ثالثًا: تداخل التمييزات١

وتعود التمييزات كلها إلى تمييز واحد أساسي، ثم يمتد إلى مستويات عديدة بقوة التعميم والقياس، فيمتد التمييز بين التمثل الإدراكي والإدراك ليصبح دراسةً خاصة في حالة الحكم، ويساعد الميدان الجديد على خروج تمييز بين «الموافقة» و«الرضا».٢ ويستمرُّ المنهج الظاهرياتي بالتمييزات الأساسية، ويحاول أن يبين داخل خلط معين شيئين متمايزين،٣ فيميز بين الماهية والواقعية ضد الخلط الطبيعي،٤ ويتضمن كل تمييز كلي تمييزات أخرى فرعية عديدة لتطبيق التمييز الأول في الفروع المختلفة للنشاط الإنساني، وقد تم التمييز بين حدس الماهية وحدس الفرد ضد الفلسفة التجريبية،٥ وقد خرج هذا التمييز من تمييز أعم بين علم الوقائع وعلم الماهيات،٦ وتم التمييز مرة أخرى بين علم الطبيعة وعلم الروح قبل مختلف أنواع «الرد» الظاهرياتي،٧ ودون أي مبالغة يظهر لفظ «يميز» في كل تأمل ظاهرياتي مثل التمييز بين اليقين والاعتقاد الأعمى، والمعرفة والرأي بلا أساس، والأساس السليم والأساس غير السليم،٨ وتنقص النظريات القديمة القريبة من الظاهريات بعض التمييزات،٩ وينقص النزعة الأنثروبولوجية تمييزًا بين أساس الحقيقة وأساس الحكم، بين الحكم التوكيدي والحكم القطعي،١٠ وهما مختلفان تمامًا ولا تتشابهان، وقد أتت المثالية لتميز بين الضرورة الذاتية للنزعة النفسانية والضرورة الموضوعية للمثالية،١١ ومن الإسهاب ذكر كل التمييزات داخل المؤلفات الظاهراتية مثل: التمييز بين الموضوعي والذاتي، الأفضل وأفضل، القانون الطبيعي والمعيار،١٢ ويكفي تتبع مسار عمل واحد من أجل توليدها كلها،١٣ ويظهر تمييز داخل الخلط للكشف عن الشيئين المتميزين من حيث المبدأ بعد أن تم خلطهما في الواقع، ويتعلق الخلط بين تصورات التجريد والمجرد بمضامين جزئية تابعة من ناحية وبالأنواع من ناحية أخرى، وفضلًا عن ذلك هناك تمييز آخر في التصورات عن المضمون التابع، وتمييز آخر للتصورات حول تصور النوع،١٤ وهكذا تتشعب التمييزات إلى ما لا نهاية للوصول إلى خالص الخالص، يتم تمييز أول باقتدار ثم يمتد على ميادين أخرى،١٥ كما يدل لفظ «امتداد» على نقل تمييز من ميدان إلى آخر، فقد أدى امتداد تصور الحدس إلى جعل الحدس نفسه ليس فقط حدسًا حسيًّا بل أيضًا حدس للمقولات؛ ومن ثَم يؤدي كل تمييز إلى الآخر، يؤدي التمييز بين المملوء والفارغ إلى التمييز بين المادة والصورة، وللإدراك الواعي أيضًا مادة وصورة، وتتمدد السمات المميزة للإدراك الواعي الحدسي والإدراك الواعي للعلامة أيضًا بثنائية المادة والصورة، وللأنماط المختلفة لعلاقة الشعور موضوع يتفرع بين صفات الفصل والتمثل التمثيلي، ويسود هذا الأخير ثنائية المادة والصورة، صورة الإدراك الواعي، ومادته ومضامينه.١٦
ويتكرر نفس التمييز دائمًا ولكن على مستويات عدة؛ فبعد التمييز بين الواقعة والماهية يُضاف إلى تمييز آخر بين حدس الفرد وحدس الماهية،١٧ وتنقل سريعًا التمييزات في عالم الماهيات الخالصة إلى عالم الماهيات الفردية؛ فقد تم التمييز بين المنطقة والمقولة، ثم طُبق في عالم المعرفة التركيبية القبلية كي يظهر بعد ذلك كتمييز بين الامتداد النظري والامتداد الفردي.١٨
وتتم التمييزات في سلاسل متعددة؛ فالتمييز بين الواقعة والماهية هو بالأحرى فصل بين عالمين مع اختلاف واضح في الطبيعة، وتوجد أيضًا تمييزات داخل كل عالم مع اختلاف في الدرجة، مثلًا التمييز بين الحكم على الماهية والحكم المرهون بصدق نظري عام،١٩ ويسمح هذا التمييز بترتيب معرفة عالم الماهيات من معرفة الفردي إلى معرفة العام، وتبلغ الظاهريات الذروة في الأنطولوجيا الشاملة بفضل هذا التمييز المتعدد التدريجي إلى أعلى درجة ممكنة، وأُجريت عدة تمييزات أخرى في العالم الطبيعي كآلات نقدية ضد أي اتجاه ما زال متأثرًا بالاتجاه الطبيعي، وتعود القسمة اللامتناهية تقريبًا للمقولات والمناطق في علوم الماهيات في تحليل القصدية، وبالإضافة إلى هذين المستويين، صورة الشعور ومضمون الشعور، فإنها تنقسم إلى مفاهيم أخرى عديدة هي تكرار للقسمة الأولى ولكن بألفاظ أخرى أو على مستويات أخرى.٢٠
وأحيانًا تتداخل التمييزات مع بعضها البعض بحيث يصعب التمييز بينها؛ فالتمييز بين المنطقة ونظرية المنطقة سهل؛ الأولى نوع مادي أسمى للموضوعات، والأخرى العلم المقابل في أنطولوجيا المناطق.٢١ بعد ذلك يأتي تمييز آخر بين منطقة ومقولة، تُصنف المناطق في المقولات، ثم تقسم كلٌّ من المنطقة والمقولة إلى صورية ومادية، وبعد ذلك تدخل المنطقة المادية في علاقة مع الماهية الصورية، وتحيل الماهية الصورية إلى الماهية المادية. وبعد ذلك تنقسم مقولة المنطقة المنطقية إلى تركيبية وتحليلية، وتحيل المقولات المنطقية إلى مقولات الدلالة، وتحيل الدلالة إلى تعبير مما يؤدي إلى التمييز بين تصورات المقولات وماهيات المقولات، وأخيرًا يتم التمييز بين المقولات التركيبية والمقولات الحاملة،٢٢ فكيف يمكن العثور إذَن على بنية الشعور في هذه المتاهة من التقسيمات؟٢٣
وهكذا يعمل المنهج الظاهرياتي بإقامة تمييزات أساسية، وتولد هذه التمييزات تمييزات أخرى عديدة إلى ما لا نهاية تقريبًا، وتذكُّر كل هذه التمييزات الفرعية مستحيل تقريبًا، يكفي إذَن إدراك القاعدة التي تقوم عليها هذه التمييزات، وهذه القاعدة هي باستمرارٍ الصورة والمادة، المستقل والتابع، المثال والواقع … إلخ، بل ويمكن التعبير عن القصد العام لهذه التمييزات بألفاظ أخرى مثل: غير مشروط ومشروط، مطلق ونسبي … إلخ؛ ومن ثَم يتطلب تأويل الظاهريات إحالة التمييزات الفرعية إلى التمييزات الأساسية من ناحية، والتعبير عن مقصد هذه التمييزات بألفاظ أخرى ملائمة تساعد على إيضاح ميادين أخرى في الظاهريات التطبيقية من ناحية أخرى، ولا يقع منطق التمييز فقط بين مستويين مختلطين حتى الآن، مثل الواقعة والماهية، بل يقع أيضًا لإبراز علاقة الكل بالأجزاء، المركز بالمحيط، البذرة بالقشرة … إلخ،٢٤ وهكذا تتميز المنطقة عن المقولة، المنطقة كلٌّ ينتمي إلى أنطولوجيا المناطق تحدده عديد من المقولات،٢٥ تقوم إذَن التمييزات في كل الاتجاهات المختلفة.
ليس غرض التمييزات الفصل بين الفكر والوجود بل بين الفكر واللغة؛ فالواقع أن عديدًا من هذه التمييزات تمييزات نحوية أكثر منها تصورية؛ فالتمييز بين المقولات التحليلية والمقولات التركيبية تمييز نحوي،٢٦ ويمكن أن يحدث التمييز في نفس المستوى لإعطائه أكبر قدر ممكن من العمومية، وبتعبير آخر للمستويات التي يتم التمييز بينها علاقة الجنس بالأنواع، توجد الأنطولوجيا الشاملة كعلم صوري في أعلى قمة، في حين يوجد علم الطبيعة في أسفل قاعدة، التمييز إذَن هو المحرِّك الداخلي الذي يدفع المنهج الظاهرياتي إلى غايته القصوى.
وإذا كانت هذه التمييزات ما زالت مشوبة بالاشتباهات في هذه الحالة تأتي إنارات أخرى للمساعدة على إجراء تمييز آخر؛ فإذا كان التمييز بين لفظ الدلالة وغياب الدلالة ما زال متشابهًا، فإن التمييز بين خطأ الموضوع وغياب الدلالة يجعل الدلالة الأولى أكثر وضوحًا! ويستطيع تمييز آخر بين الدلالة واللحن أن يزيل نفس الاشتباه،٢٧ وبتطبيق منهج التمييز يمكن إيضاح كل الاشتباهات حول ألفاظ التمثيل والمضمون.٢٨ واشتباهات لفظ «ظاهرة» سبب الخلط بين الظاهرة الداخلية والظاهرة الخارجية؛٢٩ لذلك يتم التحليل الظاهرياتي تدريجيًّا، ليس «الرد» إلا مرحلة نحو «التكوين»، وتستبعد كل مسألة مؤقتًا حتى يمكن استردادها فيما بعد، كان من الضروري مؤقتًا استبعاد المشاكل المحافظة على أهمية المعرفة الترنسندنتالية؛٣٠ لذلك أيضًا تستعيد الظاهريات ذاتها كل مرة تتقدم خطوة إلى الأمام، وبنظرة إلى الوراء يلقى كل تحليل جديد ضوءًا جديدًا على ما تم إنجازه حتى الآن، وإذا أُلقيت نظرة إلى الوراء من وقت إلى آخر فإن إلقاء نظرة إلى الأمام تشير إلى المهام المستقبلية،٣١ بل إنه في تحليل التاريخ تعلن غايته منذ البداية،٣٢ كما يدل المسار على الطابع الخاص في التحليل الظاهرياتي، وينتقل النقد الظاهرياتي تدريجيًّا من مستوًى إلى آخر.٣٣ ويقود كل تحليل إلى مسائل جديدة أو إلى وضع مسائل أخرى، وينتهي التحليل الظاهرياتي دائمًا إلى نفس الشيء ولكن بطرق مختلفة، ويستعاد كل تحليل سابق في التحليل اللاحق،٣٤ وله طابعه الباحث المستقصي، وكل تعريف مؤقت من أجل الوصول إلى تعريف أعمق فيما بعد، والمنطق كنظرية قبلية للعلم هو تحديد مؤقت.٣٥
١  Ex. Phéno., pp. 371–76.
٢  Rech. Log. II, Rech. V, pp. 352–60. الموافقة Approbation. الرضا Assentiment.
٣  ها هو عنوان الفصل الأول في المبحث المنطقي الأول Rech. Log. II, Rech. I, Ch. 1.
٤  Ideen I, Se 1, ch. 1.
٥  Ibid., Sec. 1, ch. 1, p. 19.
٦  Ibid., 31–3.
٧  Ibid., pp. 187–8.
٨  Rech. Log. I. pp. 11–2, 25.
٩  وهذا هو موقف سير وليام هاملتون S.W. Hamilton، Ibid., p. 35.
١٠  التوكيدي Assertorique. القطعي Apoditique.
١١  Rech. Log. I, pp. 145–7.
١٢  الأفضل Le Meilleur. أفضل Mieux.
١٣  Rech. Log. I, pp. 45-6, 67.
١٤  Ibid., II, Rech. II, pp. 252–61.
١٥  Ibid., III, pp. 164–6, 174–7.
١٦  Ibid., pp. 110–20. الإدراك الواعي Appréhension. الإدراك الواعي للعلاقة Appréhension signitive. التمثل التمثيلي Représentation Représentaive.
١٧  Ideen I, pp. 19–24.
١٨  Ibid., pp. 55–7.
١٩  Ibid., p. 25.
٢٠  Ibid., Sec. 3, ch3. صورة الشعور Noèse. مضمون الشعور Noême.
٢١  Ibid., pp. 35–8. نظرية المنطقة Eidétique Regional.
٢٢  Ideen I, pp. 38–45.
٢٣  يرجع الثقل المنطقي للتحليلات المنطقية في الماهيات ومعرفة الماهيات إلى قرابته إلى «بحوث منطقية»، هذا القسم الأول في Ideen I هو ملخص لمجموع «بحوث منطقية».
٢٤  لذلك يصبح فرض «الأهداب» Franges عند وليم جيمس محط التقدير Rech. Log. II, Rech. Rech. II, p. 237. وعنوان المبحث الثالث «نظرية الكليات والجزئيات».
٢٥  Ideen I, p. 38.
٢٦  Ideen I, p. 40. موضوع المبحث الرابع كله في «بحوث منطقية» هو الفرق بين الدلالات المستقلة والدلالات التابعة وفكرة النحو الخالص.
٢٧  Rech. Log. II, Rech I, pp. 61–71.
٢٨  Ibid., Rech. V, pp. 315–24.
٢٩  Ibid. III, pp. 281–9. اللحن Connotation.
٣٠  Méd. Car., pp. 24–6.
٣١  مثل الإشارة إلى الأنطولوجيا الصورية في «بحوث منطقية»، وإلى موضوعات المقولات في «فلسفة الحساب»، والطريق من القضايا إلى الأنطولوجيا في «مقدمة في المنطق الخالص» Log. For. Trans., pp. 11–22, 142, 235–7.
٣٢  Krisis, pp. 15–7. الطابع الفاحص، الباحث، المستقصي Caractère Tatatonnant.
٣٣  Log. For. Trans., pp. 246-7, 270-1, 298-9.
٣٤  Rech. Log. III, pp. 200–2.
٣٥  Log. For. Trans., pp. 37–41.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤