الفصل الثالث عشر

في بَيان مَراتِب النفس وفي إدراك العلوم والمَعارف غير التي قِيلَت آنِفًا

وهي أربَع: الأولى تُسمَّى العقل الهيوليُّ كنفس الأطفال الخالِية [٢٣] من جميع العلوم والمعارِف ولكنها مُستعِدَّة لقَبُولها بالقوَّة والإمكان.

الثانية: العقل بالملَكة، أعني الطبيعي دُون الاكتِسابي من الغَير، وهو يُوجَد١ في جميع الناس مِثل أنَّ الكُلَّ أعظمُ من جُزئه وأمثال ذلك، وبواسطة هذا العقل تحصُل جميع العلوم والمعارف، والناس مُختلِفون٢ في هذا العقل: فمنهم من يُحصِّل معارِف٣ كثيرة وآخرون قليلة، ومنهم من يتسنَّى٤ لهم معرفة العلوم بواسطة هذا العقل، وآخرون يَعسُر عليهم ذلك، فإنَّ بعض الناس إذا فكَّر أنَّ القابل الفساد يجِب أن يكون هيولانيًّا وفكَّر مع ذلك أنَّ النفس ليست هيولانيَّة عرَف سريعًا أن النفس لا٥ تموت، وآخر ليست مَعرفته بهذه السرعة بل بعد حين، ولكن هذه المعرفة تنتهي في حدِّ النُّقصان إلى من لا إِدراك له البتَّة، وتنتهي أيضًا في طرَفِ الزيادة إلى من يعرِف ويُدرِك كلَّ شيءٍ بلا ضِدٍّ يُضادُّه ولا مانع يَردُّه٦ وذلك مثل الأنبياء والفلاسفة الأوَّلِين.

[٢٤] الرُّتبة الثالثة هي التي تُدْعى عقلًا بالفعل وهو الذي يُدْعى عند حُصول جميع المعلومات التصديقية لكنَّها لا تكون حاضِرة في ذِهنه دائمًا بل متى شاء إِحضارَها أحضَرَها بلا كدٍّ.

الرُّتبة الرابعة هي المَدْعُوَّة العقل المُستَفاد وهو عند كون جميع المعلومات بأسرِها٧ حاضِرة في ذِهنه لا تَغيب عنه البتَّة، وإذا بلَغَت النفس هذه الدَّرَجة فقد بلَغَت الغاية القُصوى وهي أرفَع مَراتِب الإنسان.
وأنزَل مَراتِب العقل هو الفاعل بتَصيِير٨ الحسِّ الخارِج لا يُدرِك المَحسوس إِلَّا مع المادة المُكشِّفَة له مِثل العَين والأذن وغيرهما. أما الحسُّ الباطن فيَقدِر على إدراك المَحسوس بعد غَيبتِه ولكن مع المادة المُكشِّفة له، وذلك مثل الحِسِّ المُشترَك والخَيال وغيرهما. وأما العقل فإنه يُدرِك الأمور عارِيةً عن الهيولى ويَجعَل الهيولانيَّة غير هيولانيَّة بتَجْريدِها عن مُشَخِّصاتها، مثل سقراط وأفلاطون اللذين يُجرِّدُهما ويُدرِكهما في صورة الإنسانية [٢٥] مُجرَّدةً عن المادة، وإذا كان فِعله في ذوات المواد هذا الفعل فكَم بالحَريِّ المُجرَّدات بالذات إذا لم تُعْمِ الأمور الهيولانية بصيرَته! يعني أنه يُدرِك النفوس والعقول المُجرَّدة، حتى البارئ تَعالى لأنه تعالى يَتراءَى لأُولي٩ العقول الصَّافِية. وهذه المَعلومات المَذكورة إِمَّا أن تُدرَك بالرياضة والجِهاد وتطهير الخَواطر وتَنقِية الأذهان مِثل الأنبياء والحَوارِيِّين والوُحَداء١٠ الكامِلين والزُّهَّاد والمُتعبِّدين، أو بتركيب المُقدِّمات والقِياسات والبراهين، وإلى هذه أشار أوغريس حيث قال: «إنَّ نظَر العقول كما يَنبغي إِما من العقل الطاهر أو من عِلم الحُكَماء المُحقِّقين.»
١  يجِب حذْف «يُوجَد».
٢  يريد «مُتفاوِتون».
٣  في الأصل: معارِفًا.
٤  في الأصل: يتسنَّن.
٥  سقَط في الأصل: لا.
٦  في الأصل: يراده.
٧  لا ضرورة مع كلمة «جميع» إلى وَضْع كلمة «بأسرِها».
٨  يريد «بتحريك».
٩  في الأصل: لأولياء.
١٠  أي «المُتوحِّدين».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤