الفصل الثالث والعشرون

في بَيان محلِّ الأنفس بعد فِراق أبدانها

اعلم أنَّ لفظة أين١ لا تُقال إلَّا بِسُكنى الجسم مكانه الساكن فيه، فإذن لا يَجوز السؤال من أهل العلوم أين هي النفس بل العِلَّة تُشير إلى رُتبتها، فنقول: إن جميع أهل البَيعة اتَّفقوا على أن النفس متى حصل لها الانتقال عن البدَن يقصدها الملائكة والأبالسة ولأيَّة جهة استحقَّت دَفعوها٢ إليها إلى حين القيامة الكلية، فتعود إلى البدَن الذي انفصلَت عنه إِما للعذاب الدائم أو للنعيم المُقيم، فالنفوس التي اقتنَتِ الفضائل بالجِهاد في هذا العالَم تتوجَّه إلى الفردوس [٥٥] الذي طُرِد منه آدم، تتبختَر مع العقول المُجرَّدة، وأما النفوس التي بالعكس ممَّا ذكرناه ففي٣ قَعر الهاوية المُظلمة. وهذه القضية ليستْ من العقليات المُبرهَنة، بل من المشهورات المُسلَّمة عند الأئمة٤ الأخيار والآباء الأبرار، فمن ذلك ما قاله ديونسيوس: «إن هذه النفوس الفاضلات هي وَليَّات٥ الملائكة ههنا وهُناك، تَرِث معهم الأماكن العالِية في ذلك العالَم الذي لا يتطرَّق إليه الزوال والاضمِحلال، وتقطُن مع البارئ تعالى إلى أبد الآبدين، وأمَّا التي٦ بالعكس من المذكورة٧ فهَهُنا تؤاخي الأبالِسة والشياطين، وهناك تهبِط إلى أسفل السافِلين.» وقال غريغوريوس: «إنه بواسطة النفس صُوِّبت الطريق للصِّ نحوَ الفردوس.» وحكى الأبُ أنطونيوس أنَّهُ حِين اختُطف عقله شاهد نفسه طائرًا٨ في الفضاء والملائكة مُحيطة به وهو صاعد إلى٩ البارئ تعالى، ولما قَطع مسافةً من طريقه شاهد صُورًا قبيحة المنظر [٥٦] كثيرة الإزعاج هائلة وقفَتْ تِجاهه وعاقَتْه عن مَرامه١٠ وثلبَتْه وَبكَّتَتْه. وقال أوغريس: «إنَّ النفس التي تشرَّفَت بنعمة الله تعالى وانفصلت عن البدَن تَسكُن في أماكن العالم إلى مَحلٍّ ليس فيه ألم مَكروه.»
١  في الأصل: اعلم أن لفظتَين لا تُقال.
٢  في الأصل: دفعها.
٣  في الأصل: في.
٤  في الأصل: المُسلَّمة من الأئمة.
٥  في الأصل: أوليات.
٦  في الأصل: الذي.
٧  في الأصل: المذكورين.
٨  في الأصل: طائر.
٩  في الأصل: نحو البارئ.
١٠  في الأصل: من مرامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤