مقدمة الكتاب

نحن الأساطير والتاريخ حكاية

لستُ من الذين تهُون في نظرهم وتصغُر في نفوسهم كلما تقدمت بهم الحياة أهمية تلك الحكايات، حكايات العجائز؛ وهي كانت تغذي نفوسنا، وتساعد في نمو شعورنا وتفكيرنا في الصِّغر، ولست من أولئك الذين يستخفُّون بالأساطير ويهزءون بها، والواقع يثبت أننا لا نزال نحيا في أجوائها، وسنظلُّ ما دمنا نجهل الكثير من حقائق هذا الوجود، وما دمنا نخشى مواجهة الحياة في حقيقة واقعها، وفي اكْتِنَاهِ أسرارها، واكتشاف الخفايا في زوايا التكوين.

فتلك الحكايات — حكايات العجائز — إنما هي وديعة الأجيال، تحمِّلهن إياها الحياة أمانة إلى النشء النامي في صغره؛ ليتمتع بها أولًا ويُسَرَّ، ثم لتتبلور مغازيها في نفوس أولئك الأبناء الأحباء مع تطورهم ونموهم، حِكمًا خالدة تندمج في كيانات أفئدة الشباب، فتهز قلوبهم، وتُسَيِّر سلوكهم، وتهيِّئ رُشْد الكهولة في الأفراد وفي الأمم.

وما الأساطير سوى تعبير دقيق مغلَّف عن حقائق الوجود، وعن تطورات الحياة وأحوالها، وعن تصور الإنسان لتلك الحقائق والتطورات، وعن تفهُّمه لبواعثها ولما ترمي إليه بأسلوب رمزي خاص، تداركت به اللغة عجزها عن التعبير عنها بأسلوب واضح صريح.

ففي هذه الأساطير وفي تلك الحكايات أعمق ما في معاني الحياة من فلسفة وتفكير وحكمة، وأبلغ ما في اللغة المعبرة عن تلك المعاني من أدب وتعبير، فهي متعة الصغار والكبار معًا، مهما اختلفت درجات التفكير وميادين التأمل، ومهما تنوع التأثير، فإذا كانت تؤثِّر في الصغار كنوع من السلوى، تجتذبهم وتستهويهم، فإنها كثيرًا وكثيرًا جدًّا ما تدعو الكبار، ولا سيما الواعين المثقفين إلى كثير من التأمل الهادئ والتفكير العميق في وحدة الحياة، على تعدد ظواهرها، وتنوع مراميها، وتبدل مظاهرها!

فهي الحياة، تدرك النفس أسرارها بفاعلية خبرتها الذاتية بشكل أشد وأعمق مما قد تمنحها إياها العلوم وكتبها، وهذه لا تزيد عن أنْ تكون محتويات، تستمد النفس منها غذاءً لفاعليتها وقوةً، كما يستمد الجسم غذاءه وقوته من الأطعمة والأشربة والعلاج، وأروع تعبير عن فاعلية الخبرة في الشعوب إنما تجده في تلك الأساطير وهذه الحكايات، فلا جرم إذا عادت الشعوب إليها كلما زحمتهم الحياة؛ لأنها إرث تكمن فيه عناصر الانبعاث وبواعث انبثاق ما هو إنساني من القيم التي يتميز بها الإنسان.

فإذا وجدت في حكايات العجائز وسيلة من أقوى وسائل التعبير عن أسرار الحياة؛ فلأنني أعتبرها أبسط سلك موصِّل، تبلغ به الحقائق أعماق الأفئدة دون جدل ولا تعقيد، ولعل اعتماد الحضارة على القصة كتعبير في الآداب الرفيعة مستمد من هذا الواقع الحيوي في تكامل الثقافة والحياة.

ولعلك — يا قارئي العزيز — تفكر، وأنت تقرأ هذه النظرة في أهمية حكايات العجائز وأساطير الأقدمين، فيما تحويه الأسطورة من خرافة، ولعلك تتأمل فيما تتزين به الحكاية من تخيل وأكاذيب! فتستخف بهذه النظرة، مستغربًا أنْ تكون الخرافة وأنْ يكون التخيل والكذب من أسمى أنواع التعبير عن أسرار الحياة، ومن أنجع وسائل إيصال حقائق هذه الأسرار إلى الأفئدة! إنك على صواب في استغرابك، ومن حقك أن تشك، والشك عند العلماء المفكرين أصل اليقين، ولكن عليك في شكك هذا، ونحن نقرك عليه ما دام شكًّا علميًّا يستهدف الحقائق، والشك الهازئ سطحي لا قيمة له، عليك أنْ تفكر في أمرين، وأنْ تتأمل في ملابساتهما:
  • (١)

    هل تلك الأسطورة أم هذه الحكاية هي خرافة أو تخيل أو كذب بالنسبة إلى ثقافتك وعصرك، أم بالنسبة إلى العصر الذي قيلت فيه؟ فإن تكن بالنسبة لعصرك، فأنت لا تدري ما هو حكم المستقبل على ما سيُنقل عن عصرك من حكايات وأحاديث ومن صور وتعبير! فلطبيعة التعبير في تلك الأساطير والقصص أهميتها الخاصة في عصرنا هذا، وهو عصر انتبه لسوء تأثير التصنُّع، فلذا ينادي بالعودة إلى طبيعة الأشياء. وإنْ تكن بالنسبة إلى تلك العصور، فعندئذ تكون هي تصنُّعًا، ولا يجوز أنْ نعيرها هذه الأهمية.

  • (٢)

    هل في هذا العالم حقيقة مطلقة وخير لا تشوبه فاعليات الشرور؟ الخير والشر متلازمان، والحق والباطل لا يفترقان، والإنسان بفاعليته الذاتيَّة هو الذي يميز ويختار، وهو الذي يخدع أو ينخدع، ولولا تلازم الخير والشر واتصال الحق بالباطل، لما كان للحياة معناها ولما كان للإنسان أي مطمح في كفاح، ولا أي افتخار في ظفر، وهل الإنسان في هذه الحياة سوى مجاهد يكافح الخير والشر معًا؛ ليستقر ما يختار منهما في نفسه على الشكل الذي يتخيله والصورة التي يرسمها؟! وهل هو سوى عامل تائه يجدُّ ويكدُّ، سائرًا في طلب الحق؟ فإذا هو في نزاع عنيف مع الحق والباطل معًا، إلى أنْ يستسلم لأحدهما فيكون سعيدًا أو شقيًّا، عظيمًا أو حقيرًا، سيدًا أو مَسودًا.

وما تلك الأساطير وهذه الحكايات مع ما ينضم إليها من وقائع وحوادث يتكون بها التاريخ، ومن تعابير وأساليب ينبثق عنها الأدب، سوى مثيرات ومحفزات تثير النفس وتحفزها؛ لتستمر في كفاحها المتصل بكفاح الإنسان منذ حاول أنْ يحقق إنسانيته، فتتحقق بذلك الصلة بين الأجيال في تقدم الثقافة والحضارات.

فلا ضير علينا إذن، إذا عدنا إلى بعض تلك الحكايات والأساطير، مع الاعتماد على الحوادث الراهنة والوقائع المشاهدة الملموسة — تصريحًا أو تلميحًا — في أحاديثنا في هذه «الجريدة» الغراء، ومن أهدافها وأهداف كل صحيفة تدرك حقيقة رسالتها أنْ تصل بالحقائق إلى أعماق النفوس، وهذا هو هدف الأهداف في انبثاقات المدرسة الحديثة التي ندعو إليها، وفي تطورات مفهوم التربية فيها في تجليات روح المجتمع وثقافته.

المؤلف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤