(١) النقد التاريخي للبحث عن الصحة التاريخية (الوعي
التاريخي)
فكل تفكير في الوحي يصبح نظرية في العدل الإلهي أو
لاهوتًا أو عقائد إن لم يتحول إلى منهجية عامة، ومنها
التأويل، ويصبح مصير كل فلسفة للدين هو النظرية الخالصة إن
لم يوجهها منطق لنص الوحي؛ فدور الوحي استقباله في
التاريخ، وتلك مهمة الوعي التاريخي، ثم يأتي فهمه كشعاع
مزدوج من صورة الشعور إلى مضمونه، ومن مضمون الشعور إلى
صورته، من الذات إلى الموضوع، ومن الموضوع إلى الذات في
قصدية الشعور في نظرية الإدراك، وهو الوعي النظري، ثم يأتي
تطبيقه كسلوك مثالي لتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم،
وهو الوعي العملي؛ حقيقة الوحي كاعتقاد وقبلي بين قوسين.
٢ يوجد الوحي عندما يعلنه المبلغ ويُنقل نقلًا
صحيحًا شفاهيًّا ثم مدونًا. مصدر الوحي أيضًا بين قوسين
تعني حقيقة الوحي هنا صحة النقل، ثم يوجد الوحي مرة ثانية
عندما يُفهم على نحو متطابق بين الدلالات العيانية للتجارب
الحية في الحياة اليومية. حقيقة الوحي هي إذَن تطابق معنى
نص الوحي مع الدلالة العيانية للخبرة اليومية، وأخيرًا
توجد حقيقة الوحي مرةً ثالثة عندما يتحقق المثال في
العالم، ويتحول الممكن إلى واقع؛ أي تحقيق الوحي كنظام
مثالي للعالم، يوجد الوحي عندما تتحقق فيه هذه المعايير
الثلاثة ويصبح حقيقيًّا.
وحتى الآن يتوجه مجموع التأويل نحو إحدى هذه المشاكل
الثلاث: النقد التاريخي أو التحليل اللغوي أو التحقيق
العملي، مع المرور مر الكرام على المشكلتين الأخريين أو
إهمالهما تمامًا. وقد تم اكتشاف المشاكل الثلاثة للتأويل:
النقد التاريخي، والفهم النظري، والتحقيق العملي؛ أولًا عن
طريق التفكير النظري في أشكال النص المقدس، الصحة
التاريخية، وفهم المعنى، والتحقيق العملي. كما يسمح المنهج
الظاهرياتي بهذا التكوين الثلاثي لمشاكل التأويل؛ لأنه
أيضًا تكوين ثلاثي للطبيعة المادية، والطبيعة الحية،
ولعالم الروح. وبالرغم من الفرق بين التكوينين الثلاثيين
إلا أن تكوين الطبيعة المادية، أي الطبيعة، يمكن أن يستخدم
في تكوين التاريخ، حجر العثرة أمام النقد التاريخي.
ويستطيع تكوين الطبيعة الحية، خاصةً ظهور «الأنا الخالص»،
أن يساعد على فهم دور التحليل اللغوي.
٣ ويستطيع تكوين عالم الروح أن يفتح طريقًا
جديدًا أمام مشكلة «البراكسيس»؛ الإشكال الثالث في
التأويل.
وأبعاد الوعي الثلاثة لها ترتيبها: الوعي التاريخي،
والوعي النظري، والوعي العملي. يسبق النقد التاريخي فهم
النص، ويسبق فهم النص تحقيقه العملي، وتتبع الأبعاد
الثلاثة للحقيقة نفس الترتيب: صحة النص، تماثل معنى النص
مع خبرة في الحياة اليومية، وتحقيق معطى الوحي كنظام مثالي
للعالم.
ولا تعني أولوية الوعي التاريخي تحويل الوحي إلى حقيقة
تاريخية خالصة حيث ينعدم الاعتقاد بالإيمان؛ لأن الوحي
كعلاقة بين المبلغ ومصدره، وهي نظرة النبوة، بين قوسين،
خارج دائرة الانتباه. والصحة التاريخية للنص هي أول خطوة
لفهم النص؛ فلو نصيب الفهم على نص غير صحيح تاريخيًّا، فإن
الفهم نفسه لا يكون صحيحًا؛ وبالتالي يصبح السلوك أيضًا
غير صحيح. والاعتقاد هو تكامل هذه المعاني الثلاثة
للحقيقة: الصحة التاريخية لنص الوحي، تماثل معناه مع خبرة
الحياة اليومية، وفاعليته كأساس للسلوك في تحقيقه كنظام
مثالي للعالم. وإذا نقص أحد المعاني ينقص المعنيان
الآخران. مهمة النقد التاريخي البحث عن الصحة التاريخية
للنص، ويضع منطقًا للنقل بالبحث عن التماثل وسط الاختلاف،
والتجانس وسط التعارض.
٤ وبالتالي يواجه النقد التاريخي أولًا مشكلة
التاريخ، خاصةً مشكلة موضوعيته. ووهم النزعة التاريخية أحد
أسباب الأزمة الحالية للتأويل، وتعلن النزعة التاريخية
التزامها بالتاريخ الموضوعي الخام، تجميع حوادث متعددة
ومتتالية وقعت في المكان والزمان. وأمام هذه الأزمة تقدم
الظاهريات حلها. تحل التاريخانية محل النزعة التاريخية،
ويترك تاريخ الحوادث مكانه لصالح تاريخانية الوجود الإنساني؛
٥ فالوعي هو البعد الشامل للتاريخ، كما أن
التاريخ هو البعد الزماني للشعور كاسترجاع للماضي بالإضافة
إلى توتر الحاضر وترقب المستقبل.
٦ والنبي أولًا وقبل كل شيء وعيٌ قبل أن تكون
النبوة حادثة، والحواري وعي الراوي قبل أن تكون الرواية
نقل مُتتالٍ، والجماعة الأولى وعي جماعي قبل أن تكون
مؤسسة، والمؤمن البسيط أيضًا وعي قبل أن يكون وحدة كمية أو
عددية بالنسبة لمجموع المؤمنين وعددهم.
(٣) أنماط السلوك للتحقق العملي (الوعي العملي)
والتحقيق العملي، الإشكال الثالث في التأويل، هو في
الحقيقة ظاهريات العمل بالنسبة لظاهريات التاريخ، الإشكال
الأول للنقد التاريخي، وبالنسبة لظاهريات اللغة الإشكال
الثاني في التحليل اللغوي؛ تقوم ظاهريات العمل على دراسة
القصد والعمل. ومن بين أحد أسباب الأزمة الحالية للتأويل
وهم السكون. ليست العقائد مذاهب مغلقة صورية أو مادية،
أبنية ساكنة عقلية أو مؤسسية، بل هي مُثُل لتحقيقها كنظام
مثالي للعالم. وتوجد الأزمة الحالية في التأويل في الخلط
بين الوجود والصيرورة،
٨ وكل محاولة لاختراع تناقض عقلي لا تغير من
العالم الواقعي شيئًا.
٩ وبالرغم من وجود فلسفة للعمل أخيرًا إلا أنها
نسق عقائدي كغيره من الأنساق، يعطي فهمًا جديدًا للعقائد
دون القيام بتحليل فعلي للقصد أو للعمل.
١٠
تستطيع ظاهريات العمل أن تتخلص من هذه السكونية
العقائدية بتقديم القصدية العملية، وينقل القصد من المستوى
المعرفي إلى المستوى العملي، ليس القصد فقط وحدة الذات
والموضوع بل هو مصدر العمل.
١١ ظاهريات العمل هي في الأساس مشكلة أخلاقية،
وتلحق بالمنهج الظاهرياتي، وهو أساسًا رؤية أخلاقية
للعالم. وقد أبرز تأويل الظاهريات ذلك؛ أي تفسير المرحلة
الأولى للظاهريات في بحوث منطقية بإرجاعها إلى المرحلة
الأخيرة في البحوث الأخلاقية. والأخلاق نقل المشكلة
الخلقية على مستوى الوعي الخالص.
وبالرغم من أن الأبعاد الثلاثة للوعي الديني متميزة:
الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي؛ وظائفها
الثلاثة: النقد التاريخي، والتحليل اللغوي، والتحقيق
العملي للأغراض الثلاثة: الصحة التاريخية، وفهم معاني
النصوص وتطابقها مع دلالات الخبرة الحية في الحياة
اليومية، وتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم، إلا أنها ليست
منفصلةً بعضها عن بعض. وبالرغم من أن لكل بعد مهمته فإن
البعدين الآخرين يقدمان له مهمتَيهما ووظيفتهما لأداء
مهمته ووظيفته الخاصة في حدود حاجاته، وبالرغم من التعاون
المتبادل بين الأبعاد الثلاثة للشعور الديني، يظل كل بعد
متميزًا عن الاثنين الآخرين.
مثلًا مهمة الوعي التاريخي البحث عن الصحة التاريخية لنص
الوحي عن طريق النقد التاريخي، ويطبق كعلم محكم وحرفيًّا
تمامًا وكأنه في مواجهة نص أدبي قديم. وهي مسألة مبدأ بصرف
النظر عما إذا كان هذا النص وحيًّا أم لا، فإن تطبيق قواعد
النقد التاريخي هو الضامن الأول لفهم المعنى بعد إثبات
الصحة التاريخية للنص، وإذا كان فهم المعنى صحيحًا طبقًا
للمبادئ اللغوية وبعد المراجعة النقدية يثبت أن النص غير
صحيح تاريخيًّا، ففي هذه الحالة يصبح الفهم باطلًا من
الأساس.
ويستطيع الوعي النظري، ومهمته فهم معنى النص بواسطة
المبادئ اللغوية، أن يقدم مساعدته في النقد التاريخي في
حالة نص له درجة ضعيفة في الصحة التاريخية؛ فالواقع أن
النقد التاريخي في حالات كثيرة لا يستطيع أن يقطع إذا كان
النص صحيحًا تاريخيًّا على الإطلاق أو غير صحيح. هنا
يستطيع الوعي النظري ابتداءً من المبادئ اللغوية أن يحكم
إذا كانت ألفاظ النص لها معانٍ أم لا، فإذا كانت لها معانٍ
يستطيع التحليل النظري أن يتدخل بعد ذلك إذا كان المعنى
مطابقًا لخبرة حية في الحياة اليومية أم لا؛ فإذا كان
مطابقًا يصبح النص الذي حصل من قبل على درجة ضعيفة في
الصحة التاريخية في النقد التاريخي صحيحًا. وإذا لم يكن
مطابقًا ففي هذه الحالة لا يترك النص نهائيًّا؛ إذ تبقى له
فرصة ثالثة من الوعي العملي؛ فالواقع أن المعنى الذي يبدو
غير مطابق للخبرة الحية في الحياة اليومية يتم تجربته
كأساس للسلوك؛ فإذا أمكن استعماله كأساس للسلوك فإنه يصبح
في هذه الحالة صحيحًا بمعنى الفاعلية والأثر في الحياة
العملية. وإذا كان الفهم، مستوى الوعي، مرفوضًا، يستطيع
السلوك على مستوى الوجود استعادته. وأخيرًا إذا استحال
استخدامه كأساس للسلوك، أي إثبات فاعليته، ففي هذه الحالة
يُرفض النص على الإطلاق.
وهناك مسائل عديدة مشتركة بين بعدين للشعور دون أن ينفرد
بها واحد على آخر؛ فمثلًا تتعلق مسألة الكتاب والتراث في
نفس الوقت بالوعي التاريخي والوعي النظري، وبعد تطبيق
قواعد النقد التاريخي يُعتبر الكتاب هو المصدر الوحيد
للوحي، ويقاس عليه التراث للتحقق من صدقه أو زيفه في حالة
التطابق معه أو الاختلاف، ويتم ذلك القياس عن طريق الشبه،
وهو جزء من التحليل النظري، وهو المنهج السائد للفهم في
الوعي النظري، وهذا كله يؤكد تكافُل الأبعاد الثلاثة للوعي
بالرغم من تمايزها من حيث المهام والوظائف.
وكما قد تسود النزعة التاريخية في العلوم الإنسانية،
خاصةً في العلوم التاريخية، النقد التاريخي، واعتباره مجرد
تجاور لعديد من الوقائع «الأركيولوجية» دون افتراض وعي
الراوي كموطن لكل التحليل النقدي، قد يسود التصوف أيضًا من
العلوم الدينية التحليل اللغوي، واعتبار اللغة عاجزة عن
التعبير عن كل مضمون المعنى من أجل فهم المعنى مباشرة خارج
كل المبادئ اللغوية، ولا يستطيع الفهم حتى يكون محكمًا
ودقيقًا، تجاوز المبادئ اللغوية المعروفة: الظاهر والمئول،
الحقيقة والمجاز، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين … إلخ.
قد يضيع العمق الصوفي، ومع ذلك تثبت دقة المعنى.