عاشرًا: التمييز كحركة إصلاح١
للظاهريات رسالة إصلاحية، غاية منهجها سدُّ أوجه النقص في
المناهج الحالية، وبوجه خاص مناهج علم النفس،٢ كما أنها تنعى الحالة المتأخرة التي ظل فيها المنطق،٣ بل إنه حتى في فهمها للتاريخ تعطي الظاهريات
لعلماء النفس المناهضين للتجريبية أغراضًا إصلاحية.٤ ويظهر لفظ «إصلاح» دائمًا إما لإعادة تأويل
النظريات الفلسفية في التاريخ أو للتعبير عن المساهمة الجديدة
للظاهريات فيها، في علم النفس هناك إصلاح وإصلاحيون.٥ تدخل الظاهريات في التاريخ باعتبارها حركة
إصلاحية؛ فهي في صراع ضد أوثان النزعة الطبيعية، «البحوث
المنطقية» مؤلَّف نضالي.٦ ولمؤسس الظاهريات أيضًا أعداؤه؛٧ إذ إنه يناهض النزعة النفسانية في مبادئها ونتائجها.٨ ويظهر الإصلاح في استعمال ألفاظ مثل: الصراع،
النضال، النفي، الاعتراض، الاستبعاد، المقاومة، الجدل، الحجاج،
النقاش، التحفظ، المراجعة الدائمة للظاهريات لنفسها بنفسها من
أجل الحفاظ على صحتها.
وتظهر رسالة النضال في النوع الحجاجي للفقرات، ويذكِّر
بالنوع الحجاجي القديم، وعلى هذا رُفضت نتائج التجريبية،٩ ورُفض تحول الرياضيات الخالصة إلى فرع من علم النفس.١٠ لكل سؤال هناك تقريبًا حجج وإجابات،١١ هناك تفنيد لكل حجة للخصم، وتفنيد لحجة مستمدة من
الفكر الهندسي في نظرية الانتباه،١٢ وهناك تفنيد للشك في أعلى مستواه.١٣
وحروف النفي كثيرة مثل: «لا»، «ليس»، «أبدًا»، «مطلقًا»،
«ولا واحد» … إلخ. تبيِّن أن الظاهريات «فلسفة اللا» ألا كما
يقول باشلار؛ إذ يعبر الحدس عن نفسه بالنفي كما هو الحال عند
برجسون، هذا هو الحال في العلوم التجريبية الدقيقة، ولكن ليس
في المنطق؛١٤ فالإجابة على أي عملية تمثل بين شيئين متميزين هي
بالضرورة نافية،١٥ ويستعمل باستمرار لفظ «استبعد» للتعبير عن هذه
القوة للنفي؛ إذ تستبعد الحقيقة كل إمكانية أخرى، كذلك يستبعد
أن تكون القوانين المنطقية قوانين الأنشطة أو منتجات نفسية،١٦ كما تظهر فلسفة «اللا» في الاعتراضات ضد التأويلات
النفسية للمبدأ المنطقي،١٧ كما تبدو أيضًا في الرفض المطلق دون أي تردد
للتوازي النفسي الفيزيقي.١٨ وإن نفي المثال وإزاحته في النزعة النفسانية
يتعادل مع نفي الواقع، فقط ينقص النفي الأول التمييز، في حين
أن الثاني نتيجة للتمييز.
والظاهراتية حركة احتجاج، توجه اعتراضات ضد كل أشكال
الاسمية، مثل: غياب تحديد وصفي للأهداف … إلخ. وتقوم
الاعتراضات على منهج التمييز؛ التمييز بين عموم الوظيفة
النفسية والعموم كصورة للدلالة القائمة على معنًى متميز عن
العلاقة بين العام والامتداد، كما وُجهت اعتراضات ضد نظرية
الانتباه كقوة على التعميم قائمة على التمييز الذي يمنع من
إنتاج الواقع للمثال، وهكذا فإن الانتباه الخاص للحظة معينة لا
ينفي فرديته، هناك فرق بين توجيه الانتباه إلى لحظة معتمدة على
الموضوع المدرك حدسيًّا وتوجيه الانتباه إلى الانتباه المقابل
ﺑ «النوع».١٩ وهناك اعتراضات أخرى موجهة ضد نظرية «التمييز
العقلي» في تأويلها الجذري.٢٠
وإذا كانت التعبيرات علامات دالة، فكل لفظ في التعبير لا
يكون علامة يكون مستبعدًا بهذا المعنى،٢١ وكل تصور مقترح يُفحص أولًا ثم يرفض لو اتضح أنه
غير صحيح.٢٢ تعرف الظاهريات جيدًا قوة الاعتراض، وتوجهها إلى
نفسها قبل أن يوجهها غيرها إليها، مثل: وصف التمثل كمادة
معزولة أو نسبة تمثلات جزئية للكلمات التي تُفهم على نحو مُتماثِل.٢٣
وتدخل الظاهريات في المناقشات الخاصة بتعريف المنطق
وبالمضمون الأساسي لنظرياته، كما تدخل في المناقشات الخاصة
بتأويل الصور النحوية الخاصة للتعبير عن الأفعال غير المموضِعة،٢٤ وفي المناقشات تذهب أبعد من معارك الكلمات.٢٥ كذلك ينتقل التحليل الظاهرياتي من حجة إلى أخرى،
تترك الحجة الضعيفة، وتستبقي القوية، وتستخدمها على نحو مثالي،
وإمكانية التعبير عن كل الأفعال ليست حجة دامغة كي تصبح
أفعالًا دالة،٢٦ وتتحقق من صدق حجج أخرى لصالح افتراض تمثلات
المقولات الخاصة،٢٧ وتعرض الحجج المؤيدة والمعارضة، ويتم التحقق من
صدقها ثم يعطي الحل.٢٨ وتتحفظ الظاهريات على بعض التصورات المشابهة،
وتقوم بذلك بالنسبة لافتراض أن الأفعال تكوِّن نوعًا من
المعطيات الحية التي يمكن تأسيسها على نحوٍ وصفي، وتتأسس كل
هذه التحفظات على التمييز بين الفعل واللافعل فيما يتعلق بوحدة
جنس المعطيات الحية القصدية، بين العواطف القصدية والعواطف غير
القصدية، بين الإحساسات العاطفية والأفعال العاطفية، بين
المضمون الوصفي والمضمون القصدي … إلخ، حتى مفهوم المضمون
القصدي بمعنى الموضوع القصدي الخاص بالظاهريات.٢٩
ويظهر الإصلاح أيضًا في جهد المراجعة؛ إذ تعيد الظاهريات
تأويل المبادئ من أجل استبعاد التأويلات الخاطئة للنزعة الطبيعية،٣٠ كما تمَّت أيضًا مراجعة التأويلات النفسية لمبادئ المنطق،٣١ و«العود إلى» كحركة ظاهراتية أساسية ليست إلا
نتيجة لهذا الجهد للمراجعة؛٣٢ فقد أعيد تأويل مبدأ التناقض من أجل تفنيد التأويل
النفساني؛ فهو لا يقدم قانونًا بل قضية تجريبية غامضة تمامًا،
ولا تتم البرهنة عليها علميًّا، وينتهي منهج التمييز إلى نفي
التجريبية، وإثبات البداهة، والاعتماد على البرهان، وأعيد
تأويل التأويلات النفسية لقضايا القياس كي يسترد المنطق مثاليته.٣٣ ولكل تحليل تأويلات عديدة طبقًا لمستوى فهمه،
ولنظرية «التمييز العقلي» تأويل معتدل، وتأويل جذري.٣٤
ولدى الظاهريات إحساس حادٌّ بالجدة،٣٥ هي تقريبًا انقلاب ينبه على سوء التأويلات من
المصطلحات المشابهة، وتحدد مصطلحاتها الخاصة،٣٦ وتسير عليها،٣٧ لها رسالة، وهو تصحيح الحقيقة في كل مرة تقع في
الخلط.
وفي الظاهريات وعي حادٌّ بتحول الفلسفة التجريبية إلى نظرية عقلية،٣٨ وتبين ألفاظ الحركة هذه الرسالة للتغير، تحتاج
الدعوى الطبيعية إلى تغير جذري بالإخراج من دائرة الانتباه،
وبالوضع بين قوسين، وبالرد.٣٩ وتبين بعض الألفاظ الأخرى حركة أكثر عنفًا وأكثر
جذرية، مثل: «انحراف» من أجل التعبير عن «قلب النظرة»،
الظاهريات إذَن جهد للتصحيح، وإعادة تركيب مستويات الوجود،
وتعبر عن نفسها بالابتعاد عن النزعة الطبيعية والعود إلى الأصلي.٤٠ «الوضع خارج الدائرة» له في نفس الوقت سمة تغير
العلامة التي تغير القيمة، وبواسطتها، تنتظم المعرفة التي
تحولت إلى قيمة بالعودة إلى الظاهريات.٤١ ولا يمكن الشك في الدور الحضاري للظاهريات، ويبين
بوضوحٍ تكرار الألفاظ القديمة والجديدة قبل ذلك وحتى الآن وعي
الظاهريات الحاد بدورها في العصر الحاضر، بل إنه وفي داخل
التحليل البنيوي الخالص لفكرة ما، تدخل الرؤية التاريخية
التراجعية إلى الوراء لبيان الحقيقة في تطورها، هناك أسباب
تاريخية ساهمت في إخفاء مشكلة وحدة مبحث القضايا الصوري
والرياضيات الصورية،٤٢ والملاحظات التاريخية النقدية حول تطور الفلسفة
الترنسندنتالية خاصة حول الإشكال الترنسندنتالي للمنطق الصوري
خير دليل على ذلك.٤٣ الإشارة إلى عصر النهضة إشارة صورية، في حين يُعلن
عن الإصلاح بتقدير كبير، ووصفت الفلسفة المدرسية كعصر انحطاط
فيما يتعلق بالمنطق. والتاريخ كله حاضرٌ داخل التحليل
الظاهرياتي، وقد أسقط في التاريخ الخلط والنقص وعدم الاكتمال
والنقصان بعد ملاحظة كل ذلك في الفكر أولًا.٤٤ فالأزمة أزمة روحية، في الوعي، قبل أن تتجلى في
مظاهرها في رؤية العالم وفي العلوم.
١
Ex. Phéno., pp.
407–12.
٢
Ideen I, p. 4, Krisis, p.
8.
٣
Rech. Log. I, p.
36.
٤
Ibid., p.
135.
٥
Méd. Car., pp. 1,
42.
٦
Rech. Log. I, Rech, I, p.
XI.
٧
Ibid., p.
90.
٨
Ibid., p.
167.
١٠
Ibid., pp.
182-3.
١١
Ibid., II, Rech. I, pp.
74–8.
١٢
Ibid., Rech. II, p.
187-8.
١٣
Ibid., pp.
242–5.
١٤
Ibid., I, p.
68.
١٥
Ibid., p.
73.
١٦
Ibid., pp.
79–80.
١٧
Ibid., p.
93–99.
١٨
Ibid., p.
118.
٢١
Ibid., Rech. I, pp.
37-8.
٢٢
Ibid., Rech. V, pp.
244–6.
٢٣
Ibid., Rech. V, pp.
261–5.
٢٥
Ibid., p.
289.
٢٦
Ibid. III, pp.
24-5.
٢٧
Ibid., pp.
205–8.
٢٨
Ibid., pp.
354–67.
٢٩
Ibid., II, Rech. V, pp.
182–208.
٣٠
Ideen I, sec I, ch. 2, pp.
60–84.
٣١
Rech. Log., ch. 5, pp.
84–109.
٣٢
Ibid., p. 2.
٣٣
Ibid., I, pp.
110–3.
٣٤
Ibid., II, Rech. II, pp.
229–32.
٣٥
Ibid. I, pp. XII, XIV,
XVII.
٣٦
Ibid., II, Rech. V, pp.
172–82.
٣٧
Ibid., I, pp.
229–32.
٣٨
Ibid., p.
XII.
٣٩
Ideen I, pp.
96–104.
٤٠
Ibid., p.
107.
٤٣
Ibid., pp.
341–54.
٤٤
Rech. Log. I, pp.
39–41.