ثانيًا: الحالة الراهنة للظاهريات التطبيقية١

ظهرت الفلسفة التطبيقية في جزء كبير من الدراسات الثانوية التي تجاوزت مرحلة الظاهريات النظرية كي تتجه إلى التطبيق المباشر للمنهج الظاهرياتي في ميدان محدد أو فقط من أجل الاستفادة منه، وهي تمثل تقدمًا بالنسبة للظاهريات النظرية؛ لأنها توضح كل الثراء الداخلي للمنهج الظاهرياتي، وفي نفس الوقت تساهم في تقدم العلوم الإنسانية.

ليس المقصود هنا إعطاء إحصاء شامل لكل التطبيقات التي أجريت من قبل للمنهج الظاهرياتي في الميادين المختلفة، بل اختيار عينة ممثلة لهذا النوع من الدراسة لبيان نقائصها فيما يتعلق بالمنهج الظاهرياتي ذاته في تكوينه النظري أو تطبيقه العملي.

وفي بحوث الظاهريات التطبيقية من الصعب التمييز بين التطبيق المباشر للمنهج الظاهرياتي في دراسة مشكلة محددة وأثر الظاهريات على بحث معين تأثر بها،٢ كذلك من الصعب التمييز بينها وبين العلوم الموازية في العلوم الإنسانية. مثلًا، علم الاجتماع الذي يقوم على الفهم من أجل فهم دلالات الظواهر، هو علم موازٍ للظاهريات بالرغم من استقلاله عنها.٣
ليست الظاهريات المستعملة في الظاهريات التطبيقية هي نفسها ظاهريات الأصول الأولى في مؤلفات هوسرل، بل أحيانًا ظاهريات الأتباع، الظاهراتيين الفلاسفة أو الفلاسفة الظاهراتيين؛٤ لذلك أخذت الأنطولوجيا الظاهراتية دائمًا مع الظاهريات.٥

(١) الفلسفة والأنطولوجيا٦

إذا كانت المبادئ المباشرة لمؤسس الظاهريات مسئولة جزئيًّا عن الظاهريات النظرية، فقد ساعدت أيضًا على نشأة هذا النوع من التأملات الفلسفية الشخصية، وأخذ بعض جوانب المنهج الظاهرياتي كنقطة بداية، والبحث عما وراء السؤال أو ما قبله توصيةٌ ظاهراتية.٧
ويكوِّن مقطع Vor، أي ما قبل، الموقع الأول الذي يوجد فيه الشيء. لقد حاولت الظاهريات نفسها من قبلُ تطبيق هذه التوصية في «التجربة والحكم» بالبحث عن التجارب السابقة على الحمل المنطقي حيث تدور العمليات المنطقة. وقد وُصف «العالم الحي» السابق على العلم الذي اكتشفته الظاهريات بأنه عالم غامض،٨ فلم تؤدِّ تحليل Vor فقط إلى استكشاف عالم «ما قبل»، نتيجة الاتصال المباشر بالعالم، ولكنه أدى إلى سبر بنية الوجود الإنساني نفسه كوجود في العالم، وقد اعتبرت الظاهريات أنها لم تصل بعد إلى مستوى الفلسفة؛ فالفلسفة هي أساسًا تساؤل حول الوجود.٩ وباختصار تنتمي التأملات الأنطولوجية التي تبدأ من الظاهريات إلى الأنطولوجيا الجذرية أكثر مما تنتمي إلى الظاهريات الترنسندنتالية، وساهمت إلى حد كبير في تحويل الظاهريات إلى أنطولوجيا.

والموضوعات التي تمَّت معالجتها في هذا الجزء من الظاهريات التطبيقية في معظمها موضوعاتٌ فلسفية، وتعني الفلسفة هنا المعنى الحديث؛ أي التأمل الشخصي في خبرة أو أكثر في الحياة اليومية. وتأرجحت الظاهريات التطبيقية بين الأنطولوجيا العيانية وأنطولوجيا الوجود الإنساني، ومع ذلك امتد جزء كبير من الظاهريات التطبيقية إلى العلوم الإنسانية، علم الجمال، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وفلسفة التاريخ.

والتأملات الفلسفية الظاهراتية كلها تأملات شخصية،١٠ وهي مرتبطة بأغراض الظاهرياتي والأتباع والفلاسفة والباحثين، كما أنها مرتبطة بأمزجتهم، هذا النوع من التأملات الفلسفية الشخصية ليست على وجه الدقة تطبيقًا مباشرًا وصريحًا للمنهج الظاهرياتي في شموله وكليته، بل يؤخذ فقط عندما يسمح له بتطوير هذه التأملات الشخصية.
وإذا أُخذت الخبرات الجمالية كتجارب أصلية للتحليلات الظاهرية،١١ فقد أخذت أيضًا الخبرات الطبيعية، أي التجارب غير الفلسفية، كنقطة بداية لتأمل فلسفي ظاهراتي،١٢ ويتشابهان في أن قدر الفلسفة أعظم بكثير من قدر الظاهريات، وتبدو الظاهريات على نحو غير مباشر في الاعتماد على بعض الموضوعات الظاهراتية وتطويرها، واستخدمت الخبرات غير الفلسفية ضد الفلسفة الرسمية والمذهبية التي تم قدها خارج المقياس الإنساني والواقع العملي، أصبح المنهج الظاهرياتي فلسفة غير مذهبية، وقد أدى غياب «التمذهب» إلى العيب النقيض وهي الأفكار المتناثرة، واختلطت الفلسفة بباقي العلوم الإنسانية خاصةً علم النفس، واستعمل تاريخ الفلسفة كمناسبة للتأمل في النظريات الماضية.
وقد أصبح لفظ «ظاهريات» شائعًا للغاية بحيث أصبح يطلق على أي تأمل فلسفي مستقل يندُّ عن البحوث التاريخية في تاريخ الفلسفة كعقائد ومذاهب.١٣ كانت التأملات في الحقيقة تأملات فلسفية خالصة، ودون أن تُذكر الظاهريات لا كموضوع ولا كمذهب ولا حتى كأفكار رئيسية موجِّهة كما أرادها صاحبها في مجموعة «الأفكار»، بل تغيب الإحالات إليها تمامًا، ولو يلمس عرضًا التأمل من بعيدٍ بعض الموضوعات الظاهراتية، فإنه يتم التعامل معها دون أن يكون لها أي أولوية على التعامل مع أي موضوعات أخرى.
وقد استُعملت الظاهريات بوضوح كفلسفةٍ أكثر منها كمنهج، وتتصارع مع النظريات والمذاهب الفلسفية السابقة ودون تصدرها كمنهج للبحث عن الحقيقة،١٤ وتُجابه النظريات والأنساق الفلسفية في التاريخ دون ملاحظة أن الظاهريات هي اكتمال الحقيقة التي طالما كانت موضوعًا للبحث منذ عصر النهضة.١٥
وقدر الفلسفة أكبر بكثير من قدر الظاهريات، و«محاولة في البرانية» أقرب إلى الفلسفة منها إلى التطبيق المباشر للمنهج الظاهرياتي، ويرجع الجانب التقدمي إلى جدل النهائي واللانهائي أكثر مما يرجع إلى المنهج الظاهرياتي، ويتم تطبيق المنهج الظاهرياتي في المساهمة في نقد الأوثان الفلسفية السابقة، الكلية التي تنكر الحضور الفعلي والتمثل الذي ينكر الخبرة الحية.١٦
وفي مقابل التأملات الفلسفية الظاهراتية، والتي ما زالت متناثرة، اتجهت تأملات أخرى نحو النسقية، وهي الطابع الغالب على الفلسفة المدرسية التي منها خرجت هذه التأملات، وتعبر عن نفسها في لوحة ذات جانبين ومداخل متعددة.١٧
وبالإضافة إلى التأملات الظاهراتية الشخصية طُبقت الظاهريات في تاريخ الفلسفة، واستُعملت كمنهج للبحث من أجل إعادة كتابة تاريخ الفلسفة وإعادة تفسيرها طبقًا للمعطيات الفلسفية الحالية، وأحد التيارات الأكثر شيوعًا في الفلسفة المعاصرة هو إعادة تفسير كل تاريخ الفلسفة، وبفضل الحاضر يُعاد اكتشاف الماضي، وطبقًا للأنطولوجيا السائدة في الظاهريات التطبيقية، أعيد اكتشاف تاريخ الفلسفة كأنطولوجيا، وأعيد كتابة تاريخ الأنطولوجيا القديمة للمكان والزمان والحركة.١٨
واستُعملت من جديد نفس الموضوعات الظاهراتية التي تم الحصول عليها بعد اكتمال المثالية الترنسندنتالية من أجل نقد هذه الموضوعات نفسها؛ فالكوجيتو متشابه، ولكن ينقصه مضمون الشعور، الكوجيتاتوم.١٩ والجسد ليس شيئًا، ولكنه طريق إلى الأشياء.٢٠ والعالم الآخر والزمانية كلها موضوعات ظاهراتية أُخذت كموضوعات فلسفية، وليست كنتائج غير مباشرة لتطبيق المنهج الظاهرياتي.٢١
وإذا كانت الظاهريات تبحث أولًا عن الخبرة الحية، فقد أعيد تفسير تاريخ الفلسفة على هذا النحو؛ ففي كل نسق فلسفي تم البحث عن الخبرات الطبيعية كأساس لتفسير هذه الأنساق نفسها؛ الأيديولوجيا أساس «الوجود والعدم»، والفيزيقا أساس المثالية النقدية، والوحي أساس المثالية المطلقة، والرياضة أساس الظاهريات.٢٢
ومن الناحية التاريخية لم تكن معرفة مؤسس الظاهريات كاملة خاصة فيما يتعلق بالفلسفة المدرسية، كانت القصدية عنصرًا رئيسيًّا في علم النفس الوصفي، وكانت لها وظيفة مختلفة عن وظيفتها في الفلسفة المدرسية، كانت تُستخدم كمفهوم فرعي لتبرير العقائد، في حين أنها في علم النفس الوصفي مفهومٌ رئيسي لحل الأزمة الحالية في مناهج العلوم الإنسانية خاصةً علم النفس، وهي أزمة التوازي «السيكوفيزيقي»، ثم أصبحت القصدية في الظاهريات مركزها من أجل البحث الخالص عن الحقيقة.٢٣ ومنهج الأثر والتأثر قاصر في حد ذاته خاصةً في الظاهريات التي تعتبر ذاتها الحقيقة المكتملة في التاريخ، وفي نفس الوقت في الذهن، مستقلة عن التاريخ.
واستعادت الظاهريات النقدية نقد الظاهريات لمختلف الاتجاهات الفلسفية عودًا إلى المشاكل المبدئية التي عالجتها الظاهريات،٢٤ فأعيدت الظاهريات النظرية في بيئتها الفلسفية الخاصة.٢٥ وبالرغم من أن الظاهريات حقيقة مستقلة إلا أنها كانت في صراع مع معظم الاتجاهات الفلسفية داخل الحضارة، وأعيد تأطيرها داخل البيئة الفلسفية في الظاهريات الموازية لبيان الجبهات المشتركة لعديد من الحركات الفلسفية في نفس العصر.٢٦
ولم يحدث تمييز بين الظاهريات الترنسندنتالية والأنطولوجيا الظاهراتية؛ لأن التأملات الفلسفية الظاهراتية كانت تتجه نحو الأنطولوجيا، وكان الاعتماد على الثانية أكثر من الاعتماد على الأولى، كانت التأملات الظاهراتية تكوِّن فهمًا للوجود وليست نتائج يتم الحصول عليها من تطبيق المنهج الظاهرياتي.٢٧ وكان استعمال الأنطولوجيا أكثر من استعمال الظاهريات عندما يتعلق الأمر بالنقد. والأنطولوجيا الحالية أكثر عرضة للنقد من الظاهريات الترنسندنتالية.٢٨
وتبدأ الظاهريات التطبيقية من موضوع فلسفي كي تنتهي إلى أنطولوجيا، وطبقًا للمنهج الظاهرياتي الذي يبدأ بتمييزات رئيسية، تابعت الموضوعات الفلسفية التي أخذت كنقطة بداية نفسَ الطريق.٢٩ ففي «الكل واللانهائي» تم نفي الأول وإثبات الثاني.٣٠ وبالرغم من أن البداية كانت التحليل الظاهرياتي ساد جدل آخر يتلخص في العبارة الشهيرة «الأشياء الدانية توجد في الأشياء العالية على نحو أفضل مما توجد في ذاتها»، أو عبارة «من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى أعلى»؛٣١ ومن ثَم تم نفي التماهي مع الذاتي من أجل إثبات الاختلاف مع الآخر؛ فالداخل محل الخارج الذي يتم تجاوزه إلى ما يعلو على الوجه.٣٢
وإذا قبلت الظاهريات تحليل الظاهريات الترنسندنتالية فإنها ترفض الجوانب الميتافيزيقية للأنطولوجيا الظاهراتية، وتنقد نظريات العدم والحرية.٣٣

في هذه التأملات الأنطولوجية فإن ظاهريات الفعل تم تجاوزها بظاهريات الموضوع، وتتخلى الظاهريات الترنسندنتالية عن مكانها عن طِيب خاطر إلى الأنطولوجيا الظاهراتية. وتستمر البواعث الظاهراتية في النوعين من الظاهريات.

وتقترب الظاهريات التطبيقية أحيانًا من الرسالة الفلسفية.٣٤ وطبقًا لتوجه الفلسفة المعاصرة نحو الأنطولوجيا، كان للرسائل الفلسفية أيضًا توجُّه نحو الأنطولوجيا. وينجح تطبيق المنهج الظاهرياتي بطريقة أفضل عندما يتم في نقطة خاصة توجد فيها أزمة أو خلط بعد إعادة تصميم المنهج في قواعد للتطبيق.٣٥

(٢) علم الجمال وعلم النفس٣٦

وقد اتجه علم النفس الظاهرياتي أيضًا نحو ميدان الفن منتهيًا إلى «ظاهريات الخبرة الجمالية»؛٣٧ فقد وصف الموضوع الجمالي كوجود في العالم،٣٨ كقصدية توصف فيها العلاقة التبادلية بين صورة الشعور ومضمون الشعور.٣٩ وقد استُعملت عدة موضوعات كظاهريات مثل الشعور الواضع الخيالي، نتيجة الحياد، صفات نتائج رد الاتجاه الطبيعي للأنماط المثالية، التكوين، ملء القصدية الفارغة … إلخ، لتحليل العمل الفني وتنفيذه، وجمهوره، والموضوعات الأخرى التي تحيط به، وتحليل العمل الفني في الزمان، مثل الموسيقى، أو المكان مثل التصوير والفن التشكيلي.٤٠ ويستعمل المدخل الظاهرياتي للإدراك الحسي الجمالي موضوعات الخبرة السلبية، وملء تجربة الآخرين، وتحليل التمثل والخيال والوجدان.٤١

ومع ذلك في ظاهريات الخبرة الجمالية دورُ الظاهريات قليل للغاية بالنسبة للجمال، لم تتحول الموضوعات الظاهراتية المستعملة إلى منهج ذي قواعد محدَّدة قابلة للتطبيق، استعملت فقط بعد المفاهيم الظاهراتية المتناثرة طبقًا للحاجة في التحليل الإيجابي أو في الحجاج النقدي.

وإذا بدأ المنهج الظاهرياتي من التجربة فقد أُخذت الخبرة الجمالية كنقطة بداية نحو ميتافيزيقا مرورًا بفلسفة في اللغة.٤٢ وكان يتم اللجوء باستمرار إلى العودة إلى الأشياء ذاتها، واستُعملت عدة مفاهيم ظاهراتية مثل: حامل المعنى، واهب المعنى … إلخ.٤٣ واستطاع الرد الظاهرياتي استبعاد الاتجاه الطبيعي للإبقاء على الاتجاه الظاهرياتي وحده،٤٤ كما اسُتعملت إلى حد كبير البحوثُ اللغوية التي تقدمها الظاهريات من أجل صياغة فلسفة اللغة.٤٥
وتم تفصيل «الرد» الظاهرياتي على نحو خاص، واستعمل على أربع لحظات: الغاية، والمحل، والأثر، والنتيجة.٤٦ لم يعد للرد لحظتان فقط، «الرد الترنسندنتالي» و«الرد النظري» كما هو الحال في الظاهريات النظرية، وقد تم ذلك بواسطة الخبرات الجمالية عن طريق الحدس، وقد وُضع طريق التحول من الجمال إلى الميتافيزيقا على نحو مرهِق ومبالَغ فيه دون الدخول في تحليل عقلي أو علمي دقيق، وكل خطوة مرتبطة بالأخرى بدقة وتلقائية، ومع ذلك ساد التحليل التوثيقي المرهِق المبالَغ فيه، وذُكر العديد من أسماء الأعلام من خلال الدراسة والتحليل، كما تم تشريح الموضوع إلى حد كبير بقسمة عقلية محكَمة، والجداول والرسوم عن الرؤية التأملية، والرؤية الخلاقة، والفن والجمال، والموقف الأولي، ومستويات «التقويس» والأنماط المختلفة للغة تفيد حتمًا في التوضيح، وتحدد الوحدة الداخلية للموضوع المعيش.٤٧
وازدهر اتجاه آخر في علم النفس الظاهرياتي في «فلسفة الإرادة»،٤٨ وقد تمَّت صياغتها أولًا بمنهج وصفي للإرادي واللاإرادي واستبعاد الخطيئة والمفارقة.٤٩ وبعد «الرد النظري» جُذب الإنسان حول واقعة أساسية، التبادل بين الإرادي واللاإرادي في قصديةٍ ذات بنية ثلاثية: القرار، والحركة، والموافقة. واعتمادًا على المعطيات التجريبية التي تم وصفها في الظاهريات، وارتباطًا في نفس الوقت بمطلب وجودي، سر التجسد، وجدت فلسفة الإرادة طريقها بين العلم من ناحية واللاهوت من ناحية أخرى، ثم أعيدت صياغتها في «التناهي والذنب»،٥٠ ثم رُفع القوسان، وظهرت شاعرية الإرادة المقصودة أولًا في أسطورة عيانية بلغة الاعتراف، وكانت الهرمنيطيقا ضرورية لفكِّ رموز الشر من أجل التقريب بين الأساطير والخطابات الفلسفية، ومن أجل اكتشاف المحل الإنساني للشر ووُلوجه في الوجود الإنساني، انتهت فلسفة الإرادة أخيرًا إلى أنثروبولوجيا فلسفية تنتهي هي الأخرى بدورها إلى فلسفة في الحرية.٥١
الظاهريات التي استُعملت أولًا كمصدر للنظريات النفسية تم تفصيلها بعد ذلك في أدق تفصيلاتها، وتم استخلاص موضوعات المملوء والفارغ، الأنا الخالص وتحليل الخبرات في الشخص الأول من المتون الظاهرياتية.٥٢ وأُخذت الموضوعات الظاهرياتية مثل «الاستباق»، ووُضعت في إطار التحليل النفسي للانتباه،٥٣ واعتُبر قلب النظرة من الخارج إلى الداخل واستعمال الاستبطان كطريقة للإحساس.٥٤ وضد كل الكونيات استُعيرت النظرية الظاهراتية لموضوع الفكر على العموم، وكذلك فكرة المنطقة في أنطولوجيا المناطق.٥٥ وطبقًا للحاجة استُعملت نظرية الخبرة الحية الخالصة كتيار للشعور للحصول على درجة عالية من التحول بين الفاعلية والإمكان.٥٦ ووضع الشيء كموضوع قصدية في مواجهة الشيء كموضوع فيزيقي، ثم أوجب هذا الموضوع القصدي الخالص التمييز بينه وبين المادة الهيولانية، ولنفس السبب لا يعطي عالم الحياة عن طريق التخطيط الذهني.٥٧ والنقد الوحيد الذي وُجه إلى الظاهريات، الفصل بين مشاكل العلم ومشاكل الحكمة، راجع إلى الأهمية القصوى المعطاة إلى التحليل العلمي للمشاكل النفسية.٥٨ وطبقًا للظاهريات، الحكمة وحدها هي العلم المحكم، العلم بالأصالة.

وفي اللحظة الأولى، لحظة وضع الأشياء بين قوسين، استُعملت الظاهريات وكأنها علم نفس خالص، وذُكر مؤسس الظاهريات كعالم نفس مثل آخرين، وبالرغم من هذه النزعة النفسية استعيرت عدة نتائج أخرى من الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، بل أيضًا من الأدب، وبالرغم من غياب أي نسق للعالم يكوِّن المجموع عددًا لا نهائيًّا من النظريات الصغيرة نتيجة رؤية الظاهرة موضوع الدراسة بعين المجهر، يقينًا الدقة والضبط مطلوبان، ولكن ثقل التحليل الدقيق يندُّ عن الفهم، والظاهريات أولًا وقبل كل شيء نظرية في البداهة.

وعندما رُفع القوسان، ترك التحليل العلمي للظواهر النفسية مكانه للتحليل العقلي للمفاهيم الفلسفية، وللتحليلين عنصر مشترك، الضبط والدقة لدرجة المتناهي في الصغير تحت المجهر، ولا تُفهم الظاهريات في هذا المستوى، بل هي توجُّه عام يضع الأشياء في مستواها الخاص، وقبل رفع القوسين، استعملت الظاهريات كعلم نفس، واعتبرت نظرياتها نظريات نفسية مع باقي النظريات، وبعد رفع القوسين استُعملت الظاهريات كفلسفة، واستعملت بعض المفاهيم الظاهراتية بين الحين والآخر كنظريات فلسفية صغيرة. وبين النزعة النفسية في «الإرادي واللاإرادي» والنزعة العقلية في «التناهي والذنب»، يتأسس المنهج الظاهرياتي مرة في التحليل النفسي، ومرة أخرى في التحليل الفلسفي، بل إنه من الممكن السؤال حينئذٍ: أين المنهج الظاهرياتي؟

ووُضعت الظاهريات في إطار تاريخ الفلسفة، ووُضعت أعمالها في مواجهات مع باقي الأعمال في التحليلات اللغوية والظاهراتية، وخضعت نظرية التعبير والدلالة ﻟ «التحليل الدقيق».٥٩ وتم تحييد «وجهة النظر» بالفعل،٦٠ ووُضع القوسان على موضوع صغير وعلى نحو مباشر،٦١ وتم تحليل قصدية الوجدان دون بيان كيف ساعَد المنهج الظاهرياتي على ظهورها.٦٢ واستُعمل تعبير «مؤسس الظاهريات» مرتين مع استعمال مصطلحاته.٦٣ وتتكرر أسماء كثير من الفلاسفة الآخرين، واستُعمل اسم المؤسس كنسبة «هوسرلي» للإشارة إلى أسلوبه النظري.٦٤

وفي التحليل المجهري الدقيق يدور العقل حول ذاته، ويلتهم نفسه؛ لأنه لا يتغذى باستمرار بخبرات الحياة اليومية، وتُكوِّن النتائج الدقيقة، والتي تم الوصول إليها بعناية فائقة، نسقًا وجدانيًّا صغيرًا للوجود الإنساني، وتم التعبير عن التجربة الإنسانية في قضايا عقلية، كما عُبر عنها من قبل في العلوم الصورية في معادلات رياضية، الفرق الوحيد أن الأولى تستعمل اللغة في حين أن الثانية تستخدم الرمز. والحياة أكثر من كونها مجرد ميتافيزيقا عقلية، وقد خنقت الدقة والضبط والتركيز والتحليل المجهري الحياة بكل امتداداتها.

ولم تُطبَّق أي قاعدة من قواعد المنهج الظاهرياتي تطبيقًا مباشرًا، و«وضع الرد» على الإرادي واللاإرادي بطريقة الاسترجاع.٦٥ وكان رفع القوسين تفسيرًا للتطور الروحي، من علم النفس إلى الفلسفة، ومن الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا.
واستُعملت الظاهريات في «رمزية الشر»، وتم المرور مر الكرام على الظاهريات التطبيقية في الأخلاق وفي اللاهوت.٦٦ وتقوم ظاهريات الاعتراف على تأملات دون الإحالة إلى أي مفهوم أو قاعدة من الظاهريات إلا مرة واحدة ذُكرت فيها نظرية الدلالة.٦٧
وأحيانًا يتم نقد الظاهريات نقدًا مباشرًا وعابرًا، ويُرفض الموضوع الحال في الذات لصالح الموضوع في مواجهة الذات.٦٨ ويظل السؤال: كيف تستطيع الظاهريات العودة إلى الاتجاه الطبيعي التي وضعته من قبلُ خارج دائرة الانتباه، الاتجاه الطبيعي الشعري وليس بالضرورة عالم الأشياء؟
وقد درست موضوعات فلسفية بحق، وتثار مشاكلها في الحياة الوجدانية العملية، ومع ذلك النتائج الحاصلة علمية للغاية أكثر منها إنسانية، تخطئ الدلالة أكثر مما تكشف عنها، تتعلق الموضوعات المدروسة بالوجود الإنساني، ولكنها مثقَلة بحمل التحليل العلمي العقلي، وأحيانًا يترك تاريخ الفلسفة مكانه للموضوعات الفلسفية التي يتم تحليلها، وأحيانًا تترك هذه مكانها لصالح تاريخ الفلسفة، هذا التردد الدائم بين الاثنين يوقعهما معًا في الغموض. ولم يرتبط تاريخ الفلسفة الأوروبية ببيئته، حيث توجد القصدية في الخبرة الذاتية المشتركة لمعرفة غائية الحضارة كما حاولت الظاهريات من قبل، ولم يكن للموضوعات الفلسفية موضوع الدراسة أي إحالات إنسانية في الحياة اليومية، سادت الأعمال الفلسفية الموضوعات بالرغم من أن الظاهريات عود إلى الأشياء ذاتها.٦٩
وتاريخ الفلسفة الأوروبية له ظروفه الخاصة، وبالرغم من أنها تتضمن مقاربات للحقائق المستقلة، ولكنها تظل مرتبطة ارتباطًا كاملًا بالظروف التي نشأت فيها، ولم يتم التمييز بين مراحلها المختلفة؛ فدخلت الفلسفة المدرسية على نفس مستوى الفلسفة في العصور الحديثة.٧٠ كانت الأولى ملحقًا للعقائد دون أن يكون لها استقلالها الداخلي، في حين كانت الثانية بحثًا عن الحقيقة بطريق إنساني مستقل للحصول على حقائق مستقلة قائمة بذاتها، كما لم يتم التمييز بين مصادر الوعي الأوروبي وبنيته وتطوره.٧١

كان يمكن ﻟ «فلسفة الإرادة» أن تتجنب هذا النقد الموجَّه إليها لو قامت بالعودة إلى الأشياء ذاتها كما يقتضي بذلك المنهج الظاهرياتي، وذلك بالتمييز بين الشيء ذاته والأعمال الفلسفية في التاريخ؛ فالأشياء ذاتها لها إحالاتها في التجارب الإنسانية، في حين أن الأعمال الفلسفية لها إحالاتها في بيئاتها الفلسفية الخاصة.

فإذا وقع «الإرادي واللاإرادي» في النزعة النفسانية، وإذا وقع «الإنسان المخطئ» في النزعة الصورية، فإن «رمزية الشر» وقعت في النزعة التاريخية، إن الدنس والخطيئة والذنب أو أساطير البداية والنهاية مستمدة إما من اللاهوت العقائدي أو من الأساطير الدينية.٧٢ وكلا المصدرين بِنياتٌ تاريخية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بظروف نشأتها، الخطيئة عقيدة تاريخية في التراث اليهودي المسيحي، وكذلك الله «الشرير» في ظروف الطرد. وتنشأ النزعة التاريخية لعدم وضع المصادر التاريخية التي تشير إليها هذه العقائد، فللخطيئة والطرد … إلخ دلالات إنسانية، ربما تشير إلى حوادث معينة، ولكن هذه الحوادث التاريخية إذا ما طُبق المنهج الظاهرياتي تصبح بين قوسين.
وإذا بدأت فلسفة الإرادة من «الإرادي واللاإرادي» فلماذا تنتهي بالضرورة إلى «التناهي والذنب» دون اللاتناهي والبراءة؟ ولماذا ينتهي تحليل الفعل بالضرورة إلى فلسفة الخطأ وليس إلى فلسفة في الاجتهاد والمنظور؟ لماذا يكون الإنسان بالضرورة مخطئًا وليس على صواب؟ ولماذا توجد رمزية للشر دون الخير؟ كل هذه التساؤلات في حاجة إلى إجابات. وإن الإحساس المأساوي بالبؤس قد يؤدي إلى إحساس مأساوي بالعظمة.٧٣ وقد تؤدي الهشاشة الوجدانية إلى «الفكرة-القوة» والفعل الخلاق، والخطأ تجربة إنسانية في تأنيب الضمير، ذاتية خالصة دون وجود موضوعي حقيقي، وقد يكون الإنسان كاملًا بلا خطأ، يكفيه أنه يعمل، ويعمل فحسب.٧٤

وكان لتحقيب الوحي في مراحل سابقة مع استبعاد المرحلة الأخيرة عواقب وخيمة في الوعي الأوروبي، ظلت خطيئة آدم واقعًا فعليًّا كمصدر للخطيئة الأولى، في حين أنه في آخر مرحلة من مراحل تطور الوحي تاب آدم، وغُفر له، ويولد الإنسان على الفطرة وعلى البراءة الأصلية، ويكون مسئولًا عن أفعاله وحدها مسئولية فردية.

وفي علم النفس تم تطبيق المنهج الظاهرياتي بطريقة رائعة في «نظرية ميدان الشعور»؛ فالعمل هو «دراسة ظاهراتية أكثر منه عملًا في الظاهريات».٧٥ وتدخل الظاهريات هنا في صراع مع الاتجاهات النفسية المعاصرة، موضوعة في بيئتها الثقافية، وتشارك مع باقي العلوم في صياغة علم إنساني مستقل، وهي الظاهريات الموازية، علم النفس الوصفي، علم النفس «الجشطلتي»، علم النفس البرجماتي، وعلم النفس الحدسي، من أجل عمل مشترك، وهو استكشاف الشعور؛٧٦ لذلك كان التحليل المقارن لموضوع ما بين هذه الفروع العديدة من علم النفس تحليلًا خصبًا.٧٧ والحقيقة أن الظاهريات في حاجة إلى أن تعود إلى هذه الحركات المعاصرة المشابهة التي تهدف إلى نفس الغاية، كلٌّ منها بوسائلها الخاصة.
وذُكرت عدة آراء ظاهراتية في مَعرِض تحليل ميدان مشترك، وذلك مثل نظرية «العوامل التصويرية» التي تمَّت مناقشتها مع باقي النظريات حول تجميع المعطيات الحسية وتنظيمها،٧٨ كما تم تحليل مفهوم الكوجيتو في الظاهريات في معرض تحليل ميدان مضمون الشعور،٧٩ وبالإضافة إلى ذلك يظهر المنهج الظاهرياتي في عدة مفاهيم أساسية في الظاهريات التكوينية،٨٠ وقاعدتيها الرئيسيتين «الرد» و«التكوين». ويظهر ميدان المنهج الظاهرياتي في النظرية الظاهراتية للإدراك الحسي؛٨١ فهي علاقة بين الشعور والعالم الإنساني والعالم الطبيعي وليس فقط موضوعًا لعلم النفس الظاهرياتي. وباختصار، ومع الفائدة الكبرى التي يقدمها المنهج الظاهرياتي لعلم النفس، تُخاطِر نظرية ميدان الشعور بإدخال الظاهريات الترنسندنتالية في النزعة النفسية بسبب قرابتها مع النظريات النفسية المعاصرة، ومما لا شك فيه أن علم النفس أحد مصادر الظاهريات، ولكن الظاهريات اكتملت فيما بعد كعلم محكَم مستقل.
وقد أدَّى تطبيق المنهج الظاهرياتي في علم النفس إلى نشأة علم النفس الوجودي، فابتداءً من نظرية الدلالة في البحوث اللغوية في الظاهريات تم تفسير الأحلام بحيث أصبحت استكشافًا للوجود الإنساني؛٨٢ لذلك استُعمل المنهج الظاهرياتي في تأسيس هرمنيطيقا الرموز.٨٣
ووُجد اتجاه نفسي آخر في علم دراسة الشخصية الذي أصبح هو الآخر ميدانًا جديدًا للاستكشاف الظاهرياتي، أُخذت «الانتماءات» كمكونات للشخصية.٨٤ كما تم استكشاف الشخص في نهاية الأمر كذات ترنسندنتالية يتم الحصول عليها عن طريق «الرد» الظاهرياتي، وحُللت الشخصية على مستويات مختلفة من الأعماق.٨٥

(٣) علم الاجتماع وفلسفة التاريخ٨٦

وتمثل «محاولة في البرانية» نوعًا من علم الاجتماع القائم على الفهم للآخر، ومع ذلك كان يميل نحو الأنطولوجيا أكثر من ميله نحو علم الاجتماع. الحياة الاجتماعية قصدية،٨٧ وقد طُبق المنهج الظاهرياتي مباشرة في علم الاجتماع في «الوقائع الاجتماعية ليست أشياء»،٨٨ وشقَّت الظاهريات الاجتماعية طريقًا ثالثًا ضد المدرسة الاجتماعية وضد كل العلوم التفسيرية بوجه عام، بدايةً بالوجود الإنساني. واعتمادًا في نفس الوقت على الفلسفة وعلم النفس حاول علم الاجتماع الظاهرياتي وضع المجتمع الإنساني في الزمان والمكان بين قوسين من أجل إدراك دلالتها، وتميل ظاهريات المناطق إلى وصف عالم الحياة الاجتماعي.٨٩ لا يوجد مجتمع بل حالات حية للمجتمع،٩٠ واستطاع نظام العموم أن يمايز بين المستويات المتعددة للظاهرة الاجتماعية، وقد وُضعت تاريخية الوجود الإنساني في قلب الظاهرة الاجتماعية، وبعد التمييز بين المجتمع والجماعة وُضع الأول بين قوسين خارج دائرة الانتباه من أجل إدراك ماهية الثانية.

إن علم الاجتماع الظاهرياتي هو استكشاف لميدان الخبرة المشتركة، غايته الآخر باعتباره متضايفًا مع الشعور، الشعور مركز دائرة حولها دائرتان؛ دائرة الآخر في علم الاجتماع، ودائرة الشيء دائرة الأنطولوجيا.

وفي جمال ميتافيزيقي مشهور وُضعت التجارب الإنسانية كمعطيات أصلية قبل أن تتحول إلى اصطناع في أي علم إنساني خاصة علم النفس، واستدعت الباطنية.٩١ والخيرية والسلام محاولات «العدل الإلهي» والتأملات الصوفية، ومع ذلك ليست تجربة الآخر باستمرار تجربة مثالية، بل هي أيضًا تجربة الكراهية والصراع والنضال.٩٢
واكتسبت الظاهريات الاجتماعية أرضية جديدة، سواء عن طريق علماء الاجتماع أنفسهم أو عن طريق الفلاسفة، ودُرست التجربة الذاتية المشتركة مرة أخرى كظاهريات المقابلة، ليست المقابلة فقط مقابلة الشعور مع الآخرين بل أيضًا مقابلة الشعور مع «الله» من خلال الشعائر؛٩٣ لذلك يمكن اعتبار «ظاهريات المقابلة» ظاهريات دينية، ومع ذلك يظل الجانب النفسي طاغيًا،٩٤ وأخذت الظاهريات في تطورها الأخير، وتغيب الإحالات الظاهراتية الرئيسية تمامًا.
وقد طُبق المنهج الظاهرياتي أيضًا في فلسفة التاريخ، «نحن نستعمل منهجًا وصفيًّا أو إن شئنا ظاهراتيًّا»،٩٥ واعتُبر مجرد وصف للمعطيات التاريخية دون أن يكون تطبيقًا حرفيًّا لقواعد المنهج الظاهرياتي بالمعنى المعروف؛ لذلك لم يستعمل أي مفهوم، ولم تستخدم أي قاعدة من المنهج الظاهرياتي. استعمل المنهج الوصفي عن حق طبقًا للتعارض المعاصر بين العلم الشارح والعلم الفاهم،٩٦ وينتمي المنهج الوصفي إلى المناهج التي تقوم على الفهم، ومع ذلك تغيب الإحالات إلى المصادر أو المراجع الظاهراتية.٩٧ وحتى على افتراض أن المنهج الوصفي تقريبًا قريب من المنهج الظاهرياتي، تظل دراسة التاريخ نظرية وفلسفية، تتحقق من كل نظريات التاريخ، معرفة وحادثة، مع نقد موضوع الصدفة أو التوازي بين التاريخ الإنساني والتاريخ الطبيعي،٩٨ وفي مواجهة هذه النظريات الطبيعية يكشف فهم التاريخ حضور الآخر، ويصبح التاريخ بُعدًا للإنسان.

وفلسفة التاريخ كما هي الآن في الحضارة الأوروبية مادةٌ خصبة لكل بحث عن الحقيقة؛ فبعد رفض أي مصدر قبلي للحقائق المعطاة سلفًا في بدايات العصور الحديثة، أصبح البحث عن الحقيقة بالطريق الإنساني وحده هو المصدر الوحيد، لكل عصر حقيقته، وروح العصر نتيجة للعمل الحضاري، وباكتشاف مفاهيم الفكر، الفكرة، العقل، البداهة، الحدس … إلخ، والتي أنقذت حرية الوعي الأوروبي، انتهت قوة الاكتشاف إلى المبالغة. ولما كان لكل فعل رد فعل، وقع الفكر في الصورية، والعقل في التجريد، ثم أتى اكتشاف حديث؛ الحياة، الوجدان، الشعور، الوجود، كرد فِعل على رد الفعل السابق؛ فلسفة التاريخ إذَن هي محاولة لاكتشاف مسار تطور الحقيقة التي تتكشف وهي تبحث عن نفسها، وتتبع توالي العصور، ونكوصها، وظهور الأفكار واختفائها … إلخ. تكشف فلسفة التاريخ في الحضارة الأوروبية إلى حد كبير عن القصدية الحضارية، وهي غائية الحقيقة.

وبسبب هذه الظروف كانت لفلسفة التاريخ في الحضارة الأوروبية أهميتها؛ ففي العصر الوسيط لعب التاريخ من قبل دورًا في تكوين العقائد، واعتُبر التاريخ عاملًا إيجابيًّا، منبعًا للتراث الحي، وبعد عصر النهضة لعب التاريخ نفس الدور كمصدر للحقائق، موضوع البحث، بالطريق الإنساني. وتستطيع فلسفة التاريخ في الغرب أن تبين مصادر الوعي الأوروبي وبنيته وتطوره، وتستطيع أن تحدد بدايته ونهايته، وتعتبر الظاهريات نفسها اكتمال القصدية المشتركة للحضارة الأوروبية، لم يعد للتاريخ هذا الدور الإيجابي الذي أعطاه إياه اللاهوت العقائدي أو فلسفة التاريخ، في الظاهريات اكتملت الحقيقة، وأصبحت مستقلة عن التاريخ، وموجودة بذاتها، ومن ناحية أخرى للتاريخ دور في تطور الوحي؛ فقد تجلَّى الوحي في التاريخ، مرحلة بعد مرحلة، والتاريخ هو مجموع هذه المراحل السابقة حتى المرحلة الأخيرة، فقد اكتمل الوحي أيضًا، لم يعد للتاريخ إذَن دور بهذا المعنى، يظل مجرد ذكريات، باكتمال الوحي يستقل الوعي، ويبقى التاريخ كنماذج سابقة يحتوي على تجارب النجاح والفشل في الماضي وكميدان للفعل في الحاضر، ومساهمة في تحقيق مساره في المستقبل. لمشاكل التاريخ إذَن حلها في تاريخ تطور الوحي.

(٤) حدود الظاهريات التطبيقية٩٩

لقد تم دائمًا نقد الظاهريات أثناء تطبيقها، ولم يكن النقد داخليًّا من أجل تطوير الظاهريات إلى علم محكَم كما أرادت هي لنفسها، بل خارجيًّا طبقًا للافتراضات الفلسفية أو العقائدية المسبقة، قيل مثلًا إن التوقف عن الحكم غير قادر على اكتشاف جذرية القصدية.١٠٠ وتعني الجذرية هنا خطوة تمهيدية من أجل الهروب من «الرد» لإعادة تأكيد الواقعية المدرسية، وقيل نفس الشيء ضد مفهوم «الحامل الأخير»، فهو غير كافٍ لأنه منفصِل عن سياقه الواقعي الخام.١٠١
وقد نُقدت الظاهريات بأنها غامضة في «الرد»، ينقصها التمييز بين المستويات. وكيف ينقص الظاهريات التمييز مع أنها تبدأ بتمييزات أصلية؟ والمستوى المطلوب هو مستوى المفارقة الذي يدافع عنه اللاهوت العقائدي أو الفلسفة المدرسية،١٠٢ ويوصف المسار من العالم — الأفق إلى العالم — الحامل الأخير بأنه غامض لأنه طبقًا للواقعية الخام (الساذجة) للفلسفة المدرسية العالم — الحامل موجود هنا. وهل هذا العالم واضح؟١٠٣
واعتُبر التمييز بين العلوم النظرية ونموذجها الظاهريات، والعلوم الاستنباطية ونموذجها الرياضيات، كمطلب للعقل الخالص للمطالبة بعلوم وقائع وضعتها الظاهريات سلفًا بين قوسين، ويمهِّد هذا النقد للواقعية السابقة في الفلسفة المدرسية.١٠٤
ونقد التطور المتأخر للظاهريات ممكن من أجل الإظهار المستمر للظاهريات الترنسندنتالية الخالصة،١٠٥ واستُبعد التكامل بين الظاهريات والمنطق في الأنطولوجيا الظاهراتية دفاعًا عن التكامل بين الظاهريات والفلسفة الوجودية.
ولم تضع الظاهريات اللغة الطبيعية بين قوسين، خارج دائرة الاهتمام؛ فاللغة مثل الكوجيتو بداهةٌ أولى،١٠٦ وهي ضرورية إما للتعبير أو للإيصال.
وظلت الظاهريات الترنسندنتالية ظاهريات فِعل أكثر منها ظاهريات موضوع، ولا يمكن تطبيق الظاهريات كعود إلى المعطى الأصلي في البحث في تاريخ الأنطولوجيا القديم،١٠٧ ولم يعد الشعور مصدرًا للمعطى، وترك مكانه للتاريخ، وترك العود إلى الأصيل في المنهج الظاهرياتي ﺑ «اشمئزاز مستهجن» لأنه يضيِّق مضمون الظاهرة،١٠٨ ولم تعد البداية الجذرية المطلقة مقبولة كمنهج للبحث،١٠٩ الأشياء وحدها هي نقطة البداية.
وتعيد الظاهريات التطبيقية من حين لآخر تفسير الظاهريات نفسها.١١٠ ولا يعني إعادة تفسير التعبير عن الشيء بطريقة أخرى، ولكن الغوص في الأعماق حتى المقاصد غير المعلنة للعلم، وتصل الظاهريات التطبيقية إلى حد تفسير الظاهريات الترنسندنتالية لإعداد الموقف، ولا يؤدي تفسير الظاهريات إلى الرجوع إلى الوراء بل يدفع إلى الأمام. وليس المقصود العثور في الظاهريات على بقايا الماضي خاصةً ما يتعلق بالفلسفة المدرسية، بل رؤية الظاهريات كاكتمال لتاريخ الفلسفة، وليس تمييز الظاهريات بين التكويني والتتابعي استرجاعًا للتمييز المدرسي بين الماهية والصفة الضرورية، بل هو تمييز خاص يهدف إلى توضيح الخلط في ميدان محدد.١١١
ويُطبق المنهج الظاهرياتي كتفسير حقائق متضمَّنة فيها،١١٢ وقد استرجعت النتائج التي حصلت عليها الظاهريات من قبل وطوَّرتها كي تصبح ظاهريات أوضح.١١٣
واستعملت المصطلحات الظاهراتية،١١٤ وأحيانًا تترك المصطلحات القديمة مكانها للمصطلحات الجديدة دون تغيير في جوهر الأشياء، وتُستعمل اللغة الظاهرية بطريقة تعسفية لأنها ملائمة، وتختلط بلغة الفلسفات المدرسية دون مراعاة لاستقلالها وتوجهها،١١٥ واستعارة لفظ هي استعارة معنًى، والباعث المعارض للعلية الفيزيقية ليس فقط مجرد لفظ بل أيضًا معنًى وشيء.١١٦
ويظهر باستمرارٍ البحث عن السابق الذي يرمز له المقطع Vor في الظاهريات التطبيقية، وتبدأ بفهم مسبق للموضوع ابتداءً من معطياته الأصلية.١١٧
وتلحق أحيانًا التمييزات التي يصل إليها الباحث بجهده الخاص بالتمييزات الموازية والمشابهة في المنهج الظاهرياتي،١١٨ وأحيانًا يستعار لفظ ظاهريات مباشرة من الظاهريات للتعبير عن شيءٍ وجده الباحث بنفسه،١١٩ وتُستعمل التمييزات الظاهراتية وقت الحاجة وعندما تقدم بعض النفع،١٢٠ وتُستعمل كل المراحل الثلاثة في كل فلسفة، علمية أو شعرية-دينية أو ظاهراتية؛ لأن البحث الشخصي في حاجة إليها.١٢١ وكان يمكن انتقاء بعض الأفكار الأخرى لو كان البحث في حاجة إليها، لم يتم إذَن استعمال المفاهيم الظاهراتية عن اقتناع داخلي للباحثين بل من أجل دافع نفعي خالص، واستُعمل تعبير «الملاء من أجل عدم التطابق» لتبرير دور عامل خارجي للشعور،١٢٢ واستُعمل تحليل آخر في اتفاق مع مقاصد الباحث دون أي نقد؛١٢٣ فتعبير «أفق الألفة» تعبير مرضٍ في الظاهريات يمكن الاستفادة منه.١٢٤
ولا يعني تطبيق المنهج الظاهرياتي اختيار نقطة خاصة جدًّا في أحد جوانب الظاهريات من أجل الاستفادة منها.١٢٥
وفي الظاهريات التطبيقية تُستخدم أحيانًا مقولة تسمح باكتشاف عالم بأكمله، مثلًا استُعمل لفظ «أفق» للعثور على شيء يشار إليه،١٢٦ وكذلك استُخدم تعبير «الحالة الأصلية» عرَضًا كنمط في التعبير.١٢٧ فلم تكن الموضوعات الأساسية المستعمَلة كافية للقول بأن المنهج الظاهرياتي قد تم تطبيقه،١٢٨ صحيح أن تعبير «الزمان الحي» تعبير رئيسي، ولكنه ليس وحده، فإن لم تؤخذ الموضوعات كلها فإن اختيار بعضها يكون اختيارًا تعسفيًّا يمكن توجيهه بواسطة الافتراضات المسبقة للظاهراتي الباحث.
وأحيانًا يتم تحليل لفظ ثم يحدث اتفاق عرَضي أو مقصود بين نتيجة التحليل والتحليل الظاهرياتي، وبسرعة تُستعمل الظاهريات كنمط للتعبير، ويُعبَّر دائمًا عن هذه الطريقة في التطبيق بعبارة «وهذا ما يسميه مؤسس الظاهريات».١٢٩ ويتفق لفظ «تحضير» عرَضًا بين البحث الشخصي والتحليل الظاهرياتي،١٣٠ أما «التطور اللامحدود» للمكانية كما تبين الظاهريات فإنه مطلب الرياضيات الشاملة التي يراد تأسيسها بإصرار، واللانهائي الذي يريده الباحث يجده في المفهوم السابق تأييدًا أو تبريرًا.١٣١ وأحيانًا تكون القاعدة المطبقة متسعة للغاية تقول كل شيء في نفس الوقت، مثلًا يعني تعبير «الاعتبار الشارح» كل شيء،١٣٢ وعلى أقصى تقدير يمكن اعتبار «منهج الإيضاح» كلحظة ثالثة بعد «الرد» أو «التكوين».
وقد استُعمل «الرد» الظاهرياتي دائمًا،١٣٣وكذلك استُعمل مفهوم «الأفق»؛١٣٤ فالقاعدة المطبقة هي دائمًا فكرة. «الحامل الأقصى» مفهوم أكثر منه قاعدة،١٣٥ وتعيين العالم كحامل أقصى هو التعبير عن نفس الشيء بلفظ آخر دون تطبيق أي قاعدة للمنهج في ميدان خاص.
وتطبيق المنهج الظاهرياتي شيء واستلهام شيء فيه شيء آخر؛١٣٦ فالتطبيق يعني أخذ المنهج الظاهرياتي في مجموعه ودون أي تغيير لحل أزمة منهجية في ميدان الدراسة، وعلى العكس استلهام شيء منه يعني أخذ جزء من المنهج الظاهرياتي، قاعدة أو مفهومًا أو تغيير فكرة أو حتى قلبها من أجل تبرير عيب في ميدان الدراسة، في الظاهريات التطبيقية هناك باستمرار خلطٌ بين موضوع ومقولة وتصور ومفهوم وفكرة وميدان وقاعدة … إلخ، وتستعمل كل دراسة تطبيقية إحدى تصورات الظاهريات النظرية دون تحديد سابق لوضعها في المنهج الظاهرياتي الشامل.١٣٧

وخطورة الظاهريات التطبيقية هو اختفاء المنهج الظاهرياتي نفسه. صحيح أن الأنطولوجيا العيانية نتيجة ضرورية للظاهريات، ولكنها تحافظ على الظاهريات الترنسندنتالية كنقطة بداية، ليس من الضروري البداية بالموضوع للوصول إلى الموضوع أو البداية بالفعل للوصول إلى الفعل، تستطيع الظاهريات الترنسندنتالية كظاهريات للفعل الوصول إلى ظاهريات للموضوع دون أن تصبح كذلك، وقد يؤدي البحث عن ظاهريات مفارقة إلى إخراج المنهج الظاهرياتي نفسه عن الطريق باعتباره منهجًا حالًّا، وإن القيام بظاهريات الحدث المادي يرفع القوسين، وينتهي «الرد».

والخطر الذي يهدد صحة التفسير هو دائمًا تبرير الافتراضات المسبقة مثل: اللاعقلي، المفارقة، المطلق، بحيث يختفي المنهج الظاهرياتي نفسه فيما يتعلق بالحلول، والبداية الجذرية أو التحليل العقلي،١٣٨ يصبح العقلي تبريرًا لو كان قائمًا على إيمان ديني مقنع، ويصبح حقيقة لو تم العثور عليه في الحياة اليومية كانفصال بين الفكر والوجود أو كقفزة معرفية إلى الأنطولوجيا، وكذلك المفارقة تبرير لوجود «الله» لو كانت مفروضة من الخارج على حساب الحلول الظاهرياتي، أما إذا أمكن التصديق بالمفارقة داخل الحلول كتقدم مستمر نحو الأفضل يُستبعد خطر التبرير، ومن ثَم اختفاء المنهج الظاهرياتي.١٣٩
إن الحاجة إلى المفارقة مطلب ديني خالص. وتصور المفارقة كنزعة خارجية محضة تبرير للاهوت العقائدي، في حين أن تصور المفارقة كنزعة داخلية صِرفة مطلب للوحي ذاته،١٤٠ والرغبة في تبرير المفارقة في اللاهوت العقائدي بنقد الحلول في المنهج الظاهرياتي أقل ذكاءً من محاولة فهم الحلول في الوحي عن طريق الحلول في المنهج الظاهرياتي، فماذا يعني «المتعالي»؟١٤١ يمكن التأكد من الانفتاح والحرية في الحياة اليومية وليس المفارقة كنزعة خارجية،١٤٢ وإذا استعملت الظاهريات لفظ «المفارقة» بمعنى حلول المطلق في الشعور الذاتي أو الذاتي المشترك، يُستبعد هذا المعنى بسرعة لإفساح المجال للنزعة الخارجية.١٤٣

ومن الصعب وجود خط فاصل فصلًا تامًّا بين الظاهريات التطبيقية كتطور طبيعي للظاهريات الترنسندنتالية والظاهريات التطبيقية التي يقوم بها الباحثون في رسائلهم الجامعية مستفيدين مما تستطيع الظاهريات، نظرية أو منهجًا، أن تقدم لهم، تمتد الظاهريات التطبيقية نفسها إلى تطور الظاهريات الترنسندنتالية نفسها في تطبيقها الجزئي في البحوث الفلسفية.

وقد تصل الدراسات الثانوية على عتبة الظاهريات التطبيقية، كما هو الحال في تحليل الفلسفة وبنيتها،١٤٤ وتُستعمل الظاهريات كنظرية فلسفية في التاريخ مثل باقي النظريات، وتضيع الظاهريات داخل مجموع النظريات حتى يصعب رؤيتها.١٤٥ صحيح أنه تم تأويل الظاهريات كحل في الفلسفة العامة، وهو أفضل من تصورها مجرد نظرية في تاريخ الفلسفة، ومع ذلك هذا لا يكفي، الفلسفة العامة هي التي تجد حلولها في الظاهريات كتحقق لغائية التاريخ واكتمال له، وتشمل الظاهريات المستعملة كل الاتجاهات الظاهراتية؛ الترنسندنتالية، والأنطولوجية، والنفسية … إلخ؛ حتى يسهل نقدها، تعطي الظاهريات التطبيقية نتائج عيانية يتحقق من صدقها.
وبعيدًا عن نظرية المعرفة استُعملت الظاهريات كحل في نظرية العلم،١٤٦ وكانت أهميتها بإحالتها إلى الفعل وبإثباتها الصور الخالصة. ومع ذلك، الظاهريات هي علم العلم، هي فلسفة للعلوم لفلسفة العلوم، وأحيانًا تخرج الظاهريات في مساهمتها في فلسفة العلم من إطارها وتصبح شيئًا آخر، وإذا كانت الظاهريات الترنسندنتالية حدسية، فكيف تصبح ظاهريات للمعرفة الاستنباطية؟١٤٧ قد تمثل تواصلًا بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ومع ذلك، التفكير في المادة غير التفكير في الإنسان؛ الأول صوري، والثاني حي.
وأقل طموحًا من الفلسفة وبنيتها استُخدمت الظاهريات كحل لمشكلة فلسفية واحدة هي مشكلة المعرفة،١٤٨ واستعير الوصف الظاهرياتي من ظاهريات الموضوع في فلسفة «الوجود الروحي»،١٤٩ وانتقل المستوى القصدي بسرعة من الظاهريات الترنسندنتالية إلى الأنطولوجيا الظاهراتية، مرورًا بكل فلسفات الوجود اليونانية والمدرسية،١٥٠ وهكذا خرجت الظاهريات عن مسارها الطبيعي بإسقاط ذاتها خارجها، وبتأثيرها داخل نظرية ممكنة للمعرفة، دون أن تكون نظرية النظرية كما أرادت أن تكون.
وقد ساهمت إلى حد كبير حلولُ الظاهريات لمشكلة فلسفية ما في دراستها كمشكلة فلسفية وكحقيقة أكثر منها كتاريخ للفلسفة؛ فقد تم تحليل مفهوم «القبلي» في بنية لا تاريخية، القبلي الموضوعي، والقبلي الذاتي، والإنسان، والعالم.١٥١
وهكذا تؤدي المعرفة إلى الوجود، و«الإبستمولوجيا» إلى «الأنطولوجيا»، والمسار من الظاهريات إلى الأنطولوجيا هو نفسه مسار «القبلي» الموضوعي. يوجد «القبلي» الصوري في المنطق الصوري وفي المنطق الترنسندنتالي كأنطولوجيا شاملة،١٥٢ ويوجد «القبلي» المادي في القيم وفي ظاهريات الحدس الوجداني، ويوجد «القبلي» المدرَك في الإدراك الحسي وفي الظاهريات الأنطولوجية، وأخيرًا «القبلي» كعنصر مكوِّن هو نقطة التقاء الإنسان والعالم. ويظهر نفس المسار في تطور «القبلي» الذاتي، بل وفي الجدل الداخلي بين «القبلي» الموضوعي و«القبلي» الذاتي، والإنسان والعالم، أليست الظاهريات وحدة الذات والموضوع في الشعور وفي الوجود في العالم؟ لم تؤخذ فقط الحلول الظاهراتية، ولكن توجد الظاهريات نفسها في الخلفية كتوجه في وعي الباحث.

ومع ذلك فإن الظاهريات أكثر من مشكلة «القبلي»، صحيح أن مفهوم «القبلي» يلعب دورًا في الظاهريات خاصة في المنطق الصوري، ولكنه ليس المفهوم الوحيد، وصحيح أيضًا أن الظاهريات التطبيقية مضطرة دائمًا لاختيار نقطة محددة لتطبيق المنهج الظاهرياتي، ولكن من الأفضل اختيار نقطة تطبيق تسمح باستثمار كل جوانب المنهج. والموضوع التطبيقي الوحيد الذي يوجد على نفس المستوى الرفيع للمنهج هو القصد المسكوت عنه في هذا المنهج بعينه، ونقطة البداية التي نشأت منها.

١  Ex. Phéno., pp. 162–90.
٢  «ظاهريات الخبرة الجمالية» La Phénoménologie de L’Expérience esthétique تطبيق مباشر للمنهج الظاهرياتي في علم الجمال، في حين أن عمل جيرفتش G. Gurvitch خضع لتأثير الظاهريات في دراسة الظاهرة الاجتماعية.
٣  يمثل ماكس فيبر علم الاجتماع الذي يقوم على الوصف La Sociologie Compréhensive (انظر R. Aron: La Sociologie Allemande Contemporaine).
٤  J. Claude Piguet: De L’Esthétique à la Métaphysique, pp. 166–71. وتمت قراءة البحوث اللغوية عند هوسرل من خلال فنك Fink وفيلد Wild.
٥  Ibid., pp. 200–10.
٦  Ex. Phéno. pp. 163–9.
٧  E. Fink: Sein, Wahrheit, Welt, Vorfragen zum Problem der Phänomen-Begriffs, phäno., I.
٨  Ibid., p. 4.
٩  Ibid., p. 51.
١٠  S. Berton: Approches Phénoménologiques de l’idée de l’Etre, p. 9.
١١  هذه هي حالة ديفرين في كتابه «ظاهريات الخبرة الجمالية» M. Dufrene: Phénoménologie de l’Experience Esthétique, I, II، وأيضًا كلود بيجيه «من الجمال إلى الميتافيزيقا» J. Claude-Piguet: De l’Esthétique à la Métaphysique.
١٢  A De Waelhens: La Philosophie et les Expériences naturelles, Phänomenologica, 9.
١٣  الأصل الألماني هو دراسة هانز أورس فون بالتزار بعنوان «الحقيقة» Hans urs von Baltazur: Die Wahrheit، في حين أن الترجمة الفرنسية قد عنونتها «ظاهريات الحقيقة» Phénoménologie de la vérité، «حقيقة العالم» La Vérité du Monde كعنوان فرعي.
١٤  S. Bréton: op. cit., p. 56.
١٥  Ibid., pp. 304, 229.
١٦  E. Levinas: Totalité et Infini, pp. 94–115. ووضعت المتعة في مواجهة التمثل. انظر أيضًا E. Levinas: La Ruine de la Representation, Edmund Husserl 1859–1959, Phänomenologica 4, pp. 73–5. البرانية Extériorité.
١٧  S. Breton: op. cit., p. 104.
١٨  E. Fink: Zur Ontologisches Frühgeschichte von Raum, Zeit, Bewegung. وكان هيدجر أول من أوَّل الفلسفة ما قبل سقراط كأنطولوجيا جذرية، وقام بنفس الشيء مع الفلسفة النقدية لكانط أيضًا كفلسفة جذرية.
١٩  A. De Waelhens. op. cit., p. 42–4.
٢٠  Ibid., pp. 57–70.
٢١  Ibid., pp. 107–88.
٢٢  Ibid., pp. 1–40.
٢٣  S. Breton: op. cit., p. 42.
٢٤  Ibid., p. 95.
٢٥  Ibid., p. 91.
٢٦  Ibid., p. 74.
٢٧  A. De Waelhens: op. cit., p. 189–211.
٢٨  S. Berton: op. cit., p. 41.
٢٩  توجد هذه السمة أيضًا في معظم المؤلَّفات المعاصرة خاصةً مؤلفات برجسون؛ «المادة والذاكرة»، «التطور الخالق»، «الفكر والمحرك»، «منبعا الأخلاق والدين»، وأيضًا هيدجر في «الوجود والزمان»، وسارتر في «الوجود والعدم»، وجابريل مارسل في «الوجود والملكية»، وميرلوبونتي في «المرئي واللامائي» … إلخ.
٣٠  E. Levinas: Totalité et Infini, Essai sur L’Extériorité, Phänomenologica 8.
٣١  هذا هو الجدل عند ليبنتز. والعبارة الأولى له، والثانية لأوغسطين.
٣٢  وهو معنى الآية القرآنية: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
٣٣  E. Levinas: op. cit., p. 57.
٣٤  E. Fink: sein wahsheit, welt, p V.
٣٥  E. Levinas: De L’Existence à l’Existant.
٣٦  Ex. Phéno., pp. 169–78.
٣٧  M. Dufrenne: Phénomenologie de l’Expérience esthétique.
٣٨  Ibid., p. 198–257.
٣٩  Ibid., p. 4.
٤٠  Ibid., I, pp. 36, 38-9, 52, 145, 268, 281, 346.
٤١  Ibid., II, pp. 436, 443, 470, 499. الشعور الواضع La Conscience positionnelle.
٤٢  J. C. Piguet: De L’Esthétique à la Métaphysique, Phänomenologica.
٤٣  Ibid., pp. 10, 20.
٤٤  Ibid., pp. 27-8.
٤٥  Ibid., pp. 68-9.
٤٦  Ibid., pp. 129–39.
٤٧  Ibid., pp. 66, 71, 130–46.
٤٨  P. Ricoeur: Philosophie de la volonté.
٤٩  Ibid., p. 7–36.
٥٠  P. Ricoeur: Finitude et culpabilité, I, L’Homme Failible, II, La Symbolique du Mal.
٥١  Ibid., I, p. 9–17.
٥٢  P. Ricoeur: Le Volontaire et L’Involotaire, pp. 44, 56-7, 192.
٥٣  Ibid., p. 143. الاستباق Protention.
٥٤  Ibid., p. 149.
٥٥  Ibid., pp. 185, 210, 398.
٥٦  Ibid., p. 312.
٥٧  Ibid., p. 364, 370, 386. التخطيط الذهني Esquisse.
٥٨  Ibid., p. 439.
٥٩  P. Ricour: Finitude et Culpabilité, I, L’Homme Faillible, p. 45-6, II, La symbolique du Mal, p. 24.
٦٠  Ibid., p. 68.
٦١  Ibid., p. 82-3.
٦٢  Ibid., p. 99–107.
٦٣  Ibid., p. 128.
٦٤  Ibid., p. 161.
٦٥  بطريقة الاسترجاع Retrospectivement.
٦٦  وفيما يتعلق بماكس شيلر Ibid., II, p. 109، وفيما يتعلق ببولتمان p. 135.
٦٧  P. Ricoeur: Finitude et Culpabilité II, La Symbolique du Mal, p. 11–30.
٦٨  Ibid., I, L’Homme Faillible, p. 56.
٦٩  ومن ثَم فإن فلسفة القديس توما الأكويني وفلسفة القديس أوغسطين ليستا على نفس مستوى بحوث الحقيقة كفلسفات ديكارت وكانط وهيجل وهوسرل وبرجسون.
٧٠  وهكذا فإن فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو ليست على مستوى الفلسفة المدرسية أو الفلسفة الحديثة.
٧١  لذلك فإنه لم تتم الاستفادة الكاملة من الملاحظات الهامشية، وكان يمكن لتحليل الأشياء ذاتها في صلب الصفحة والأعمال الفلسفية، مادة المهنة الفلسفية، في الملاحظات الهامشية.
٧٢  الوسخ Souillure.
٧٣  الإحساس المأساوي La Pathétique.
٧٤  الفكرة-القوة Idée-Force، ركيزة فلسفية عند فوييه A. Fouillée.
٧٥  A. Gurvitch: Théorie du Champ de la Conscience, p. 7.
٧٦  علم النفس التجريبي عند وليم جيمس، وعلم النفس الحدسي عند برجسون.
٧٧  للمقارنة بين مفهوم الموضوع عند وليم جيمس ومضمون الشعور Noeme عند هوسرل، انظر A. Gurvitch: op. cit., p. 152–6.
٧٨  Ibid., pp. 65–71. العوامل التصويرية Facteurs Figuraux.
٧٩  Ibid., pp. 277–80. ميدان مضمون الشعور Champ Thématique.
٨٠  Ibid., pp. 130–63.
٨١  Ibid., pp. 164–245.
٨٢  L. Biswanger: Le Rêve et L’Existence, p. 135.
٨٣  مقدمة المترجم Ibid., pp. 15–7.
٨٤  G. Berger. Caractere et Personalité, p. 103–8.
٨٥  Ibid., pp. 4–8. ولنفس المؤلف «رسالة عملية لتحليل الشخصية»، علم دراسة الشخصية Carectérliogie، انتماءات Appartenances. مستوى العمق Couche.
٨٦  Ex. Phéno., pp. 178–81.
٨٧  E.Levinas: op. cit., pp. 81-2، محاولة في التخارج Essai sur L’Extériorité، علم النفس القائم على الفهم Sociologie Compréhensive.
٨٨  J. Monnerot: Les faits soiraux ne sont pas des choses.
٨٩  Ibid., p. 62.
٩٠  Ibid., p. 74.
٩١  الباطنية L’Intériorité.
٩٢  عند ليفناس Levinas تجربة الآخر هي تجربة الإحسان المسيحي.
٩٣  F. T. O. Buytendijk: Phénoménologie de la rencontre, p. 7.
٩٤  طبَّق المؤلف المنهج الظاهرياتي بهذه الطريقة في دراستين أُخريين «كرة القدم» Le Football و«المرأة» La Femme.
٩٥  R. Aron: Introduction à la philosophie de l’histoire, éssai sur les limites de l’objectivité historique, p. 9.
٩٦  العلم الشارح Science explicative، العلم الفاهم Science compréhensive.
٩٧  صدرت أول طبعة عام ١٩٤٨م. وكانت معظم المؤلفات الظاهراتية موجودة.
٩٨  Ibid., pp. 17–48.
٩٩  Ex. Phéno., pp. 181–90.
١٠٠  S. Breton: op. cit., p. 60.
١٠١  الحامل الأخير Le dernier substrat، Ibid., p. 82-3.
١٠٢  Ibid., p. 61.
١٠٣  Ibid., p. 134.
١٠٤  Ibid., p. 71.
١٠٥  Ibid., p. 73.
١٠٦  C. Piguet: op. cit., p. 168.
١٠٧  E. Fink: Zur Ontologischen fruhgeschichte von Raum, Zeit, Bewegung, p. 2.
١٠٨  Ibid., p. 40.
١٠٩  Ibid., p. 5.
١١٠  S. Breton: op. cit., p. 180.
١١١  Ibid., p. 41.
١١٢  A. De Waelhens: op. cit., p. 35-6.
١١٣  S. Bretom: op. cit., pp. 27-8.
١١٤  Ibid., pp. 18-9.
١١٥  Ibid., p. 32.
١١٦  Ibid., p. 41.
١١٧  E. Fink: op. cit., pp. 1–13.
١١٨  S. Berton: op. cit., p. 48.
١١٩  Ibid., p. 54.
١٢٠  Ibid., p. 9.
١٢١  Ibid., p. 188.
١٢٢  Ibid., p. 218.
١٢٣  Ibid., p. 224. أفق الألفة L’Horizon de Familiarité.
١٢٤  Ibid., p. 238.
١٢٥  Ibid., p. 76.
١٢٦  Ibid., p. 36.
١٢٧  Ibid., p. 112.
١٢٨  Ibid., p. 20.
١٢٩  S. Berton: op. cit., pp. 25, 66 تحضير Présentification.
١٣٠  Ibid., p. 122.
١٣١  Ibid., p. 201.
١٣٢  Ibid., p. 25.
١٣٣  E. Levinas: Totalité et Infini, pp. XVIII.
١٣٤  Ibid., p. 15.
١٣٥  Berton: op. cit., p. 28. الحامل الأقصى L’ultime Substrat.
١٣٦  Ibid., p. 7.
١٣٧  يسدُّ هذا النقص قدر الإمكان فيما بعد في الباب الثاني، الفصل الثالث: التفسير. موضوع Thème، مقولة Catégorie، تصور Concept، مفهوم Notion.
١٣٨  A. De Waelhens: op. cit., p. 34.
١٣٩  Ibid., pp. 71–85. لذلك تم تفسير المفارقة La Transcendance كرغبة في اللامرئي E. Levinas: Totalité et Infini, p. 87-8.
١٤٠  S. Berton: op. cit., p. 87-8.
١٤١  Ibid., p. 127. المتعالي L’Au-delà.
١٤٢  Ibid., p. 139.
١٤٣  Ibid., pp. 202, 242.
١٤٤  R. Vancourt: La Philosophie et sa structure, I, Philosophie et Phénoménologie.
١٤٥  ومن ثَم فإن عنوان الجزء الأول «الفلسفة والظاهريات» عنوان خادع؛ لأنه يتعلق بالفلسفة وليس بالظاهريات، وقد أصبح لفظ «الظاهريات» شائعًا للغاية لكل تأمل فلسفي.
١٤٦  J. T. Cavailles: Sur la Logique et la Théorie de la science.
١٤٧  S. Bachélard: La Conscience de Rationalité, pp. 178–210.
١٤٨  A. Brunner: La Connaissance Humaine.
١٤٩  Ibid., pp. 61–70. وهذه هي فلسفة هارتمان N. Hartman.
١٥٠  Ibid., pp. 135–54.
١٥١  M. Dufrenne: La Nation d’aprion. حلول Solutions.
١٥٢  Ibid., p. 85.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤