., pp. 288–310. والنقطة الثالثة من الفصل الأول من الجزء الثالث في «الوجود والعدم» عنوانها: هوسرل، هيجل، هيدجر. ويحيل سارتر إلى Méditations Cartésiennes، وإلى Logique formelle et Logique Transcendentale، كما يحيل إلى مقاله «تعالي الأنا موجود» La Transcendentale d’L’Ego في بحوث فلسفية ١٩٣٧م Recherches Philosophiques (انظر ترجمتنا «جان بول سارتر: تعالي الأنا موجود»، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٦م.)
٢٨  Ibid., pp. 288–91, 314, 316.
٢٩  Ibid., p. 293. يعتبر سارتر تحليل الآخر عند هيجل أكثر تقدمًا من تحليل هوسرل.
٣٠  Ibid., p. 389. تعبير «معامل التعاند» من باشلار في «الماء والأحلام».
٣١  Ibid., p. 330–1.
٣٢  Ibid., 514, 528. هذا النقد موجَّه إلى هوسرل وديكارت. ويحيل سارتر إلى G. Berger: Le Cogito chez Husserl et Descartes.
٣٣  Ex. Phéno, pp. 156–9.
٣٤  Ideen III, p. 37–53.
٣٥  Ibid., pp. 21–75.
٣٦  Hnsserliana IX, Phänomenologische Psychologie. ويضم محاضرات الفصل الدراسي الصيفي ١٩٢٥م، ومقال دائرة المعارف البريطانية ١٩٢٧–١٩٢٨م، ومحاضرات أمستردام ١٩٢٨م.
٣٧  M. Murleau-Ponty: La structure du comportement.
٣٨  M. Murleau-Ponty: Phénoménologie de la pérception.
٣٩  Ibid., Avant-propos, p. 1XVI.
٤٠  M. Murleau-Ponty: Le visible et l’invisible, interrogation et intuition, pp. 142–71.
٤١  التعشيق L’entrelat.
٤٢  l’entrelat, le chiasme et l’annexe, Ibid., pp. 172–204 .
٤٣  J. P. Sartre: Esquisse d’une théorie des émotions, p. 7–19.
٤٤  Ibid., pp. 21–32.
٤٥  Ibid., pp. 38–45. الطرف الموضوعي Le Corrélat noèmatique.
٤٦  J. P. Sartre: L’Imaginaire p. 110.
٤٧  J. P. Sartre: L’Imagination.
٤٨  Ibid., Les systèmes de Descartes, de Spinoza et de Leibniz, p. 7–18, 21–83.
٤٩  مثل نظريات هيوم Hume، وتين Taine Ibid., p. 21–83.
٥٠  Ibid., pp. 139–59.
٥١  المعية الزمانية Synchronisme، المتوالية الزمانية Diachronisme، الترسيب، التراكم الدلالي Sédimentation.
٥٢  M. Murleau-Ponty; Signes, pp. 103–22.
٥٣  Ex. Phéno., pp. 159–62.
٥٤  خضع هارتمان لأثر الظاهريات من خلال ماكس شيلر، بفاندر، Pfander، جيجر Geiger، وهوسرل نفسه، وهنا يتفق هارتمان مع شيلر وهيدجر.
٥٥  N. Hartmann: Principes d’une metaphysique de la connaissance, preface du traducteur.
٥٦  Ibid., pp. 12-3.
٥٧  الظاهريات عند هوسرل وشيلر وهيدجر، والأنطولوجيا النقدية عند هارتمان Ibid., pp. 15–6.
٥٨  Ibid., pp. 12-3.
٥٩  انظر الظاهريات والكانطية الجديدة.
٦٠  هذه الانتقادات موجَّهة إلى ريكيرت Rickert.
٦١  هذه الانتقادات موجهة إلى ناتورب Natorp.
٦٢  مقدمة المترجم N. Hartmann: op. cit., p. 18. والظاهريات الوجدانية عند ماكس شيلر أيضًا رد فعل على الكانطية الجديدة لهرمان كوهن H. Cohen ومدرسة ماربورج لإعطاء الموضوع استقلاله في وجوده العام (Sein) وفي وجوده الخاص (Soseir) Dupuy: La Philosophie de Max Scheler I, p. 211.
٦٣  Hartmann. op. cit., p. 22–6.
٦٤  يرى هارتمان أن ياسبرز Jaspers ليس واضحًا وضوحًا كافيًا، يريد فقط الإبهار، في حين أن هيدجر نبي أو رسول ينقصه الصدق الفلسفي. أنطولوجيا الوجود الإنساني ليست أنطولوجيا، بل نوع من المعطى الذاتي الفردي العياني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤