الفصل السادس عشر

في البراهين التي نَطَقَت بها الحُكماء في إضافة النفس الناطِقة إلى البدَن وأجزائه، وهي خمسة١ أشْباه

[٣١] الشَّبَه الأول؛ قالوا: إنَّ مثَل النَّفس مَثَل٢ المَلِك، والجَسد ولاية مَملكتِه؛ ولهذا٣ المَلك كُتَّاب وأجْناد وحُكَّام وهم الحواسُّ الظاهِرة والباطنة، ومِثلَما يَنجو الملك ويتنعَّم بواسطة المَذكورين، كذلك النَّفس تَستفيد بواسطة الحواسِّ مَعرفةَ الحقِّ لتهتديَ به إلى معرفة الخير؛ فإن الحواسَّ إذا أدرَكت المَحسوس بادَر العقل إلى الفصل٤ والتَّمييز، وعند ذلك تَصير الجُزئيَّات أمورًا٥ كليةً عارِيةً عن المواد راسِخةً في ذات النفس مُكتسَبةً لها، ومِثلَما أنَّ الملِك إذا أحسنَ سياسة الرَّعِية لئلَّا يُدرِكها الفاقَةُ والضَّعف فتعجِز عن أداء حقوقه والإقامة بواجِبه، كذلك النفس مع سياسة بدَنها تحصُل بواسطته على [٣٢] اقتِناء الحِكمتَين، أعني النظرية والعَمَلية، وإلى هذه الحال أشار بقوله السعيد بولس إلى تلميذه حتى يُحسِن٦ سياسة جسَدِه.٧ ومِثلَما أنَّ المَلِك لا يُمكِّن الولاة والحُكَّام من الغِنى والخَيل والسلاح لئلَّا يَعصُوا أمره ويُحاوِلوا إهلاكَه، كذلك يَجِب على النَّفس أنْ لا تُمكِّن القوى البدَنية من الإفراط بحيث لا تَقهرها، بل الواجِب عليها الاعتِناء والاهتمام لتَستَعْلِيَ على الجوارح البدَنية.
الشَّبَه الثاني؛ قالوا: النفس كالمَلِك والعقل وزيره الذي يُحاول فوائده، والقوَّة الشهوانية مُعِدُّ طعامه والغَضَبية خازِن داره، فقد يقَع٨ أنَّ طبَّاخه يُعِدُّ من الأطعمة ما هو شَهيُّ الأكل ويضَع فيه٩ سُمًّا قاتلًا، وكذلك الخازِن أحيانًا ما يَنهَر الأصحاب والأحباب من مواجهة مَولاه ويُقدِّم الأعداء والمُبغِضين والمُبَكِّتين الذين يتطرَّق [٣٣] إلى الملك بِمداوَلَتهم غايةُ الضَّرَر والهَلَاك، وقَد يَتَّفق أن يَتساوى١٠ الوزير والطبَّاخ على إِتعاب الملِك، والخازِن لا يوافِقهما؛ ولذلك يجِب على الملك أعني النفس أن تَستيقِظ لسياسة ذاتِها وتفحَص عن١١ أحوال جَوارِح بدَنها وتَمنعها عن إتمام١٢ أفعالها البدنية.
الشَّبَه الثالث؛ قالوا: النفس مَلِك والبدَن بلدتُه والحواسُّ جنوده والأعضاء رعِيَّته والقوة الشهوانية والغَضَبية أعداؤه المُشاجِرون له على أخذ مُلكه منه، فإن استيقظ فقاتَلَهم وقهَرَهم وأضعَفَهم سَلِمَ مُلكه عليه وتمكَّن من حُكمه فيه، وإِن لم يفعل ذلك صاروا عليه مُتواطئين ولبلاده آخِذين ولرِعاياه مُحرِقِين١٣ وله قاتِلين.
الشَّبَه الرابع؛ قالوا: تُشبِه النفس فارسًا برَز إلى الصيد والشَّهوة جواده والغضب كلبُه، فإن كان ماهرًا في صناعة الصيد وجواده مُرتاضًا وكَلبُه مُعلَّمًا١٤ تسنَّى له الاصطياد [٣٤] وفقَ المراد، وإِن كان الأمر بالعكس مما ذكرناه، أعني الفارس عادِم الصناعة١٥ والفرَس بعيدًا من الرياضة والطاعة والكلب غير مُعلَّم ولا قناعة عنده،١٦ خاب مَطلبُه ومَسعاه.
الشَّبَه الخامس؛ قالوا: إنَّ نظَر العقل يُشبِه نظَر الحسِّ بفنونٍ أربعة: الفنُّ الأول: كما أنَّ العَين تعجِز عن إِدراك المحسوس الزائد الإشراق مثل الشمس، كذلك العقل بالنسبة إلى العظائم كالبارئ تعالى. الفن الثاني: مِثلما أنَّ العين تعجِز عن إدراك المُلامَس، هكذا العقل يعجِز عن إدراك القريب إليه كالعقول والنفوس. الفن الثالث: مِثلَما أنَّ العين إذا لم تُحرِّك حدَقَتها حركةً عنيفة إلى نَحو المحسوس وتجمع ذاتها لن تستطيع إدراك ما١٧ بَعُد عنها، كذلك العقل إِن لم يُزعِج حركته ويجمَع ذاته من التبدُّد١٨ من الحواسِّ لم يتمكن من الإدراك. [٣٥] الفن الرابع: مِثلما أنَّ العين لا تستطيع الإبصار إلَّا١٩ بواسطة ضوء الهواء، كذلك العقل لا يَقدِر على الإدراك إلَّا بإشراق الرُّوحانيين عليه، ومِثلَما أنَّ الشمس هي النيِّر الأعظم ثم القمر دُونه ومنه يُقبل النور ثم بعدَه٢٠ النور، كذلك البارئ تعالى نور الأنوار كلها، ومنه تَقبَل العقول المجردة أنوارها، ومنه يُشرق النور إلى نفوس البشر المُنسلِخة من أجسادها.
١  في الأصل: خمس.
٢  سقَط في الأصل: مَثَل.
٣  في الأصل: وهذا.
٤  في الأصل: الفضل.
٥  في الأصل: أمور.
٦  في الأصل: بحيث يُحسن.
٧  رسالة القديس بولس الأولى إلى تيموثاوس ٣ و٥: ٢٣.
٨  في الأصل: ينفع.
٩  في الأصل: فيها.
١٠  يريد «يَتواطأ».
١١  سقط في الأصل: عن.
١٢  في الأصل: تمام.
١٣  في الأصل: وإلى بلاده آخِذين وإلى رعاياه مُحرِقين.
١٤  في الأصل: مُرتاض وكلبُه مُعلَّم.
١٥  في الأصل: عديم الصناعة.
١٦  في الأصل: ولا عنده قناعة.
١٧  سقط في الأصل: ما.
١٨  يعني «التشتت».
١٩  سقط في الأصل: إلَّا.
٢٠  في الأصل: ثم وبعده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤