ثامنًا: التمييز ووحدة الوجود١

ويهدف التمييز إما إلى الفصل أو إلى التوحيد، التمييز للفصل بين الشيئين المختلطين، مثل الواقعة والماهية، والتمييز للتوحيد من أجل إعادة بناء العلاقة بين واجهتي الواقع؛ فمعنى مضمون الشعور مرتبط بالموضوع، والمضمون ليس الموضوع بل معناه، وإذا كان الجزء الأول من «بحوث منطقية» «مقدمة في المنطق الخالص» والثاني «بحث في الظاهريات ونظرية المعرفة» للدلالة على ثنائية العلمين، فإن الجزء الثالث «عناصر إنارة ظاهراتية للمعرفة» بحيث تختفي الثنائية.

وتظهر الرؤية التوحيدية في مد التمييزات النفسية؛ فالواقع أن كل الجهاز الظاهراتي الذي تم التوصل إليه تم مده إلى أكثر الميادين بعدًا في القصدية، الدائرة العليا للشعور، وميدان الحكم أو الميدان الوجداني والرغبة،٢ وقد امتد مفهوم الحكم إلى كل أشكال الأفعال التركيبية اللغوية بعد تحليل موضوعات الحكم من حيث هي كذلك أولًا وأشكال التراكيب اللغوية ثانيًا.٣ ويبين امتداد مفهوم المعنى إلى مجموع ميدان الوضع، وامتداد المنطق الصوري من أجل تكوين مبحث للقيم عملي وصوري وحدة الرؤية،٤ ويتم الامتداد أيضًا بتطبيق المبادئ التي تم اكتشافها على التو في ميادين أخرى باستثناء أو بدون استثناء، وقد استُنبطت قوانين تراتب البداهات من المنطق الاستنباطي ثم تطبيقه على منطق الحقيقة، وهو المنطق الاستقرائي، وتنطبق أيضًا على الأحكام التي لها معنًى من منظور المضمون.٥
والتمييز عن طريق القسمة الثنائية أو الثلاثية له غرض واحد هو التوحيد؛ فبعد القسمة بين اللحظات الواقعية واللحظات غير الواقعية للمعطى الحي هناك إدراك للتيار التوحيدي للمعطى الحي باعتباره فكرة، القصدية نفسها رؤية توحيدية تضع الموضوع في الذات،٦ وفضلًا عن ذلك، المصالحة وعدم المصالحة كعلاقات مثالية بين المضامين على وجه العموم ألفاظ نسبية؛ لأن الصراع نفسه يمكن أن يؤسس حالة وحدة مثل عدم المصالحة بين التصورات.٧
ويشير التماثل بين الموجودات على مستويات مختلفة أيضًا إلى الرؤية التوحيدية، فإن قسمة المنطق إلى منطق استنباطي (نتائج) ومنطق استقرائي (حقائق) تنطبق أيضًا على أعلى المستويات في المنطق، وهي نظرية الكثرة. هناك أيضًا تماثل في البداهة بين الموضوعات المثالية والموضوعات الفردية؛ لأن البداهة تعطي الشيء ذاته، وتضمن الشرعية الأساسية للقصدية، والموضوع الواقعي والموضوع اللاواقعي باعتبارها وحدة تركيبية لها علاقة وظيفية مع البداهة.٨
وهكذا فإن لكل أفعال الشعور وحدتها الظاهراتية،٩ وتكوِّن وحدة متجانسة حميمية يشعر بها كل إنسان في تجربته الداخلية، وبالرغم من كل أقسام الذات إلا أنها تظل قطبًا متماثلًا للحالات الحية، تظل حامل «العادات» ذاتًا شخصًا دائمًا، تصبح جوهرًا فردًا «موناد» بملائها العياني ووضعها الذاتي، ويظل الأنا الترنسندنتالي عالم الصور الممكنة للتجربة، ولها قوانين تحدد الإمكانية المشتركة للحالات الحية في وجودها المشترك وفي تتابعها. وتمتلك الذات-الموناد الزمان كصورة شاملة لكل نشوء ذاتي، وينقسم هذا النشوء إلى إيجابي وسلبي، يقوم السلبي على الارتباط، بينما يقوم الإيجابي على المثالية الترنسندنتالية كتفسير ظاهراتي صحيح،١٠ وتنتهي كل مناهج التفسير إلى غاية واحدة؛ الذاتية؛ إذ يتكون كل موجود، طبقًا لأقسامه المنطقية، في الذاتية طبقًا لضرورة البداية بذاتية كل موجود، تضع الذاتية الإشكالية الترنسندنتالية للذاتية المشتركة للعالم الذاتي المشترك، وبمجرد وجود الوحدة في الذاتية تظهر الثنائية في الذاتية المشتركة، وهذه بدورها توجد في عالم التجربة الخالص، ودون الوقوع في أي نوع من الأنا وحدية، تكوِّن الذاتية المشتركة مشاكل العالم الموضوعي على أرفع مستوًى، وتتميز الذاتية الترنسندنتالية عن الذاتية النفسية، والظاهريات الترنسندنتالية للعقل هي التي تكوِّن المنطق على نحو ذاتي، وإذا أحال المنطق التقليدي إلى العالم فإن المنطق الترنسندنتالي هو المعيار الصحيح للإنارة الظاهراتية، ومن المستحيل تأسيس المعرفة على الإطلاق إلا في العلم الشامل للذاتية الترنسندنتالية باعتبارها الموجود الوحيد المطلق، الظاهريات نفسها ليست إلا التفسير الذاتي للذاتية الترنسندنتالية.١١
وثنائية الكل والأجزاء مشابهة لثنائية الواحد والكثير، ويكوِّن الكل صور وحدة الكليات الحية وأشكال وحدتها كمقولات،١٢ وهذا مما يسمح بالقول بوجود قوانين قبلية في مجمَّع الدلالات بالرغم من تغيرات الدلالات التي لها جذورها في ماهية التعبيرات، وتسمح هذه القوانين القبلية بدورها بالتعرف على اللامعنى والمعنى المضاد، وهو أساس النحو المنطقي الخالص.١٣ وضد التماثل التجريبي بين التجربة والأفعال المعطية الأصلية فإن التمييز بين الماهية والتصور يسقط التماثل التجريبي من جانب التصور، ويؤكد التمييز بين الماهية والخيال، التماثل بين حدس الماهيات، كفعل معطًى أصلي، ويبعده عن الخيال، وينتهي التمييز إلى وحدة الحقيقة، والحدس المعطى للماهيات هو مبدأ المبادئ.١٤
وتوجد الرؤية التوحيدية بوضوح في فكرة المنطق الخالص التي تؤكد على وحدة العلم، ارتباط الأشياء وارتباط الحقائق،١٥ ويؤكد المنطق الخالص على وحدة النظرية ووحدة العلم معطيًا المبادئ الأساسية والمبادئ غير الأساسية، ومصنفًا العلوم في نظامها الخاص، المجردة والعيانية والمعيارية. ومما يسترعي الانتباه أن هذه الوحدة للعلم تؤدي إلى نظرية في الصور الممكنة للنظريات أو للنظرية الخالصة للكثرة؛ ومن ثَم يشارك الرياضي مع الفيلسوف في الحقيقة. وإذا كانت فكرة المنطق الخالص ذروة الفلسفة، أو على نحو أدق ذروة المنطق، فإن نظرية الكثرة ذروة الرياضيات؛ لأن نظرية الكثرة ما زالت نظرية خالصة للمعرفة التجريبية، الواحد هو الخالص، وهدف التمييز الذي يقود إلى الوحدة تطهير العلم، والظاهريات نموذجه، من الاتجاه الطبيعي؛ ومن ثَم فإن اللحظات المادية والصورية للشعور لحظات واقعية للمعطى الحي في حين أن اللحظات مضمون الشعور غير واقعية، يعني لفظ واقعي هنا مثاليًّا غير مادي، الروح وحدها هي الواقع، والظاهريات بحث عن الخالص؛ لذلك تنتهي «مقدمات للمنطق الخالص» ﺑ «فكرة المنطق الخالص»،١٦ «لم أعد أوافق أن ينكر أحدٌ الأنا الخالص».١٧ ومن أجل الحصول على الخالص من الضروري إجراء بحث خاص من منظور نقد المعرفة، وفي نفس الوقت تحقيق فكرة منطق الخالص.١٨ ولكل أجزاء النوع نظرية صورة خالصة.١٩ الظاهريات فلسفة الخالص وغير الخالص، ويختار منهجها الأول ضد الثاني.٢٠
ويرتبط الخالص بالبسيط، وكلاهما يشيران إلى الأصلي،٢١ ولا يتعلق بالواقعة ولكنه مستقل وغير مشروط، والبسيط والمركب ثنائية واحدة، وهي ثنائية موازية لثنائية المفصَّل وغير المفصَّل.٢٢ وتستنبط هذه الثنائية من الثنائية السابقة الأخرى، ثنائية الكل والأجزاء؛ إذ يشير البسيط وغير المفصَّل إلى الكل في حين يشير المركب والمفصَّل إلى الأجزاء، وتسمح هذه الثنائية نفسها فيما بعد بإبراز ثنائية الموضوع المستقل والموضوع التابع، التابع هو المركب، والمستقل هو البسيط، وتقدم الأنماط الصورية الخالصة للكل والأجزاء مصادر نظرية قبلية٢٣ وينطبق التمييز بين البسيط والمركب أيضًا على الدلالة؛ فهناك دلالات بسيطة وأخرى مركبة، وليس تعقيد الدلالات مجرد انعكاس بسيط لتعقيد الموضوعات، ولا يعتمد على تعقيد الفعل الدال، التعبيرات المقدمة مكونات لمادة المقولات المتزامنة.٢٤ والأفعال البسيطة أفعال مؤسسة في الأفعال المعقدة، وللانتباه وظيفة معينة مثلًا ربط الكلمة بالمعنى؛ لأنه هو نفسه وظيفة للتمييز.٢٥
والواحد والخالص في الصورة، وهدف التمييز هو البحث عن الصورة، وللمنطق قبلي صوري وليس قبليًّا حادثًا، له وظيفة معيارية وليس وظيفة عملية.٢٦ ونظرًا لارتباطه بالصورة، يتم تطهير المضمون من شوائبه الطبيعية كي يصبح موضوعًا مثاليًّا مرتبطًا بأنطولوجيا صورية، وكان القصد من المناقشات حول مضمون المنطق الوصول إلى صورة خالصة،٢٧ وتشير ثنائية الحساسية والذهن بوضوح إلى المشكلة الأكثر تقليدية، وهي العلاقة بين المادة والصورة، وكان الهدف من التمييز بين الحدوس الحسية والحدوس الخاصة بالمقولات بيان كيف تدخل المادة الصورة.٢٨ وإذا كان التمثل الخاص بالمقولات ما زال مشوبًا بالمادة، فإن القوانين القبلية للفكر بالمعنى الخاص والفكر بالمعنى الدقيق، يكونان قريبين من الصورة الخالصة.٢٩ الهدف من التمييز بين المادة والصورة هو الحصول على الخالص، والفرق بين القوانين المادية والقوانين الصورية هو نفس الفرق بين القوانين التركيبية والقوانين التحليلية.٣٠ ويظهر نفس التمييز في الخلاف بين الكيف ومادة الفعل من ناحية أو بين الماهية الدالة والماهية القصدية، الأولى هي الصورة بالنسبة للأخرى التي تمثل المادة.٣١ وأحيانًا ينقلب السؤال ويصبح سؤال العلاقة بين المادة وصفة الفعل، وفي هذه الحالة تنقلب أيضًا العلاقة بين الصورة والمادة، وتصبح ببساطةٍ العلاقة بين المادة والصورة، وإذا أمكن تصور المادة كفعل تمثل بسيط لتقوم بوظيفة الفعل المؤسس، في هذه الحالة تبرز صعوبات فيما يتعلق بمشكلة اختلاف الأجناس الأكثر شيوعًا في تحليل المعطيات الحية القصدية وفي مضامينها.٣٢ والتمييز السابق بين المعطى الحي والمضمون له دلالته، والشعور كمكوِّن ظاهراتي للذات والشعور باعتباره إدراكًا داخليًّا يكوِّنان مستويين مختلفين للتحليل؛ مستوًى ظاهرياتي للإبقاء، ومستوًى نفسي للإلغاء.٣٣ ويمثل الشعور باعتباره معطًى حيًّا أيضًا شيئين؛ الشعور كصورة خالصة، والمعطى الحي القصدي كمضمون.٣٤
وتفترض مادة الفعل والتمثل الذي يقوم عليه التمييز بين المادة والصورة،٣٥ ودراسة التمثلات التأسيسية مع الإشارة إلى نظرية الحكم استئناف لنفس التمييز بين المادة والصورة؛ فأصبحت المادة هي التمثل، والصور هي الأحكام.٣٦ ويرجع تشابك الأقسام إلى تكرار نفس قسمة المادة والصورة إلى مستويات متعددة، وأحيانًا يحل الكيف محل الصورة في مواجهة المادة، وذلك مثل اختلاف الأفعال المموضعة بالكيف والمادة، وقد تم هذا التمييز بعد تقويم تصور جديد، الفعل المموضع.٣٧ وقد تم نقل كل التمييزات السابقة إلى مستوًى آخر بفضل هذا التصور الجديد، وهي حالة التمثل الذي تم تحليله بإسهاب من قبل، واعتُبر هذه المرة كفعل مموضع له تفسير كيفي المميز عن التغير الخيالي الذي ما زال قريبًا من المادة، ويبلغ التحليل الظاهرياتي الذروة في البحث عن الصورة لتكوين الأنطولوجيا الصورية الشاملة، هناك إذَن أنطولوجيا لصور الشعور، وصور لمضمون الشعور، وصور للقضايا،٣٨ وتظل مسألة الصورة في الظاهريات دائمًا هي المسألة الرئيسية، وتظل صور المقولات تمثل مشكلة.٣٩ ولتعقيد الصور الجديدة دائمًا منطقه في علم الصور الخالص للحدوس الممكنة، في حين أن قوانين صدق الأفعال الدالة أو المختلطة بالدلالة هي قوانين الفكر بمعنًى غامض. القانون قانون صورة خالصة، وقوانين النحو المنطقي الخالص هي قوانين كل ذهن، وليس فقط الذهن الإنساني على العموم، لها وظائف معيارية بالنسبة للفكر غير المطابق؛ ومن ثَم فإن مشكلة دلالة واقعية للمنطق مشكلة متناقضة؛٤٠ إذ تتعلق القوانين بصورة الفكر الخالصة، والمعيار موضوع الدلالات ليس مثالية بالمعنى المعياري،٤١ وقد سبق التماثل الكامل بين الرياضيات الصورية والأنطولوجيا الصورية، التماثل بين الرياضيات الصورية الواقعية والكاملة، وليس رياضيات قواعد اللعبة، مع التحليل المنطقي الكامل.٤٢ الصور الاستنباطية وحدها للنظريات هي التي تصبح ذات موضوع في الرياضيات الشاملة باعتبارها تحليلًا شاملًا.
١  Ex. Phéno., pp. 396–403.
٢  Ideen I, pp. 315–52. الوجدان Affection. الرغبة Volition. مد Extension.
٣  Log. For. Trans., pp. 144–7. التركيب اللغوي Synataxe.
٤  Ibid., pp. 183–5. ميدان الوضع Sphere Positionnelle. المنطق الاستنباطي Logique de consequence.
٥  Ibid., pp. 396–7.
٦  Ibid., 279–85.
٧  Rech. Log. III, pp. 131–42.
٨  Log. For. Trans., pp. 185–7, 211–24.
٩  Rech. Log. II, Rech. I, pp. 47–50. نشوء ذاتي Génèse égologique . الوضع الذاتي Autoposition.
١٠  Méd. Car., pp. 55–8, 62–74.
١١  Log. For. Trans., pp. 311–27, 335–40, 355–68.
١٢  Rech. Log. II, Rech. III, pp. 63–71.
١٣  Ibid., Rech. Iv, pp. 110–38.
١٤  Ideen I., pp. 63–8. الخيال Fiction.
١٥  هذا هو معنى الفصل الأخير (الحادي عشر) من «بحوث منطقية» Rech. Log. I. المادية hylétique. الصورية Noètique.
١٦  Rech. Log. I, ch. XI, pp. 247–79.
١٧  Ibid., pp. XVIII.
١٨  Ibid., pp. 241-2.
١٩  Rech. Log, Rech. III, ch. 2, pp. 45–81, 21–4.
٢٠  يظهر لفظ «خالص» في عنوان «الأفكار» «أفكار موجهة لظاهريات وفلسفة ظاهراتية خالصة»، وأيضًا في الجزء الأول من «الأفكار»: «مقدمة عامة في الظاهريات الخالصة».
٢١  Ideen I, p. 15.
٢٢  Rech. Log. II, Rech. III, pp. 7-8. المفصَّل Articulé. غير المفصل Non-articulé. مادة المقولات المتزامنة Syncatégorematique.
٢٣  Ibid., pp. 71–5.
٢٤  Ibid., Rech IV, pp. 86–97.
٢٥  Ibid., Rech. V, pp. 208–17.
٢٦  Log. For. Trans., p. 416.
٢٧  Rech. Log. I, p. 1-2.
٢٨  Ibid. III, ch. 4, pp. 159–99.
٢٩  Ibid., ch. 7, pp. 200–17, ch. VIII, pp. 218–43.
٣٠  Ibid., II, Rech. III, pp. 35–40.
٣١  Ibid., Rech. V, pp. 223–8.
٣٢  Ibid., Rech V, pp. 233–44.
٣٣  Ibid., ch. 1.
٣٤  Ibid., ch. 2.
٣٥  Ibid., ch. 3.
٣٦  Ibid., ch. 4.
٣٧  Ibid., Rech V, pp. 289–308. صور القضايا Apophantique. علم الصور Morphology.
٣٨  Ideen I, pp. 341–5, 448–57.
٣٩  Rech. Log. III, pp. 202–5.
٤٠  Ibid., pp. 218-9, 229–40.
٤١  Ibid., II, Rech I, pp. 119–20.
٤٢  Log. For. Trans., pp. 134–41.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤