اكتشاف بنية الذاتية هو الفرض الرئيسي لكل التحليلات
الظاهراتية. وسواء في الذاتية أو في الذاتية المشتركة،
البنية هي الغاية الرئيسية للتطور؛ مما يؤدي إلى القول بأن
الظاهريات هي فلسفة بنية أكثر منها فلسفة تطور، وتظهر بنية
الذاتية بعد تطبيق حركتَي المنهج الظاهرياتي؛ الرد
والتكوين، بالاستعانة بالحركة الثالثة؛ منهج الإيضاح، ظلت
الظاهريات سكونية أكثر منها حركية؛ لأنها تهتم بالبنية
أكثر من اهتمامها بالتطور،
٣ ومن المعروف في الظاهريات أن الغاية أحد جوانب
الفكرة.
(أ) بنية الرد (الأفكار)٤
وبالرغم من عدم اتساق الجزء الأول من «الأفكار»،
وتردد القسمة العقلية، تستطيع المقدمة العامة
للظاهريات الخالصة أن تقدم مخططًا لبنية الشعور؛
٥ صورة الشعور ومضمون الشعور في بنية صورية مادية.
٦ صورة الشعور من جانب العقل، ومضمون الشعور
من جانب الواقع. العقل له ظاهرياته، والواقع له معناه
المادي؛ أي العلاقة بالموضوع، وبين الاثنين هناك
مستويات للعموم، ومنطقة الشعور الخالص ممكنة بعد
«الرد» لوضع الواقع الطبيعي «بين قوسين» وتكوين
الشعور، ولا يكون ذلك ممكنًا إلا بعد تمييز سابق بين
علوم الوقائع وعلوم الماهيات.
٧
والشعور نفسه منطقة في مركز منطقتين أُخريين؛ منطقة
الموجودات الحية (المتحركة) المكونة من الآخر، والذي
يشارك في تحقيق الخبرة الذاتية المشتركة، ومنطقة
الأشياء التي تكون العالم الطبيعي. وهذه المناطق
الثلاثة ليست مستقلةً بعضها عن البعض، والحقيقة هناك
منطقة واحدة توجد في الواقع هي منطقة الشعور الخالص،
والمنطقتان الأخريان موجودتان بالتضايف مع الشعور؛
فالآخر، أي العالم الإنساني، في علاقة تضايف مع الشعور
الخالص. والعالم الطبيعي هو العالم الذي يوجد فيه
الشعور كوجود في العالم، في الواقع لا يوجد إلا الشعور
متسعًا نحو العالمين الآخرين، العالم الإنساني والعالم
الطبيعي، ويوجدان كعالمين وجدانيين داخل الشعور.
٨
وتمتد هذه المناطق الثلاث بين قطبين؛ الماهية
والواقعة، الأولى لمعرفة الماهيات، والثانية لمعرفة الوقائع.
٩ هذه الثنائية «الماهية-الواقعة» في صلب
المخطط، وتأخذ أشكالًا أخرى عديدة.
والوعي والواقع الطبيعي صورة أخرى للثنائية الأولى «الماهية-الواقعة».
١٠ ويتأكد الوعي بعد إخراج الواقع الطبيعي
خارج دائرة الانتباه، ويبدو الشعور كمركز أولي في كل
البحث، ويصبح منطقة خالصة في تجانس مع الوعي المطلق.
١١
وتتألف البنية العامة للوعي الخالص من جزأين؛ صورة
الشعور ومضمون الشعور، والعلاقة بينهما،
١٢ ويكونان مجموع مناهج الظاهريات الخالصة ومسائلها؛
١٣ فالشعور هو نسيج العالم.
والعقل والواقع مكونان آخران في المخطط،
١٤ وهي نفس الثنائية السابقة بين الماهية
والواقعة أو بين الشعور والعالم الطبيعي، ثنائية العقل
والواقع لها طابع منطقي؛ فالعالم يمتد في سلم العموم
بين هذين القطبين، يوضع العالم الطبيعي أولًا خارج
دائرة الانتباه، وما يبقى هو معنى مضمون الشعور
وعلاقته بالموضوع،
١٥ لم يعد المضمون موضوعًا بل معنًى، وبعد
ذلك تبدأ ظاهريات العقل في البحث عن بداهة معنى المضمون.
١٦ وتكون إما بداهة ملائمة أو غير ملائمة،
مباشرة أو غير مباشرة، أو تبريرًا دون بداهة،
١٧ وأخيرًا تصنف مستويات العموم من قضية
العقل النظري مختلف الموضوعات في المناطق المطابقة للشعور.
١٨
وقد استخرج هذا المخطط من «الرد» في «الأفكار»
(١).
(ب) بنية التكوين «الأفكار» (٢)
ويوجد مخطط مشابه تقريبًا في «الأفكار» (٢)؛ فالواقع
أن «التكوين» طبقًا للتفسير بالمجموع،
١٩ بنية ثلاثية للواقع: تكوين الطبيعة
المادية، تكوين الطبيعة الحية، وتكوين عالم الروح.
٢٠ وبتعبير آخر، بنية الواقع ثلاث دوائر
متداخلة: المادة، والحياة، والروح.
ولكل جانب من الواقع بنية ثلاثية كذلك في درجات؛
الأولى الطبيعة المادية أي الطبيعة على العموم،
والثانية تتخصص في المستويات الأنطولوجية لمعاني
الأشياء المرئية، والثالثة تظهر من خلال إحساسات
الجسد؛ فالطبيعة تمرُّ تدريجًا من الطبيعة الميتة إلى
الطبيعة الحية من أجل التمهيد لتكوينها.
وتتكون الطبيعة الحية من ثلاث درجات؛ الأولى الطبيعة
الحية، والثانية ظهورها من خلال الجسد، والثالثة
تكوينها في الاستبطان. وهو تطور منطقي للتكوين، وهو
نتيجة تكوين الجانب الأول للواقع، الطبيعة المادية، ما
يدعو للدهشة هو ظهور الأنا الخالص في بداية تكوين
الواقع الحي؛ إذ يكتمل تكوين الواقع الحي طبقًا لمخطط
رباعي؛ فالمخطط الثلاثي الموصوف سابقًا مسبوق بظهور
فجائي للأنا الخالص في بداية التكوين، وهنا يبرز سؤال:
هل الأنا الخالص شرط مسبق لتكوُّن الطبيعة الحية، بسبب
ظهورها المباغت خارج أي سياق منطقي، أو إنها نتيجة
للتكوين الذي يظهر أخيرًا، والذي يمهد لقدوم تكوين
عالم الروح؟ يدعم الافتراض الأول نظام المخطط الرباعي
لتكوين الطبيعة الحية، بينما يدعم الافتراض الثاني
الاستنتاج المنطقي.
وتكوين عالم الروح ثلاثي أيضًا مستبدلًا بلفظ
«طبيعة» المستعمل في تكوين الجانبين الأوليين للواقع،
المادي والحي، لفظ «عالم»، وهذا يبين الانقطاع الجذري
بين الطبيعة المادية أو الحية من ناحية وعالم الروح من
ناحية أخرى، ويبدو هذا الانقطاع على ثلاث درجات؛
الأولى: التعارض بين العالم الطبيعي والعالم الشخصي،
والثانية: الباعث هو المحرك الأول في عالم الروح،
والثالثة: الصدارة على العالم الطبيعي.
ومخطط بنية الشعور في «الأفكار» (٢) تُطابِق بنية
الشعور في «الأفكار» (١)، ولكن في الطريق العكسي؛ فإذا
بدأ الجزء الثاني بالطبيعة المادية ثم الطبيعة الحية
وأخيرًا عالم الروح، فإن الجزء الأول يبدأ بمنطقة
الشعور الخالص ثم عالم الموجودات الحية (العالم
الإنساني)، وأخيرًا عالم الأشياء (العالم
الطبيعي).
(ﺟ) بنية منهج الإيضاح «الأفكار» (٣)
وبعد «الرد» و«التكوين» هناك أيضًا «منهج الإيضاح».
ودفعًا للأشياء قليلًا تحتوي «الأفكار» (٣) على قسمة
ثلاثية: الظاهريات، وعلم النفس، والأنطولوجيا. ويُطابق
هذا المخطط المخططين السابقين في «الأفكار» (١)
و«الأفكار» (٢). تطابق الظاهريات منطقة الشعور الخالص،
ويطابق علم النفس منطقة عالم الموجودات الحية، وتطابق
الأنطولوجيا عالم الأشياء.
ويكون الشيء والجسد والنفس ثلاث مناطق للواقع،
٢١ الشيء منطقة الطبيعة التي تظهر في الإدراك
المادي وفي علم الطبيعة المادي، والجسد منطقة علم الجسد،
٢٢ فإذا درس علم الجسد كشيء فإن علم النفس
يدرسه كنفس، والظاهريات تدرسه كروح، كل منطقة من
الواقع علم؛ الشيء للأنطولوجيا، والجسد لعلم النفس،
والنفس للظاهريات.
ومهمة منهج الإيضاح إدراك العلاقة الصحيحة بين
المناطق الثلاث المختلفة للواقع من ناحية والعلوم
الخاصة بها داخل الحضارة، ويتحقق الإيضاح بالبحث عن
البداهة الحدسية أو بالبحوث اللغوية من أجل وضع مناطق
الواقع في مستوياتها الخاصة من العموم؛ التصور المنطقي
الصوري والتصور المناطقي، والتصور المادي.
٢٣ ويكون الإيضاح والتمييز أهم إجراءات
المنهج، وينتهيان إلى أنواع المنطق الثلاثة؛ منطق
القضايا الخالص، منطق الاستنتاج، ومنطق الحقيقة. الأول
أشبه بالمنطق الرياضي، والثاني بالمنطق الاستنباطي،
والثالث بالمنطق الاستقرائي.
٢٤
أما «تأملات ديكارتية» فهو عمل يتماسُّ مع العمل
المنهجي «الأفكار»، والعمل الحضاري «الأزمة»، ويقدم
عرضًا بنيويًّا للظاهريات أكثر منه عرضًا تاريخيًّا
ربطًا لها بالكوجيتو في العصور الحديثة. عرضت
الظاهريات كمنهج مكتمل في ذاته وكحقيقة اكتملت في
التاريخ، وتعلن بداية الوعي الأوروبي بالكوجيتو
ونهايته فيها، تلخص «تأملات ديكارتية» بنية الذاتية،
ويعني التوجه نحو الأنا الترنسندنتالي اكتشاف منطقة
الشعور الخالص،
٢٥ ويقدم ميدان الخبرة الترنسندنتالية
تحليلًا داخليًّا للشعور ذاته بين الحقيقة من جانب
والواقع من جانب آخر،
٢٦ وتطور التجربة الذاتية المشتركة بطريقة
أخص عالم الموجودات الحية؛ أي العالم الإنساني.
٢٧