الفصل الثاني والعشرون

في بَيان أنَّ النفس عالِمة بعدَ فِراق البدَن، وفيه أوجهٌ أربعة

  • الأول: قد تقرَّر فيما تقدَّم أنَّ النفس جَوهر غير جِسماني سائس البدَن،١ ثم لا تَخلو إِمَّا أن تُدرك البدَن بواسطة البدَن أو بِغَير واسطة، والأول باطِل لأنَّ البدَن لو أمكنَه٢ إدراك نقائصه لمَا افتَقَر إلى النفس وتدبيرها، فتعيَّن القِسم الثاني وهو أنها لا تُدرِك الأمور بواسطة البدَن، وإذا كانت بهذه الصفة وهي مُرتبِطة بالبدَن فبالحَريِّ أن تَستمرَّ على هذه الحال بعد فِراقه.
  • الوجه الثاني: أنَّها تُدرِك أفاعيل الحواسِّ بإبصار العَين وسَماع الأذن وغير ذلك، فلو عرَفت إدراك العين بواسطة العين لوَجَب أن تُدرك [٥٢] هذه العين المذكورة بواسطة عينٍ أخرى، وكذلك إلى ما لا نِهاية له وهو مُحال، فتعيَّن الحقُّ وهو أنها لا٣ تُدرك شيئًا بواسطة البدَن، وكذلك إذا عُدِم البدَن تُدرك ما يَليق إدراكه.
  • الوجه الثالث: أنَّنا إذا قُلنا: زَيد إنسان عندما نُشاهِد جسده، فأمَّا كُليَّة الإنسان فليسَت بجسد زيد ولكن نُشاهدها٤ بالعقل، وإذا أدرك العقل الأمر الكُليَّ وَعرَفه فإنه يعلَم بالضرورة الجزئي الذي تحته، ولو شاهد ذلك الجُزئي بواسطة البدَن لوجَب أن يُشاهِده بواسطة بدَنٍ آخر، وكذلك إلى ما لا نهاية له وهو مُحال، فإذن ليس إدراك النفس بواسطة٥ البدَن.
  • الوجه الرابع: إنَّ النفس تعلَم ذاتها وبدَنها وآلاتِها، فإما أن يكون ذلك بواسطة آلة جِسمانية أو لا يكون، والأول مُحال لأنها لو أدركتْ آلتها بواسطة آلةٍ أخرى للَزِم٦ افتِقارُها إلى آلةٍ تُدرك [٥٣] بها الآلة الأولى، وتتسلسَلَ إلى غَير النهاية وهو محال، فإذن تُدرِك النفس آلتَها بغَير آلةٍ تفتقِر إليها وهي في البدن، وكذلك تُدرك٧ المعاني الكليَّة والمعارف الجُزئية بعد فِراقها للبدَن.
شواهد الكتُب المُقدَّسة على صِحَّة هذه القضية قول الإنجيل الطاهر: «فرفَع عَينيه وشاهَدَ إبراهيم من البُعد ولعارز لَدُنْه ورفع صوته قائلًا.»٨ فنقول: لو لم تكن المَعرفة محفوظةً في النفس لمَا صدَق ذلك في حقِّ من قد تعطلَتْ أعضاء بدَنِه. وقول بُطرس: «مات مولانا بالبدَن وعاش بالنفس وأنذر النفوس الموجودة٩ في قَعر الهاوية.»١٠ فلو لم يكن لتلك النفوس مَعرفة قاطعة لمَا قدَرت على قَبول إنذار مولانا إيَّاها. وقال أدَّى السليح: «لن تتعطَّل فكرة النفس لأنها صُورة الحقِّ تعالى.» وقال غريغوريوس: «كلُّ نفسٍ صالحة مُحبَّة لله تعالى مع انفصالها من البدَن الذي كانت مُرتبطة به تنجو من العالم، [٥٤] وثَمَّ يحصُل لها الإحساس والنظر العقلي الثابت؛ لأن الذي كان يَصدُّها عن إدراكها التامِّ قد رُفِع.»
١  في الفصلين الثالث والسادس عشر.
٢  في الأصل: أمكن.
٣  سقط في الأصل: لا.
٤  في الأصل: نشاهده.
٥  سقط في الأصل: بواسطة.
٦  في الأصل: لزم.
٧  في الأصل: يدرك.
٨  إنجيل لوقا ١٦: ٢٣ و٢٤.
٩  لو قال «النفوس التي في قَعْر الهاوية.» لكان أفصح.
١٠  رسالة القديس بطرس الأولى ٣: ١٨ و١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤