(١) ظاهريات الشخص المتجسد
يمكن أن تعلن ظاهريات الدين بوضوح عن نفسها بأنها لاهوت
صريح بدلًا من أن تكون لاهوتًا مستترًا، ويبين العنوان
نفسه الحضور التام للاهوت في «الشخص المتجسد»، والظاهريات
مع الفلسفة الوجودية ليست إلا عنوانًا فرعيًّا.
٢
وتتكون اللعبة من استعمال المنهج الظاهرياتي، بعد إعادة
صياغة خصوصًا لهذا الغرض، من أجل الوصول إلى تبرير العقائد
القائمة ثم نقدها ثم رفضها،
٣ واعتمادًا على الظاهريات من أجل إثبات وجود
الله أصبحت الفلسفة الوجودية خاصةً الوجودية الجذرية
(الملحدة) ميدانًا آخر للمعركة،
٤ وقد أفسح الدفاع عن عقائد التجسد المجال
لتبرير اللاهوت، وهو ما جرت عليه العادة في تاريخ اللاهوت،
فكم من مرة التُقطت عديد من النظريات في الفلسفة أو في
العلم لتبرير جديد للاهوت. ولماذا تبقى العقائد متأخرة
بالنسبة للمكتشفات الجديدة ولا تتقدم عليها؟ واللاهوت نفسه
لا يدرك أن الفلسفة والعلم كليهما ليستا إلا نقلًا عقليًّا
وواقعيًّا لبعض جوانب الدين، والتي يحاول اللاهوت تقديمها،
وإذا كان تأويل الظاهريات قد انتهى إلى تأويلها الديني مثل
كل الفلسفة الأوروبية، فإن هذا لا يأخذها لتبرير اللاهوت
القائم؛ فاللاهوت هو أكثر التجليات زيفًا للدين،
والميتافيزيقا هي أصح تحولاته. تستطيع الظاهريات أن تأخذ
الدين وتعرضه عرضًا شاملًا، ولكنها لا تستطيع تبرير
اللاهوت، وإذا كان الباعث الديني وراء المثالية الظاهراتية
فإن هذا لا يثبت اللاهوت في كثير أو في قليل،
٥ واللاهوت الذي تبرره الظاهريات هو لاهوت الشخص
المتجسد، المعرفة والإرادة. عرض اللاهوت عقدية التجسد
الرسمية، وهو ليس اللاهوت الوحيد، هناك أيضًا اللاهوت الذي
يؤكد الوحدة الإلهية وتنزيهها بالنسبة للعالم، والانتقادات
الموجهة إلى الظاهريات صحيحة، ولكنها لا تُستخدم لتبرير
نوع معين من اللاهوت، وإذا كانت الظاهريات مثالية فإنه
يمكن تصحيحها بالعودة إلى الأشياء ذاتها وإلى وجود العالم،
وقد حدث ذلك في ظاهريات الموضوع والأنطولوجيا الظاهراتية،
٦ دون أن يبرر ذلك معرفة متجسدة أو إرادة متجسدة
أو شخص متجسد.
٧
يستخدم اللاهوت الظاهريات عندما يكون في حاجة إليها ودون
أخذها أساسًا للتفكير أو مقياسًا للتصحيح، وتمتد اللعبة كي
تصبح تأويلًا منقوصًا للظاهريات؛ إذ يمكن نزع النص
الظاهرياتي من مجموع نصوصها من أجل إعطاء معنًى ملائم
لمقتضيات اللاهوت، وما فعله اللاهوت من قبل مع النص
الديني، التأويل لصالح العقائد، تم فعله من قبل مع
الظاهريات. تُستعمل الظاهريات عندما يكون اللاهوت في حاجة
إليها وعندما تثبت الظاهريات العقائد، وتُلفظ عندما تنفي
اللاهوت وعقائده. وتفقد مستواها الخاص من أجل استبعادها مع
الوجودية وأحيانًا أخرى «الفلسفات السابقة»، وكانت
التأويلات المختلفة المتضاربة أحيانًا للظاهريات فرصة
إضافية لاختيار أكثر التأويلات ملاءمةً للعبة التبرير، مرة
هذا التأويل، ومرة أخرى ذلك، دون اعتقاد داخلي بصحة هذا
التأويل أو ذاك، وتبني تأويلًا منهما، وأحيانًا يضع
اللاهوت التأويلات في معارضة بعضها البعض لبيان عدم
تجانسها لصالح اللاهوت العقائدي، وأحيلت الظاهريات
الترنسندنتالية فقط إلى تطورها المتأخر في الظاهريات
النقدية أو الظاهريات الأنطولوجية لأنها أكثر عرضة
للتجريح.
وفي ميدان العلاقات الإنسانية، حتى ولو كانت تنتمي إلى
اللاهوت، يمثل تطبيق المنهج الظاهرياتي خطورة أقل من ميدان
العقائد، العقائد مشكوك فيها، ويشهد بذلك النقد التاريخي،
والتحليل اللغوي، والتحقيق العملي، ولكن العلاقات
الاجتماعية يقينية على الأقل على مستوى الفهم؛ ومن ثَم لا
يوجد خطر في فهم الإحسان من خلال التجربة المشتركة من
الوقوع في التبرير، وحتى لو تم ذلك فإن الخطورة أقل؛ لأن
الإحسان تجربة إنسانية معروفة سلفًا.
٨ وعندما يتوقف الحوار بين اللاهوت والظاهريات
تُفتح جبهة المعركة بين اللاهوت والفلسفة الوجودية؛ إذ
يدخل الحدوث في بنية الواقع من خلال الهم كما تثبت الفلسفة
الوجودية، والحدوث ليس على الإطلاق دليلًا على خلق العالم
ولا دليلًا على وجود خالق كما يريد اللاهوت،
٩ الحدوث مناسبة الضرورة، هو الزمان الذي يخلقه
العمل للخلود، في حين أن العالم كواقع فيزيقي موضوع بين
قوسين، وينشأ في لحظة وعي الأنا بذاته، الوجود الإنساني
وجود في العالم، والخلق مقولة إنسانية خالصة تعلن عن الفعل
والعمل. ينشأ العالم في الشعور ويخلق نظامًا مثاليًّا
بالعمل، ولو أخذ الحدوث لصالح الخلق فإن العدم يصبح أيضًا
قرينًا للشخص ولله.
١٠ ليس العدم إلا عتبة الوجود، والله مثل العالم
موضوع بين قوسين، وفي الذروة يأتي الاعتقاد بالإيمان
الخارق للعادة؛
١١ وبالتالي تُترك الظاهريات كليةً بحيث يصبح
العيش مع اللاهوت أكثر سهولة، وقد تمَّت صياغة نسق لاهوتي
مرة أخرى دون أي اعتبار للظاهريات التي استُعملت من قبلُ
كسُلم للوصول، وتقود العقائد باسم التكوينات لظواهر
الشعور، في حين تختفي الظاهريات كلية. واستعملت كل هذه
التصورات الدينية مثل المسيح، الكنيسة، الخارق للعادة؛ من
جديد دون أي فحص سابق للمصطلحات ولا للمفاهيم ولا للأشياء
ذاتها، وذُكرت النصوص الدينية وكأنها أدلة في ذاتها،
وبدلًا من الاقتراب من العقائد، فُتح الباب على مِصراعَيه.
وكان للعقائد والتصوف والتاريخ ولكل ما هو قريب من الدين
أو بعيد يقينُه. وهكذا يتم الفصل بين مستويين؛ الأول مستوى
الظاهريات والثاني مستوى اللاهوت دون وضع ظاهريات حقيقية
للدين، وتُركت الإحالات الظاهراتية مكانها للإحالات
اللاهوتية، ونُسيت الأفكار الموجهة الرئيسية التي تم
إحصاؤها أولًا في الظاهريات، مثل: البداية الجذرية،
البداهة، الحدس، التحليل … إلخ. وفي عنوان المحاولة ألحقت
الظاهريات باللاهوت، وأصبح التجسد شيئية ونزعة طبيعية إن
لم يتم فهمه في الحلول، يعارض التجسد تعالي الأنا موجود،
وكانت صياغة منهج ظاهراتي قبل بداية اللعبة مجرد تستر
مقصود. ويتم الإعلان أولًا عن الظاهريات المستقلة عن
اللاهوت، ثم يظهر القصد الحقيقي اللاهوت بعيدًا عن
الظاهريات، وإذا تم نقد اللاهوت جزئيًّا فإن ذلك لا يساهم
في أي شيء، والنقد الجزئي أحد طرق الإثبات، اللاهوت إذَن
كله كنسق مغلق في حاجة إلى إعادة بناء كلي.
(٢) ظاهريات الإيمان
وقد تمَّت محاولة أخرى لإقامة ظاهريات للإيمان،
١٢ تنكر استقلال الظاهريات كمنهج قائم ومكتفٍ
بذاته في تطبيقه في ظاهرة الدين،
١٣ وهذا الترقيع هو نفيٌ كامل للظاهريات، وهي
منهج كامل للبحث والاستقصار، ويكتمل النقد الشائع الموجَّه
إلى الظاهريات باعتبارها مثالية على أنها مثالية أو
ظاهريات الفعل تكتمل بظاهريات الموضوع، وأعطى الفرصة لهذا
الترقيع المقترح، وتوجد الواقعية المطلوبة في آخر مرحلة
للظاهريات، وهدفها الأخير من تطورها،
١٤ وقد تمت من قبلُ العودة إلى العالم وراثة
لظاهريات الموضوع،
١٥ وقد أزاحت الميتافيزيقا القوسين كما حدث في
الظاهريات الوجودية، ويمنع اللاهوت البداية الجذرية، ويعطي
الفرصة للعبة تبرير العقائد الغائية.
(٣) ظاهريات الظاهرة الدينية
لقد حاولت ظاهريات الدين أولًا أن تُخرج من الظاهريات
النظرية منهجها الذي يمكن تطبيقه في الظاهرة الدينية،
١٦ فهل نجحت في ذلك؟ وتعتمد كل محاولات صياغة
منهج ظاهرياتي لتطبيقه في الظاهرة الدينية على طريقة تصور
فلسفة الدين، فإذا ما ادُّعي أن الظاهريات غير كافية كمنهج
مستقل وأنه يجب إكماله بالميتافيزيقا واللاهوت، تمَّت
صياغة المنهج الظاهرياتي بطريقة يظهر فيها عدم كفايته
خاصةً فيما يتعلق بالاشتباه في معنى الظاهرة، والتي يمكن
أن تنشأ فيه ظاهريات الفعل وظاهريات الموضوع.
١٧ ولما كانت الظاهريات النظرية ظاهريات فعل
تستطيع الميتافيزيقا واللاهوت تحويلها إلى ظاهريات
الموضوع، لم تكن صياغة منهج ظاهرياتي محاولة مستقلة، بل
كان الهدف إلحاقها بالدفاع عن الإيمان. كذلك لا يمكن
استعماله لتأسيس ظاهريات دينية؛ لأن ذلك لم يكن هدفها،
وظلت نظرية دون وضع أفكار موجهة في قواعد للتطبيق ولتكون
«قواعد في المنهج». صحيح أن الظاهريات علم يقيني،
١٨ وهي أيضًا المباشر.
١٩ وإذا كان لها قطبان، الأول نحو الذات والثاني
نحو الموضوع، فإنها لا تكون لذلك متشابهة،
٢٠ فلا يقضي «الرد» إلا على الموضوع المادي في
حين يتكون الموضوع الحي في القصدية.
٢١ صحيح أن الظاهريات الوجودية تمثل تقدمًا
بالنسبة للظاهريات الترنسندنتالية،
٢٢ وهو تقدم الظاهريات التطبيقية بالنسبة
للظاهريات النظرية، وفي نفس الوقت الظاهريات في تراجع
بالنسبة للظاهريات الترنسندنتالية، خاصة فيما يتعلق برفع
الأقواس وإصدار أحكام الوجود. صحيح أن الظاهريات فلسفة،
٢٣ ولكنها فلسفة كعلم محكم، ولا تستطيع
الميتافيزيقا ولا اللاهوت تحويلها إلى علم. الميتافيزيقا
ممكنة بفضل الظاهريات، ويختفي اللاهوت، على الأقل اللاهوت
الرسمي بموضوعه ومنهجه إذا ما استعمل المنهج الظاهرياتي،
لا يكفي إذَن ذِكر بعض موضوعات الظاهريات النظرية: الرد،
القصدية … إلخ؛ فهي مسائل أولية يتم تطبيقها في الجوانب
المختلفة للظاهرة الدينية.
ويقدم المنهج الظاهرياتي في تطبيقه في الظاهرة الدينية
الأساس أو القاعدة في حين تكون الظاهرة الدينية الفرع أو
الجانبي. المنهج الظاهرياتي هو مقياس التطبيق في حين أن
الظاهرة الدينية هي الموضوع المقاس، وتقوم الظاهريات
الدينية حتى الآن بالعكس؛ إذ تُعتبر الظاهرة الدينية التي
يقدمها اللاهوت كأساس والمنهج الظاهرياتي كما تقدمه
الظاهريات النظرية كموضوع يتكيف طبقًا للأساس السابق؛ ومن
ثَم فقد المنهج الظاهرياتي طابعه التقنيني كأساس ومقياس،
٢٤ ولم تعد هناك إمكانية لفلسفة الدين؛ أي تطبيق
المنهج الظاهرياتي في الظاهرة الدينية، وظلت لعبة تبرير
اللاهوت بالظاهريات كما تم تبريره من قبل بكل علم إنساني
اكتُشف حديثًا.
٢٥ ليس اللاهوت ظاهرة دينية؛ هو على العكس خليط
من تاريخ العقائد والأنساق الفلسفية المختلفة. والظاهرة
الدينية نتيجة الاتصال المباشر والوقتي للشعور مع النص
الديني؛ ومن ثَم فإن ظاهريات الدين هي «ظاهريات الإيمان»
الأول إضافة إلى الظاهريات، في حين أن الثاني تطبيق للمنهج
الظاهرياتي في الدين، وطريقة العطف تكشف عن اللعبة.
وفي ظاهريات الدين، هناك ملاحظات دقيقة على الظاهريات
وعلى الدين أو على طريقة التطبيق، واستُخدمت هذه الملاحظات
لصالح لعبة التبرير، مثلًا إن نقد الظاهريات
الترنسندنتالية كمثالية ملاحظةٌ صائبة، ولكنها لا تعطي
الحق لتحويلها إلى واقعية باللاهوت. صحيح أن الظاهريات
الترنسندنتالية ظاهريات فعل، ومع ذلك فإن تحويلها إلى
ظاهريات الموضوع لا يتحقق على الإطلاق بفضل اللاهوت. صحيح
أن الظاهريات في حاجة إلى وضع خاص ممكن بفضل تحولها، فإنها
تكتفي بترقيع ميتافيزيقي الذي يعني هنا اللاهوت،
٢٦ تستطيع الظاهريات وحدها أن تنتهي إلى ظاهريات
الدين، ولا تحتاج إلى ترقيع من علم آخر، ميتافيزيقي أو
لاهوتي، يخاطر بالقضاء عليها تمامًا، ولا يبقى إلا على
اسمها لصالح لعبة التبرير.
٢٧ ولديها كل الوسائل للانتهاء إلى فحص الظاهرة
الدينية ابتداءً من النص الديني، ليست الظاهريات عاجزة
تمامًا أمام الظاهرة الدينية،
٢٨ تسبق اللاهوت وتصححه بالعودة إلى أصله في
النص. ظاهريات الدين متضمَّنة في كل العمل الظاهرياتي، وقد
بيَّن تأويل الظاهريات الحدس الديني الضمني، وقد ساعدت
المثالية الترنسندنتالية في العمل المنشور، والباعث الذي
يدفع في العمل المخطوط أو حتى الحياة الخاصة لمؤسس
الظاهريات وتكوينها منذ الشباب، على فهم الظاهريات كتوجه
ديني عميق،
٢٩ تستطيع ظاهريات الدين أن تدرك دلالة الظاهرة
الدينية، والظاهريات أساسًا بحث في الدلالات، وتستطيع
أيضًا عند الحاجة أن تكون أنماطًا للمعطى الديني، مثل:
التاريخ، الحادثة، الشخص، الكلام … إلخ، دون أي نيل من
دلالة المعطى الديني من حيث هو كذلك، ولا تخضع أي ظاهريات
للدين لأي سيطرة، بل هي تصحيح للفهم. ونظرًا لأن اللاهوت
يدرك دائمًا خطورة ظاهريات الدين عليه فإنه يراه رقيبًا عليه.
٣٠ ليست ظاهريات الدين حالة خاصة من فلسفة الدين،
هي حالة حديثة تمثل تقدمًا بالنسبة لفلسفة الدين في العصور
الحديثة، وهي ليست أيضًا مقاربة فلسفية للظاهريات الدينية
تعطي للعقل بعض حقوقه، بل هي علم جذري ومستقل.
٣١ والعقل في الظاهريات لا يدل على ظاهرة الدين؛
لأنه يكوِّن قطبًا مع الواقع، ويتخلله الحدس. حياد وعي
الباحث يكمن في ظاهريات الدين، ويمكن الحصول عليه عن طريق
البداية الجذرية، والعودة إلى الأصلي، وقلب النظرة،
والتقويس، والتخلص من كل الافتراضات المسبَّقة. وكلها
آليات وإجراءات منهجية، لا يحتاج الباحث أن يأخذ «موقفًا
متحيزًا منذ البداية»،
٣٢ يكفيه النص الديني كقبلي معرفي في إدراكه
للعالم، ليست صورة الشعور على الإطلاق انتسابًا بالعقل فوق
الطبيعة إلى حقائق موحًى بها تكوِّن الموضوع القصدي، مضمون
الشعور، ليست صورة الشعور إلا التحليل النظري، ابتداءً من
المبادئ اللغوية، وليس مضمون الشعور إلا الخبرات الحية في
الحياة اليومية. وإذا ما اعتُبرت صورة الشعور أنها
الإيمان، ومضمون الشعور أنه اللاهوت القائم، فإن ذلك مجرد
تغيير في المصطلحات بصدق وصراحة.
٣٣ وهكذا ينظر إلى حقائق الوحي وكيف تفهم كحقائق
إنسانية، ودور النص الوحي في الإدراك، ونسبة وقائع مستقلة
عن الحقائق الإنسانية للحقائق الدينية وقوع في الشيئية
والمادية الخالصة.
(٤) ظاهريات اللاهوت المدرسي
وقد تأسست ظاهريات الدين إثر لقاء عرَضي،
٣٤ ولم تؤخَذ كرسالة هامة لتحقيقها، أخذ المنهج
الظاهرياتي في يد والظاهرة الدينية في اليد الأخرى، ولم
تتعدَّ مقارنة تاريخية بين مؤسس الظاهريات ولاهوتي مدرسي،
واعتبرت التجربة الدينية تجربة صوفية في حين أن التجربة
الصوفية نوع خاص من التجربة الدينية.
٣٥ وكانت الغاية النهائية من الدراسة المقارنة
كالعادة تبريرًا جديدًا للاهوت المدرسي، وتم تفضيل
الثنائية المدرسية بين العقل الطبيعي والعقل فوق الطبيعي
على التوحيد بين العقل والواقع في الظاهريات.
٣٦ وقد سمح الجانب النظري في ظاهريات الدين بدخول
الأنساق الفلسفية، تراجعت ظاهريات الدين التي تمثل تقدمًا
بالنسبة لفلسفة الدين بسبب سيطرة الأنساق الفلسفية عليها،
وهي ليست إلا تحولات لبعض جوانب الدين ذاته. ليس دور
ظاهريات الدين فقط إقامة بناء جديد لفلسفة الدين، بل
المساهمة الفعلية في حل الأزمة الراهنة للدراسات الدينية
وتاريخ الأديان وفلسفات الدين وظاهريات الأديان … إلخ. ولا
تكتفي ظاهريات الدين بالقيام بمشروع ظاهراتي يأخذ الظاهرة
الدينية كمضمون، بل دورها إصلاح العلوم الدينية القائمة عن
طريق المنهج الجديد الخصب السليم، وينتمي المشروع
الظاهرياتي أيضًا إلى فلسفة الدين؛ أي إلى الفلسفة
الظاهراتية النظرية التي لا تساعد على تقدم الحالة الراهنة
للعلوم الدينية إلا إذا رفعت سقف توقعاتها درجة، لا يتكامل
المنهج الظاهرياتي مع المسألة من أساسها، بل يأخذ النتائج
الحالية للعلوم الدينية مثل النقد التاريخي أو مناهج الفحص
أو المشاكل الخلقية ومحاولة تأويلها وتكييفها وإصلاحها،
وهو دور عملي تطبيقي وليس دورًا نظريًّا.
(٥) ظاهريات اللاهوت الوجودي
وإن تبرير اللاهوت بالظاهريات الترنسندنتالية أو
بالظاهريات الوجودية فن بذاته، ويتحول إلى مقال أدبي عندما
لا ينجح في لعبته، وقد حدث هذا في الوجودية اللاهوتية؛
٣٧ فالوجودية ليست الظاهريات، ومن الصعب اعتبار
اللاهوت ظاهريات الدين أو مساهمة فيها، هي مجرد تفكير صحفي
أدبي في موضوعات متفرقة، وبسبب غياب التحليل المنهجي
للمسائل المتناولة من الصعب رؤية قصدها ومنهجها ونتائجها،
يختلط التاريخ بالتأمل، والفلسفة باللاهوت على نحو أدبي،
وأحيانًا خطابي، ويُمر على المسائل مرور الكرام وبسرعة دون
أي وعي بأهميتها، أليست أزمة «النزعة الداخلية» هي إشكال
الوعي النظري ودوره في فهم النص المقدس ابتداءً من التحليل
اللغوي؟ أليست أزمة «الشهادة» هي إشكال الوعي التاريخي
ودوره في البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس بالنقد
التاريخي؟ وأين أزمة السلوك؟
٣٨ وفي مقابل الوجودية اللاهوتية يستنتج اللاهوت
الوجودي من التأويل الوجودي للنص المقدس؛ فالتثليث هو
الوجود في العالم، وتصبح الخطيئة البراءة الأصلية للشعور،
والفداء هو خلق الذات بالذات، والأخرويات هي الغائية في
الوجود الإنساني … إلخ. وبنفس الطريقة التي تمَّت بها
الوجودية اللاهوتية كُتب «لاهوت التاريخ»؛ فهو من ناحية
خليطٌ بين الفلسفة واللاهوت، ومن ناحية أخرى بين اللاهوت والتاريخ.
٣٩ لاهوت التاريخ هو في الحقيقة امتداد للوجودية
اللاهوتية. صحيح أن التاريخ هو بعد للوعي الفردي، ومع ذلك
ليس وجودية لاهوتية، بل هو نقد للنص المقدس، ليس نسقًا
لاهوتيًّا جديدًا، بل عودة إلى الأصول بالمناهج
النقدية.
(٦) ظاهريات المعرفة الدينية
وإذا كانت ظاهريات الدين جزئيًّا نتيجة لعبة تبرير
اللاهوت بالظاهريات كما هي عليه أو بعد نقدها كمثالية
وإكمالها باللاهوت، فإنها تؤخذ أحيانًا كمجدبة وعاجزة أمام
اللاهوت باسم نظرية المعرفة.
٤٠ أولًا تُحال الظاهريات إلى مصادرها المدرسية
ومن أجل إثبات اللاهوت-الأم كمصدر للمعرفة.
٤١ وقد تم عرض الظاهريات بحيث يتم تفريغها من
أصالتها ودلالتها الخاصة، وأحيل جزء منها، مثل القصدية
والدلالة والتجريد الصوري، إلى الفلسفة المدرسية، ونقد جزء
آخر، مثل «التقويس» والموضوع الحال والتكوين، كمثالية
ساذجة ومصطنَعة. صحيح أن الظاهريات تيار في تاريخ الفلسفة
الأوروبية التي ورثت العصر الوسيط، وصحيح أن كل مذهب في
الفلسفة الأوروبية يتضمن بعض المفاهيم المدرسية بعد
تحويلها إلى مستوى الشعور،
٤٢ ليست الظاهريات فقط تيارًا تاريخيًّا، بل هي
علم مستقل، يتجه نحو العلم الشامل.
٤٣ وليست مثالية ساذجة ومصطنَعة كما يصفها
اللاهوت المدرسي، اللاهوت هو المادية والشيئية والخارجية
الخالصة. صحيح أن السذاجة عود إلى الأصل، ولكن ذلك ليس
إنكارًا للطبيعة.
٤٤ صحيح أن الموضوع حال في الشعور،
٤٥ وكل إثبات غير ذلك ادعاء خالص. الموضوع دائمًا
حي في الشعور، والشعور الشامل وحده هو القادر على إثبات
وجود الموضوع المفارق، ومع ذلك، هذا الوعي الشامل هو أولًا
وعي، وهو ثانيًا افتراض من الذات، ويوجد في الخبرة المشتركة.
٤٦ والحقيقة باعتبارها تطابق عالم الأعيان مع
عالم الأذهان ليست مثالية بل عملية المعرفة ذاتها.
٤٧ ليس «التقويس» إذَن احتقارًا للعالم، بل على
العكس هو إثبات له كموضوع مثالي. وليس تكوين الموضوع
المثالي أيضًا إعادة بناء مصطنع للموضوع الخارجي، بل على
العكس طبيعة المعرفة ذاتها.
٤٨ ولحسم الأمر، من المفيد معرفة من هو الأكثر
طبيعية أو الأكثر اصطناعًا، الظاهريات أم اللاهوت؟
٤٩