الفصل الثالث

في بَيان أن النفس ليست جِسمًا ولا عرَضًا

نقول: النفس ناطِقة تعقِل المعقولات الكُلِّيَّة ولو كانت جسمًا لَلَزِمَها مِقدار مُعيَّن وكان يلزَم من ذلك تقدير مَعقولاتها الغَير الجسمانية١ وذلك مُحال؛ لأن الأمور المُجرَّدة عن المادَّة مثل الإنسان الكُلِّي والحيوان الكُلِّي كيف يُمكن تقديرها بقدرٍ مُعيَّن وشكل مُخصَّص؟ وإذا لم يُمكِن ذلك في معقولاتها امتنَع أيضًا في ذاتِها٢ أعني القَدْر المُعيَّن والجِسمية.
إنها لو حلَّت في عُضوٍ من الأعضاء وكان قِوامُه بها لَزِم أن تعقِل به دائمًا مِثلَما تعقِل بذاتها، وليس [٥] الأمر كذلك لأنَّا نرى الإنسان في أكثر أحواله يفعل عن جميع بدَنه فإذَن ليست٣ في عُنصرٍ بل قائمة بذاتها.
لو كانت جِسمًا أو قائمة به لَلَزِمها الضَّعف بِضَعفه والانتِعاش بانتِعاشه، وليس الأمر في هذه الصفة لأننا نرى بعد الأربعين ضَعف القوى البدَنِيَّة وانتِعاش القوى النفسانية مع عِظَم الإدراك وكَمال العقل، ويَشهدُ على هذا ما نطَق به بولس الرسول حيث قال: «وإن كان الإنسان الظاهِر يضعُف لكن٤ الباطن ينتعِش.»٥
وكذلك نرى الحواسَّ الظاهرة يَعرِض لها الكَلال أو سقوط قوَّتِها بالكلية والنفس بالعكس من ذلك، أعني الحِسُّ يَضعُف بإدراك القوى مِثل عجْز٦ العَين عن إدراك الشمس والأُذن عن الأصوات الهائلة، والنفس تقوى بإدراك العظائم فإذن ليست بجِسم. وكذلك يَعرِض للحواسِّ أنها لا تَقدِر على إدراك الضعيف بعد القوي مِثل الناظر زمانًا طويلًا إلى قُرص الشمس فيعجِزُ بعد ذلك عن إدراك مِصباح مَوضوع بين يدَيه.
[٦] إنَّنا نعلَم بالضرورة أنَّ السَّواد ضِدُّ البياض ولو لم يجتمِعا٧ معًا في فِكرنا لمَا أمكَنَنا٨ الحُكم عليهما بهذا الحُكم، ومن المعلوم أن الضِّدَّيْن لا يَجتمِعان٩ في مَوضِعٍ واحدٍ في زمانٍ واحد، فإذن الذي اجتَمَعا فيه معًا غير جِسم وهو النفس الناطقة.
إن صورةً ما إذا وُجِدَت في جسمٍ ما فلا يُمكِنه قَبول غيرها إِلَّا إذا زالت الأولى، والنفس يُمكِنها قَبول كثيرٍ من الصُّور المعقولة في آنٍ١٠ واحدٍ فإذَن ليستْ بِجِسم.

إن الإنسان يُشير إلى كلِّ واحدٍ من أعضائه بقَوله: يدي وكبِدي وقلبي وجِسمي، ومن المَعلوم أن القائل غير المُشار إليه، فالنفس ليست بجِسم.

فأمَّا شَواهِد الكُتُب الإلهية على أن النفس ليست بجِسم، فمن ذلك ما قِيل: «نخلُق إنسانًا كصُورَتِنا.»١١ وهو تعالى غير جِسم فالنفس كذلك. وقال داود: «فإذا ما أتيتُ أنظُر وجهَك.»١٢ [٧] والبارئ تعالى غَيرُ جِسم فكذلك الناظر إليه١٣ وهو النفس. وقول مَولانا: «إنَّ النفس مُستعِدَّة والبدَن ضعيف.»١٤ فلولا أنَّ النفس غيرُ جِسم لمَا وَقَع بينهما الاختلاف. وقول بولس: «نحن عارفون أنَّنا مَهْما دُمْنا في هذا البدَن فنحن بعيدون عن مولانا وكذلك نحن مُشتاقون إلى فِراقه لنَقرُب منه تعالى.»١٥ وقول غريغوريوس الإلهي: «يجِب علينا غاية الاهتمام والاعتِناء بهذه النفس التي وُهِبَت من الله تعالى من العالَم العُلويِّ ورُبِطت بهذا البدَن.» وقال العظيم أوغريس: «إن ثرْوَة النفس المَعرِفة الرُّوحانية وفاقَتُها١٦ عَدَمُ ذلك.» فلو كانت جِسمًا لمَا كان الأمر كذلك.
١  في الأصل: الغَير جِسمانية.
٢  في الأصل: ذاته.
٣  في الأصل: ليس.
٤  لا حاجةَ بك إلى أن تضَعَ هنا «لكن» فقُل: «وإن كان الإنسان الظاهر يضعُف فالباطِن ينتَعِش» فذلك أفصَح، وإن أجاز لك أبو البَقاء صاحِب الكُلِّيات أن تضعَ هنا «إلَّا أنَّه» فعلى زَعمه يَجوز لك أن تقول: «وإن كان الإنسان الظاهر يضعُف إلَّا أن الباطِن ينتعِش.»
٥  رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنتس٤: ١٦.
٦  سقط في الأصل: عجز.
٧  في الأصل: يَجتمِعوا.
٨  في الأصل: أمكنَّا، بتشديد النون.
٩  في الأصل: يَجتمِعا.
١٠  في الأصل: آناء.
١١  سفر التكوين١: ٢٦.
١٢  سفر المزامير ٤١: ٣.
١٣  في الأصل: النظر إليه.
١٤  إنجيل متى ٢٦: ٤١.
١٥  رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنتس ٦: ٨.
١٦  في الأصل: وَفاتُها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤