الفصل السابع والعشرون

في بَيان اختِلاف الناس في هذه المُعجِزة المذكورة بواسطة القَوم المَذكورين

وهؤلاء فريقان: أحدُهما المُتمسِّك بالشرائع الإلهية والسُّنَن الدينية اعتَقَد أنَّ هذه الخَوارق تُمنَح من البارئ تعالى١ لمَن استحقَّ [٧٢] مِنْحَتها، ويَتَّفق على هذا الاعتقاد الأُمَمُ الثلاث،٢ أعني اليهود والنصارى والمسلمين. وأما أُولو الاعتِقاد الثاني فأرباب العلوم الفلسفية، والمُعجِزات عندَهم على أَوجهٍ أربعة: الأول: قُدرة الكامِلين على الامتِناع من الطعام مدَّةً غير مألوفة ولا مُعتادة. الوجه الثاني: الأفعال الخارِقة التي لا يستطيع الغَير وَقْرها. الوجه الثالث: الإخبار بالغَيب. الوجه الرابع: أن تُطيعَهم٣ العناصر والحيوانات.

أمَّا تصديق الوجه الأول، فقالوا: إننا قد نرى أنه إذا عرَض لبعض الناس الأمراض الحارَّة فيلبَثُ زمانًا طويلًا دُون غِذاء لأنَّ الحرارة الغريزية تكون هناك مَشغولة بدفْع المرَض فلا تُحلِّل من البدَن شيئًا؛ ولذلك لا يفتقِر إلى الغِذاء مهما دام مشهودًا بالمرَض، كذلك الكامل إذا اشتَغَلت نفسُه بذِكر المعقولات الإلهية فيجذب معها الحرارة الغريزية ولا يفتقِر إلى الغذاء زمانًا مديدًا.

[٧٣] وأما تصديق الوجه الثاني، فزَعموا أنَّ الإنسان إذا عرَض له الغضب الشديد والاهتِياج المُفرِط فإنه يقدِر على ضِعف قوَّته، وعند الخَوف والوَجَع والكآبة تسقُط قُوَّته بالكليَّة، فكذلك العارِف الكامِل إذا استغرَق في بحْرِ الِابتِهاج بالحقِّ تعالى لا غَير حصل له أمر خارِق في حرَكاته أو في بعض حالاته.

تصديق الوجه الثالث، قالوا: قد حصل لنا بالتَّجارِب المُستمرَّة أنَّ الإنسان إذا صَفتْ أفكارُه وبعُدَت عن الخسائس الطبيعية فلا يَبعُد أن يُشاهِد في منامه أمورًا لا تُخالِفُ حال اليَقَظة، وإذا كان ذلك كذلك فلا يَبعُد الأمر من شخصٍ كاملٍ بعيدٍ عن العلائق الدُّنيوية أنْ تَسلُك نفسه في تدبير بدَنه حال اليقظة فيحصُل له ما حصل لغَيره في حال النوم.

وأما بَيان الوجه الرابع، فإنهم قالوا: قد نرى أفكارنا تفعل الغِيار في أبدانِنا مِرارًا عديدة [٧٤] مثل المَشي٤ على جِذعٍ موضوع في الفضاء يُوجِب الإزلاقَ، وتَصوُّر المرض كثيرًا يُوجِب المرَض، فلا يبعُد من أفكار شخصٍ عارف أن يفعل فعلًا غَريبًا في أجسام العناصر والحَيوانات ويَستخدِمها لغرَضِه كما تفعل أفكارنا في أبداننا. وقالوا أيضًا: إن الغرائب تحدُث في عالَمِنا هذا لأسباب ثلاثة: أحدُها: أن النفس الناطقة تفعل ذلك بخاصَّتها، فإن كان ذلك خيرًا فهي نفس نَبيٍّ، وإِن كان شرًّا فنفس ساحر. الثاني: إِن كان هذا الأمر بواسطة قوى العناصر مثل جَذْب المغناطيس للحديد فهو بالخاصَّة فقط. الثالث: الأمور التي بواسطة الحرَكات الفلكية مع أجسام عنصرية وهي الغرائب المعروفة بالطلْسَمات. والحمد لله ولي الدائمات.

تمَّت هذه المقالة النبيلة التي في خِلقة النفس الناطِقة وخواصِّها، رحم الله مُنصِفَها آمين.

١  قل «يمنحها البارئ تعالى».
٢  في الأصل: الثلاثة.
٣  في الأصل: تطيعها.
٤  في الأصل: الماشي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤