ثالثًا: النقد التاريخي ذروة التأويل، ومنهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ذروة النقد التاريخي١
ظاهريات التأويل ذروة النقد التاريخي في صراع منذ عدة قرون
ضد اللاهوت العقائدي من أجل البحث عن الصحة التاريخية للنص
المقدس، وهو حصيلة اللاهوت الليبرالي الذي تكوَّن فيه منهج
«تاريخ الأشكال الأدبية»، ويمثل النقد التاريخي تقدمًا هائلًا
في البحث عن الحقيقة في الحضارة الأوروبية، ويأتي النقد
الليبرالي والمستقل في الصف الأول، يقدم مادة «تاريخ الأشكال
الأدبية» التي تأتي بعد ذلك لتتوج الأعمال النقدية، وتعتمد
الروايات الإنجيلية بعضها على البعض الآخر.٢ وشعور الراوي لم يكن محايدًا، بل كان من أصحاب
الأهواء، وكان إيمان الجماعة الأولى وحاجات الدفاع في التبشير
مصدر نشوء العقائد وتكوينها، وتم البحث عن التراث الشفاهي قبل
التراث المدوَّن؛ مما دفع إلى إضافة التراث على الكلام. ولا
يقوم النقد التاريخي بتبخير النصوص المقدسة، بل على العكس
يعطيها أساسًا صلبًا، وهي الصحة التاريخية. ولا يقوم تفكيك
الأسطورة أو تأويلها أيضًا بتبخير العقائد، بل على العكس
يعطيها أساسها الواقعي في التجربة الإنسانية.٣
لقد استطاع منهج «تاريخ الأشكال الأوروبية» الحصول على كل
مميزات النقد التاريخي دون عيوبه خاصةً النزعة التاريخية. صحيح
أن النقد التاريخي قبل تكوين منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» جمع
حوادث كثيرة تتعلق بتاريخ النص، دون إعطائه تفسيرًا جذريًّا،
لعدم رغبة في تجاوز مستوى البحث الأيديولوجي والتاريخي، ودون
صياغة مادته في منهج خاص مستقل عن مناهج البحث التاريخي
المعروفة سلفًا، الفلسفية والأركيولوجية والإثنولوجية
والسوسيولوجية … إلخ. هذا المنهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ذروة
المنهج التاريخي واكتماله، يضع بُعدَي الشعور الديني، الوعي
التاريخي والوعي النظري، دون الوعي العملي؛ في الوعي التاريخي
يفيد خاصة في المنهج الرابع في النقل، وهو الوضع بالمعنى،
والذي يثبت خلق الجماعة الأولى للعقائد،٤ وعادةً ما يُترجم اللفظ «تاريخ الأشكال»، وهي
ترجمة حرفية. والسؤال هو: أشكال ماذا؟ أشكال نص الإنجيل أم صور
الشعور الديني؟ والحقيقة أن منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» هو
تاريخ الأشكال الأدبية لنصوص الإنجيل من أجل تحديد مصادرها في
تاريخ الجماعة الأولى، وثقافاتها الأدبية، وأشكال كتاباتها
التي نشأت فيها النصوص. وإذا تُرجم اللفظ «صورة التاريخ» لأمكن
وصول المنهج إلى نتائج أفضل. إذا كانت الصورة للوعي التاريخي
ذاته وليست الشكل الأدبي للنص المقدس، لانتهى المنهج إلى صور
الوعي التاريخي؛ أي إلى مناهج النقل المختلفة، الشفاهي أو
المدون. ليس الشكل فقط شكل النص بل صورة الشعور. ليس المقصود
تصنيف أشكال النص إلى قصة خيالية ومَثَل وحديث النفس والحوار …
إلخ، بل تصنيف مناهج النقل إلى تواتر وآحاد ونقل بالمعنى ووضع
بالمعنى؛ إذ تساعد الأشكال الأدبية على العثور على المصادر
التاريخية في تكوين روايات الإنجيل بالبحث عن أوجه التشابه
والاختلاف بينها وبين أدب العصر. يمكن لمنهج «تاريخ الأشكال
الأدبية» أن يكون أكثر خصوبة لو كان بحثًا عن ضوء الوعي
التاريخي للوصول إلى تحديد مناهج النقل التاريخي لنصوص الوحي،
ثم إذا أصبح بحثًا في تكوين روايات الإنجيل في الوعي الجمعي
الأول، والمهمة الثانية الرئيسية هي البحث عن الصحة التاريخية للنص.٥
وبالرغم من الأهمية الكبرى لمنهج «تاريخ الأشكال الأدبية»،
فقد سار إلى منتصف الطريق، وما زال العمل الكبير لم يتم بعدُ
من أجل السير في الطريق إلى النهاية، تشهد بذلك التيارات
اللاهوتية المعاصرة التي نشأت بفضل هذا المنهج، ينقص المنهج
نظرية حول مصادر النصوص المقدسة؛ فالواقع أن كتابات العهد
الجديد لها مصادر عدة؛ هناك أقوال المبلغ، وأقوال الصحابي،
وأقوال التابعي. ويمكن للوحي باعتباره كلام الله أن يصبح
مقياسًا للتمييز بين المصادر الشرعية والمصادر غير الشرعية.
المصادر الشرعية هي كلام الله الذي أعلن المبلغ، وأقوال المبلغ
من ذاته، وأقوال الجماعة، وأقوال العلماء. والمصادر اللاشرعية
هي أقوال الصحابة، وأقوال التابعين، وأقوال مدينة خاصة أو
أعمال التاريخ. وقد دُرست مشكلة العهد الجديد بمفرده دون ربطها
بمشكلة العهد القديم. وقد تم الخلط دائمًا بين المشكلتين. كان
الاتجاه الغالب هو التواصل بين العهدين أكثر من الانقطاع،
وتقترب ظاهريات التأويل كثيرًا من منهج «تاريخ الأشكال
الأدبية» ومن التأويل الوجودي؛ فإذا أدت فلسفة الدين إلى
ظاهريات الدين، وإذا اكتملت ظاهريات الدين في ظاهريات الفعل
الديني الذي يقترب من البعد الثالث في الشعور الديني، وهو
الوعي العملي، فإن ظاهريات التأويل تنتهي أخيرًا إلى وضع اليد
على البعد الثاني في الوعي الديني، وهو الوعي النظري باكتشاف
التأويل الوجودي، وعلى البعد الأول للوعي الديني، وهو الوعي
التاريخي عن طريق منهج «تاريخ الأشكال الأدبية»؛ فلأول مرة يتم
التعرف على الأبعاد الثلاثة للوعي الديني.٦
١
Ex. Phéno., pp.
589–92.
٢
وذلك في نظرية المصدرين، متى ولوقا في مدرسة توبنجن
Tubingen.
٣
يتوجه مرقص بفكر لاهوتي من إيمان الجماعة الأولى
(فرده Werde).
٤
الرسالة الأولى «مناهج التأويل»، الجزء الأول، القسم
الأول.
٦
استطاع ماكس شيلر M.
Scheler الاقتراب من الوعي العملي
عن طريق ظاهريات الفعل الديني، واستطاع ديبليوس
Dibilius الوصول
إلى الوعي التاريخي عن طريق منهج «تاريخ الأشكال
الأدبية»، واستطاع بولتمان R.
Bultmann الوصول إلى الوعي النظري
عن طريق فهم التأويل الوجودي. ومع ذلك يظل بولتمان
أكثر العلماء تكاملًا؛ لأنه يشارك في نفس الوقت في
منهج «تاريخ الأشكال الأدبية» ومنهج التأويل الوجودي،
ويأمل العمل الثاني «ظاهريات التأويل» أن يكون أكثر
تكاملًا أيضًا يجمع بين ماكس شيلر وديبليوس
وبولتمان.