الفصل السابع عشر

قال الراوي: استقبل جلالة الملك العادل الأستاذ الجليل بحفاوة بالغة في صبيحة تلك الليلة الساهرة البيضاء، وكان لا يزال متأثرًا بتخيله، إنَّ روح ذلك الشيخ، قد بعثت في ناسوت هذا الأستاذ الجليل، وأصبح ينتظر على يديه الإنقاذ من بلبلة الأزمة، أهلًا بأستاذنا الجليل. قالها الملك بنبرة الآمل الواثق وأردفها بقوله: كيف أصبحت؟ فأجابه الأستاذ بهلجة تذلل العبد الخاضع متخذًا هيئته: على خير ما أرجو لسيدنا ومليكنا صاحب الجلالة المفدى، كانت ليلتي بيضاء ساهرة، قضيتها بالصلاة، أبتهل إلى الله، جلَّت قدرته، أنْ يكلأ المليك العادل الكبير بعين عنايته، أنْ يسدد خطاه في الاعوجاج ودرء الفساد، ويرشده إلى ما فيه من خير العباد وإصلاح الرعية، أطال الله عمر جلالة الملك، وأدامه ذخرًا للأمة، وحقق معاني تلك الرؤيا الصالحة، وقد رأيتها بعين اليقظ الواعي آمين.

أمر الملك الأستاذ بالجلوس بجانبه، ولم يكن معهما أحد، ثم نادى الحاجب وأمره بإقفال الباب والامتناع عن الاستئذان عليه، والتفت إلى الأستاذ الجليل بوضع المطمئن الواثق وقال: اقصص عليَّ تلك الرؤيا الصالحة، أيها التقي الصالح، فتململ الأستاذ، وانحنى انحناء المتواضع يهاب الكبر، ويأبى الغرور والادعاء، وأخذ يفرك بيديه ويقول: لم تكن يا مولاي رؤيا منام، وإنما كانت رؤيا يقظة وهيام، فلله عباد يهيمون بحبه وينقطعون إليه، فيتهجدون الليل، ويقضونه بالصلاة، والذكر والدعاء، فلا ينامون، وفي هدأة الليل البهيم وسكونه، وفي صميم طمأنينة الصلاة وحلاوتها، تنخطف روحهم إلى العوالم الأخرى، ويتمتعون بمشاهدة قدرة الله في أكوانه وعوالمه، ويسيحون في ملكوته، فيزداد إيمانهم، وتربو حسناتهم، وتنمو أرواحهم، ويتنسمون نسيم السعادة الأبدية والهناء السرمدي، وكثيرًا ما ينعمون في انخطافهم هذا بالاجتماع برجال الله الصالحين، من أنبياء وحكماء، وبملائكته الأبرار. هنا أخذت الملك قشعريرة قوية، ارتعش لها جسده، واهتز رأسه، إنها قشعريرة الخشية والانجذاب، ثم تمتم قائلًا: أكمل حديثك يا رجل الله، نفعنا الله ببركتك. فازداد الأستاذ الجليل تملقًا وخشوعًا بعد أن أصبح في نظر مليكه من رجال الله الأبرار، وأخذ في حديثه — وهو يتلبس بأوضاع أولئك الرجال الصالحين في تذللهم لربهم، وبهيئاتهم — وكان بارعًا في تمثيله الرائع: وكأني بالإله الرحيم الحكيم قد أراد أنْ أكون مظهرًا لرضائه على عبده جلالة الملك العادل، ودليلًا على عنايته به، فأنعم عليَّ في تهجدي هذه الليلة بانخطاف روحي، نقلني من عالمنا هذا إلى عالم من عوالمه، ولا يعرف مداها إلا هو تبارك اسمه، فرأيتني في قصر منيف، أين منه قصور هذا العالم؟ فقد وجدت فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من نعم الله وآياته، ثم انتهى تطوافي في أرجائه إلى حديقته المتسعة الغنَّاء، وكانت وارفة الظلال والنبات، وإذا أنا على مقعد بين يدي شيخ جليل وقور، فحبوت لأقبِّل يده لشدة ما تهيبته، فلم تقع يدي على شيء، فتذكرت أنني في عالم الأرواح تُرى ولا تُلمس، فضممت ذاتي إلى ذاتي وانكمشت على نفسي، وقد أخذتني رعدة لم ينقذني منها سوى صوته الهادئ الرخيم يقول: هدِّئ من روعك، فإنما أنت في دار أمان وسلام، إنه شيخ وقور قد تجاوز التسعين، إلا أن مظاهر همته ونشاطه تجعله في الستين على الأكثر، لولا نصاعة بياض شعره، إنه طويل القامة، عريض المنكبين، بارز الخدين، وعيناه واسعتان يشع منهما أنوار الصفاء والذكاء، صمت قليلًا وعلى وجهه أمارات التفكير والتأمل، ثم نظر إليَّ محدقًا وقال: كيف حال الملك؟ ولم ينتظر مني جوابًا، والحقيقة إنني كنت معقود اللسان لا أستطيع الكلام تهيبًا ودهشًا، وأرجو من صاحب الجلالة أن يسمح لي بنقل ما قاله بالحرف؛ لأنني أجهل مضامينه، ولا يجوز لي أنْ أحرف رسالات الأرواح الطاهرة، وتوقف الأستاذ عن الكلام إلى أن أمره الملك المشدوه بأن يتم حديثه، وأن يروي ما سمع بالحرف دون زيادة أو نقصان.

بعد فترة تململ وتردد، خفض الأستاذ رأسه، وقال بلهجة المأخوذ الغائب عن الوجود: سمعته يناديني باسمي يا مولاي، ويؤكد عليَّ بأن أنقل إليك قوله: «أَنَسِيَ الملك أستاذًا حفظ له عرشه؟ أنسي قول والده: لتكن روح أستاذك دائمًا معك ولا سيما عند الشدائد، أخمدت نار روح الثورة في نفسه، فالتفَّت حوله حاشية السوء؟ وكل ما أخشاه هو ما أنذرته به منذ ثلاثين سنة عندما اعتلى العرش، من أن تنقلب الثورة عليه، ولولا أنه يذكرني الآن، ويذكر حكاية الساحر والفأرة لما ذكرته ولما اهتممت بشأنه، ليذكر ما مضي وليعتبر، فلا يجمع حوله الفئران — صغار النفوس — المتلبسين بعنجهية غطرسة اللؤم والجحود، أولئك هم أولاد الحرام، كن له خير مرشد ومعين، وباعتماده عليك يعتمد عليَّ أنا مرشده وليًّا للعهد؛ لأن روحي تحل في ناسوتك، وتتحد بروحك، فنعمل معًا على إنقاذه وإنقاذ العرش، وقد أصبح في خطر، هذه إرادة الله، وفي نهاية قوله هذه إرادة الله، وجدت نفسي في غرفتي، أسبح وأذكر، وأنا مدهوش لما رأيت، مأخوذ مما سمعت، أنتظر أن أتشرف بالمثول بين يدي مولاي صاحب الجلالة علِّي أطلع على ما في عبارات هذه الرؤيا الصالحة من مغازٍ وأسرار، وأقسم بالله، إنني لم أفقه شيئًا من ألغازها، وهنا سكت برهة، ثم قال: ولعلها أضغاث أحلام خُدعت بها، فأستميح مولاي العذر على جرأتي في ذكرها أمام جلالته»، لم يكن ليخفى على الأستاذ وهو ينطق بهذه الجمل بتؤدة وهدوء وخشوع، حال الملك مأخوذًا بما سمع في موافقات مواقف الرؤيا وهمساتها، لمواقف تأملاته وهمساتها، وما كاد يسمع من الملك قوله: كلا ليست أضغاث أحلام وإنما هي الحقيقة بعينها، وما كان يتحقق قوة تأثير أقواله في تأملات الملك وقد أصبح في شبه غيبوبة، حتى ارتعش الأستاذ ارتعاشة قوية وهو يقول: مولاي مولاي، ألا ترى الشيخ الوقور معنا الآن؟ إنه هنا، ينظر إليك بعين الرضا، نعم إنه بيننا ينظر إليك، ويحدق نظره بك، وكأني به يريد أن يتكلم، ألا تراه يا مولاي؟ ألا تسمعه؟ وكالمنوَّم أو المصروع رأى الملك شبح أستاذه الوقور بعينيه وسمع صوته بأذنيه يقول: ذكرتني فذكرتك، وإنني مطمئن ما دمت تستمع لهذا الأستاذ وتعمل بإرشاده، ففيه حلت روحي واتحدت بروحه، فلا خوف عليك ما دام معك، هذه إرادة الله، واختفى الشبح، وغاب الملك عن وعيه، وغرق في سبات عميق، ورأسه على صدر الأستاذ اليقظ الواعي والمشعوذ الخطر.

تردد راوي هذه الحكاية في تعليل هذه الظاهرة، وفي تفهم أسرارها، سحر المشعوذ عيني الملك وهذا مألوف، إذ كثيرًا ما يسحر الدجالون المشعوذون أعين الناس، فيجعلونهم يرون ما ليس له وجود، ولكنه كيف سحر أذني الملك فسمع بهما ما سمع؟ أتكلم الساحر من بطنه، وخدع الملك، فتوهم الصوت يصدر عن الشبح؟ أم أنَّ الوهم يتصل بالأذنين كما يتصل بالعينين في سحر المشعوذين؟! كلاهما ممكن، وكيفما كان الواقع فالأستاذ قد أنفذ وعيده، وألقى باب الوهم على الملك، فملك عليه قلبه وحواسه، ويذكر القارئ النبيه أن باب الوهم — كما سبق وألمعنا إليه — هو من أبواب السحر، وهو صنو الصرعة، وإنَّ شياطين الوهم — وقد هدد الساحر بها — تستحوذ على العينين والأذنين والقلب والدماغ وعلى جميع الحواس، فتجعل الإنسان يتوهم أنه يرى وهو لا يرى، وأنه يسمع وهو لا يسمع، وأنه يأكل ويشرب وهو لا يأكل ولا يشرب، وأنه يفكر ويعبر وهو إنما يخلط ويهذي ويثرثر.

والمشعوذون إنما يؤثرون في المستضعفين من الناس وهؤلاء أنماط: فمنهم من يتأثر لغفلته بتأثير الجشع والانقياد للمطامع والمآرب، ومنهم من تصرعه غباوته لجهله أو استهتاره أو فجوره وفساده، ومنهم من يرتاح للدجل والشعوذة، ولكنه عاجز عن تحمل أسرارها، وتمثيل أدوارها الصعبة؛ لأنها بحاجة لاستعداد قوي في المكر والخداع ولذكاء متقد، فيدخل في الدعاوة لدجال ماكر، ويتظاهر أنه رأى وهو لم يرَ، وأنه سمع وهو لم يسمع، وأنه أكل وشرب وهو لم يأكل ولم يشرب، وإنما يلذ له أنْ يخدع نفسه ويخادع الناس، فيغرب بالحوادث ويغالي في رواية الأخبار، وقد ينتهي به الأمر بأن يُسحر فعلًا فيصبح هو الغافل الغبي صريع الشعوذة والتدجيل، ومليكنا من النوع الغافل، شغله عن ذاته خوفه على العرش، وكم أذهبت العروش من عقول، وإنه الآن في سباته مشغول بما أراد له الساحر من أحلام، فلننتظر فيأته ويقظته لنراقب في واقع الحياة مسير الحوادث والأحوال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤