رابعًا: الأشكال المختلفة للخلط١

ويتوجه منهج التمييز ضد الخلط بين شيئين متميزين، ويظهر هذا الخلط في صور عديدة؛ قلب، انقلاب … إلخ.٢
وعلى نقيض التمييز التماهي أو التماثل؛ فالتمييز بين الأحكام الصادرة على الماهيات والأحكام ذات الصدق النظري العام يوجه ضد التماثل بين هذين النوعين من الحكم،٣ وتنفي الظاهريات التماثل بين الواقع بالمعنى العادي والواقع على العموم ضد التماثل التجريبي بين التجربة والأفعال المعطية الأصلية،٤ وهناك تماثل آخر بين القوانين الطبيعية والقوانين المنطقية، الأولى نفسية في حين أن الثانية معيارية، وهما ليسا نفس الشيء، ويجهل المناطقة النفسانيون الفروق الأساسية التي لا يمكن التوفيق بينها على الإطلاق بين القانون المثالي والقانون الواقعي، بين الضرورة المنطقية والضرورة الواقعية، بين الأساس المنطقي والأساس الواقعي.٥ يلغي التماثل كل فرق، ويفترض التشابه بين مستوين مختلفين لا يتشابهان على الإطلاق، ولا يخلق التماثل صدقًا عامًّا.٦
ويوجد التوازي الأمثل في التوازي السيكوفيزيقي، وينتقل أحيانًا إلى المستوى المنطقي في التوازي بين الصيغ القياسية والصيغ الكيميائية،٧ يضع التوازي شيئين متميزين على نفس المستوى؛ لذلك هو قريب من التماثل، والتماثل بين مستويين هو أيضًا صورة من الخلط،٨ ويضع التشابه كالتوازي شيئين متميزين على نفس المستوى؛ فالتوازي والتماثل كلاهما صورتان للخلط، ويوجد الخلط في التفسير النفساني في الخلط بين الصرف العام لقاعدة وتطبيقاتها،٩ ويقود الخلط إلى التشابه، والتشابه إحدى صور الخلط، وهو أيضًا مصدر للخطأ،١٠ ويضع التأويل النفسي للقوانين المنطقية نفسه في دائرة ضبابية من المتشابهات؛١١ لذلك يؤدي التمييز إلى نظرية في البداهة موجهة أساسًا ضد الخلط، ينقص الخلط الوضوح، وهو خطأ بالنسبة للبداهة، وفي البداهة نفسها هناك خلط بين بداهة توكيدية لوجود تجربة حية معزولة وبداهة قطعية لوجود قانون عام.١٢ وإذا أصبح الخلط موضوعًا للتأمل يصبح تناقضًا؛ مثلًا يقع التناقض عندما تعتبر القوانين التجريبية قوانين تنطبق على الحقيقة من حيث هي كذلك، وهو أيضًا نتيجة الخلط بين الموضوعات المثالية والموضوعات الواقعية، بين القوانين المثالية والقوانين الواقعية،١٣ والتناقص بنفسه يرفع كل أشكال التناقص الداخلي،١٤ والمثلث العام والصور النوعية من المتناقضات.١٥
والرد التجريبي هو أكثر الصور شيوعًا للخلط، و«الرد» الظاهرياتي هو أكبر رد فعل على الرد الأول؛ فالواقع أنه تم رد القانون المعياري إلى عمومية تجريبية فظة، ويتضمن الرد غياب المثال، والخلط بين المثال والواقع، وتناقض التماثل ونقصه.١٦ وكل مسألة لها كمال مثالي ثم ردها إلى التجريبية بأقل قدر ممكن من التساؤلات؛ لذلك رُدت نظرية التجريد فقط إلى مسألتين؛ العادة والتشابه،١٧ ليس «الرد» فقط هو وضع علوم الوقائع بين قوسين، بل يعني أيضًا إحالة كل عناصر المسألة إلى عنصر واحد أساسي؛ فكل الأحكام يمكن ردها إلى الأحكام الأخيرة، وكل الحقائق أيضًا يمكن ردها إلى عالم الأفراد،١٨ والنزعة النفسانية حركة تراجع أمام نتائجها.١٩ ويذكِّر هذا التراجع بالرد الذي هو نفسه حركة تراجع أمام المثال، والرد أساس الإنتاج، وغرض التمييز من أجل سد الطريق أمام إنتاج المثال من خلال الواقع؛ ومن ثَم يتميز القانون عن التجربة حتى لا يتم إنتاجه بها، «نحن لسنا في حاجة» إلى التجربة للحصول على القانون؛ فالتجريد ليس عمل الانتباه.٢٠
وقد عبَّرت مظاهر الخلط عن نفسها بألفاظ أخرى، مثل: نقص، عدم كفاية، سقط، فراغ … إلخ، وكل ما يشير إلى العدم؛ فكل تحليل نفسي لموضوع ما غير كافٍ؛ لأن المستوى النفسي ليس هو مستوى الموضوع في مثاليته، وهي حالة النقص الأساسي في تحليل الانتباه،٢١ ويتمثل النقص في غياب علم نظري أساسي،٢٢ ويوجد في غياب القوانين الحقيقية في علم النفس،٢٣ وقد أعلن عن هذا النقص رسميًّا في حجاج علماء النفس.٢٤
ويمهد الخلط الطريق إلى الخطأ؛ فالخلط بين القوانين المنطقية والأحكام باعتبارها مضامين، مثل الخلط بين القانون وفعل الحكم، هو خلط بين شيئين مختلفين تمامًا، وهذا يؤدي إلى أخطاء أساسية في المنطق، يؤدي الخلط إلى الخطأ،٢٥ وتعني هذه الأوصاف: الخطأ، السذاجة، عدم الفهم، الغرور، النقص، عدم الدقة … إلخ، نفس الشيء. وتشير بعض العبارات الأخرى إلى نفس الحقيقة، مثل: «دون صفة علمية»، «دون روح الدقة»، «خالٍ من أي تبرير»، «بعيد جدًّا»، «دون اعتبار واضح»، «محاولة محبوبة» … إلخ.٢٦ لقد أخطأ علماء النفس، ولم يروا الفرق بين المثال والواقع، بل إنهم قلبوا العلاقة بينهما، وحذفوا التمييزات الأساسية؛ فالصواب والخطأ هما المتميز والمختلط، التمييز إذَن أساس النظرية.
وأحيانًا تُستعمل ألفاظ مجازية للإشارة إلى الخطأ؛ فيُستعمل لفظ «رذيلة» للتعبير عن أخطاء المبدأ في النزعة التجريبية،٢٧ وأحيانًا يصبح اللفظ خطابيًّا؛ إذ ينشأ التناقض في النسبية بنوع من الصفة،٢٨ وتخلط «المتشابهات» البائسة ﻟ «النزعة» النفسانية الصورة بالمضمون، وقد «انهار» اليقين إلى الأبد،٢٩ وحدث «كسر في طريقة اعتبار النطق بالطريقة التجريبية»،٣٠ الفكر التجريبي «أعمى»،٣١ يريد الكشف عن الهوة بين الفكر المنطقي والفكر الطبيعي.٣٢
١  Ex. Phéno., pp. 376–9.
٢  قلب Renversement. انقلاب Conversion. التماهي، التماثل Identification. الصدق النظري Validité éidétique.
٣  Ideen I, pp. 25–8.
٤  Ibid., pp. 63–5.
٥  Rech. Log. I, pp. 34–7.
٦  Ibid., pp. 117, 139–42. التشابه Analogie.
٧  Ibid., pp. 110–8.
٨  Ibid., p. 39.
٩  Ibid., p. 61.
١٠  Ibid., pp. 39–9.
١١  Ibid., p. III.
١٢  Ibid., p. 98.
١٣  Rech. Log. I, pp. 82-3.
١٤  Ibid., p. 133.
١٥  المشار إليه هنا مثلان للوك في نظريته عن الأفكار المجردة Rech. Log. II, Rech. II, p. 159–63.
١٦  Rech. Log. I, pp. 140–9.
١٧  Ibid, II, Rech. II, pp. 225–7.
١٨  Log. For. Trans., pp. 273–8.
١٩  Rech. Log. I, p. 84.
٢٠  Ibid., pp. 81–2, II, Rech. II, pp. 164–7.
٢١  Ibid., Rech II, pp. 191–4. العدم Privation.
٢٢  Ibid., I, p. 48.
٢٣  Ibid., p. 65.
٢٤  Ibid., pp. 62–4.
٢٥  Ibid., pp. 71–7.
٢٦  Ibid., pp. 88–90.
٢٧  Rech. Log. I, pp. 85, 91–3.
٢٨  Ibid., p. 134.
٢٩  Ibid., pp. 160–6.
٣٠  Ibid., p. 188.
٣١  Ibid., p. 211.
٣٢  Ibid., p. 227.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤