الفصل الحادي والعشرون

في أنَّ النفس لا تموت بمَوت البدَن

ولنقدِّم على هذا البحث مُقدِّمة تَليق بذِكره فنقول: اعلَم أنَّ تَحقُّق هذا المكان أحرى بنا من باقي الأبحاث؛ لأنه يُسدِّد أقوال الأنبياء والعُلماء والأولياء والأبرار وأرباب الرياضات والرباطات والخلوات والأصوام والصلوات المُتواترات، وبالأوفَر١ تجَسُّد مولانا الربِّ يسوع المسيح؛ لأن الزاهدين في هذه الحياة الدَّنِيَّة قليلون والراغِبين فيها.
كثيرون والعالمين قليلون والجاهلين كثيرون، [٤٤] ولو لم يكن هناك مقام آخر عزيز غير ما نحن الآن عليه لَمَا٢ اشتاقت النفوس الفاضلة إليه؛ ولهذا يجِب علينا الإِمعان في إِقامة البُرهان على هذا البيان:
إِن صدق٣ عليها الفساد فإمَّا أن يكون ذلك لوجود المُفسِد أو لعدَم عِلَّتها، والأول باطِل لأن المُفسِد لو كان موجودًا مع وجود النفس لأبادَها من حين وجودها، وإِن لم يكن موجودًا ثم وُجِد فلا يَخلو أن يكون هذا إِما جسمًا أو عرَضًا،٤ وكيف يُمكن أن يُفسِد الجِسمُ المَهين أو العرَض الذي ليس له استقلال بذاته؟ وإِن كان المُفسِد ليس بجسم فيجِب أن يكون مُساويًا في الطباع للنفس؛ ولذلك لا يُمكنه إِفسادها.٥ والثاني مُحال لأن عِلَّتها الفاعِلة لها هي البارئ تعالى، وهو أزليٌّ أبديٌّ لا يُتصوَّر٦ عليه الاستحالة والغِيار.
نقول: قد بيَّنَّا أن النفس ليست جِسمًا ولا عرَضًا،٧ وكل ما كان بهذه الصفات لا يكون قريبًا إلى الأجسام ولا بعيدًا عنها ولا داخلها ولا خارجها، [٤٥] وتَحقَّقَ أيضًا أنَّ البدَن آلةُ النفس وليس يجِب من فساد الآلة فساد صانعها، فعُلِمَ من ذلك أن النفس لا يتطرَّق إلى جَوهرها الفساد بفساد آلتِها.

إن النفس حيٌّ ناطق عالِم قادِر على سياسة البدَن، ولو كان لهذا هذه الصفات لكان سبب الحياة لها، وذلك باطِل مُحال.

لو كانت النفس تموت بمَوت البدَن لوَجَب أَن تضعُف بضَعفِه، وليس، فليس. وذلك معلوم من أَوجهٍ أربعة: الأول أنَّ الرياضة تُضعِف البدَن٨ وتقوِّي النفس. الثاني البُعد عن المآكل والمشارب والتنعُّم يُظِلم٩ البدَن ويُنير النفس. الثالث أنَّ حواسَّ البدَن تتعطَّل في النَّوم وتبطُل أفعالها، والنفس١٠ تَستيقِظ وتُدرِك الأمور الغامِضة في المَنام والرؤيا والكشف وغيرها. الرابع: بعد الأربعين يأخُذ البدَن في طرف النُّقصان والنفس في طرَف الزيادة. وإذا كانت النفس تقوى [٤٦] بضَعف البدَن على ما هو ظاهر البَيان فيلزَم بقاؤها١١ بعد مَوته.
إنَّ الموت ليس هو فَساد أجزاء البدَن لأنها باقِية فيه بعد موته، لكن الموت هو انطِفاء الحرارة الغريزية وهي عرَض يحصُل للبَدَن عند اعتِدال المِزاج الحاصل له، ومن المعلوم أن العرَض أضعفُ من الجسم الذي به قِوامه، ومن المعلوم أنَّ الجِسم أضعفُ من النفس. وبُرهانه بأدلَّةٍ أربعة: الدليل الأول أنَّ البدن يفتقِر في وجوده إلى مَحلٍّ١٢ يحلُّ فيه والنفس ليست كذلك. الدليل الثاني أنَّ البدَن مُركَّب فيفتقِر إلى أجزائه والنفس ليسَت بهذه الصفة. الدليل الثالث انفِعال البدَن من النفس أكثر من العكس. الدليل الرابع أن البدَن بعد الموت تُوجَد فيه فنونه الجسمانية والعرَضية ولا تقدِر على حِفظه بغَير فسادٍ والنفس١٣ وحدَها قادِرة على ذلك. ولمَّا كان العرَض أضعفُ من الجسم والجسمُ أضعفُ من النفس والموت يحصُل ببُطلان العرَض [٤٧] دون الجِسم الذي هو أضعف من النفس، فكيف يَتصوَّر العقل١٤ أنَّ النفس تموت بمَوت البدَن؟ فهذا لا يقوله عاقل، فهي إذن باقِية بعد موت البدَن وهو المطلوب.
إن النفس لا تمرَض١٥ بمرَض البدَن، وكذلك لا تموت بموته، فأمَّا أنَّها لا تمرَض بمرضه فذلك١٦ معلوم من البُحران الذي يُوجَد بين الطبيعة والمرَض على ما هو مُقرَّر في صناعة الطب. وهذه الطبيعة إِما أن تكون مِزاج البدَن أو النفس الناطقة، والأول مُحال لأن المريض الضعيف الواهي القوَّة كيف يقدِر على قِتال المرَض؟ فإذن صدَق القول بأن النفس هي١٧ التي تقاتل المرَض وليست بمريضة، ومن المعلوم أنها لو كانت مريضة لمَا استطاعت القتال. وإذا كانت النفس هي المُقاتلة لشدَّة المرض فلا يصدُق عليها المرض؛ ولذلك امتنع في حقِّها الموت.
إننا نقول: لو لم تكن النفس باقية بعد مَوت البدَن لوجَب أن يكون الإنسان أحقَر في لذَّته وحياته من باقي الحيوانات؛ لأنه قد انفصل عنها بالعقل فقط. وهذا العقل إِما أن تكون أفكاره فيما مضى، أو [٤٨] فيما هو حاضر، أو فيما يُستقبَل، وما قد مضى إِن كان شرًّا امتلأ ندمًا١٨ وإِن كان خيرًا اكتأبَ على عدَمِه، وكذلك الأمر في الحاضر إِن كان شرًّا اكتأبَ من مُعاناته١٩ وإِن كان خيرًّا أدرَكه الوَجَع من فِراقه لأنه يرجو ما هو أعظم مما هو فيه، وكذلك يتدارَكه الفِكر فيما يُستقبَل خَوفًا من مُصادَفةٍ ضِدَّ ما يرُوم الوصول إليه. ولمَّا عدِمَت باقي الحيوانات هذا العقل المذكور تجرَّدَت من دَواعيه التي ذُكرَت في حقِّ الإنسان، وبهذه الدلائل نعلَم أنه لو لم يكن للإنسان سياسة أخرى غير هذه مُختصَّة بنفسه بعد موت البدَن لوَجَب أن يكون أخسَّ وأحقر من باقي الحيوانات الصامِتة وذلك مُحال. ولمَّا كان أعظمَ منها وأكرَمَ لزِمَ بَقاءُ نفسه بعد موت بدَنه.
إنَّا نقول: وجود الإنسان بعدَ عدَمِه إِمَّا أن يكون لفائدةٍ تعود عليه، أو لضَرَر يتطرَّق إليه، أو لسَلْب الطرفين، والقسم [٤٩] الثاني مُحال لأن البارئ تعالى عامُّ الفَيض والإنعام، فكيف يُتصوَّر أنه يخلُق صُورًا ليَعتريها الضَّرَر بقصدِه الأول؟ وهذا لا يقوله عاقل، والقِسم الثالث مُحال لأنه تعالى لا يُوجِد شيئًا٢٠ إِلَّا لفائدة ولا يخلُق أمرًا باطلًا، فإذن صدَق القسم الأول. ولمَّا لم يكن للإنسان في هذا العالم سعادة حقيقية دائمة غير مَشوبة بالكُدورات تعيَّن٢١ الحقُّ وهو الخلود في العالم الروحاني والدَّوام الغير الفاني.٢٢
إن جميع عقول البشر تَشهد أنه بقَدْر ما يتمكَّن الإنسان من اقتِناء الفضائل ورفْض الرذائل تكمُل نفسه وتَستعلي، ومتى كان الأمر بالعكس تَنحطُّ إلى أسفل السافِلين، وهم يَستخسُّون القِسم الثاني، ويُعظِّمون القسم الأول ويُحاولون المُساعدة والإعانة بأدعيته ويَرُومون التعبُّد له والدخول تحت طاعته والعمل بمَرْضاته وإرادته. ولو لم يكن للإنسان مقام آخر غير٢٣ هذا الواقع تحت الحِسِّ في ذلك العالم العُلويِّ النوري بعد فِراقه هذا الجسد٢٤ المحسوس، لمَا شهدَت له [٥٠] كافة عقول البشر بهذه الرُّتبة العُليا والمنزِلة المدنوِّ منها زُلَفًا للغاية القصوى في الملأ الأعلى. وهذه القضية مُتَّفِق على تصديقها وتحقيقها سائر عقول الناطقين، الجاهلين والعالمين. فإذن النفس لا تموت بمَوت البدَن وهو المطلوب.
وأمَّا شواهد الكُتب المقدَّسة على تحقيق ما قُلناه فقوله تعالى لموسى: «أنا إله إبراهيم وإسحق ويعقوب.»٢٥ ومن المعلوم أنَّ أبدان المَذكورين لم تكن موجودة في ذلك الوقت المذكورة فيه هذه الألفاظ، ولو كانت الأنفس مَعدومة في ذلك الوقت لمَا أشار سبحانه إلى العدَم؛ لأن المعدوم لا يُنسَب إلى الموجود الكلي الوجود. وقول الإنجيل المقدَّس: «لا تخافوا من قاتلي الجَسَد فإنهم ليسوا للنفس من القاتلين.»٢٦ فلو كانت النفس مائِتة لصدَق عليها القتل. وقول مولانا للِّصِّ: «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.»٢٧ ومِن المعلوم أنَّ ذلك الشخص قد كانت نفسه مُقاربة أن تخرُج من بدَنه، فكيف يُتصوَّر كونه في الفردوس مع عدَم بدَنه لولا أنَّ الإشارة قد كانت من مولانا إلى نفسه فقط؟ وقول بولس: [٥١] «نحن عارفون أنَّ هذا المَسكن الأرضيَّ يَنحلُّ ويزول لكنَّ لنا مَسكنًا من البارئ تعالى لم تصنعه الأيدي.»٢٨
١  قُل «خصوصًا» بدلًا من «بالأوفر».
٢  سقط في الأصل: لما.
٣  في الأصل: لو صدق.
٤  في الأصل: إما جسم أو عرض.
٥  في الأصل: فَسادها.
٦  في الأصل: لا يصدر.
٧  في الفصل الثالث.
٨  سقط في الأصل: البدَن.
٩  قُل «يجعل البدَن مظلمًا».
١٠  سقَط في الأصل: والنفس.
١١  في الأصل: بقاءه.
١٢  سقط في الأصل: محل.
١٣  سقط في الأصل: والنفس.
١٤  في الأصل: من العقل.
١٥  سقط في الأصل: تمرض.
١٦  في الأصل: كذلك.
١٧  سقط في الأصل: هي.
١٨  في الأصل: ندِم.
١٩  في الأصل: معناه.
٢٠  في الأصل: شيء.
٢١  في الأصل: فتعيَّن.
٢٢  في الأصل: الغير فاني.
٢٣  سقط في الأصل: غير.
٢٤  في الأصل: من هذا الجسد.
٢٥  سفر الخروج: ٣: ٦.
٢٦  إنجيل متى ١٠: ٢٨.
٢٧  إنجيل لوقا ٢٣: ٤٣.
٢٨  رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنتس ٥: ١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤