سادسًا: التمييز ومستويات الوجود١

ولا يتعلق التمييز فقط بنظرية المعرفة بل أيضًا بنظرية الوجود، وليس له فقط أهمية معرفية بل أيضًا أهمية أنطولوجية، ويشير إلى مستويات الوجود الذي يتشعب إلى اتجاهين أو ثلاثة أو أكثر؛ مما يؤدي إلى تصور معين لتراتب الوجود، وبين مستوًى وآخر هناك حركة انتقال «من وإلى».

صحيح أن التمييز يُقدم باستمرار في صورة معنيين في شيء مختلط، هناك معنًى مزدوج في الحكم،٢ وتلعب فكرة المعنى المزدوج ذي الاتجاهين دورًا كبيرًا في كل التوضيحات، هناك أيضًا معنًى مزدوج في الرياضيات؛ الرياضيات الخالصة المنطقية بالمعنى الدقيق، والرياضيات الخالصة المتجاوزة للمنطق. الأولى عند الظاهراتيين، والثانية عند الرياضيين. ونتيجةً لذلك يحتاج التمييز إلى إيضاح، وينطبق التحليل المزدوج أيضًا على القصدية كاسترجاع وتكوين لتيار الشعور.٣
وعلاوةً على ذلك لا يحدث التمييز فقط بين مستويين بل بين ثلاثة، وهذه هي حالة تعدد معنى لفظ الشعور الذي يعني ثلاثة أشياء؛ الأول الأنا التجريبي وهو المستوى الفيزيولوجي، والثاني الإدراك الداخلي وهو المستوى النفسي، والثالث المعطى الحي القصدي وهو المستوى الظاهراتي. في المستوى الأول الشعور وحدة ظاهراتية واقعية لمعطيات الذات الحية، والتصور الظاهرياتي للمعطى الحي مختلف عن التصور الشعبي الذي يقوم على أن العلاقة بين المضمون الحي والشعور الذي يحياه ليس نمط علاقة خاصة. طبقًا للتصور الظاهرياتي، المعطى الحي هو نمط خاص للحياة، والمستوى الثاني يجعل الشعور مجرد إدراك داخلي؛ ومن ثَم فالاختلاف بين المستوى الأول والثاني مجرد اختلاف في الدرجة وليس اختلافًا في النوع، المستوى الثالث وحده يصنع الشعور كذاتٍ خالصة وكوعي بالذات.٤ ويبين هذا التمييز الثلاثي المنهج الجدلي الذي يضع شيئين يُعتبران حتى الآن متميزين على نفس المستوى من أجل شق طريق إلى حل ثالث. والتقسيم الثلاثي شائع عندما يوضع السؤال في تمامه كنقطة بداية، ودلالة لفظ «لوجوس» ثلاثية: التكلم، والتفكير، والشيء المفكَّر فيه.٥ لذلك يُقسَّم المنهج الظاهرياتي أحيانًا تقسيمًا ثلاثيًّا، وهذه هي حالة الآفاق الثلاثة للمعطى الحي: الاسترجاع، والتوتر، والاستباق.٦ وهي أيضًا حالة التمييزات الظاهراتية بين الظاهرة الفيزيقية للتعبير، والفعل الواهب للمعنى، والفعل المالئ للمعنى.٧ وهي أيضًا حالة التمييز بين المضمون كمعنًى مالئ، وكمعنًى أو دلالة خالصة بسيطة،٨ وقد يقوم التمييز مرتين بحيث لا يتم بين مستويين فقط بل بين ثلاثة مستويات، طرفان ووسط متناسب، وأحيانًا يكون هذا الوسط من الجانب الصوري، وأحيانًا أخرى من جانب الحامل المادي، ويؤدي التمييز بين الموضوع التابع والموضوع المستقل إلى تمييز مشابه بين المجرد والعياني، الأول هو الموضوع المستقل، والثاني التابع. والعياني يشار إليه، «هذا هو» المادي، وهو الفرد. هناك إذن ثلاثة ألفاظ: المجرد، والعياني، والفردي. المجرد والعياني فرديات نظرية، في حين أن العياني والفردي حوامل.٩ والوسط إحدى وسائل الإقلال من الخلط، وبين الصوري والمادي هناك المعطى الحي في الوسط، والوسط هو المستوى الذي توجد فيه الظاهريات نفسها كعلم وصفي بين العلوم العيانية من ناحية والعلوم المجردة من ناحية أخرى أو بين العلوم المادية والعلوم الصورية.١٠ الظاهريات علم نظري مادي، هي رياضيات للماهيات؛ فإذا كانت الفيزيقا تبحث عن القوانين التجريبية، وإذا كانت الهندسة تبحث التحديد التام بالمصادرات، فالظاهريات وصف وتحديد دقيق للمعطيات الحية، ينقص العلوم الوصفية تدخل الحدس، وتقوم العلوم الدقيقة على تصورات مثالية. والظاهريات نظرية وصفية لماهية المعطيات الحية الخالصة. وتُبقي على الفردي والنظري معًا؛ ومن ثَم تستبعد أي نظرية استنباطية، الظاهريات رؤية مباشرة للماهية.
ويؤدي التمييز كتحليل مزدوج أو ثلاثي الاتجاه إلى تعدد المستويات؛ فالواقع أن التمييز ليس فقط بين شيئين متعارضين أو متناقضين أو متكاملين، بل أيضًا في نفس الشيء لبيان درجاته. وإذا أدى التمييز الذي يبين التعارض إلى تصور ثنائي للعالم، فإن التمييز الذي يدل على درجات الشيء ينتهي إلى تصور تراتبي للعالم، وقد تم التمييز بين التماثل البسيط والملء ليدل على درجات الملء، فهناك حلقات متتابعة للملء، وهناك أيضًا تدرج في الملء،١١ ويتحقق هذا التدرج متشعبًا في خطين متميزين؛ المضمون الحدسي والمضمون الإشاري، الحدسي الخالص والدلالة الخالصة … إلخ. وللمعرفة كمركب للملء درجاتها التي تظهر في التكوين.١٢ وقد أدى منهج التمييز إلى تصور تراتبي للعالم. في العقل هناك درجات للعموم،١٣ وفي هذا التصور التراتبي، كل درجة عليا أكثر صورية وأقل مادية من الدرجة السفلى. مثلًا تطابق المنطقة، وهو نوع مادي رفيع، علمًا نظريًّا يختص بالمنطقة أو أنطولوجيا تختص بها.١٤ هناك سلم للعموم تتولد فيه الأجناس والأنواع، يوجد التراتب في درجات المثال وليس بين المثال والواقع، «لا يمكن تصور تراتب يربط بين المثال والواقع»، ويوجد التراتب أيضًا داخل الواقع كخط ماء رفيع يرد المنطق إلى ما هو أقل منه.١٥ ويوجد التراتب أيضًا في البداهة؛ فالبداهة الواضحة بذاتها بداهة التجربة، ونشوء معنى الحكم خيط يقود من أجل تنظيم تراتب البداهات، وبداهة التجربة السابقة على الحمل المنطقي هي الموضوع الأول في ذاته للنظرية الترنسندنتالية للحكم، ويدخل منهج المسار هنا ليشير إلى الانتقال إلى البداهات في المستويات العليا، بل إن نواة المعنى تعتمد على بداهة العام العياني أو العام الصوري، ترتبط البداهة بالتمييز، ويمكن إرجاع كل حكم إلى بداهة التمييز، فتظهر إمكانية بداهة التمييز في التمييز بين الحكم ومضمونه؛ إذ يفترض الوجود المثالي للحكم الوجود المثالي للمضمون، والوجود المثالي للمضمون مرتبط بشروط وحدة التجربة الممكنة؛ ومن ثَم ترتبط البداهة بالوجود المثالي.١٦
ليست التجربة الذاتية المشتركة ذات طابع معرفي فحسب، بل أيضًا تكوِّن جماعة إنسانية تمثل أول صورة للموضوعية، وهي طبيعة التجربة المشتركة، ولهذه الجماعة أيضًا مستويات عديدة، عليا ودنيا، وهو نفس التصور التراتبي للعالم الذي ظهر في الذاتية المعرفية يعاود للظهور في الجماعة الخلقية.١٧ لذلك للتمييز أحيانًا غرض انتقائي، إذا لم تكن الأشياء كلها متشابهة فالبعض يتميز عن البعض الآخر؛ ومن ثَم لا تستطيع جميع أنواع الأفعال أن تملأ وظيفة حوامل الدلالة ولكن بعضها فحسب.١٨ لا يتضمن كل دال فعلًا معرفيًّا،١٩ ويساعد التمييز على إظهار مستويات الوجود خاصةً المستويات المتمايزة.
ومستويات الوجود ليست متجاورة، واحدة فوق الأخرى، بل مرتبطة فيما بينها بممر داخلي؛ فالواقع أنه بالإضافة إلى منهج التمييز هناك منهج المسار أو الانتقال أو المرور، وهو ذو حركة مزدوجة؛ من المادي إلى الصوري، ومن الصوري إلى الترنسندنتالي، ويظل المرور إلى العام أيضًا مرورًا ماديًّا في حين أن المرور إلى الصوري هو أعلى درجة في الصورية.٢٠ وفي المرور تظهر بعض الحركية، وفي الملء تزداد الحركية درجة، وقد سمح التمييز بين المملوء والفارغ لهذه الحركية بالامتلاء.٢١
ليست قواعد المنهج الظاهرياتي إذَن مجرد مقولات تطبق في الوجود، بل انتقال يتم من الصوري أو المادي إلى الترنسندنتالي، وهي الحركة الرأسية ذات الاتجاهين؛ من المنطق الصوري إلى المنطق الترنسندنتالي، ومن المنطق إلى الإنارة الظاهراتية للمعرفة.٢٢ ولا يمنع الانتقال من الصوري إلى الترنسندنتالي انتقالًا آخر من الفردي إلى العام، ومن المادي إلى الصوري. والواقع أن الصوري الأول يتعلق بالقضايا الموضوعية، في حين أن الثاني يتعلق بالتحول إلى المثال. وبتعبير آخر يمر الصوري إلى الترنسندنتالي، ثم يعود إلى الصوري من جديد. الصوري الأول فارغ دون أساس، والثاني مملوء تأسس في الترنسندنتالي.٢٣ وإذا كان المرور من مستوًى إلى آخر يدل على حضور الحركة داخل المنهج، فإن الشعور كله يكون «وجودًا متجهًا نحو».٢٤ ومنهج المرور هو أيضًا منهج جدلي ذو اتجاهين، نازل وصاعد، نزل التحليل كمنهج ونظرية صورية للعلم كي يصبح أنطولوجيا صورية متجهة نحو الموضوع، ثم اتجه التحليل في حركة صاعدة إلى مبحث القضايا الصورية، هذا التحرك في الموضوع يساعد على الانتقال من ميادين الموضوعات إلى الأحكام بالمعنى المنطقي. وكالعادة تقوم الإنارة الظاهراتية بإبراز هذا الانتقال بالتمييز بين ثلاثة اتجاهات متميزة؛ الاتجاه الساذج المباشر، والاتجاه النقدي التمييزي، وأخيرًا الاتجاه النقدي القصدي أمام الموضوع. ويحكم الاتجاه النقدي تصورات الحقيقة والبداهة مع التمييز بين معنيين؛ الفاعلية والواقع للحقيقة، والامتلاك والملكية للبداهة، ويعني النقد أيضًا التمييز.٢٥
١  Ex. Phéno., pp. 386–91.
٢  Log. For. Trans., pp. 182, 187–93. المتجاوزة للمنطق Extralogique.
٣  Lecons pour une Phénoménologie de la conscience interne du temps, pp. 72–4, 105–9. استرجاع Rétention.
٤  Rech. Log. II, Rech. V, pp. 144–64.
٥  Log. For. Trans., p. 27.
٦  Ideen I, pp. 277–9. الاسترجاع Rétention. التوتر Tention. الاستباق Protention.
٧  Rech. Log. II, Rech. I, p. 44–7.
٨  Ibid., pp. 59–61.
٩  Ideen I, p. 54.
١٠  Ibid., pp. 227–41.
١١  Rech. Log. III, pp. 84–8, 90–2, 102–7.
١٢  Ibid., pp. 84–127، الجزء الثاني من عنوان القسم الأول.
١٣  Ideen I, Sec. 4, Ch. III. الإشاري Signifif.
١٤  Ibid., p. 35.
١٥  Rech. Log. I, p. 74.
١٦  Log. For. Trans., pp. 278–96. المسار، الانتقال Le passage.
١٧  Med. Car. pp. 102–11.
١٨  Rech. Log. III, pp. 21–3.
١٩  Ibid., pp. 247–50.
٢٠  Ideen I, pp. 47–50.
٢١  Ibid., pp. 502.
٢٢  Log. For. Trans., Sec. 2.
٢٣  Ideen II, p. 47. التحول إلى المثال Idéation.
٢٤  Ibid, I, p. 118.
٢٥  Log. For. Trans., pp. 161–78. الفاعلية Activité. الواقع Réalité . الامتلاك Possession. الملكية Propriété.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤