خامسًا: التأويل الحضاري والديني في الظاهريات التطبيقية١

ليست لبعض التأملات الفلسفية التي تعتمد على الظاهريات حلول إلا في ظاهريات تطبيقية خاصة في ظاهريات الدين، مشكلة التاريخ ليست مشكلة فلسفية، بل بعد للوعي الديني، ومصير كل حل نظري لمشاكل التاريخ هو الفشل؛ لأنها تتطلب حلولًا تطبيقية. مثلًا، التاريخ هو محل الظهور التدريجي للحقيقة، هو تاريخ النص، وليس تاريخ الحادثة، ليس موضوعًا للمعرفة، بل محل استقبال المعرفة، ويُصبح عالمًا عندما يكمل التاريخ دوره في إظهار الحقيقة؛ فالعالم هو ميدان عمل الشخص، تستطيع ظاهريات الدين وحدها بتقديم معطى الوحي أن تحل كل المشاكل الخاصة بالتاريخ.٢
ولما كان الدين أساس الظاهريات وكل الفلسفة الأوروبية فإنه لا يوجد على نحو مباشر باستعمال مصطلحات معينة، مثل: «الله»، «الدين»، «النبي» … إلخ، بل من خلال التوجه العام للعلم بالإضافة إلى تحليل نفسي لمؤسسه؛ فالعمل لا ينفصل عن صاحبه. إن إنكار الدين كأساس أوَّلي لتحولاته في بدايات العصور الحديثة هو فصل بين ميدانين؛ الدين المتراجع من ناحية، والفلسفة والعلم المتقدمين من ناحية أخرى. فلسفة الحدس لا تمنع من فلسفة الإلهام، والمنطق لا يُعمي الوجود، ويتضمنهما الدين معًا.٣
وفي الظاهريات التطبيقية، تظهر التأملات الدينية المباشرة أو المتحولة غير المباشرة؛ فالتأملات حول التناهي في تفسير الوجود أو حول المفارقات تحيل إلى المطلق، وأحيانًا إلى الله مباشرة،٤ والتأملات الأنطولوجية تتجه دائمًا نحو شعر السماء والأرض، والنور والظلام، وصور شعرية أخرى تكشف عن خلفية دينية، وإذا ما ذهبت هذه التأملات أبعد من ذلك لكانت قد انتهت إلى التأويل الأخلاقي الديني للظاهريات.
وفي الظاهريات التطبيقية يظهر «الله» كبديل عن العالم في تأملات حول تاريخ الأنطولوجيا القديم،٥ ومع ذلك لم يُلاحظ التأويل الأخلاقي الديني للظاهريات، والذي على أساسه تمت كتابة تاريخ الأنطولوجيا القديم.
وفي «من علم الجمال إلى الميتافيزيقا» لم تغب «كلمة الله»؛٦ ففي العمل الفني يتجلى «ظل الله»، ولو دُفعت هذه التأملات أبعد من ذلك لأمكن العثور على التأويل الأخلاقي الديني للظاهريات.
ولم يغب الدين كذلك عن «الكلية واللانهائي»، وليس من الخطأ القول بأن «محاولة في التخارج» هو تعقيل رائع للإيمان. «الواحدة» و«الوجود» و«اللانهائي» و«المفارق» أو حتى «الرغبة» هي أنماط مختلفة لتعقيل الإيمان الديني.٧
وقد اعتُبر الوحي بحق كتجربة طبيعية تجد فيها المثالية المطلقة تأويلها العميق.٨
وتبدو أهمية المرحلة الأخيرة في الظاهريات في الظاهريات التطبيقية، واختلطت بظاهريات التلاميذ؛٩ إذ تكشف المرحلة الأخيرة في الظاهريات عن المقاصد الباطنية للعلم كله: الرؤية الأخلاقية الدينية للعالم. ولم تتجاوز ظاهريات العلم التأملات الأنطولوجية.
وهكذا فإن الدين المقنع، وهو في الحقيقة اللاهوت العقائدي المقنَّع مرتين، يهدد دائمًا صحة تطبيق المنهج الظاهرياتي. ونظرًا لأن المنهج الظاهرياتي بنظرته الحلولية وببدايته الجذرية وباستقلاله يمكن أن يزيل النظرة الخارجية والافتراضات المسبقة والنزعة التاريخية للاهوت العقائدي، الذي يدعي تمثيل الدين، يتقدم الدين للدفاع عن نفسه منذ البداية. أولًا: عادت الظاهريات إلى أصولها المدرسية، مثل: القصدية والماهيات … إلخ، لإثبات أنها ما هي إلا دين؛ أي لاهوت عقائدي، والحقيقة أن هذه المفاهيم المدرسية لم تكن على الإطلاق حقائق مستقلة، بل كانت تُستخدم لتبرير العقائد التاريخية، في حين أنها في الظاهريات مفاهيم مستقلة، ولا تهدف إلا إلى اكتشاف الحقيقة ذاتها. ثانيًا، اضطرت الظاهريات إلى الاختفاء باختفاء الحلول من أجل فتح الطريق للمفارقة، وباسم الأنطولوجيا أو الظاهريات الأنطولوجية كتعديل على المنهج الظاهرياتي، اختفى هذا المنهج كليةً.١٠
وإذا كان المنهج الظاهرياتي قد طُبق حرفيًّا أو معنويًّا، كان يمكن منع الوقوع في السر عن طريق منهج الإيضاح أو نظرية البداهة،١١ كان يمكن إعطاء معنًى جديد للحقيقة كمشاركة دون الوقوع في أي تبرير عقائدي.١٢ وقد أُخذت الواقعية الفظة من اللاهوت العقائدي في الفلسفة المدرسية كمعيار للحقيقة لكل تأمل يعتمد على الظاهريات، مع أنه مجرد تبرير جديد للافتراضات العقائدية المسبقة.١٣
١  Ex. Phéno., pp. 439–42.
٢  E. Fink; Monde et histoire, Phäno., pp. 159–72.
٣  منعت نظرية الحدس عند هوسرل حضور الإلهام، ويرى برونر أن الانشغالات المنطقية منعت من الانشغالات بالوجود، وضد هذين السببين تأويل هيجل هو الأكثر شمولًا A. Brunner: op. cit., p. 117.
٤  E. Fink: Sein, Wahrheit, Welt, pp. 55–65.
٥  E. Fink: Zur Ontologischen fruhgeschhichte von Eaum, Zeit, Beweugung, pp. 233–46.
٦  J. Claude-Piguet: De L’Esthétique à la Métaphysique., pp. 274–90. ويعتمد المؤلف على النظريات الجمالية لسوريو E. Souriau وهيبرلن P. Haeberlin.
٧  الظاهرية Extériorité. E. Levinas: Totalité et Infini., pp. 265–84.
٨  A. De Waelhens: La Philosophie et les expériences naturelles, pp. 9-10.
٩  A. de Waelhens: op. cit., p. 36.
١٠  S. Breton: Approaches phénomenologiques de l’Idée de l’Etre. ويوجد نفس الاتجاه عند المؤلف في Consience et Intentionalité.
١١  Hans Urs von Balthazar: Phénoménologie de la vérité, pp. 118–214.
١٢  Ibid., pp. 215–60.
١٣  Ibid., p. 11.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤