ثالثًا: حدود ظاهريات الفعل١

(١) ظاهريات الفعل الديني

استطاعت ظاهريات الفعل الديني تجاوز فلسفة الدين؛ لأنها حاولت منذ البداية تحديد العلاقة بين الفلسفة والدين، وكانت ظاهريات الدين قد قطعت شوطًا كبيرًا بتطبيق ظاهريات الحدس العاطفي في ظاهرة الدين،٢ وظلت مرتبطةً أشد الارتباط بفلسفة الدين أكثر من ارتباطها بمنطق النص. هي ظاهريات الظاهرة الدينية في صورة الفعل أكثر منها ظاهريات نص الوحي، وللنظرية أولوية ظاهرة على المنهج، تسودها المشاكل والمنازعات التاريخية التي أعطت طابع الجدل وسط هذا الركام الهائل من الحجج والحجج المضادة. وهو أمر طبيعي؛ نظرًا لطابع المراجعة الحضارية العامة للتيار كله، مع الرغبة في إعطاء كشف حساب لكل تاريخ الوعي الأوروبي، ومع ذلك ظلت الظاهرة الدينية عصية على الرد؛ نظرًا لأنها تقوم على قوانينها الجوهرية الخاصة بها؛ ومن ثَم اختفت لعبة التحول والنقل إلى فلسفة الدين،٣ واعتُبرت مشكلة فلسفة الدين مشكلة للدراسة أولًا من أجل للتجاوز ثانيًا.٤ وفي فلسفة الدين، تتم مقاومة اتجاهين؛ فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح.٥ واستطاعت ظاهريات الدين بتحليل الفعل الديني اكتشاف فلسفة الوجود، وبذلك يكتمل قانون تطور الوعي الأوروبي من الطبيعة إلى الروح إلى الوجود، واستطاعت أن تتخلص من نقل الظاهرة الدينية من مشكلة فيزيقية تقريبًا أو من مشكلة أخلاقية. وفي التحديد المسبق للعلاقة بين الفلسفة والدين تمثل الميتافيزيقا الدين، ولم تقبل أنساق الهوية التامة التقليدية التي ترد الميتافيزيقا إلى الدين، أو الغنوصية التي ترد الدين إلى الميتافيزيقا، أو أنساق الهوية الجزئية التي يتضارب فيها الاثنان للإعلان عن نسق تطابق التاريخ.٦ وهذا الأخير ليس فقط إثباتًا تاريخيًّا ضد عيوب أنساق الهوية التامة أو الجزئية أو ضد الأنساق الثنائية، بل هو في طبيعة الوحي ذاته؛ فالوحي له بنية قبلية ثلاثية؛ الوحي والعقل والواقع. ويشير نسق التطابق إلى الهوية الواقعية بين الوحي؛ أي الدين، والعقل؛ أي الميتافيزيقا، باتجاهَيها المثالي والواقعي.
وتحلل ظاهريات الدين على نحو جذري الفعلَ الديني؛ فهي أقرب إلى ظاهريات العمل الخاصة بالبعد الثالث للشعور، وتمثل البعد الثاني وهو الشعور النظري. نظرية الحدس العاطفي أساس الظاهريات الحركية في حين يختفي البعد الثالث تمامًا، الشعور التاريخي، وكأن ظاهريات الدين ممكنة دون أن يسبقها نقد النص المقدس، ويظل وصف الفعل الديني مترددًا بين فعل المعرفة وفعل الوجود. وبعبارة أخرى، تميل ظاهريات الدين أساسًا نحو الشعور العملي، وتمر عن بعد بالشعور النظري، وتسقط تمامًا الشعور التاريخي، وكان يمكن لظاهريات الفعل الديني أن تصل مباشرة إلى البعد الثالث في الشعور الديني وهو الشعور العملي؛ فالفعل الإلهي والفعل الإنساني يمثلان قطبَي الفعل الوضعي والفعل القصدي؛ الأول الفعل من منظور الله، والثاني الفعل من منظور الإنسان. الفعل الوضعي فعل إلهي في حين أن الفعل القصدي فعل إنساني؛ فالإلهي ليس هو الشخص الإلهي بل فعله فحسب، الهوية الإلهية موضوع نظرية العدل الإلهي في مقابل اللاهوت الذي يعتبر الله موضوعًا للاهوت العقائدي، والتحديدات الصورية للإلهي إسقاطات من الروح الإنساني، والتحديدات المادية إسقاطات من الطبيعة الإنسانية، والوجود الإلهي إسقاط من الوجود الإنساني.٧ الفعل الإلهي هو الميدان الموضوعي للفعل الإنساني، يرى السبب والشرط والمانع والإرادة ومشروعية الفعل الإنساني. الفعل الديني إذَن هو الفعل الإنساني؛ أي الفعل القصدي، ينبثق من الشعور لينتشر في العالم، ويتجه نحو آفاق العالم في مستويات عدة؛ الفعل المحايد، والفعل الممكن الإيجابي، والفعل الممكن السلبي، والفعل الضروري الإيجابي، والفعل الضروري السلبي.٨ الفعل إذَن سلوك وممارسة وتوجُّه في العالم، وتحليل صفاته الحالة تحليل منطق الفعل وليس تحليل الفعل «البراكسيس»، وتعني مفارقته أنه يتوق باستمرار نحو الأفضل، لا يبرهن على وجود الله على الإطلاق؛ لأن الله مشروعه، البرهان على وجود الله هو تحقيق كلمة الله كنظام مثالي للعالم عن طريق الفعل. والفعل القصدي فعل فردي وجماعي، ليس فقط فعل «الأنا» بل أيضًا فعل الآخر،٩ ولا تتميز القصدية الدينية عن قصديات أخرى لأنها تحتويها جميعها؛ فهي الأكثر تكاملًا. صحيح أنه يجوز أن تكون لها صفاتها الخاصة دون إقصاء المنهج الظاهرياتي الذي هي ثمرته؛ فمثلًا تعارض الخصائص الثلاث للقصدية الدينية المنهج الظاهرياتي نفسه، بل وتنفيه نفيًا جذريًّا؛ أولًا توجه الظاهريات نحو مضمون مفارق للعالم نفي للموضوع الحال في الشعور، ونشأة العالم لحظة الوعي به. ثانيًا عدم مطابقة أي صفة خاصة في هذا العالم المضمون القصدي نفي لمضمون التجربة الحية، وهي المادة العيانية لمضمون النص المقدس. ثالثًا إمكانية تحقيق الفعل الديني فقط بالفعل الإلهي نفي لأولوية الفعل الإنساني في السلوك.١٠ وهكذا لا يبقى شيء في القصدية الدينية تكون أيضًا نتيجة تطبيق المنهج الظاهرياتي الذي تم إقصاؤه تمامًا.
وما زالت ظاهريات الدين مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعقائد، ولا تتناول فقط العقائد التاريخية كحقائق مطلقة، بل تنقلها إلى مستوى فلسفة روح العصر الحاضر مع إدخال بعض الحركية الإصلاحية فيها، ومع ذلك تظل العقائد التاريخية كما هي، موضوعات فعلية أو حقائق معطاة، دون البحث عن أسسها في النص الديني نفسه، وتبرير اللاهوت بالظاهريات أقل حدة عندما يتجاوز اللاهوت ويعود إلى الأصل؛ أي إلى الظاهرة الدينية، وبوجه خاص الفعل الديني.١١ والمراحل الأربع هي: الظاهريات الوصفية، ظاهريات الماهيات، الميتافيزيقا الدينية، والمعرفة بالإيمان. وهي خالية من أي لاهوت باستثناء ربما المرحلة الأخيرة التي يظل فيها الإيمان، على الأقل من حيث اللفظ، على المستوى اللاهوتي.١٢
وبالرغم من التقدم الكبير الذي تمثله بالنسبة لفلسفة الدين، تظل أيضًا تحت سيطرة المصطلحات اللاهوتية، خاصةً لفظ «الله» وصفة «إلهي»، وهو لفظ لا ينتمي إلى فلسفة الدين أو ظاهريات الدين.١٣

(٢) ظاهريات الوجدان

وظاهريات الدين التي تقوم على أساس عاطفي حركة إصلاح حضاري عام، ابتداءً من الظاهرة الأخلاقية الدينية دون أن تقتصر فقط على ظاهريات الدين. صحيح أن المعطى الديني نواة الحضارة التي توجد فيها، ويتجلى بطبيعته في العلم الإنساني في إطار حضاري؛ ومن ثَم تصبح ظاهريات الدين علمًا مستقلًّا للمعطى الديني نفسه قبل تجلياته الحضارية؛ فالظاهريات الماهوية والظاهرات العيانية يسيران جنبًا إلى جنب.١٤

وظاهريات الدين القائمة على الحدس الوجداني أقرب إلى التصوف منها إلى المنطق، تصف حضور الخالد في الزمان من خلال الفعل الديني، قد يكون الحدس الوجداني سبب الطابع الصوفي، ومع ذلك يستخدم الحدس الوجداني كذلك في الإدراك، الشعاع من صورة الشعور إلى مضمونه؛ أي من الذات إلى الموضوع، في مقابل الشعاع من مضمون الشعور إلى صورته، أي من الموضوع إلى الذات، ودون الانتهاء إلى تصوف صريح.

وقد حاولت ظاهريات الفعل الديني أن تضع أولًا منهجًا ظاهراتيًّا ملائمًا للظاهرة الدينية في الظاهريات القائمة على الحدس العاطفي.١٥ لا تكتفي بظاهريات الفعل، مثل الظاهريات الترنسندنتالية، بل تريد أيضًا ظاهريات الموضوع،١٦ وتتجاوز «حلول الشعور المثالي» لصالح توجه موضوعي وواقعي.١٧ ومع ذلك، لا تعني ظاهريات الدين ظاهرات عيانية للدين، بل معرفة جوهرية للدين من حيث هو كذلك ابتداءً من أولوية الموضوع على الفعل، ويظل الموضوع الديني هو الظاهرة كفعل، وهو عود إلى ظاهريات الفعل، وليس كموضوع هو معطى الوحي ذاته إلى النص؛ ومن ثَم فظاهريات التأويل وحدها أقدر على تأسيس ظاهريات الموضوع من ظاهريات الفعل بإعطائها الأولوية للموضوع على الفعل.١٨
ومصير ظاهريات الدين ليس أفضل من مصير الفلسفة الدينية،١٩ فإذا وُضعت ظاهريات الدين يدها على التحقق العملي، الإشكال الثالث في التأويل، فإنها تنسى تمامًا التحليل اللغوي والنقد التاريخي من أجل منطق متكامل للنص المقدس؛ وبالتالي من أجل منهجية للوحي، بل على العكس، في المهام الثلاث لهذه الظاهريات للدين المقترحة: الأنطولوجيا القبلية للإلهي، أشكال الوحي، والفعل الديني، استبعدت الصحة التاريخية لهذا النص أو ذاك من المهمة الثانية.
١  Ex. Phéno., pp. 565–71.
٢  هي ظاهريات الدين عند ماكس شيلر M. Scheler.
٣  فيما يتعلق بالمعنى العام ﻟ Von Ewigen (من الخالد)، انظر Duméry: La Philosophie de la Religion, pp. 24–6.
٤  لذلك أعطى ديبوي لظاهريات الدين عند ماكس شيلر عنوان «فلسفة الدين» ميتافيزيقا الدين ونسق التطابق، الجزء الأول؛ «ظاهريات الدين» الجزء الثاني.
٥  فلسفة الطبيعة عند توما الأكويني، وفلسفة الروح عند كانط Duméry: op. cit., pp. 26–36.
٦  Ibid., pp. 57–97.
٧  Ibid., pp. 105–81.
٨  انظر الرسالة الرئيسية: مناهج التأويل، الجزء الثالث، القسم الأول. سلوك Comportement، ممارسة Conduite.
٩  Ibid., pp. 182–216. يتجاور تحليل الدين والحضارة مشكلة الفعل الديني، ينتمي الفعل الديني إلى الفرد في حين ينتمي الدين والحضارة إلى الحضارة.
١٠  الصفات الثلاث للقصدية عند ماكس شيلر موجودة عند فان كور Vancourt: op. cit., p. 77. السلوك Agir.
١١  هذه هي ظاهريات الدين عند ماكس شيلر.
١٢  هذه هي المراحل الأربع لفلسفة الدين عند شيلر في مقدمة «في الخالد في الإنسان» عند فان كور Vancourt: op. cit., pp. 75.
١٣  بالرغم من أن ظاهريات الدين عند شيلر تمثل تقدمًا كبيرًا بالنسبة للمحاولات السابقة، فإنها تظل أيضًا تحت سيطرة المصطلحات اللاهوتية.
١٤  وقد سُميت هذه الصفة «ثنائية الخالد». انظر Dupuy: op. cit., pp. 7–17. الماهوية Essentiale، العياني Concret.
١٥  حاول هيرنج Hering نفس الشيء قبل صياغة ظاهريات المعرفة الدينية Hering: Phénoménologie et Philosophie Religieuse, étude sur la théorie de la connaissance religieuse, pp. 32–86.
١٦  وُجدت ظاهريات الموضوع أيضًا في ظاهريات الفعل الديني عند شيلر.
١٧  بالنسبة إلى الاشتباه الظاهرياتي، انظر Dupuy: op. cit., pp. 17–24.
١٨  Ibid., pp. 36–48.
١٩  ظاهريات الدين عند شيلر، وفلسفة الدين عند هيرنج Hering: op. cit., p. 89. أشكال Morphologie.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤