الفصل الثاني عشر

في أنَّ العضو الرئيسي للنَّفْس هو القلْب

فنقول: إنَّ البدَن هو جِسم مُركَّب من الطباع الأربعة لكن الغالِب على مِزاجه الناريَّة والهوائية وذلك معلوم من زيادته بالحرارة ومن انحِلاله بالبرودة، ولكن البارئ تَعالى رَكَّب الأعضاء من الأجزاء الأرضية والسَّماوية١ وخلَق الأرواح من الهوائية والنارِيَّة ولأجل لَطَافة الأجزاء البُخارية وضعَها في وسط الأعضاء المذكورة، والقلْب هو الموجود بهذه الصِّفات وذلك ظاهر؛ ولذلك قال٢ أهلُ صِناعة التشريح: «إن القلْب أول الأعضاء وُجودًا وآخِرها عدَمًا.» ونِعمَ ما قالوه، فإذَن هو العضو الرئيسي.

إن البدَن يُوجَد ويَتولَّد من الحرارة وهي تقوى بالأوفَر [٢٠] إذا اجتمَعَت في مكانٍ واحِد، ومِن المعلوم أنَّ اجتِماعها في القلب، فإذن هو العضو الرئيسي.

إن النفس الحَيوانية حسَّاسة مُتحركة بالاختيار، ولكن هذه النفس ترتبِط بالرُّوح الذي في القلب؛ لأنَّها حسَّاسة مُتحرِّكة بالإرادة، فقد اتَّضَح أن القلب مَعدِن الإدراك والقوَّة المُتحرِّكة وليس الدِّماغ، كما زعم جالينوس.

إنَّ الحِسَّ والحركة يُوجَدان٣ بالحرارة ويَبطُلان بالبُرودة، والقلْب حارٌّ والدِّماغ بارِد، فإذن القلب معدِن الحسِّ والحركة وليس الدِّماغ.
إن الإنسان يُشير إلى ذاته بقوله: أنا، وتلك الإشارة إلى قلبه٤ فَعُلِمَ أن الإنسان الحقيقي هو الساكن في القلب.

إنَّ القلْب وَضْعُه في وسَط البدَن بحيث تتأدَّى القوى إلى سائر أقطار البدَن كالمَلِك الجالس في وسَط بلاده كي يمنَحَها الفوائد بالسَّويَّة، فإذن القلب [٢١] هو العضو الرئيسي وليس الدِّماغ.

إنَّ اللفظة البارِزة تدُلُّ على أنَّها مُقلَّدة من النفس الناطِقة، واللفظة هي من الصَّوت، والصوت يُوجَد بواسطة النفَس ومَخرَج النفَس يكمُل بالقلب لأن القلب يُجدِّد الراحة من الحرارة بإِبدال النفَس ولذلك يُدفَع حارًّا ويُجذَب باردًا، ولمَّا كمُل الصوت بالقلب واللفظة بالصوت وكانت النفس الناطقة يظهر وجودها بالوافِر٥ من اللفظة البارزة عُلِمَ أنَّ آلة النفس الناطقة هي القلب دُون الدِّماغ.
شواهِد الكُتُب المُقدَّسة على هذه القضية: «وغلَّظ الرَّبُّ قلب فرعون.»٦ وقال داود: «لماذا أغضَب الخاطئ اللهَ تعالى ونطَق قلبه أنه لا ينتقِم.»٧ وقال: «الرجل مع قريبه بقَلْبَين مُنقلِبَين.»٨ [٢٢] و«يقول الأثيم في قلبِه أنَّ ليس إله.»٩ و«ينطق الحق في قلبه.»١٠ و«أوامر الربِّ تُبهِج القلب.»١١ و«إنك منحتَهُ مُراد قلبه.»١٢ و«يحيى قلبه إلى الأبد.»١٣ و«رجَع قلبي وتركتْني قوَّتي.»١٤ و«قلبي هذيذي١٥ ينطِق العلم.»١٦ وقال الإنجيل الطاهِر: «يا ثقيلَي١٧ القلوب.»١٨ و«طوبى للنقِيَّة قلوبهم.»١٩ وقال بولس: «أظلَمَ٢٠ قلبُهم.»٢١ و«لأجل قساوة قلبِكم٢٢ الذي لم يَتُب.»٢٣ وقال غريغوريوس: «إن الإنسان الخَفيَّ هو في القلب.» وقال أوغريس: «العقل في القلب والتَّمييز في الدِّماغ.»
١  في الأصل: والسمائية.
٢  في الأصل: قالوا.
٣  في الأصل: يُوجَد.
٤  سقَط في الأصل: قلبه.
٥  قل «خصوصًا» بدلًا من «بالوافِر».
٦  سفر الخروج ١٤: ٨.
٧  سفر المزامير١٠: ١٣.
٨  سفر المزامير ١١: ٣.
٩  مز ١٣: ١.
١٠  مز ١٤: ٢.
١١  مز ١٨: ٩.
١٢  مز٢٠: ٣.
١٣  مز ٢١: ٢٧.
١٤  مز ٣٧: ١١.
١٥  إن كلمة «هذيذ» عامية.
١٦  مز ٤٨: ٤.
١٧  لو قال «يا ثَقيلَي القلب» لكان أولى.
١٨  إنجيل لوقا ٢٤: ٢٥.
١٩  إنجيل متَّى ٥: ٨.
٢٠  لو قال «أظلَمَت قُلوبهم» لكان أفصَح.
٢١  رسالة القدِّيس بولس إلى أهل رومية ١: ٢١.
٢٢  لو قال «لأجل قَساوة قلوبكم التي …» لكان أفصح.
٢٣  رسالة القدِّيس بولس إلى أهل رومية ٢: ٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤