ثانيًا: الذاتية المشتركة (الوعي الجمعي-الأوروبي)١
وللذاتية المشتركة معنيان؛ الأول معنًى معرفي خالص أقرب إلى التجربة الذاتية المشتركة أو المعرفة الذاتية المشتركة أو العلاقة بين الذوات، عندما يشارك الآخر في نفس تجربة الذات، وينتهي إلى نفس النتيجة، ويكون هذا الاشتراك أي التطابق بين تجربة الذات وتجربة الآخر أحد معاني الموضوعية، تطابق تجربة الأنا مع تجربة الآخر، وليس المعنى الاستنباطي الرياضي، تطابق النتائج مع المقدمات أو المعنى الاستقرائي العلمي، تطابق الفرض مع التجربة كي يصبح قانونًا؛ فالتطابق الرياضي المنطقي صوري، والتطابق التجريبي العملي مادي، وتحوَّل كلاهما من قبل إلى ترنسندنتالي في المجموعة المنطقية «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» و«بحوث منطقية» و«التجربة والحكم»، وهو المعنى الذي ورد في «تأملات ديكارتية»، التأمل الخامس، واستمر لدى الوجوديين كعلاقة بين الذوات، بين المعرفة والوجود، خاصةً علاقات المحبة والكراهية، والوحدة والمفارقة.
والمعنى الثاني هو المعنى الحضاري، عندما تتحول الذاتية المشتركة إلى خبرات جماعية متراكمة عبر التاريخ، وتصبح حضارة؛ أي شعورًا جماعيًّا له أيضًا تطوره وبناؤه، المعنى المعرفي الأول خارج التاريخ، فالواقع بين قوسين إنما يتم فقط في «الشعور الداخلي بالزمان» وليس في «المكان»، في حين أن المعنى الحضاري في الزمان والمكان، ليسا بالمعنى الطبيعي؛ فالتاريخ بمعنى النزعة التاريخية أيضًا بين قوسين، ولكن بمعنى الخبرات الجمعية المتراكمة عبر التاريخ، ثم استقلت عنه، وهو المعنى المقصود في المجموعة الحضارية خاصةً «أزمة العلوم الأوروبية»، وقبلها «الفلسفة كعلم محكم»، «الفلسفة الأولى» (جزءان)، «علم النفس الظاهرياتي».
(١) بنية الوعي الأوروبي (البنية-المصدر)١٠
والإحالة في الظاهريات إلى مصادر الوعي الأوروبي قليلة إلى حد ما، وكان ذلك طبيعيًّا لأن الظاهريات تتحدد بالنسبة إلى عصر النهضة وليس بالنسبة إلى العصر المدرسي، ويُحلل المصدر اليوناني الروماني نسبيًّا، في حين أن المصدر اليهودي المسيحي غائب تمامًا على الأقل في الإحالات المباشرة، وإن ذُكر فإنه يكون منقطعًا عن المصادر البيئية الأولى للوحي، والبيئة الأوروبية نفسها وظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية لا وجود لها، وكان الوعي الأوروبي وعيًا مثاليًّا بلا تاريخ، ومع ذلك تكفي الإحالات القليلة للمصادر لتبين إلى أي حد يُعتبر الوعي الأوروبي نموذجًا مثاليًّا كاملًا، وإلى أي حد يكشف عن مصادره الأوروبية أو غير الأوروبية (الأفريقية الآسيوية) ضد مؤامرة الصمت عليها حتى يبدو وكأنه خلق عبقري على غير منوال.
(أ) المصدر
ويشمل ثلاثة مصادر: المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها.
(أ-أ) المصدر اليوناني الروماني١٤
(أ-أ-أ) فلسفة الحياة
(أ-أ-ب) فلسفة العقل٢٦
(أ-أ-ﺟ) فلسفة المادة٦٤
(أ-أ-د) اكتمال الفلسفة اليونانية٩٥
وعرفت نظرية العلم، ذروة الحضارة اليونانية، لحظات انهيار في الشك والاتجاه الطبيعي والنزعة العملية، يمثل السوفسطائيون الاتجاه الأول، وفلاسفة الطبيعة الاتجاه الثاني، والمدارس الأخلاقية في نهاية الحضارة اليونانية الاتجاه الثالث.
-
أولًا: لم يكن الجدل السوفسطائي جدلًا
إيجابيًّا بل كان جدلًا سلبيًّا، لم يؤكد
وحدة الفكر والوجود، بل أنكر قيمة الذهن
بإثبات وجود العدم؛ فالعدم مصدر الحقيقة.١١٤ الذاتية جوهر الشك.١١٥ والمعرفة غير ممكنة إلا من
خلال التجربة، والمعرفة نوع متميز عن الاعتقاد.١١٦ ومع ذلك لا يهم إذا كان للأول
أو الثاني ضرورة في الفكر أم لا طالما
أنهما يوجدان من خلال الحدوس الحسية،
ينتهي الشك إذَن إلى الأنا وحدية؛ لأنه لا
توجد إلا إمكانية واحدة للمعرفة الموضوعية،١١٧ والتناقض ممكن طالما أنه حسي،١١٨ لا يوجد شيء، وإذا وُجد فإنه
لا يمكن معرفته، هذه هي خلاصة الشك،١١٩ وإذا كان الشك نسبية فهو
أيضًا نزعة سلبية.١٢٠كان مذهب الشك اليوناني نوعًا من الأنا وحدية، والأنا وحدية نوع من الانقطاع في تطور الفلسفة اليونانية، وأحط من شأن فكرة العقل من خلال الحجاج، ولا توجد حقيقة في ذاتها، لم يكن بالإمكان إقامة علم معياري،١٢١ منع الشك الشامل من إمكانية تأسيس علم حقيقي وموضوعي، كان غرض التفكير تبريريًّا، نقدًا فكريًّا للتجارب؛١٢٢ لذلك كان علم النفس وعلم الأخلاق هما العلمان الماديان دون أي علم نظري، كان العلم علمًا خاصًّا دون أي إمكانية لتأسيس علم شامل؛١٢٣ لذلك حدث رد فعل جدير بالثناء لإمكانية تأسيس علم حقيقي وموضوعي،١٢٤ وهو غير الجدل الأفلاطوني الذي كان في مواجهة الحِجاج السوفسطائي.١٢٥
- ثانيًا: اقترب تيار الشعور من تيار هراقليطس،١٢٦ واعتُبرت نظريته في الصلة بين الحساسية والذهن كوسيلة للشك والسلب.١٢٧
-
ثالثًا: في الفلسفة بعد أفلاطون كانت العودة
إلى المسائل الخلقية انحرافًا عن نظرية
العلم، وتم إنكار مبدأ عدم التناقص؛ ومن
ثَم قوانين الفكر ذاته،١٣١ وفي نظرية «اللكتون» الرواقية
كان هناك جهد للاقتراب من موضوعية مثالية،
والتي لم يتم العثور عليها إلا في العصور الحديثة،١٣٢ وسار التحليل في المنطق
الصوري خطوة أخرى إلى الأمام بفضل المنطق
الرواقي نحو علم مثالي صوري.١٣٣ومن ثَم فإن رفع قدر التأسيس الأفلاطوني للمنطق أدى إلى إدانة الفلسفات السابقة على أفلاطون الوثيقة الصلة بالحضارات الأخرى الأسطورية الدينية المجاورة، العلم بالمعنى الأفلاطوني وحده كان يقوم على الاهتمام النظري الخالص كبحث عن مبدأ المنطق،١٣٤ وهكذا فُسرت الحضارة اليونانية كمحاولة للاقتراب من الظاهريات.
(أ-ب) المصدر اليهودي المسيحي١٣٥
(أ-ﺟ) البيئة الأوروبية نفسها١٤٨
وظهور العلم والتقنية مرتبط أيضًا أشد الارتباط بالبيئة الأوروبية بعد رفض كل الافتراضات المسبقة من مصدر مسبق من أي معرفة كانت، أصبح الواقع عاريًا من كل تنظير، وأتت الرياضة لتقوم بهذا الدور فخلقت الفيزيقا، هذا الرفض لكل مصدر قبلي للمعرفة فعل ظرفي خالص؛ فالعلم القبلي في هذا العصر الأوروبي لم يقدم علمًا دقيقًا.
(٢) تطور الذاتية المشتركة١٥١
(أ) البداية: الكوجيتو الديكارتي١٦٦
(أ-أ) الخط الصاعد: العقلانية٢٥١
(أ-ب) الخط النازل: التجريبية٢٨٩
-
أولًا: أرادت النزعة الفيزيقية أن تثبت
نفسها كنسق فيزيقي، وكان لديها العقلانية
الفيزيقية كنموذج، واعتبرت النفس كمنطقة
مغلقة للطبيعة، تحتوي على الأجساد الحية
والأجساد البشرية، وكان نموذج علم الطبيعة
ومنهجها هو الذي يتحكم في هذه المنطقة،٣٠١ وتبنى علم النفس منهجًا
استقرائيًّا خالصًا، كان علمًا طبيعيًّا للنفس،٣٠٢ وأخذ علم الطبيعة كنموذج كامل
لعلم النفس، وإذا فُهم كوجيتو العصور
الحديثة كجوهر روحي فإنه قد تحول إلى مجرد
مظهر ذاتي يسوده التوازي النفسي، وتجد
مادية العصور الحديثة جذورها في علم النفس
المادي هذا،٣٠٣ النزعة التجريبية الحديثة هو
ميراث الشك والاسمية المادية في العصر القديم.٣٠٤وتوحد النزعة الفيزيقية بين الشيء المدرَك مع مادة الإدراك بالرغم من وجود فرق كبير بينهما؛ الأول وصف للشيء كمعطًى كلي في البداهة، بينما الثاني مجرد مركب من انطباعات حية فردية وجماعية؛٣٠٥ فلم يكن للفكرة وجود فعلي، ولا العالم كان له وجود فعلي، كان هناك تدمير مزدوج للعقل والواقع على السواء.ومع ذلك تتأسس النزعة التجريبية على مستوى البواعث، وهو القانون الأساسي لعالم الروح، وهو من هذه الناحية قريب من النزعة العقلية،٣٠٦ وفي الإدراك الباطني — التفكير — لمادة الإدراك، يُعتبر كمعطًى أصلي،٣٠٧ يعطي في الاستبطان كرُؤًى في حضور الآخرين، في الذكريات الحالية أو باستدعاء الذكريات القديمة، ومع ذلك النزعة التجريبية هي أول تخطيط لعلم نفسي في العصور الحديثة،٣٠٨ كان ينقصه فقط التوجه النظري كي يصبح فلسفة ترنسندنتالية.
-
ثانيًا: يعتبر الاتجاه الطبيعي النفس صفحةً
بيضاء تُنقش عليها المادة الحسية، وتنظم
على أي نحو كانت مثل الحوادث الجسدية في
الطبيعة، كانت النزعة الحسية الوضعية
النتيجة الحتمية لهذه النزعة الفيزيقية
ذات التوجه الطبيعي.٣٠٩ كانت النفس أشبه بمكان أو
غرفة مظلِمة تتَّضح فيها نواة مادة حسية جديدة،٣١٠ ويُعتبر «مقال في الذهن
الإنساني» حتى الآن العمل الرئيسي للنزعة
الحسية في العصور الحديثة معتمدة على
التجربة الداخلية وعلى نظرية المعرفة
النفسية، كان الخطاب الفلسفي نفسه
مستحيلًا، وبسبب التوحيد بين التجربة
الداخلية والتجربة الخارجية تم رد الثانية
إلى الأولى، ووضع التوازي النفسي قانون
الإحساس، ودُوِّن تاريخ علم النفس في علم
النفس التكويني (النشوئي)، وأُلحق منهج
الإيضاح بالمنهج التاريخي النشوئي، وتم
تصور علم الأخلاق بالمثل على أنه علم نفس.٣١١وهكذا منذ علم النفس التجريبي، يوجد خلط في المادة الحسية بين «المادة الحسية» و«الفكرة الحسية»،٣١٢ الأولى ذات طابع حسي، بينما الثانية صفة للشيء،٣١٣ لم ينشغل علم النفس إلا بسلبية الشعور السلبي،٣١٤ وخلطت نظرية الإحساس في علم النفس التجريبي الصفة الحسية مع المادة الحسية رادَّةً الأولى إلى الثانية،٣١٥ ويخضع كلاهما لقوانين العلم الآلي «الميكانيكا».٣١٦اتخذ علم النفس التجريبي نموذجه من علم الطبيعة،٣١٧ ووجد موضوعاته في ذاتية ظاهرية لظواهر الطبيعة، وقد اتسم بالسطحية وبنزعة طبيعية لا منهجية ومختلطة؛ مما أدى في النهاية إلى علم النفس الخيالي، كان لديه تمثل غامض للفيزيقا والرياضة، وتكمن أهميته في العالم الاجتماعي والتاريخي الذي تلعب فيه المعرفة على طريقة علم الطبيعة دورًا ثانويًّا.٣١٨وضد الأقنوم النفسي، وبالرغم من رد ظواهر الطبيعة إلى مجرد إحساسات، مثلت نظرية الأفكار المجردة قبسًا من العقلانية، ومع ذلك كانت ترفض الموضوعات العامة، وتخلط في الفكرة بين الإدراك والتمثل والإحساس والمعطى الحي والموضوع، فلم يكن باستطاعة المثلث على وجه العموم أو الصورة النوعية أن تكون موضوعًا مثاليًّا،٣١٩ وبالرغم من التمييز بين الإحساس والتفكير طبقًا للتميز بين البدن والنفس غاب الموضوع المثالي،٣٢٠ وغاب التمييز بين التمثل التصوري المستنبط من التجارب السابقة والتمثلات التصورية التي لها أسسها في التجارب السابقة.٣٢١ وقد أدت نظرية الأفكار المجردة، مثل مجموع النزعة التجريبية، إلى إمكانية قيام علم عقلي إلى درجة جعله نوعًا جديدًا من اللاأدرية. لم يكن الشك عامًّا كما كان الحال في العصر القديم، إنكار إمكانية العلم، بل اقتصر على إقامة العلم الإنساني على التمثل وتكوين التصورات.٣٢٢وقد فشل علم نفس المعرفة تمامًا منذ نظرية الأفكار العامة بسبب نزعتها الحسية المتناقضة؛ إذ لم تستطِع التمييز بين البحث النفسي والبحث الترنسندنتالي، وهبطت المسائل الرئيسية على مستوى علم النفس الأنثروبولوجي، وتبنَّت النزعة الحسية مادة بسيطة تختلط فيها الحساسية الداخلية والحساسية الخارجية،٣٢٣ هذا النوع من المثالية ليس أقل تناقضًا من الواقعية المرفوضة،٣٢٤ تأسس علم النفس كنظرية طبيعية للمعرفة على الفيزيقي وعلى النفسي الفيزيقي،٣٢٥ كان نوعًا جديدًا من علم النفس قائمًا على علم الطبيعة نتيجة الثنائية السابقة، اختفى الأنا الخالص تمامًا، وترك البدن في الذاتية الترنسندنتالية في الطبيعة؛ مما سمح للنزعة التجريبية لرد النفس إلى البدن، وأدى التوحيد بين علم النفس ونظرية المعرفة إلى اعتبار النزعة التجريبية نظرية نفسية في المعرفة.٣٢٦واستمرَّت النزعة الطبيعية الحالة في الكوجيتو أيضًا في الخط النازل أكثر فأكثر، رفع علم النفس التجريبي القوسين في فلسفة الكوجيتو، وأخذ الأنا فقط وببساطة كنفس مكتفية بذاتها في أفعالها وملكاتها، وكونت الأفكار مضامين النفس، وأصبح العالم الخارجي مغلقًا تمامًا،٣٢٧ وتم تحليل الأفكار في نشأتها وتكوينها بالنسبة لقوى النفس، ولم تكن تشكِّل كل هذه العوالم من المادة الحسية التي تندُّ عن نشأتها وتكوينها، العواطف والأبدان الطبيعية، أيَّ مشكلة. كان كل إدراك في الشعور، دون أن يكون الشعور أولًا، هو الإدراك نفسه، ثم ظهر علم النفس القصدي فيما بعد، «الأفكار من حيث هي أفكار»، ليمثِّل عودة إلى فلسفة الكوجيتو.٣٢٨وقد وُصف الجوهر، ميراث الكوجيتو، في علم النفس الحسي باعتباره «لا أدري ما هو»،٣٢٩ فحدث انقطاع في التراث العقلاني ثم الوقوع في أنا وحدية الإحساسات الداخلية،٣٣٠ ووضع الكوجيتو في العالم الموضوعي، وإذا أراد الكوجيتو أيضًا البحث عن الشامل الموضوعي، فعلت النزعة التجريبية أيضًا نفس الشيء، ناقلةً المسألة إلى مستوى الشعور الخالص، ثم انتزعت منه خصائصه: البداهة، الحدس، المعطى، الأصلي … إلخ.٣٣١ ثم تصبح النظرية النفسية للمعرفة فيما بعدُ سبب نشأة الفلسفة النقدية،٣٣٢ وقد أثار علم نفس التجربة الداخلية نوعًا آخر من علم النفس العقلي،٣٣٣ ومع ذلك استمر التوازي بين التجربة الخارجية والتجربة الداخلية، وجعلت الذاتية الفاعلة العالم يدور في دائرة مغلَقة.٣٣٤ومع ذلك، تتضمن النزعة التجريبية أول محاولة لنظرية في المعرفة ما زالت مشوبة باللاهوت والميتافيزيقا كما هو الحال في الكوجيتو، ظلت قطعية (دوجماطيقية) ساذجة، تدور في دائرة مفرغة.٣٣٥
-
ثالثًا: للمثالية الذاتية القريبة من النزعة
التجريبية الحسية قوتها في إثباتها الصفات
الثانية، واعترضت على «الحقيقة الفيزيقية»
المدعاة في العلم «بأن الامتداد، وهو
البذرة الفكرية للطبيعة الجسمية ولكل
الصفات الأولى، لا يمكن التفكير فيها دون
الصفات الثانية».٣٣٦ وقد تم رد الأشياء الجسمية
التي تظهر في التجربة الطبيعية إلى المادة
الحسية المركبة، واعتُبر الاستقراء المنهج
القادر على إعطاء نتائج شبيهة بهذه المادة
التي تكوَّنت عن طريق تداعي الأفكار؛ ومن
ثَم تكوَّنت تصورات العلم العقلي داخل نقد
المعرفة الحسية،٣٣٧ ومن منظور المثالية الذاتية،
النزعة الحسية تناقض؛٣٣٨ لذلك تم إعادة التوازن لنظرية
التجريد بنظرية الرؤية،٣٣٩ ومن ثَم فإن المثالية التي
تتأسس على التجربة (الإحساس) أو الإدراك
(الرؤية) تنتمي إلى النزعة التجريبية؛٣٤٠ إذ تعتبر التجريبية عالم
الأجسام مادة حسية، في حين أن المثالية
تعتبر النفس من الانطباعات الحسية، وكانت
المثالية النقدية رد فعل على النوعين من
المثالية التجريبية،٣٤١ ووجد كل علم النفس الحسي فيما
بعدُ أساسه في تأويلات المثالية التجريبية.٣٤٢وقد حولت المثالية الذاتية العالم كله إلى خداع حواس ذاتي بالرغم من أن وجود العالم وجود شرعي تمامًا، لا يوجد إلا ﺑ «عطاء المعنى»،٣٤٣ في المثالية الذاتية الوجود مدرك، في حين لا توجد واقعة واحدة كعطاء للمعنى،٣٤٤ المثالية الذاتية نوع من التجريبية القارة في الإحساسات.٣٤٥وبُذل جهد كبير للاقتراب من نظرية مثالية، ولكن ضاع الجهد هباءً؛ إذ تنكر نظرية التمثل التمثيلي أيضًا الموضوع المثالي بالخلط بين العلامة والدلالة،٣٤٦ وكان للحجج الهندسية المقدمة طابع تجريبي، ومع أن الموضوع المثالي موضوع مستقل في كل أشكال التجريبية إلا أنه فقد مثاليته،٣٤٧ وكانت للمثالية الذاتية «مونادولوجيا»،٣٤٨ كل شيء ينظم مع الشيء الآخر بقوانين استقرائية ارتباطية، وقد خلق «الله» هذا النظام، وبالتالي فهمت المفارقة على أنها حلول.كانت نتائج المثالية الذاتية وعلم النفس التجريبي متشابهة، وهي الفلسفة الحالَّة التي تكوِّن العالم المادي، ورُدَّت العلية في الطبيعة إلى مجرد لحظات انتظار عادية،٣٤٩ وكانت أول صعوبة في النزعة الطبيعية الفيزيقية في علم النفس هي سوء فهم الذاتية الفاعلة،٣٥٠ وظل علم النفس التجريبي كله أقل من علم النفس الوصفي،٣٥١
-
رابعًا: علم النفس التجريبي نظرية خيالية في
المعرفة، إفلاس للفلسفة والعلم، وكل
مقولات الموضوعية خيالية لها أصلها في
قانون الارتباط الحال وتداعي الأفكار؛
فالعالم كله في «المقال» مجرد خيال،
وبالتالي فإن العقل والمعرفة والقيمة
والنموذج الخالص مجرد خيالات،٣٥٤ وهو إفلاس للمعرفة الموضوعية،
إنها الأنا وحدية الخالصة، وكل اتجاه لا
عقلي أو شك يخرج من التجريبية، ومع ذلك في
الاتجاه المناقض للشك يوجد الدافع الخفي
لفلسفة أصلية لإدراك الموضوعية.٣٥٥ ترد التجريبية كل موضوعية
ترنسندنتالية إلى خيال يوضحه علم النفس،
دون أن يتم تبريره عقليًّا. حلول
التجريبية هي مفارقة خالصة؛ لأنها تتم
بالعادة، بالطبيعة الإنسانية، بالمنبه،
وبعُضو الحس، فهبط مستوى الموجودات
المفارقة إلى الانطباعات الحسية، وهبط
مستوى الأفكار إلى الخيالات.٣٥٦ صحيح توجد بداهة في إثبات
المظهر، ولكنه اعتُبر من قبل كمجموع علي
من الإحساسات مما يؤدي إلى الشك.٣٥٧ونظرية التجريد من بين النظريات المنقوضة في «بحوث منطقية».٣٥٨ وبالرغم من الاختلاف الذي قد يوجد بين الأشكال المتعددة لهذه النظرية فإن الجوهر واحد، يوجد العموم في التمثل التمثيلي، وهي نظرية وضعت في مواجهة الأفكار العامة،٣٥٩ ولم يتجاوز نقد الأفكار المجردة تعميقًا نفسيًّا معينًا قائمًا على الارتباط، وقد حل التحليل النشوئي التكويني للأفكار محل تحليل الدلالة، بل ردها إلى سؤالين؛ وظيفي يُحل بالعادة، وانتقائي يُحل بالارتباط. وباختصار، يضع نفي الموضوع المثالي للمعرفة كل النظريات التجريبية على نفس الخط النازل، والدليل على ذلك التوحيد بين الموضوع والانطباعات الحسية، ثم رد الأول إلى الثاني.٣٦٠وتعتبر الظاهريات الارتباط مبدأ التكوين السلبي، والارتباط رئيسي في الظاهريات الترنسندنتالية، والقوانين الارتباطية في التجريبية ليست إلا تشويهًا طبيعيًّا للتصورات القصدية والصحيحة المطابقة، يشير الارتباط إلى منطقة قبلية فطرية بدونها يستحيل وجود الأنا.٣٦١ وتحت شعار مبدأ اقتصاد الفكر المنطقي تتحدث النزعة التجريبية عن مبدأ «الانسجام المسبق بين مسار الطبيعة وتتابع أفكارنا»؛ ولهذا الانسجام أساس نفسي، وينتهي التمييز بين «علاقات الأفكار» و«مواد الوقائع» إلى رد أحدهما إلى الآخر.٣٦٢والتجريبية تناقض وخلف في المعنى، وليست شكًّا جذريًّا، ثم تتجه بعد ذلك ضد «رَحِم» العقلانية، وهي الرياضيات والفيزيقا، ومحاولة اتهامها بأنها خيالات؛ ومن ثَم نزع مثال العلم من جذوره إلى الأبد،٣٦٣ ونفي العقل، وهو تناقض لأنه يُقرُّ بتبرير قبلي للمعرفة القائمة مع ذلك على النزعة النفسانية؛ لذلك يمكن اعتباره تجريبية معتدلة، والدليل على ذلك التمييز بين «علاقات الأفكار» و«أمور الوقائع»،٣٦٤ ودليل ثانٍ هو الانسجام المسبق القائم بين مسار الطبيعة وتتابع الأفكار،٣٦٥وتضع التجريبية نفسها على مستوى علوم الوقائع،٣٦٦ حتى إذا ما وضعت نفسها على مستوى عالم المعطى الحي، فإنها تنسى الأساس الترنسندنتالي لهذا العالم،٣٦٧ وتدعي أنها تجعل «مادة الوقائع» أكثر فهمًا كتكوينات نفسية،٣٦٨ وتحل علاقات الأفكار محل العلاقات والقوانين المثالية، تقدم التجريبية أيضًا موضوعية تجريبية استقرائية دون أي اعتبار للجانب النظري الضروري لعلم المعرفة،٣٦٩ ويمثل «المقال» ذروة علم النفس الحسي، ميزته أنه بحث له اهتمام نظري خالص في حين أن للبحوث الأخرى اهتمامات سياسية دينية،٣٧٠ وأخيرًا تظهر النفسانية الأكثر جذرية كنزعة طبيعية حالَّة، وتقوم بردٍّ أسمى لكل فرد، وتبقى كانطباع حسي خالص.٣٧١ وينكر المنهج التجريبي الاستقرائي كل أساس نظري ضروري كعلم للمعرفة.وترتبط النزعة التجريبية أحيانًا بالمثالية الترنسندنتالية كفهم بديهي لبواعث العصور الحديثة؛٣٧٢ إذ لم تعد المشكلة هي معرفة إمكانية المعرفة الترنسندنتالية، بل كيفية توضيح الأحكام المسبقة، واقتضاء المعرفة توجهًا ترنسندنتاليًّا، وبتعبير آخر المشكلة هي النزعة التجريبية؛٣٧٣ لذلك تتمايز المثالية النفسانية عن المثالية الترنسندنتالية.٣٧٤الظاهريات إذَن هي الإلهام الضمني لكل الفلسفة الحديثة، وإذا شق الكوجيتو في العصور الحديثة الطريق فإن النزعة النفسانية كانت على وشك العبور، ولكن عميت عيناها.٣٧٥ احتوى «المقال» لأول مرة أول مشروع نسقي لظاهريات منغلقة للمعرفة، وليست لظاهريات نظرية، وانقلبت الظاهريات الترنسندنتالية في «المقال» إلى نزعة حسية،٣٧٦ واستبعدت المسألة الترنسندنتالية، واعتبرت النفس الخالصة كومة من المواد المتزامنة أو المتتابعة تحكمها قوانين سيكوفيزيقية،٣٧٧ ثم يأتي علم النفس الظاهرياتي كعلم نفس خالص في مواجهة علم النفس التجريبي،٣٧٨ ثم يصبح فيما بعدُ ظاهريات ترنسندنتالية.٣٧٩
(أ-ﺟ) وحدة الخطين المتجاورين: المثالية النقدية٣٨٥
- أولًا: هناك في العقلانية باعث ترنسندنتالي، هذا ما استطاعت الفلسفة النقدية اكتشافه،٣٨٧ وبعد أن أُوقظ مؤسس الفلسفة النقدية من سباته، قام بجولة كبيرة في تاريخ الفكر خاصةً المثالية الترنسندنتالية، وبالتالي قدمت العقلانية القبلي، وهي مقولة فارغة في الأنا أفكر.
- ثانيًا: التجريبية هو المقابل للفلسفة النقدية، ويكوِّنان معًا ثنائية سعيدة؛٣٨٨ فقد انتهت المثالية الصورية أو الفلسفة النقدية إلى نوع من علم النفس العقلي في مستوًى أعلى من علم النفس التجريبي،٣٨٩ فقد سار تحليل القوى النفسية كمصدر للمعرفة شوطًا أبعد من علم النفس، وقدمت التجريبية إلى المثالية النقدية الحساسية كمضمون للمعرفة.
(أ-د) الوحدة العضوية: المثالية المطلقة٤٥٤
وقد وقعت الظاهريات تحت إغراء الفلسفة بعد كانط، وتبين مذكرات محاضرات عام ١٩١٤م الاهتمام الكبير الذي أوْلَته الظاهريات لهذه الفلسفة، ربما لم يكن عند مؤسس الظاهريات الوقت الكافي لدراستها على وجه خاص، وربما أبعدته المثالية المطلقة عنها لطابعها الأسطوري الغامض، ومما يسترعي الانتباه أن تكون مذكرات المحاضرات حول الفلسفة بعد كانط قد دُونت بأسلوب تلغرافي في العصر الحاضر، وتوحي بأن مؤسس الظاهريات لم يكن لديه الوقت الكافي لتعميمها، ومع ذلك توجد بعد الانتقادات المتناثرة داخل بعض العبارات المنفصلة.
ولا تضع نظرية العلم كعلم أسئلة حول التجربة ولا تلتفت إليها على الإطلاق؛ فهي حقيقية بعيدة عن كل تجربة، وتصورها ﻟ «الواقعة» هو أنها «ما يجب التفكير فيه ضرورة».
وفي أي مثالية تامة ليس القبلي والبعدي شيئين مختلفين، بل شيء واحد له واجهتان مختلفتان، وترجع هذه الثنائية إلى طريقة رؤية السؤال، فإذا تقدم شيء على أنه قبلي فليس من الضروري أن يكون في نفس الوقت بعديًّا، وإذا تقدم شيء على أنه بعدي فليس من الضروري أن يكون قبليًّا، فإذا نُظر إلى السؤال من زاوية الكشف، فكل شيء بعدي، أما إذا نُظر إليه من زاوية الضرورة، فكل شيء قبلي.
(ب) النهاية: الظاهريات٤٩٩
