سابعًا: التمييز وبنية الوجود١

طبقًا لعنوان «الأفكار» هناك شيئان؛ الظاهريات والفلسفة الظاهراتية، هناك منهج ظاهرياتي وفلسفة ظاهراتية؛ الأول منهج تمييز، والثانية فلسفة علاقة، ويرتبط الأول بالثاني ارتباطًا وثيقًا. يقوم المنهج على الفلسفة، والفلسفة نظرية في المنهج، وتظهر فلسفة العلاقة في تعبيرات مثل «متضمنة في» «واحد مع» «مرتبط ﺑ» … إلخ.٢
وتبدو الظاهريات كفلسفة بنية في أخذ البنية كمحل لإعادة تركيب الوجود، ويتم تحديد العلاقة بين صورة الشعور ومضمون الشعور في بنية صورية مادية،٣ وتحدد العلاقة بين الدلالة بالنسبة إلى الموضوع نفس الشيء مع أخذ اللغة في الاعتبار.٤ ويتم البحث عن العلاقة النفسية بين الأفعال الرابطة ووحدة المقولات للموضوعات المطابقة، بل تبحث العلاقة بين شيئين متميزين، مثلًا العلاقة بين المعنى الداخلي والخارجي من ناحية ومعنى المقولة من ناحية أخرى.٥ الظاهريات إذَن فلسفة علاقة، غرض منهجها هو إيجاد العلاقات بين مستويات الوجود؛ فيتحدد المعنى المتعلق بمضمون الشعور بالنسبة لعلاقته بالموضوع،٦ والبحث عن العلاقة يتجنب صورية المثال ومادية الواقع، تبحث فلسفة العلاقة عن الخصائص الثلاث للأساس: الثبات، والقبلية، والتأسيس. وهكذا يتم البحث عن إمكانية العلم وإمكانية المعرفة،٧ وتظهر فلسفة العلاقة في إقامة الصلة أو الرابطة كنهاية لكل تحليل ظاهراتي، وهذه حالة التحليل المسهب للمنطق الصوري والأنطولوجيا الصورية،٨ وتقام العلاقة بفضل تمييز مزدوج متضايف للمنطق الصوري والتمييز الترنسندنتالي بين الأنطولوجيا الصورية ونظرية العلم، ويبيِّن التكوين نفسه هذه الفلسفة للعلاقة، يعني التكوين البنية، وتبين مستويات التكوين مرة أخرى المستويات المتداخلة للوجود،٩ كما يبين أيضًا تشابك أنماط عقلية مختلفة مثل الحقيقة النظرية والقيمية والعملية بنية الوجود،١٠ والعلاقة بين جوانب مختلفة لعلم واحد أو أكثر هي النقطة الجوهرية في البحث، بل إنه داخل العلم موضوع النقض تبحث العلاقة بين هذه الجوانب المختلفة من أجل إعادة بنائها، ولمبدأ اقتصاد الفكر علاقة مع المنطق التقني وليس مع المنطق الخالص، وعلى النقيض من ذلك، يقترب من نظرية في المعرفة النفسية،١١ ليس هدف فلسفة العلاقة فقط إعادة بناء العقل والواقع، بل أيضًا ربط الشخص بالآخر؛ فللتعبيرات إذَن وظيفة في الاتصال، بل إن تعبيرات حياة الرغبة تجعل من الشعور طرفها الآخر،١٢ وتبقى العلاقة على البنية الصحيحة للوجود، «بين العلوم المضبوطة والعلوم الوصفية الخالصة هناك علاقة، ولكن لا يمكن أخذ أحدها نيابةً عن الأخرى.»١٣
وتقدم الظاهريات كفلسفة علاقة تصورات جديدة، مثل «حامل» «أساس»؛ من أجل إعادة بناء مستويات الوجود، ولا تقع هذه التصورات في الصورية مثل التصورات الرياضية، ولا في المادية مثل علوم الطبيعة، ولا في خلط العلوم النفسية، بل تحافظ على استقلال المثال في علاقته بالواقع، التضايف هو نمط العلاقة بالأصالة، ويتجلى بوضوح في التجربة الذاتية المشتركة «المونادولوجية»، حيث يبدو الآخر كطرف وتضايف للشعور، وبالتالي يُقطع الطريق على كل اتهام للظاهريات بالأنا وحدية بإثبات تجربة الآخر، وهذا لا يعني خروج الشعور عن ذاته، بل يعني أنه يركز على ميدان انتمائه؛ ومن ثَم «يرد» الشعور السيكوفيزيقي، الانتماء وحده هو الذي يكوِّن ميدان الواقعية والإمكان لتيار الشعور، ويدخل الموضوع أيضًا في ميدان الانتماء؛١٤ فالحضور الذاتي، أي الإدراك الذاتي عن طريق التماثل، نمط من حضور الآخر، هي تجربة لها طريقتها الخاصة في إثبات ذاتها.١٥ والربط عنصر تكوين عن طريق الارتباط في تجربة الآخر دون مشاركة فعلية،١٦ وتصور «التضايف» في كل مكان؛ فالعمومية النظرية والضرورة النظرية متضايفان،١٧ وهناك التضايف الرأسي الذي يمتد بين الصوري والمادي كما هو الحال بين العموم النظري والضرورة النظرية، فالضرورة تفرد العموم، وهناك التضايف الأفقي الذي يمتد بين الأنا والآخر؛ فالآخر طرف متضايف مع الذات، ينتمي الآخر والشيء إلى الواقع الطبيعي الذي هو نفسه متضايف مع الشعور،١٨ وداخل الشعور تلعب نظرية التضايف دورًا كبيرًا في العلاقة بين المادة الحسية والصورة القصدية؛١٩ فكل فعل يتعلق بصورة الشعور إثباتًا أو نفيًا له طرف متضايف يتعلق بمادة الشعور،٢٠ وتعتبر البنيات الذاتية للمنطق كقبلي متضايف مع قبلي موضوعي.٢١
وتبدو فلسفة البنية أيضًا في مخطط تشابك الشعور في العالم، العالم الطبيعي، والعالم الإنساني، والعالم المثالي.٢٢ فعلاقة التداخل هي أحد أنماط العلاقة، فبين مضمون التجلي ومضمون التسلط هناك نمط التداخل،٢٣ وهو تداخل جزئي، وبين أجزاء موضوع واقعي هناك علاقات رئيسية،٢٤ ويسمح هذا التداخل الجزئي كنمط لعلاقة بين مضمون التجلي ومضمون التسلط بتمييز بين التعبيرات العرضية والتعبيرات الموضوعية؛ الأولى تعبيرات عائمة أو متموجة. وكل عدم للدلالات هو عدم أو تموج للدال، للتمييز إذَن دور هو استخلاص التغير من الثبات، ولا يتعامل المنطق الخالص إلا مع الدلالات المثالية؛ أي دلالات خارج كل تموجات.٢٥
ومن ثَم فإن التمييز ليس فصلًا، ولم يكن هدفه فقط الفصل بين شيئين مختلطين؛ فالربط يأتي بعد التمييز بين الشيئين المتميزين، وليست العلاقة هذه المرة خليطًا، بل إعادة بناء صحيح للمستويات المختلفة للوجود، وهكذا بعد التمييز بين الواقعة والماهية يعاد الربط بينهما حتى لا ينفصلا،٢٦ ليست الماهية نتاج الواقعة وليست على نفس مستواها، بل هي محمولة عليها؛ ومن ثَم يُعاد تأسيس الربط بمساعدة نوع جديد من العلاقة، وهي الحامل أو الدعامة؛ فالتمييز يؤدي إلى استحالة الفصل، «والتمييز الجذري للعلم لا يستبعد على الإطلاق تداخلهما بل واتحادهما الجزئي».٢٧ ومع أن الماهية محمولة على الواقعة فإنها تحافظ على استقلالها ووجودها الذاتي. الموضوع موضوع مثالي محمول على الموضوع الواقعي، دون أن يكون منتجًا له. هدف التمييز إذَن هو إعلان استقلال الموضوع المثالي بالنسبة لظروفه المادية،٢٨ ومعرفة الماهية مستقلة عن أي معرفة للوقائع،٢٩ ولا تتضمن الحقائق الخالصة الخاصة بالماهيات أي تأكيد بالنسبة للوقائع. يؤدي التمييز إلى استحالة الفصل، وتؤدي استحالة الفصل إلى الاستقلال، ويتم التمييز بين الموضوع المستقل والموضوع التابع داخل عالم الماهيات. مثلًا، صور المقولات موضوعات تابعة بقدر ما تحيل إلى مقولات حوامل، في حين أن ماهيات المقولات موضوعات مستقلة بقدر ما لا تحيل إلا إلى ذاتها.٣٠
ومع ذلك لا يستبعد الاستقلال كل أنواع التبعية، فبين علم الواقعة وعلم الماهية هناك علاقة تبعية،٣١ وإذا كان الاستقلال والتبعية متكاملين هناك أيضًا موضوعات مستقلة وموضوعات تابعة، والموضوع المستقل يكون أحيانًا الحامل عندما يتعلق الأمر بالفردي، وأحيانًا بالصورة عندما يتعلق الأمر بالعام؛ فالاستقلال يكون إما في الفردية أو في العموم،٣٢ وعدم الفصل ليس فقط بين المثال والواقع المثالي، ولكن بين المكونات المختلفة التي تشكل مضمون المموضع التابع.٣٣
وإذا لم يكن التمييز فصلًا فإن المنهج الظاهرياتي يبدو وكأنه منهج متكامل، يحاول أن يرى كل جوانب المسألة في نفس الوقت، يكتمل الأنا أفكر «الكوجيتو» في الأنا المفكَّر فيه «الكوجيتاتوم»، وصورة الشعور ليست إلا واجهة واحدة، ومضمون الشعور واجهة ثانية،٣٤ العقل والواقع واجهتان لشيء واحد،٣٥ ومن الضروري التعامل في نفس الوقت مع الجانب النحوي للمعطيات الحية المنطقية.٣٦ النظرة التكاملية في الرؤية الظاهراتية في كل تحليل؛ الواقعي والخيالي مضمون للشعور، الإدراك، والتذكر، والخيال … إلخ معطيات للتجربة.٣٧ ومع ذلك عندما يتعلق الأمر بالماهية تكون مستقلة عن الوهم،٣٨ أما البداهات الهندسة فلا أصل لها في التجارب الخيالية،٣٩ ويظهر التكامل بشكل أوضح في مفهوم التضايف، العموم النظري والضرورة النظرية متضايفان،٤٠ وقد ذكر التكامل مباشرة ملحقًا بعمومية التعبير في ميدان اللغة.٤١
١  Ex. Phéno., pp. 391–6.
٢  Ideen I, p. 53.
٣  Ibid., Sec 3, Cl. 2. صورية مادية Noético-Noêmatique.
٤  Rech. Log. II, Rech I, pp. 57–9. الأفعال الرابطة actes connexes ، وحدة المقولات Unité Catégoriale.
٥  Ibid., III, pp. 208–9, 213–7.
٦  Ideen I, Sec 4, ch. 1.
٧  Rech. Log. I, pp. 18–21. تداخل Enchévétrement. تشابك Enterlacement مستوًى Couche.
٨  Log. For. Trans., pp. 193–9.
٩  Ideen I, pp. 508–10.
١٠  Ibid., pp. 486–71.
١١  Rech. Log. I, pp. 213–24.
١٢  Ibid., II, Rech. I, pp. 39–44. الرغبة Volition.
١٣  Ideen I, p. 237.
١٤  Méd. Car., pp. 74–88. حامل Porteur. الحضور الذاتي Apprésentation . الإدراك الذاتي Aperception. أساس Substrait. تضايف Corrélat.
١٥  Ibid., pp. 91–102. واقعية Actualité.
١٦  Ibid., pp. 94–6. الربط Accouplement. الارتباط Association. فعلي Réelle.
١٧  Ideen I, p. 29.
١٨  Ibid., pp. 154–8.
١٩  Ibid., pp. 289-90.
٢٠  Ibid., pp. 361–3, 391.
٢١  Log. For. Trans., pp. 246-7.
٢٢  Ideen I, pp. 87–94. انظر سابقًا مخطط الذاتية، الباب الثاني، الفصل الأول، أولًا: الذاتية.
٢٣  Rech. Log. II, Rech I, pp. 92-3. استرجاع Recouvrement. التجلي Manifestation.
٢٤  Ibid., Rech. III, pp. 48-9. تموج Fluctuation.
٢٥  Ibid., Rech I, pp. 93–112.
٢٦  Ideen I, pp. 16–8. فك Dissociation. فصل Séparation.
٢٧  Ibid., p. 58. خليط Mélange. الدعامة Support. اتحاد Coincidence.
٢٨  ينصبُّ كل المبحث الثاني على الوحدة المثالية للنوع ضد النظريات الحديثة للتجريد في التجريبية الأنجلوسكسونية Rech. Log., Rech. II. وينصبُّ المبحث الرابع كله على الفرق بين الدلالات المستقلة والدلالات التابعة Ibid., II, Rech. IV. تأكيد Assertion.
٢٩  Ideen I, p. 24.
٣٠  Ibid., p. 52.
٣١  Ibid., pp. 33–5. متكامل Intégral.
٣٢  Ibid., p. 52.
٣٣  Rech. Log. II, Rech. II, pp. 11–9.
٣٤  Ideen I, Sec. III, ch. 3.
٣٥  Ibid., Se. IV.
٣٦  Rech. Log. II, Rech. I, pp. 15–8.
٣٧  Ibid., p. 24.
٣٨  Ideen I, pp. 75–8. الوهم Fiction.
٣٩  Ibid., p. 81.
٤٠  Ibid., p. 29.
٤١  Ibid., pp. 425–7.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤