الفصل الأول

يُحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عادل، كان ملكًا عظيمًا مسيطرًا في الأرض، ولا أذكر أنَّ جدتي — رحمها الله — ذكرت لي اسمه، على كثرة ما رددت عليَّ هذه الحكاية، ولا البلاد التي كان يحكمها، ولا الزمن الذي أظله بوقائعه. زمنه قديم، وسيطرته على جميع ممالك الأرض، وهو ملك عظيم تعنو له الرقاب، وتخضع لهيبته جميع الآفاق، هكذا كانت تُصوره لي بعباراتها الفخمة ولهجتها القويَّة، وكانت عباراتها تزداد وضوحًا بوضعها الذي تتخذه منسجمًا مع معاني القصة، ومتفقًا مع حركة اليدين وبنظراتها المشعة، وكأني بها كانت ترسل تلك الأشعة لتنير لكلماتها طريقها إلى الفؤاد، فقد كان لكلماتها تأثيرها القوي في نفسي؛ ولذلك تراني أذكر الكثير منها، ومما كانت تقص عليَّ من قصص، وأعترف بما كان لها في نمو ذاتي من أثر كبير.

ولعل في إهمال ذكر اسم الملك، وفي ترك تعيين بلاده وزمنه، مغزًى بعيدًا أراد واضع القصة أنْ يجعل منه صورة رمزية لكل ملك عادل، في أي قطر من الأقطار وفي أي زمن، ولو أنَّ جدتي كانت تعرف كلمة الإمبراطور وتدرك معانيها لقالت — ولا ريب — إنه كان إمبراطورًا عظيمًا؛ لأنه كان عادلًا.

وعلى كلٍّ، فقد كان هذا الملك العظيم محبًّا لرعيته، يريد لكل فرد منهم الخير والطمأنينة والسعادة، وكان يؤلمه كل الألم أنْ يُظلم أحد من الناس، فلم يكن يترك وسيلة لدفع الظلم، وما كان ليتساهل في الانتقام من الظالمين، اعتقد أنَّ العدل أساس الملك، فاتجه لتحقيق العدالة بكل شعوره وبكل تفكيره، فالضعيف المظلوم هو القوي في نظره حتى يأخذ له حقه من ظالمه، والكبير صغير عنده إذا ما اعتدى على صغير أو احتقره. أحبته الرعية وتعلق به الناس، حتى كادوا يعبدونه من دون الله، كما عبدوا نمرود وفرعون، ولكن، وآهٍ من ولكن.

ولكن أمرًا ضاقت به نفوس الناس على الرغم من وجود مستلزمات الراحة والطمأنينة، بفضل نعمة العدالة التي يتصف بها الملك! وقد ضاقت نفس الملك ذاته بهذا الأمر، على الرغم من كرم أخلاقه وحكمته، هي فكرة سيطرت على عقله حتى أصبحت عقيدة ملأت نفسه، فهو يَدين بها لدرجة الوسوسة، فلا مناص من أنْ يتحمل هو، ومن أنْ يُحمِّل الناس ما تستدعيه محاولة تحقيقها من تدابير تتجاوز أحيانًا الحدود التي يطيقها البشر.

قد استقر في ضمير ذلك الملك أنَّ العدل يأبى أنْ يكون شيمة لأبناء الحرام، فابن الحلال وحده هو الجدير بأن يتصف بالعدالة، وأنَّ التبعة لا تقع عليه وحده في تحقيق العدالة، بل هناك الحكام والقضاة والموظفون، ولا قيمة لحبه للعدل، ولمحاولاته في تحقيقه إنْ لم يكن هؤلاء جميعهم عادلين، وما كانت فكرة مساهمة هؤلاء في تحمل تبعة تحقيق العدالة في المملكة لتخفف ما يجد من حرج في نفسه، بل زادت في قلقه؛ لأنه يدرك أنَّ التبعة تعود كلها عليه ما دام هو الذي يعيِّنهم ويوافق على اختيارهم، ولعله كان يردد في نفسه هذه المعاني التي قصدها الشاعر في قوله:

ومَن يربط الكلب العقور ببابه
فكل بلاء الناس من رابط الكلب

فلا مندوحة له إذن من أنْ يختار موظفيه من أبناء الحلال! فلا يقبل بتعيين من لا يكون من ظهر أبيه زوج أمه! ولما كان يأخذ الفكرة على معناها الحقيقي الحسي، شرع يفكر بالحصول على الأدلة الحسية في ولادة الأبناء، وهل لتحري ولادة الأبناء من وسيلة غير التجسس على خفايا الحياة الداخلية في البيوت وفي خارجها؛ أي في كل ما يتصل بالحياة العائلية الصميمة بسبب؟!

وهكذا فقد ضاق الناس ذرعًا بنوع من التجسس، اعتمد عليه ذلك الملك في اختيار الأكْفاء العادلين من القضاة والحكام والموظفين، فعيونه التي كان يبثها في جميع أنحاء المملكة لتتجسس أمور العائلات في صميم حياتها الداخلية، ولا سيما في تصرفات الزوجات ليتحقق ولادة أبناء الحلال، فيدوِّن أسماءهم في سجل خاص يرجع إليه عند الاختيار، أقلق الناس وأزعجهم، وشوَّش عليهم راحتهم واطمئنانهم، وقد أدرك الملك أنه يزعج رعيته من حيث يريد راحتها، فارتبك واضطرب، وأخذ باستشارة المقربين إليه.

وما أن انتشرت أخبار الملك وأحواله في تشوشه واضطرابه بين خاصة الناس، حتى وصلت إلى دجال مشعوذ من السحرة كان يسكن في أطراف المملكة، وكانت له شهرته في جميع الأرجاء. وجد الدجال في هذه الجهة من ضعف الملك فرصة مؤاتية لإشباع شهواته، وبلوغ أغراضه من مال وجاه وتحكم؛ فشد الرحال وقصد العاصمة، معتمدًا على ما كان للسحرة من مكانة عظيمة وشأن كبير في تلك العصور، ولا سيما إذا كانوا ممن يتقنون فنون التغطية والتدليس، ويحسنون القيام بأنواع المهارات في الدعاية والتمويه والتلبيس.

لم يصل الساحر إلى العاصمة حتى أثار حول اسمه ضجة مفتعلة، استعان على إثارتها بالمال وبأتباع موعودين، إنه ذكي فطن، يعلم أنَّ كل معروض مهان، فأراد أنْ يكون مطلوبًا، يطلبه الملك فيصطفيه، لا طالبًا يعرض نفسه فيُتَّهم ولا يثق به أحد، وقد حصل له ما أراد، فما وصل اسمه إلى الملك مقرونًا بضجة الدعاية والتمجيد، حتى استدعاه إليه يستنير بعلمه، ويستعين بقدرة اطلاعه على الغيب، والتكهن بما يخبئ المستقبل له ولرعيته من حوادث وتقلبات؛ علَّه يجد لديه وسيلة تنقذه وتنقذ الشعب من ذلك المأزق، وقد أوقعته فيه عقيدته المستقرة في أعماق فؤاده.

دهش الملك مما وجد عند ذلك الساحر من علوم وفنون ومهارات تحير الأذهان والعقول، ومن بيان يزخر كالبحر، وطلاقة لسان تسابق الرياح في أعصارها، ولا غَرْوَ، فالسحرة لا يكونون من البُلَداء المغفلين، ولا تجد المشعوذ بين الجهلة الأغبياء الأعياء، وطلاقة اللسان عند المشعوذ وسهولة البيان عند الساحر مضرب مثل عند الناس.

فلم يكن من الغريب إذن، وقد أدهش الملك الطيب أنْ يؤخذ بسحر الشعوذة، وأنْ يثق بمن يمثل هذا السحر بين يديه، فيفضي إليه بذات نفسه وبما يجد من حرج وضيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤