الفصل الثالث عشر

قال الراوي: كاد الملك يتنبه لواقعه، وهو أمام نافذة القصر، وكاد يعود لذاته في اضطرابها مما حدث، لولا أن ذكرى عودة الشيخ الحكيم الوقور قد أبقته في مقعده في الحديقة، يتخيل نفسه بين يديه وليًّا للعهد، يستعجل لقاء من يدبرون الثورة على أبيه الملك.

كان وصول الشيخ قبل الموعد الذي سبق وقرر، فقطع على ولي العهد بهذه المفاجأة سلسلة تخيلاته وتصوراته، وبادره بقوله: كيف كانت ليلتك أمس يا صاحب السمو؟

و : أراك تترسم في عبارتك معي اليوم، فلمَ لا تقول يا بني على عادتك؟
ح : رأيت تبدلًا في تلاميح وجهك ونظراتك، يدل على وضع جديد، فيه كل عزم وجد، وهيأة نفسية حازمة تتسامى إلى العلاء، فأخذتني هيبة الملك، وكدت أقول يا صاحب الجلالة.
و : بالله عليك لا تسخر بي أيها الرجل الحكيم، بعد أنْ أحييت موات نفسي، وولدت فيها ذاتًا جديدة، تشعر أنها من روح الشعب لا من روح ذلك الملك العنيد، وكأني قد ولدت ولادة ثانية بعد أنْ سمعت وبعد أنْ رأيت، كن واثقًا أنني أصبحت أزهد الناس بالملك، وإذا اشتد لهيب نار الثورة في نفسي، فلأساهم في إنقاذ الشعب كفرد من الشعب، سواء أبقي العرش أم انهار على رأس صاحبه، المهم أنْ يُنقذ الشعب، وأنْ أحيا معه إنْ كان لي حظ في بقاء، كفرد من أفراده، يتمتع بالكرامة والعزة والتحرر، وإذا قدر لي الاستشهاد، فأكون ممن سعدوا بترك هذا العالم الفاني على أحسن ما يكون عليه المرء في محافظته على كرامته وإبائه وحريته، ليست الكرامة والعزة والتحرر في أنْ يكون الإنسان ملكًا أو ولي عهد الملك، وإنما الكرامة والعزة والسؤدد والتحرر في أنْ يحيا الإنسان فردًا سيدًا في أمة سيدة، تشعر بالكرامة والعزة والسؤدد والحرية وتتمتع بها.
ح : أهلًا بك يا بني الحبيب، والله ما أجزت لنفسي أن أهزأ بك يومًا ولا أجيز، فأنت مني كنت — ولا تزال — موضع كل عناية وكل تقدير وأمل، ولكنه بريق هيبة الملك قد لمع في وجهك، وأشعة نورانية أمجاد الملوك قد انبثقت من عينيك، فتوهمت أن ما اصطلح عليه الناس بالملك، وأنت المهيأ لاعتلاء عرشه، قد انعكست أنواره على وجهك، وامتزجت بذلك مظاهر الجمال بالجلال، فما أسعدني وقد أدركت من بيانك أنك قد تملَّكت ذاتك، وسيطرت على نفسك، فأصبحت ملكًا بالفعل وبالواقع لا بالوهم والاصطلاح، فكم من ملك في أعين الناس هو عبد في عين ذاته، وكم من الملوك من غرهم العرش وما يلابسه، وكانوا عبيدًا أذِلَّاء في عين الحقيقة، وفي تلك النظرات الخاطئة شقيت أمم وتشقى شعوب، وتهدمت مدن وانهارت حضارات، وتتهدم وتنهار إلى أن يفيء الناس إلى حقيقة ذاتهم الإنسانية، فيدركون في خفايا نفوسهم سواء أكانوا من السوقة أو من الصفوة والملوك، ما أدركته أنت — وفي كيانك نفحات ما اصطلح عليه الناس بالملك وأمجاده — بأن الملك الحقيقي في واقع التسامي في مفاهيم الحياة، إنما هو في تملُّك الذات، وفي السيطرة على النفس قبل كل شيء، إذ بذلك تدرك حقيقة الحياة، فأهلًا بك يا بني مرة ثانية، ولكن قل لي: ماذا سمعت بعد أن تركتني أمس؟ وماذا رأيت؟
و : ولعلك إنما جئت لهذا قبل الموعد اليوم، فأنا لا أشك بدهائك وحكمتك، وقد نعمت بآثارهما، وقد اشتد الآن اعتقادي بصدق فراستك، فاستمع لما جرى: لم أكد أختلي بنفسي بعد ذهابك أمس، حتى انبعثت منها في داخل كياني تيارات متعاكسة متجاوبة كانت تتجاذبني، فتميل بي تارة ذات اليمين، وطورًا ذات اليسار، ولا أنكر عليك أن الشك والتردد كانا في صميم هذه المعركة، فتيار كان يذهب بي مذهب النقمة على مَن يفكر بالثورة على ذلك الوالد المسكين، وهو مَن أُحب وأحترم بكل ما في الحب والاحترام من معانٍ وتضحيات، وتيار كان يجرفني نحو الثائرين أعطف على حركتهم بل أتبناها، وكان بين التيارين تجاوب وتفاعل، استقر معهما رأيي على أنْ أجتمع بجلالته، وأحاول رده إلى الصواب، دون أنْ أخون ذاتي بفضح السر، كن واثقًا، فإنني عاهدت وما فكرت على الرغم من تيار النقمة في أن أنكث العهد، فشكرًا لله، ثم شكرًا.
ولم يستقر رأيي على ما عزمت عليه، حتى وجدت نفسي بين يدي جلالته في خلوة يندر أن أجده فيها، لأن حاشية السوء ذكية، لا تترك له مجالًا يمكنه فيه أن يختلي بنفسه، ولكن ما كان أشد دهشتي، وقد رأيتني أمام صخرة لا يتفجر ماؤها، وما كان لتلطفي وحُنُوِّي وتذللي أي تأثير على موقفه من شعبه، فهو يرى الشعب بقرة حلوبًا، يجب أنْ تُدِرَّ عليه ما يُشبع زهوه وترفه هو وخاصته وأتباعه، وإذا ما قصرت في دَرِّها ولو لمرض أصابها، فهي العاقَّة لمليكها، وعليها تقع تبعة حرمانه ومن معه من مقومات الزهو والترف.

لم يستولِ عليَّ يأس، وقد وجدت لديه رعاية الوالد وحُنُوَّه في تلطفه، وفي محاولة ردِّي عمَّا أعتقده في وثبتي هذه، لكن دخول بعض خاصَّته دون استئذان طبعًا، وقد رُفعت بينه وبينهم كل كلفة ومراسم أوقعني في يأس وقنوط، فقد كان هؤلاء عند شدَّاد الملك المغتصب، وعادوا يُثنون على حفاوته وتعهُّده بحماية العرش إذا ما ثار الشعب، فهم يحسبون للثورة إذن حسابها، ويتآمرون مع المغتصب على شعب رفعهم إلى أرائك الحكم، ولما قلت: إن للشعب حقوقًا تجب مراعاتها، أجابني البعض: ليس للشعب إلا السوط، ولم يردَّ عليه أحد، وكدت أحاول أن أضع على رءوسهم جميعًا السوط؛ لأنهم أجدر به، ولكني خفت على الثورة من رعونة الطيش.

وهنا تنهد الأمير والشرر يتطاير من عينيه، وقال: أعرفت سبب زهدي بالعرش؟ فإن عرشًا لا ترفع إليه المرء أفئدة الأسياد، في شعب سيد، ليس بعرش أبدًا، وإنما هو سجن الأسير، وفي وضع كهذا، يكون التساوي متحققًا بين الحاكم والمحكوم سيادة وتحررًا وحقوقًا.

وما بلغ الأمير هذا الحد من حديثه، حتى رأى الحكيم يسجد لله شاكرًا، وعيناه ترطبان الأرض بالدموع، ثم التفت إلى تلميذه الشاب باسمًا، وخاطبه بقوله:

ح : إذا أَذِن الله بأمرٍ يسَّرَ أسبابه، وقد أردتك مؤيدًا للثورة، فإذا أنت تتحول ثائرًا يُهَيَّأ لقيادتها بوحي ذاتك وفاعليتها وبملاءمة الحوادث، فنالت بك الثورة أكثر مما أملت، فشكرًا للإله الحكيم، وقد كنت قد عجلت في مجيئي قبل الموعد وقلبي يحدثني بأن أجدك هنا لأطلب منك الاتصال بجلالة الملك ومحاولة إقناعه، لا لاعتقادي بجدوى العمل، ولكن لتطمئن نفسك. ولا تخشَ الشك، فالشك أصل اليقين، فالمهم في منطق الحركة هو أن تتحقق ثائرًا بروحك ولا فائدة في الافتعال، وللثورة كَكُلِّ كائنٍ حيٍّ روحيةٌ، بها قوامها، وهذه لا تتحقق إلا بشروط، أولها إيمان يتفاعل معه العقل على ضوء الخبرة، وقد هداك ضميرك وإخلاصك إلى خبرة واقعية جعلت فيك العقل يتفاعل تفاعلًا طبيعيًّا مع إيمان لا يتزعزع، وقد أشع نوره في قلبك بعد شك عفوي لا تَصنُّع فيه، وثانيهما السمو بالأهداف إلى مبادئ عامة، لا يكون معها قصد انتقام من أحد، ولا إرادة جر منفعة إلى غيره، فالثورة لا تكون لخلع ملك ولا لتولية آخر، وإنما تكون لأهداف إصلاحية سامية تشمل الجميع، وهذا ما يخرجها عن مفاهيم الشغب والعصيان، ولذلك كان من نعم تفاعلها في نفسك زهدك بالملك، وثالث الشروط — وأرجو أن يتحقق في ذاتك مع ما سبق — أن تكون الثورة إنسانية، فتحاول حقن الدماء دائمًا، وإذا ما سمحت به فبأقل مقدار يمكن، فلا يصح أن تصبح الثورة مجزرة بأي حال، وإلا فهي ثورة فاشلة تشتبه كثيرًا بالشغب والعصيان، وهذا ما نحاول، وستتحققه بذاتك في أول اجتماع آن وقته بعد أن أرخى الليل سدوله، فلنذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤