أولًا: البيئة الحضارية١
ارتباط الظاهريات ببيئتها الحضارية ارتباط واضح. ويُعترف
بذلك بوضوح في نقاط التواصل بينها وبين كبار المفكرين في الماضي،٢ ويبدو الفواصل أيضًا فيما يتعلق بالتمييزات
السابقة بين الواقع والمثال، وهي التي تمت أثناء تكوين المنهج
الظاهرياتي كمنهج للإيضاح، ومن ناحية أخرى تؤكد النسبية التي
تجعل المنطق يعتمد على شروطه المادية عن حق دور البيئة
الحضارية في تكوين التصور، لكل أمة منطقها.٣ وبالرغم من نفي الحقيقة المستقلة، تشير النسبية
إلى ظاهرة أوروبية خالصة، وهي اعتماد الفكر على بيئته التي خرج
منها.
استطاعت الظاهريات تصور علاقة الاعتماد بين النظريات
الفلسفية المختلفة، ويتحكم في هذه العلاقة قانون الفعل ورد
الفعل؛ فأصل النزعة الاسمية المعاصرة هو رد الفعل المتطرف ضد
نظرية الأفكار العامة،٤ تعتمد النظريات على بعضها البعض،٥ وكانت نتائج نقد الأفكار المجردة عدم معرفة آراء
الظاهريات الأساسية، وهكذا يصحح الخطأ الخطأ، والتاريخ ثورات
متتالية؛ «الثورة الديكارتية»، «الثورة الكوبرنيقية» … إلخ.٦
وهناك تعبيرات كثيرة تشير بوضوح إلى ارتباط الحضارة
الأوروبية ببيئتها الخاصة مثل: «كل يوم»، «منذ أيامنا»، «حتى
هذا اليوم»، «اليوم»، «حتى الآن». تدل هذه التعبيرات على جهد
المراجعة التي تحاول كل نظرية القيام به للنظريات السابقة،
وتدل تعبيرات أخرى مثل: «في العقد الأخير»، «في العشر سنوات
الأخيرة»، «في النصف الأول من القرن التاسع عشر»، «في منتصف
القرن» … إلخ على ارتباط الحضارة بروح عصرها، كما أن تعبيرات
أخرى مثل: «عصرنا»، «زماننا»، تبرهن مرة أخرى على ارتباط كل
مرحلة في الحضارة بروح عصرها، وتبرز تعبيرات أخرى مثل: «العصور
الحديثة»، «العلم الحديث»، «علم النفس الحديث»، «النظريات
الحديثة»، مدى الحضور الطاغي للروح المعاصرة تمامًا، مثل
تعبيرات: «الفكر المعاصر»، «علم النفس المعاصر»، «علم النفس
الحالي» … إلخ. وباستمرار يعارض الجديد القديم، والصور الحديثة
للمنطق ضد أشكال القياس القديمة، والنظريات الحديثة في العالم
ضد النظريات القديمة، هذا الوضع للحضارة في الزمان هو الذي
قسمها إلى العصر القديم والعصور الحديثة، وقد خلق مسار التاريخ
ألفاظًا أخرى مثل: «المدرسية»، «الإصلاح»، «النهضة». لذلك تدل
تعبيرات مثل: «الإنسانية القديمة»، «الإنسانية الحديثة»، على
الفترات والمراحل المختلفة للوعي الأوروبي.٧
وترتبط الحضارة الأوروبية ارتباطًا وثيقًا بمناطقها العديدة،
مثل: «المثالية الألمانية»، «التجريبية الإنجليزية».٨ تبدأ الفلسفة الألمانية بالفلسفة النقدية،٩ وفي المثالية الألمانية تكتمل الظاهريات. وتظهر
صفة «ألماني» في الشرح الأخير في «الأفكار»، مثل: «القارئ
الألماني»، «الفلسفة الألمانية» … إلخ.١٠ ولا تطلق صفات المناطق الحضارية المختلفة على
تيارات الفكر، مثل: «المثالية الألمانية»، «التجريبية
الإنجليزية» … إلخ فقط، بل أيضًا على المفكرين أنفسهم، مثل:
«المناطقة الألمان»، «المناطقة الإنجليز» … إلخ.١١ وبالإضافة إلى الشعوب الأوروبية تظهر الشعوب
الأخرى، مثل: «اليونان»، «الرومان»، «المصريون»، «الفرس»،
«البابليون»، «الصينيون»، «الهنود»؛ والتي لم تصل إلى درجة
العلم النظري الشامل، الحضارة اليونانية الأوروبية وحدها هي
ممثلة الإنسانية، وينتمي الباقي إلى الحضارة الشرقية، وغايتها
العمل الشامل؛١٢ فالحضارة الأوروبية نتاج البيئة الأوروبية،
والبيئة الأوروبية هي المصدر الواقعي للوعي الأوروبي نفسه،
وإذا كانت الظاهريات نظرية في الذاتية، فالذاتية هنا ذاتية
محددة؛ الذاتية الأوروبية، والذاتية المشتركة أيضًا ذاتية
محددة، هي الذاتية الأوروبية.
١
Ex. Phéno., pp.
431–3.
٢
المقصود ليبنتز وكانط، ولوتزه، مع إشارات إلى لانجه
وبولزانو.
٤
هي نظرية لوك Ibid., II, Rech. II,
pp. 172–6.
٥
هذه هي حالة الاعتماد عند هيوم بالنسبة لبركلي
Ibid., pp.
220–5.
٦
Méd. Car., p. 6-7. Er. Philo. I,
pp. 202–29.
٧
Krisis, p.
5.
٨
Ibid., p.
87.
٩
Ibid., p.
52.
١٠
Ideen III, Nachwort …, p.
138.
١١
Rech. Log. I, pp. 100,
125.
١٢
Krisis., p.
331.