ثانيًا: الأزمة الحالية للتأويل١

يعيش التأويل في المرحلة الحالية أزمة طاحنة، وهي انقسامه بين النزعتين التاريخية و«الدوجماطيقية»، وتظهر النزعة التاريخية في التأويل في كل البحوث «الأركيولوجية» التي تريد أن تكوِّن كلًّا واحدًا. أصبح التأويل تاريخه خليطًا غامضًا من الحوادث والأشخاص.٢ والتأويل مستقل عن الحوادث التي تبعث على إثارة مشاكله وعن الأشخاص الذين يعرضونه.٣ للتأويل موضوعه المثالي وهو النص المقدس، أما النزعة التاريخية فإنها تلحق التأويل بالعقائد. النص الصحيح تاريخيًّا هو الذي يتفق مع العقيدة، ويصح معناه عندما يتفق أيضًا مع المعنى الذي تعطيه العقيدة له، ويتبع تحقيقه العملي الحاجات العملية لنشر العقائد. التأويل مجرد وسيلة، والعقيدة غاية. يهدف التأويل العقائدي لبناء الأنساق اللاهوتية، وهو ليس علمًا محكَمًا ومستقلًّا، له موضوعه المثالي، ولكنه في خدمة الأنساق القائمة، العقائد أو المؤسسات. وإذا كان التأويل اليوم منقسمًا بين التأويل التاريخي والتأويل العقائدي، فإنه أيضًا يتناثر ويتبعثر في التأويل الفلسفي أو الميتافيزيقي تحت اسم الهرمنيطيقيا. التأويل يجمع بين علم النفس والفلسفة والميتافيزقيا حول النص المقدس، وأخيرًا أنطولوجيا الوجود الإنساني. يفقد التأويل باعتباره هرمنيطيقيا طابعه المنطقي العملي، بمعنى المنهجية العملية، من أجل الوقوع في تأملات وأفكار فلسفية وميتافيزيقية. الهرمنيطيقا هي الإشكال الميتافيزيقي للتأويل، والتأويل هو الإشكال المنهجي العملي للهرمنيطيقا. وترجع هشاشة الهرمنيطيقا إلى إلحاقها بالأنساق الفلسفية الأخرى خارجها، واستمدادها منها طابعها كعلم مستقل قائم بذاته.٤
وترجع الأزمة الحالية في البحوث الدينية، والتأويل جزء منها، إلى عدم التطابق بين الميدان الأولى الذي اكتشفه القصد، والميدان الواقعي الذي اكتشفته البحوث؛ فمثلًا الدين الطبيعي ميدان اكتشفه القصد. الدين والطبيعة شيء واحد، والشيء الذي انتهى إليه، وهي الطبيعة الشيئية، تشبه نسبيًّا الطبيعة الفيزيقية أو التاريخ الطبيعي؛ ومن ثَم وُضع الوحي في مواجهة الطبيعة وكأنه خارج عنها؛ ومن ثَم أصبح الدين الطبيعي موضع النقد ورفض كدين يرفض الوحي. وعلى العكس، الوحي والطبيعة شيء واحد، ينبثق الوحي من داخل الطبيعة، والوحي فيض من الطبيعة، وميلها نحو الازدهار والتفتح والكمال، ويتضمن الدين الطبيعي كقصد خير وغياب الطائفية، خلطًا بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الفيزيقية. الدين طبيعي لأنه يُثبت كل مكونات الطبيعة الإنسانية ومتطلباتها دون إنكار أيٍّ منها. يكون طبيعيًّا عندما يلبي حاجة كل جانب في الوجود الإنساني؛ البدن، والنفس، والروح، والعقل، والذهن، والموقف، والعقبة … إلخ. ولا يكون طبيعيًّا عندما ينفي أو يعارض البدن؛ كي تسود النفس، أو عندما يقلل من شأن الروح حتى يسود البدن، ولا يكون طبيعيًّا أيضًا عندما ينفي العقل لصالح الوحي، أو ينفي الوحي لصالح العقل، ولا يكون طبيعيًّا عندما يثبت الموقف الواقعي للوجود الإنساني كوجود في العالم. وفي المقابل لا تُعرف الطبيعة الفيزيقية دون عملية مستمرة لتحويلها إلى طبيعة إنسانية؛ فهي معتمدة على الطبيعة الإنسانية، وليس لها بنية إلا مجازًا، ولا توجد إلا صورة. الطبيعة في الدين الطبيعي هي إذَن الطبيعة الإنسانية، وليست الطبيعة الفيزيقية أو الطبيعة فقط نظرًا لوضع الطبيعة الفيزيقية بين قوسين؛ ومن ثَم تحتوي البحوث الحالية في الدين الطبيعي على خطأين؛ الأول الفصل بين الطبيعة والوحي، والثاني الخلط بين الطبيعة الفيزيقية والطبيعة الإنسانية، كما يحتوي الدين الوضعي أيضًا على خلط بين معنيين متمايزين للفظ «وضعي»؛ هما «تاريخي» و«واقعي»؛ فالدين الطبيعي ليس بالضرورة دينًا تاريخيًّا؛ فالتاريخ بين قوسين، والدين له موضوعه المثالي المستقل عن الحوادث، والمؤسسات، والأشخاص. ولا يضيف التاريخ شيئًا إلى الدين؛ هو مجرد ميدان تجليات المعطى الديني في اللاهوت والفلسفة والتصوف والفقه؛ أي باختصار في الحضارة. ليس الدين الوضعي إذَن دينًا تاريخيًّا، بل هو دين له معطًى يتضمن الواقع داخل الوحي، ويتجلى الواقع في إثبات العالم؛ فالوجود الإنساني وجود في العالم، والوضع الفريد لكل فرد داخل القانون العام للجميع، ويتجلى الواقع في العمل، والعقبات، والمباحات، العيان في الدين الوضعي هو عيان الحياة.٥
١  Ex. Phéno., pp. 587–9.
٢  ونموذج خطأ النزعة التاريخية في التأويل هو «التأويل في العصر الوسيط» لهنري لوباك P. H. Lubac: Exégèse Médiévale.
٣  مشكلة «التاريخ والروح» Histoire et Esprit مستقلة عن أوريجن Origène . وفهم النص مستقل عن كلمنت السكندري. انظر C. Mondesert: Clément d’Aléxandrie, Introduction à l’étude de pensée religieuse à partir de l’Ecriture.
٤  مثلًا عند بول ريكير P. Ricoeur ألحقت الهرمنيطيقا بالأنثروبولوجيا البنيوية عند ليفي شتراوس Lévy-Strauss، P. Ricoeur: Herménutique, Tradition, Symbolique et Temporalité, pp. 5–14. وألحقت الهرمنيطيقا عند بولتمان R. Bultmann بالتحليل الوصفي للوجود عند هيدجر.
٥  العيان Le Concret.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤