الفصل التاسع عشر

قال الراوي: سُرَّ الملك للتاج السحري الذي وُعِد به، وبعث تخيله لعظمة ذلك التاج وروعته زهوًا في نفسه، ملأ كيانه، إنه سيتفرد به بين ملوك زمانه، وكم أيقظ حب التفرد من غرور، وسيكون لأزمة التجسس حل يهتدي به لأبناء الحرام؛ فيبعدهم عن نعيمه وعن حمل التبعات، فالتفت إلى الأستاذ الجليل، وقال بصوت المطمئن المستسلم: قد وثقت بوعدك، وها أنا أصدر أمري للخازن بأن يمنحك ما تحتاج إليه من مال، وسأدعو رجال الدولة وأركان المملكة لطعام الغداء وتكون معهم، فيدركون مقامك عند الملك، فلا تقف في سبيل مشروعك عثرات، ولا تكتنفه صعوبات، وسأخصص لك قصرًا بجانب قصري، يكون مسكنًا لك إلى أنْ تستقر الأمور على وجهها الأمثل.

ما سمع المشعوذ الماكر بما وعده الملك من عطاء وعناية، حتى كاد قلبه يَطْفِر من عينيه لشدة فرحه، ولكنه — وهو الماكر الخبيث — رأى الموقف يدعو لإظهار العفة والتواضع، فوقف منحنيًا انحناء العبد لسيده وطفق يرتل آيات الحمد والثناء، ويدعو لمليكه العظيم الجواد بدوام العز والتوفيق والإقبال، مؤكدًا إخلاصه في عبوديته وصدقه في خدمته إلى أنْ يسيطر «الحق» ويهزم «الباطل»، ويتميز «أبناء الحلال عن أبناء الحرام» إلى أنْ قال: يعلم مولاي صاحب الجلالة أنَّ مثلي لا يطمع بمتاع الدنيا، وإنما يقصد وجه ربه، وبما أن عطاء الملوك لا يُرد، أسترحم من السدة الملوكية أن تسمح لي باستمرار السكنى في بيتي المتواضع، على أن أتخذ القصر، وقد تفضل به صاحب الجلالة للاجتماع بأركان الدولة وبالناس، ولعقد المجالس التي تقتضيها الحاجة في إتمام صنع التاج، وأرجو أن يوافق مولاي على أن تدفع الأموال لمن أحتاج لإعانتهم بِبَيانٍ تتفضلون بالموافقة عليه حتى لا أمس بيدي ما يتورع النساك الزاهدون عن الاغترار به من حطام الدنيا وأموالها، ولا بد لي من التأكيد بأن هذا التاج إنما يأتي بموادِّه، بقوة الأرواح الأرضية والسماوية، شياطين الوهم من كنوز ملوك الجان، ولولا ما يستلزمه هذا السحر من نفقات لما ذكرت المال على لساني. وهنا رفع رأسه إلى السماء مناجيًا ربه، وهو يهدر قائلًا: اللهم غفرانك.

أُفعمت نفس الملك إعجابًا بالأستاذ الساحر، وهو لا يزال يأتيه بالدليل تلو الدليل على تقاه وورعه، وعلى صلته بربه وإخلاصه لمليكه، فأكد له الملك بأنه يطلق له التصرف باستخدام المال لمشروعه على الوجه الذي يراه موافقًا دون أن يحتاج للموافقة، وأن القصر له يتخذه لما يفضل من أعمال، ولكن لا يُسمح له بأن يمتنع عن تناول الغداء.

الساحر : لم نتعود تناول الطعام على موائد الملوك، ولا يليق ذلك بمن وهب نفسه لله من النساك الزاهدين، ولكنني أحرص على أن أتعرف بحاشية صاحب الجلالة وبأركان دولته، لما لذلك من صلة روحية بصنع التاج وحسن تأثيره، فلتكن مشيئة الملك، وقد ثبت لي مما رأيت وسمعت أنه قريب من الله، ربنا جميعًا.

تهلل وجه الملك لقبول الأستاذ ضيافته، وإنه ليعلم أن الصالحين من النساك والزاهدين كانوا فعلًا في تلك العصور يتورعون عن أموال الحكام، ولو ملوكًا، وعن طعامهم، لما يعتقدون فيها من الشُّبه، ولم ينتبه الملك المأخوذ بشعوذة الساحر وبسحر بيانه إلى مداورته في حديثه، وقد جعل القصر وقد أراده الملك أنْ يكون لسكن الساحر مؤقتًا، عطاء ومنحة ووسيلة زهو، فحوله لهبة دائمة، وكل ذلك عن طريق التورع والتقى والعفة والتواضع، فسبحان من حير العقول في تكوين خلقه!

لم ينتبه صاحب الجلالة لكل ما يقوم به المشعوذ من مداورات واحتيال، وقد أصبح مستسلمًا إليه بعد ما رأى من عجائب، وبعد ما سمع من عبارات التقى والورع والزهد والعفة والترفع عن حطام الدنيا، فلم يعد باستطاعته أنْ يحمل قوله على غير محمل حسن الظن والقداسة، ثقة منه بطيب نفسه وبصحة تفكيره ورقة شعوره، وباتصاله بعالم الملكوت؛ لذلك أراد أن يصرف المدة الباقية لموعد الغداء مع رجل الله، يستطلعه رأيه في أحوال المملكة، فوجه إليه السؤال التالي:

الملك : يُنقل إليَّ من حين لآخر شكوى الشعب من إسراف الدولة ورجالها، ومن تفشي الرشوة وإثراء أكثر أرباب المناصب، ولا سيما الكبار، على حساب الشعب في إفقاره وتجويعه، ووزير الميسرة يؤيد ما يقال، ويطالب بقطع أيدي هؤلاء المسرفين المرتشين، فما رأي الأستاذ الجليل؟
الأستاذ : غريب والله أمر هذا العصر وبنيه، فمتى كان للشعب أنْ يتطاول إلى رجال الدولة وأركانها فينقد أعمالهم؟! إنَّ الشعب رعية، وهل يحق للرعية أن تناقش راعيها؟ انقلبت الأوضاع وفسد الزمن، ثم ماذا يرى الشعب؟ إسرافًا؟! وهل تقوم هيبة الدولة على غير الإسراف؟! إننا محاطون بدول، يقصدنا سفراؤها ورجال الأعمال فيها، وهم يتصلون بالأمراء والوزراء ورجال الوجاهة والنفوذ، وكثيرًا ما يتصلون بصاحب الجلالة نفسه، فهل يجد هؤلاء سلطانًا للدولة إلَّا فيما يمد لهم من سمط وموائد، وفيما يقدم لهم من أطعمة وهدايا وبإسراف؟ وهل يشعرون بهيبة الدولة إلَّا فيما يبني رجالها من قصور وفيما يعمرون من قرى؟ وهل إذا ما قبل هؤلاء هدايا الناس ومكافآتهم ليقوموا بواجب تشييد القصور وإعمار القرى يكونون مرتشين؟ أعوذ بالله، إنما هي ضريبة غير مباشرة يتقاضونها، ولو مالوا في ذلك لخزينة الدولة لأفرغوها وأصبحت خاوية، الرشوة إنما وضعت كلمتها لمنع صغار العمال في الدولة من استيفاء مثل هذه الضريبة لإطعام أولادهم الجياع، وهي ليست من حقوقهم، وليس لها أنْ تقف في سبيل ما تستدعيه هيبة الدولة من زهو في نفوس رجالها، ومن ترف في حياتهم، فهذا حق طبيعي لهؤلاء الأشراف المهذبين والذوات المختارين، وإنما الشعب رعية للملك ومقربيه، وهو غُنْم لهم، يقتسمونه حسب مشيئة الملك ورعايته. أمَّا إفقار الشعب وتجويعه فهي سياسة حكيمة يجب على الملك اتباعها من حين لآخر ليظل المسيطر على مقدراته، ومتى استمرَّ شبع الشعب وثراؤه، يُخشى منه على العرش وعلى من حوله من المؤيدين، هذه هي سنة الكون، والناس طبقات، ولكل طبقة حقوقها، والملك وحده هو الذي يملك حق التصرف بكل ما في المملكة من رعية ومقتنيات، وليس لأحد أنْ ينافسه في ذلك بَلْهَ أن ينازعه، يا سبحان الله! انقلبت المفاهيم وأصبحنا في عصر كله سخف وحماقات وغرور وشذوذ، أسأله سبحانه وتعالى أنْ يلهمنا طريق الصواب، فنوقف كل إنسان عند حده بمعاونة أبناء الحلال، آمين، ولعل مولاي يستغرب هذا البيان مني وأنا الناسك الزاهد المنصرف إلى الله؟ ولكن للدين نظامه وحدوده وللملك والسلطان والدولة نواميسها ومقتضيات تطوراتها وأحوالها، ولا يَظلم من يتبع النواميس والتقاليد.
الملك : ولكن ألا يتنافى ما تقول مع ما تدعوني إلى تحقيقه من حرية وعدالة؟
الأستاذ : مولاي، إن للحرية حدودًا وإلا كانت فوضى، وحدودها الإنسانية الصحيحة هي هيبة العرش وسلطة الملك، وزهو خواصه وحاشيته ومؤيديه وترفهم، وهذا هو العدل بعينه، فلكل حقه حسب طبقته، والناموس الأكبر هو في أن يظل الناس جميعًا عبيدًا للعرش ولصاحبه، فللناس أن يأكلوا ما يصلون إليه من طعام كما يشاءون، وأنْ يعملوا في المهنة التي عليها يتمرنون، وأن يلبسوا ما يجدون كما يريدون، وأنْ يفرحوا، وأنْ يتنزهوا، وأنْ يقوموا بأفراحهم حسب تقاليدهم، وأن … وأن … فمن يعترض عليهم؟ فهم أحرار في تصرفاتهم، وها إن جلالة ولي الأمر قد أوقف التجسس عن أعراضهم، فماذا يبغون بعد ذلك؟ أوَيريدون أنْ يتطاولوا إلى صاحب العرش ومقربيه؟ هذا لا يكون؛ لأنه فوضى لا أثر للتحرر فيها، وهي الظلم المبين وبها خراب هذا البلد، أنقذنا اللهم من أبناء الحرام الذين يوسوسون في الصدور ويقولون ما لا يعقلون.
الملك : ويظهر أن الناس يطالبون بالمساواة ولا سيما مساواة المرأة بالرجل، ويشددون في هذا الطلب على ما علمت، فما الحيلة؟
الأستاذ : المساواة بين الطبقات؟ وبين المرأة والرجل؟ إطلاقًا، أين نحن؟ وفي أي زمن؟ حتى المرأة تتطاول! وهل بلغ الضعف بالرجل حده الأقصى حتى أصبح يؤيدها في مطلبها هذا؟ أكاد أتهم نفسي بالخبل والجنون، والله لبطن الأرض خير من ظهرها إذا ما استمرت هذه الترهات، ولكن لا، فسنعمل على إحباط مساعي المفسدين، وهم إنما يريدون لنا الفوضى في حياتنا.

وهنا أعلن موعد الطعام، فذهب الملك وضيفه إلى المائدة، حيث كان رجال الدولة المدعوون في انتظار الملك، وسيستمر حول المائدة الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤