الفصل الحادي والعشرون

قال الراوي: لم يدهش التلميذ الشاب عندما دخل عليه الشابان «المجنونان» مكبلين بالحديد، يحرسهما الجند، إنه كان ينتظر حضورهما على هذه الهيئة، وهو لا يخفى عليه أستاذه في مداوراته وفي ترتيبه للأمور.

ناوله الجند رسالة من الأستاذ الجليل يوصيه فيها بإبقاء الشابين مقيدين إلى عودته، دون أنْ يعلم بوجودهما في الدار أحد، ويؤكد عليه بأن يقوم ما أمكن بتهيئة الجو الملائم معهما ترغيبًا وترهيبًا.

سُرَّ التلميذ لوصية أستاذه، إذ أفسحت له مجال صرف الجنود ليتمكن من التحدث إلى ضيفيه بحرية وانطلاق، وما انصرف الجند، حتى ابتسم لهما ابتسامة ناعمة، فيها معاني المرارة والألم، والحنو والأمل في آنٍ واحد، وكان قد أمسك عن النظر إليهما قبل ذلك، وراعه أنَّ الشابين استقبلا ابتسامته هذه بانكماش وعبوس وحذر، فقال:

هو : أهلًا بكما، قدمتما على صديق يرعاكما، وأظن أنكما لا تجهلان من هو، فلا مبرر للحذر.
هما (معًا وبانفعال) : ماذا تصنع هنا عند هذا المشعوذ؟ أكنت جاسوسًا له علينا في حلقة الأستاذ؟
هو : خففا عن نفسيكما، وأحسنا بشاب مثلكما الظن، وهل يتجسس الشباب؟! قد يكون عينًا لمبدأ إصلاحي يعتقد بصحته، ولكنه لا يكون جاسوسًا لأحد.
أحدهما (ساخرًا) : فلسفة جديدة، عين لمبدأ وجاسوس لأحد الناس، وما الفرق بين العين والجاسوس؟
هو : الفرق عظيم، وهو في قولي بيِّن واضح؛ فالعين إنسان مخلص لبلاده وفكرته، يبحث عن الأحوال الخفية، وينبش عن الأسرار الكمينة في الداخل وفي الخارج؛ ليتخذ وضعًا نفسيًّا مستنيرًا، يساعده على نصح الملوك والحكام، ويسدد خطاهم في سيرهم، ويصلح تفكيرهم، ويركزه على الواقع، فلا يجنحون في المصالح العامة إلى وهمهم وخيالهم، فلا ينخدع، ولا يخدع الملوك والحكام.
الثاني : كأني بك تريد أنْ تقول: إنَّ مجلس الأعيان إنما يتكون من أمثال هذا، وإنك أنت عين من أولئك الأعيان؟!
هو : ولمَ تهزأ؟ وهل غريب أن يكون القصد من مجلس الأعيان هو هذا؟ وإذا لم أتشرف بأن أكون من أعضاء هذا المجلس الموقر، فلمَ تستبعد أنْ يتحقق معناه في نفسي أو في نفس كل مواطن مدرك عاقل، وقد لا يكون متحققًا فيمن يزعمون أنهم أعيان؟ أتريد الأعيان للمراسم والغطرسة والترف؟ أتريدهم للابتزاز والاحتيال، يتجسس بعضهم على بعض مباشرة وبجواسيس مأجورين؛ للنكاية بإخوانهم في الوطن الواحد على حساب طاغية عاتٍ أو فاتحٍ مستعمر، إشباعًا لشره الرذائل وتسكينًا لشهوة النفوذ؟ أم هم لانتباش كل سر دفين يعرض المملكة للخطر؟ ولم وجب أنْ يكونوا بعيدي النظر في تفهم الأمور وفي تصريفها، حكماء في إبداء الرأي، وفي العمل على تحقيق المشاريع ووضع القوانين؟ وهل يُحسن ذلك جاهل غبي؟
أحدهما : وضح الفرق بين العين والجاسوس، ولكن، لمَ لا يجوز للشباب أنْ يتجسس، ونحن نعرف كثيرًا من الشبان يتجسسون مأجورين لا لحساب الطغاة الظالمين، أو الوجوه الطامعين من أبناء البلاد وحسب، بل ولحساب أجنبي طامع وعدو متحفز، ومنهم من تصغر نفوسهم في نفوسهم، فيتخذون التجسس لبعض الناس على بعض الناس وسيلة تقرب وتملق، ولا أجر لهم إلَّا ما قد يأملون من توافه المنافع، وقد لا تكون سوى وهْم الوجاهة بالتقرب من الوجهاء وأرباب النفوذ، وقد يصبح هذا الحال مرضًا يتبرع فيه الجاسوس بتجسسه، أي بكرامته لحساب الشيطان، فيرتاح في عمل الشر للشر وحسب.
هو : مهلًا أخويَّ، أتظنان من يتجسس أخبار الناس لينقلها غيبة أو نميمة لتوافه أو لمرض تملقًا أو تشفيًا، أو من يتجسس أخبار الناس لينقلها إلى أرباب النفوذ مأجورًا أو انتهازًا، رغبة في الوصول دوسًا على رقاب الناس في بلاده لحساب أجنبي طامع، أو عدو متحفز، أوَتحسبان هؤلاء الجواسيس من الشباب، ولو كانوا في سن الشباب؟ ليس الشباب شباب العمر، وليس الشباب شباب مظاهر نمو الجسد؛ إنما الشباب في حقيقته وفي فاعليته شباب النفس والروح، شباب الوثبات والتقدم، شباب التسامي بفضائل المجتمع، الشباب إطلالة جديدة للحياة، تتجدد بها الحياة في الإنسان متسامية بروحه الإنسانية؛ لتحقيق فضائل الإنسان — المجتمع — ليهنأ الفرد بمجتمعه وفيه، وليسعد المجتمع بأفراده وفيهم، الشباب خير وبركة، وهو سخاء وإخلاص وتضحية، وهو عزة وإباء ونبل، إنه الوثبة، ولا يثب من لا يتصف بهذه الفضائل في مجتمعات الحياة، ومن سوء حظ بعض المجتمعات أن الشباب — شباب الروح والنفس — لا يتحقق فيها، فتنهار، لنكن يقظين فلا نخدع بشباب العمر والسن والجسد عن شباب الروح والنفس، ولا تتحقق إنسانية الإنسان إلا بهذا الشباب، ولا يتقدم المجتمع، فيتكوَّن تكوُّنًا أفضل إلا بروح الشباب وتفاعلاته في ذاته، تفاعلات تجدد وتقدم ورقي، وهؤلاء الذين عبرتم عنهم بالشباب إنما هم شباب في أجسادهم، وهم أطفال أو شيوخ الهرم في نفوسهم، قد تفسد التربية شباب العصر، فيعودون أطفالًا في نفوسهم وأرواحهم، أو يبتلون بأمراض الشيخوخة المبكرة، وما أشد شقاء أمة تبتلى بأمثال هؤلاء الشباب، تسيطر على نفوسهم غطرسة الادعاء، ووهْم الغرور، وأنانية الجشع.

وفي هذه اللحظة دخل الخادم وقدم للتلميذ رسالة، فضها فإذا هي من الأستاذ الجليل، يعلن أنه سيتناول طعام الغداء على مائدة جلالته، ويؤكد عليه بتهيئة الجو الملائم، فافترَّ ثغره عن ابتسامة اطمئنان، وأتم حديثه قائلًا: اتسع مجال البحث بتأخر الأستاذ المشعوذ، ثم التفت إلى الشابين مشيرًا إلى الخادم وقال: إن هذا الخادم كهل، وهو أخي ورفيقي ومساعدي؛ لأن روح الشباب مستقرة في نفسه على الرغم من تجاوزه الخمسين من عمره، وشباب الروح قد تحقق في نفسه، فاحتفظ به في كهولته، وسيظل محتفظًا به في شيخوخته، في سن الشباب تتحقق روح الشباب، فإذا ما تحققت استمر طول الحياة؛ لذلك جعلت من هذا الكهل الشاب شريكًا لي وناصحًا في جميع ما أصمم عليه من أعمال ومشاريع، إنه من الشعب، ومن الشعب تستمد قوى الحياة في الشباب، إنه من السوقة، وفي السوقة نجد عناصر النهضات، ولا استمرار لتقدم إذا لم يمنحنا الشعب في سوقته عناصر التقدم، ويا ويل أمة يضاف فيها فساد السوقة إلى فساد الأشراف المترفين.

أحدهما : حسنًا تقول، وكأنك تتكلم بلسان أستاذنا الحكيم.
هو : وهل أفدت ذلك من سواه؟
الثاني : وهل أنت على صلة به؟
هو : دائمًا، وهو يعلم الآن مكانكما هنا، والتفت إلى الخادم متسائلًا.
الخادم : علم الأستاذ بكل شيء، وقد أوصاني بأن أبلغكما سلامه، وأنْ أذكركما بما قيل في اجتماع الوثبة قبل اعتقالكما بثلاثة أيام.
أحدهما (مخاطبًا التلميذ) : نعم، إنها كلمة السر، وقد أصبحنا تحت تصرفك أيها الأخ الكريم، نصدع فيما تأمر، ثم التفت إلى رفيقه متسائلًا.
الثاني : ظهر الحق، ولم يعد للريبة مجال.
هو (وقد ظهرت على وجهه أسارير الاطمئنان) : يجب أنْ تصطنعا جنون من به مس.
الثاني (مقاطعًا) : وما هو المس؟
هو : يتوهم هؤلاء المشعوذون أو يوهمون الناس أن شيطانًا من الشياطين قد يمس الإنسان ويدخل فيه، فيصاب بجنون، لا يُشفى منه إلَّا بإخراج هذا الشيطان، والمشعوذ الأستاذ سيحاول ذلك، فسايراه حتى يخرج الشيطان من كل منكما.
أحدهما : أفي كل منا نحن الاثنين شيطان يسكن؟ أم من نفس المشعوذ القذرة يخرج الشيطان؟
هو : يجب أنْ تعتقدا ذلك الآن، وأن تتظاهرا بالامتنان للمشعوذ بعد أن يخرجهما، أن يكون قد أنقذكما من الهلاك.
الثاني : ما هذه الأحاجي والألغاز؟
الخادم : بها أنقذكما صديقيَّ من الموت المحتم.
أحدهما : وهل كنا معرضين للإعدام؟
الخادم : نعم، ولولا مداورات هذا الهمام لنفذ.
أحدهما (مداعبًا) : وهل يداور الهمام؟ أراك تعلمت من أستاذك المداورات.
هو : مداورة دفع الشر ليست بشر، ولا بُدَّ من أنْ نحارب الأعداء بسلاحهم، فالأخلاق ببواعثها تسمو وتنحط، والأمور بمقاصدها تعلو وتسفل، وإنما الأعمال بالنيات، فلا مندوحة لكما من تمثيل دور الجنون، ثم دور البرء منه بعد أنْ يخرج المشعوذ الشيطان.

ثم أخذ في تمرينهما على تمثيل هذين الدورين، يساعده الخادم الشهم، وقد أتقناهما بسرعة أعجب بها التلميذ، فهنأهما، وأكد لهما بأنهما جديران بأن تعقد عليهما الآمال.

الثاني : ولكن هل يخدع الأستاذ المشعوذ بهذا التمثيل، على علو كعبه في العلم والتفكير، على ما فهمنا منك؟
هو : قد يتمرس المرء بالخداع، وتتلبس به نفسه لدرجة يلتبس عليه بها الأمر، فينخدع هو نفسه، ولا سيما إذا مس الانخداع غرورًا في النفس، أو جشعًا في القلب، أو طمعًا يعلق به آماله، ألا ترى من يخدع الناس بالدعاوة للطغاة ينتهي بأن ينخدع هو نفسه بهم؟ ألم يصنع الإنسان الوثن من حجر أو خشب أو تمر بيديه، ثم أخذ يعبده مع العابدين؟ ألا نزال نحن نعبد أوثانًا نكوِّنها نحن، ثم ننخطف إليها انخطاف المتصوفين؟! لا يزال الناس غافلين، وعلينا أن نعي أولًا، ثم نعيد الناس لوعيهم، فيجدون أنفسهم، فتستمر تقدميَّة الحياة.

والآن باشرا تدوير الأعين وزمجرا وأتقنا الهذيان، فإنني أسمع سعال الأستاذ وخطواته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤