ثانيًا: التأويل الحضاري١
وتساعد الظروف الحضارية التي نشأت فيها الظاهريات على صياغة
التأويل الحضاري.٢ ودون الوقوع في منهج التأثير والتأثر، تعطي البيئة
الحضارية من قبلُ صورة لهذا المخطط لبناء الوعي الأوروبي
وتطوره، وتتميز هذه البيئة بسيادة الصورية الرياضية، ميراث
العصور الحديثة؛ فقد كانت الرياضيات نموذج اليقين، وبسيادة
مادية علم الطبيعة، وقد حشرت العلوم الإنسانية؛ علم النفس وعلم
الاجتماع وعلم الأخلاق والدين، بين هذين الطرفين؛ الصورية من
ناحية والمادية من ناحية أخرى. وكانت سيادة المادية قوية
للغاية بحيث أنتجت السيكوفيزيقا في علم النفس، والوضعية في علم
الاجتماع. وقد استطاع اكتشاف «الأنا الخالص» إعطاء العلوم
الإنسانية الاستقلال لموضوعاتها ومناهجها، والتأويل الحضاري
للظاهريات من بين التأويلات الأكثر نجاحًا، ومع ذلك يرجع أكثر
الباحثين الظاهريات إلى المشاكل الفلسفية، مثل: الأنثروبولوجيا
الفلسفية، الذاتية المشتركة الترنسندنتالية … إلخ، دون الوصول
إلى بنية الوعي الأوروبي وتطوره، والتي حاولت الظاهريات الوصول
إليها، بل ولامستها بالفعل، ليست أزمة العلوم الأوروبية مشكلة
أنثروبولوجيا فلسفية يمكن حلها نظريًّا، بل حقيقة واحدة في
الحالة الراهنة في الوعي الأوروبي.٣ تُشير الأزمة إلى الفصل أو الخلط بين مستويين
متميزين، فصل الصوري عن المادي في العلوم الصورية، المنطقية
والرياضية، لحساب الصوري، وفي العلوم الطبيعية أو الفيزيقية
لحساب المادي، وفي العلوم الإنسانية وقع خلطٌ مستمر بين
مستويين متميزين، ثم أتت الظاهريات لتصحيح الوضع بالتمييزات
الأساسية وبالبحث عن الأصلي الذي يسبق كل عنصر للتنظير.
إن أزمة الحضارة الأوروبية ليست خطابةً حول بؤس الروح
الأوروبي أو عظمته، بل هي أزمة وعي فردي وحضاري استطاعت أن
تعطي مخططًا لبنية الحضارة وتطورها.٤ صحيح أن الوعي الأوروبي له بداية وله نهاية، ولكن
ذلك يثبت بقانون البنية والتطور الذي لامسته المؤلفات الحضارية
في الظاهريات،٥ كما شعرت الظاهريات التطبيقية بالعلاقة بين
الفلسفة وأوروبا، وتم تحليل «نسيان العالم في الفكر الأوروبي»
وتعويضه بأنطولوجيا جذرية،٦ ويوجد أيضًا في الظاهريات التطبيقية الإحالات إلى
إمكانية التأويل الحضاري، وقد اعتُبر تقدم التجربة رسالة الفلسفة،٧ والواقع أن تجربة الوعي الأوروبي تتحدد وتتقدم
بالجهد الشاق في البحث عن الحقيقة.
وقد لاحظت الدراسات الثانوية التأويل الحضاري للظاهريات دون
إظهار مخطط داخل بنية الوعي الأوروبي وتطوره،٨ ويتلخص هذا المخطط في قانون ذات مراحل ثلاث للتطور
ورؤية ذات ثلاثة مستويات للبنية، يبدأ الوعي الأوروبي في
العصور الحديثة، ثم تلتها فلسفة الوجود في العصر الحاضر ضد
الصورية والتجريد في فلسفة الروح، وتتلخص الرؤية الثلاثية في
رؤية للروح يمثلها الدين، وفي رؤية للمادة تظهر باستمرار في
العلم، وفي رؤية للوجود متحققة دائمًا في الفلسفة، هذا هو
المخطط الضمني في المؤلفات الحضارية في الظاهريات.٩
١
Ex. Phéno., pp.
433–5.
٢
Tatarkiewicz: Réflexions
chronologiques sur l’époque ou a vecu Husserl:
Husserl, Cahiers de Royaumont, pp.
16–31.
٣
J. Wild: L’Anthropologie
philosophique et la crise des sciences
Europeennes, Ibid., pp. 271–306.
تصحيح الوضع، تقويم Redressement
. التنظير
Intellectualistion.
٤
A. Banfi: Husserl et la crise de la
civilisation Européene, Husserl: Cahiers de
Royaumont, pp. 411–27. وقد بدأ
روسو من قبلُ هذا النوع من الخطاب في «مقال في العلوم
والفنون» الذي ألقاه في مسابقة أكاديمية ديجون.
٥
ساد محاولة اشبنجلر في «أفول الغرب» جانب نسقي
عقائدي يتجاوز التقرير الفلسفي، وأدخل الوعي الأوروبي
مع الحضارات الأخرى، وهو ما زال مبكرًا حتى
الآن.
٦
E. Fink: Zur Ontologischen
Frühgeschichte von Raum Zeit, Bewegung, pp.
40–52.
٧
A. Dewaelhens: La philosophie et
les expériences naturrelles, p.
6.
٨
L. Landgrebe: La signification de
la philosophie de Husserl pour la réflexion de
notre époque, Phäno. 2, pp.
223–9.
٩
وقد ظهر هذا المخطط في كل حضارة خاصةً قانون التطور.
في الحضارة اليونانية، ظهرت فلسفة الوجود عند سقراط،
وفلسفة الروح عند أفلاطون، وفلسفة الطبيعة عند أرسطو.
وفي العصور الوسطى، فلسفة الوجود عند القديس أوغسطين،
وفلسفة الروح عند القديس بونا فنتورا، وفلسفة الطبيعة
عند القديس توما الأكويني، بصرف النظر عن
الترتيب.