الفصل الخامس والعشرون

في بَيان الوَحي والانكِشاف الذي يحصُل للنفوس البشرية والرُّؤيا والأحلام وغيرها

نقول: قد عَلمتُم١ أنَّ القوة المُتخيَّلة التي مَسكنها وَسط الدِّماغ، شأنها التركيب والتفصيل والتحليل، وعند النوم يَقوى فِعل هذه القوَّة مع سُكون القوَّة الباطِنة ببُطلان الحواسِّ الظاهرة، وهذه التراكيب المذكورة قد تكون حقًّا وقد تكون كذبًا.
[٦٢] فلِلكاذِبة أسباب أربعة: الأول: الصُّور التي شاهدناها في اليَقظة تَبقى أشباحًا٢ في لَوح الخَيال وعِند النوم تلُوح في الحسِّ المُشترَك. السبب الثاني: أنَّ القوة المُفكرة إذا أمعنَت في شيءٍ من الأشياء أو أمرٍ من الأمور جهارًا٣ فتَنتقِشُ صورة هذا الأمر في المُصوِّرة، فإذا عرَض سكون الحواسِّ الظاهرة وقتَ غَفلة النوم انطبَعَ شبَح ما كان في المصوِّرة في القوة القريبة إلى الحواس وهي الحسُّ المشترك. السبب الثالث: إذا هلَكَت القوة المُتخيِّلة بسببٍ عرَضَ للَّوح الحامِل لها فانزعَجَت أفاعيلُه، فإن غلبَت عليه الحرارة شاهد٤ النِّيران والكِيران والأتاتِين المَشعولة، وإِن غلبَت البرودة شاهد الأنهار والثلوج والجليد، وإِن كان عنده الامتِلاء أحسَّ بانصباب الأثقال عليه. السبب الرابع: فِعل الأبالِسة في أكثر الأحوال أن يَجعلوا الناس يَتخيَّلون٥ في الأحلام ويَحتالوا على أن يُطغوهم بأسباب تَصبو عقولهم إليها.
أمَّا الأحلام الصادِقة فنقول: إن جميع ما كان ويكون وهو كائن، هو معلوم عند [٦٣] البارئ تعالى عِلمًا لا يَشوبه الغِيار والقِسمة، وهذه الأمور المذكورة معلومة عند أهل العقول المُجرَّدة، وضرب من ذلك معلوم٦ عند النفوس التي فارَقَت أبدانَها، وضرب منه عند النفوس التي لم تُفارِق ولكن فيها قَبول الفيض والإِنعام من البارئ تعالى ومن العقول المُجرَّدة أيضًا ومن النفوس التي هي من نوعها. فسبب الامتناع من هذا القَبول الدائم العلاقة البدنيَّة، فإذا حصل السُّكون والهدوء عند النوم وعدَم الانقِياد للأمور البدَنية فلا بُدَّ أن يحصُل الاتصال بالجواهر الرُّوحانية المُناسبة لها وتتصوَّر بصُورِها وترتسِم في ذاتها المعلومات الخفيَّة عنها المُختصَّة بها وببدَنها، وبهذه المعلومات المذكورة يجِب عليها التَّذكار في حال اليَقظة دون غيرها مِثلما قيل ليوسف: «قم بالطفل وأمِّه وانطلِقْ بهما إلى مصر.»٧ ولمَّا كان طباع القوة المُتخيِّلة شأنه أن يُشبِّه٨ المعاني بالأسماء، فأي شَبَهٍ كان كاملًا فهو غير مُفتقِر إلى تأويلٍ لأنه قد أوجَدَ [٦٤] الأمر على التحقيق، فإن كان غير كامل ببعض فُنونه كالذي يُبصِر الشيء بصُورةِ ضِدِّه بسبب الجنسية التي بينهما أو يرى٩ اللازِم مَلزومًا، والأول مثل البُكاء المُعبَّر عنه بالفرَح والثاني مثل الثِّيران السِّمان الدَّالة على سنين القَحط، وهذا الضرب يفتقِر إلى التأويل وهو معرفة نِسبة المعاني إلى الصُّور التي شُوهِدَت١٠ بالخَيال الماثِل له في الحسِّ المُشترَك.
١  في الفصل الثامن.
٢  في الأصل: أشباح.
٣  كذا.
٤  سقط في الأصل: شاهد.
٥  في الأصل: يتخيلوا.
٦  في الأصل: معلومة.
٧  إنجيل متى ٢: ١٣.
٨  في الأصل: يتشبَّه.
٩  في الأصل: أن يرى.
١٠  في الأصل: شوهت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤