خاتمة وعبرة

قال الراوي: ما كادت تلك الليلة — ليلة التاج — تتنفس عن فجرها — وقد كانت لجلالته ليلة بيضاء، كتلك الليلة التي استعاد فيها في نفسه تاريخ حياته — حتى كان الملك قد دبَّر كل شيء، فكان نهارها انقلابًا داويًا، تغيرت معه وجوه المسئولين في المملكة، وكان تبدلًا جذريًّا، استقر به الاتصال الوثيق بين الدولة في حكومتها وبين الشعب في آماله ومثله، وأصبح الأستاذ الحكيم الثائر مستشارًا أوَّل للملك وموجهًا للحكومة، وراعيًا لمصالح الأمة في جماهيرها، وقد عبرت زينة الأنوار المتلألئة على السطوح والشرفات والمندفعة في الأجواء، عن فرح الناس واغتباطهم وعمَّا استعادته الحياة في تلك البلاد من بهجة ومرح، كما عبرت الهتافات والزغاريد المتصاعدة من أفواه الناس وقلوبهم عن حبور الشعب واطمئنانه وسعادته.

استمرت تلك الأعياد، وقد دعيت بأعياد النصر، أيامًا متواصلة، اتصلت فيها أفراح الليل بأفراح النهار، والناس يهنئ بعضهم بعضًا، فتتسامى أرواحهم إلى العلاء، في أجواء المثل الوطنية والقيم الاجتماعية والمناقب الإنسانية، فيلتقون عندها جميعًا ملكًا وحكومة وشعبًا، وليست الأفراح والأتراح — يشترك فيها الشعب والحكومة معًا اشتراكًا عفويًّا يصدر عن طبيعة الذات وعن تحسسها الأصيل تلقائيًّا، لا اصطناع فيه ولا افتعال، ولا استعارة ولا استئجار، دون تكلف أو محاولة تغطية — إلا وسائل قوة وعزة وبناء صروح للأمجاد، تتباهى بها الأمم وتتفاخر الحكومات ويزهو الملوك، وتكون النتيجة انتصارًا على الذات وانتصارًا على الأعداء، والحوادث تتوالى، هي الدليل الصادق على صحة هذه النظرات.

فما سمع شدَّاد بما جرى، وما اتصل به نبأ العواقب الوخيمة تبلغ أعناق أنصاره من الخونة في رجال الدولة وأركانها، حتى استشاط غضبًا، فقرر اقتحام المملكة بهجومه الصاعق.

إنه قد سبق، وهيأ شدَّاد جنده لهذا الهجوم بالاتفاق مع الخونة المارقين والسحرة المشعوذين من رجال الدولة وقادة الشعب، فهل يضيع الفرصة والدولة هناك — على ما كان يعلم — منهوكة القوى بفعل الترف، والشعب في تلك المملكة متفككة أوصاله بفعل إفساد من أغرى من الخونة المارقين، يخلصون لمن يستأجرهم ويغريهم من أعداء البلاد الطامعين في مرافقها وثرواتها، ويحسنون خداع شعوبهم في خدمته؟ إنه النصر الأكيد ما دامت الأمة في تخاذل وانقسام، وما دام الشعب مع حكومته على خلاف، وأولئك الأنصار والأصدقاء ممن خانوا بلادهم في سبيل تحقيق مطامعي في أطماعهم، ألم يرحني منهم ملكهم الملقب بالعادل، فلم أعد مطالبًا بوفاء في إبان النصر، عندما تستحق وعودي لهم الاستيفاء؟ وهل كنت حقًّا مصممًا على الوفاء إلا بمقدار ما تقتضيه مصلحتي من تجدد الخدمات، أو يتعذر عليَّ — وأنا المنتصر — أنْ أجد في غيرهم أطماعًا تغريهم بالخيانة وبأبخس الأجور والأثمان، ما دامت الأمة في حكومتها وفي شعبها لا ترى في غير المال والزهو والترف أي معنى للوجود أو أية قيمة للحياة؟

وفي خضم تموجات هذه الخواطر السوانح البوارح، أصدر شدَّاد أمره بالهجوم غادرًا ليفاجئ الخصم، فيربح المعركة على أهون سبيل وبسرعة برق الصاعقة، ولكن ساء فأله وخاب أمله، وكان برق صاعقته خُلَّبًا، إنها روح الثورة تأتي في مقاومتها بالأعاجيب وتفعل المعجزات، فتتفجر بها ذرات الضعف قوة، إذ يتحول الانقسام تماسكًا والتخاذل تناصرًا، والتعدد في التفرق والاختلاف وحدة في التجمع والاتفاق.

انتصر الملك العادل، وانهزمت جيوش شدَّاد، وطابت لملك عرف كيف ينسجم مع شعبه الحياة، فلانت للشعب، يعرف كيف يعيد إلى مليكه صوابه، واستحالت رغدًا وعزة ومجدًا وسعادة، فاطمأنت النفوس وسكنت الأعصاب، واعترف الجميع بأن الفضل للشباب في وثبات الثورة في نفسه وفي استقرار المقاومة فيها، يعبر عنها باستمرار خفقان القلوب ودوران الدماء، نعم، الدماء.

يؤكد الراوي: إنه مضت على هذه المملكة بعد نجاح الثورة سنوات عزة وإقبال، ورغد ورخاء، ولكنها سنوات لم تتجاوز عدد أصابع الكف، إذ ما لبث الملك أن استعاد بتأثير طفيليات نبتت من جديد في أوساط رجال الدولة جميع ميول السخف بالارتياح إلى تملق الناس وإلى البذخ والترف، وكأن الشيخوخة وقد بدأت تراوده وإن باكرًا، قد أضعفت ما في صميم ذاته من مقاومة، فخمدت شعلة الثورة، وأصبح كارهًا لها، يخيفه أنْ يذكر اسمها، أو أنْ يسمع بأنها لا تزال يذكرها الناس في أحاديثهم ولو في الخلوات.

يا ويل الأمة من أذكيائها إذا ما أصبحوا وصوليين انتهازيين، ففي قدرة هؤلاء أن يفسدوا الأولياء والقديسين، وأنْ ينحرفوا بالأتقياء المصلحين، إذا لم يتدارك الشعب أمره بوعي صادق، تبعثه وثبات المقاومة، تدخلها روح الثورة، تتأجج نارها في النفوس، وهذا ما وقع، فإن الشعب وقد احتفظ بفاعلية المقاومة تحميها شعلة الثورة في النفوس، لم يحتمل طويلًا، ولكنه وقد مل دلع الملوك المتألهين وسيطرتهم جبارين متغطرسين، لا يرضيهم إلا البذخ والإسراف والمراسم السخيفة، في إشباع حب الظهور والمباهاة بما يشبه التمثيل والتهريج، حفظًا لهيبة الملك والدولة على ما يدعون، وإنما هو في الحقيقة شعوذة تتخذ وسيلة للتخدير والتنويم، استعبادًا للناس وقد خلقوا أحرارًا، إنه الشعب تلتهب في نفسه روح الثورة، تفجِّر ذرات المقاومة، فلا يعقل — وهو في تقدميته — أنْ يصطبغ بصبغة شعوب الانهزام والتأخر والانهيار، فما لبث أنْ ثار ناقمًا على الملك بل على النظام الملكي نفسه، فخلعه وطرده من البلاد وطرد أسرته وقلب الحكم جمهوريًّا، يصدر عن إرادة الشعب في خدمة الشعب، ويظل تحت سيطرة شعب أراده حكمًا ديمقراطيًّا صادقًا، لا يُظلم في ظله الفرد ولا يستغل المجتمع، إنَّ الشعب قد أراد بالجمهورية الديمقراطيَّة حكمًا تمثِّل سيادته سيادة كل فرد من أفراده، فلا يجد الحاكم فيه حقًّا في كبرياء سيادة يؤجر عليها من أسياده الناخبين، فيكيف أنت بالأجير يتكبر على أسياده ويبذخ بمالهم ولا يخجل. ويقول الراوي: إنَّ تلك المملكة سعدت بجمهوريتها، إذ صدقها من انتخبت من الحكام وأخلصوا لشعبها. وإلى هنا انتهت جدتي في سرد الحكاية مرددة إحدى العبارات المألوفة في نهاية كل حكاية يشتد فيها الصراع: «وظلوا في سعادتهم إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.» ومن يدري؟

العبرة

لن أُطيل، فعبرة القصة في ثنايا حروفها وبين السطور والكلمات، إنما أريد أنْ ألفت نظر القارئ الكريم إلى ما لا يزال حولنا وحوله طبعًا من صائغي التيجان المسحورة، يضللون بها الناس بشعوذة سحر الكلمات ودجل تنميق الألفاظ وغيرها، فأنت مؤمن ووطني من أبناء الحلال، إذا ما توهمت وجود تاج صاغوه، وخدعت نفسك بادعاء رؤيته، وأنت الكافر وأنت الخائن وابن الحرام طبعًا، إذا ما كانت لك عينان تريان غير ما يريدونك أنْ تراه واهمًا، وإذا ما كانت لك أذنان تسمعان غير ما يدعون سماعه، فلا ذات محسوسة يحكم العقل بصحة وجودها، وإن وجد شيء بالفرض فتوهم شبح، ولا رنين صوت يُسمع فتتذوقه الروح، وإن سُمع شيء فضجيج وصخب، ويجب عليك أن تعجب بما لا ترى، وأن تطرب بما لا تسمع، وإلا فإنك من أبناء الحرام، لا ترى التاج، تاج الوهم على رءوس المتألهين، ولا تدهش لتلألؤ جواهره، فأنت الكافر الخائن؛ لأنك تعبر عن وهم الشبح، فتقول: إنه وهْم. وأنت الأعمى؛ لأنك لا ترى ما لا يُرى، وأنت الأصم؛ لأنك لا تسمع ما لا يُسمع، أنت لم تُخدع، إنك لا ترى التاج المسحور، ولا يشعر بوجوده من يدعون أنه يعلو رأسه، ولكن يجب أن تراه وإلا فإنك ابن حرام، تكفر بدينك، وتخون بلادك، وتحتقر المثل والقيم، يجب أن تخادع نفسك، وأن تخدع غيرك أيضًا، لتحشر في زمرة أرباب العلم والفن والذوق، ولتعتبر مواطنًا ومؤمنًا، وإلا فكيف يستغلون ويُثرون ويرتشون ويسرقون، أو يقطعون على عباد الله الطرق؟ فإذا ما أنكرت الوهم، وأعلنت الحقيقة، فإنك لم ترَ التاج، تاج السحر والشعوذة، فلست من ظهر أبيك، ولذلك يحكم عليك هؤلاء الصائغون لتيجان السحر والشعوذة والتدجيل بالجهل وقلة الذوق وبالكفر وبالخيانة.

فانتبه يا قارئي الفطن وإياك أنْ تخدع، واتركهم يقولون، فإذا ما استقرت روح المقاومة في نفسك اتقدت نار الثورة حواليك، فيستنير الناس وينكشف الغطاء، فلا يحاول مخلص صريح أن يقتل أمه أو وطنه وبلاده، أو أنْ يتَّهم دينه، فأنت مدعو للاختيار بين تقهقرية الشعوذة وهدم الدجل، وبين تقدمية الحرية والإدراك وبناء الفكر والتأمل، ولا إخالك مختارًا عن التقدمية والبناء بديلًا؛ لأنك إنسان، وإنسانية الإنسان إنما تتحقق بالتحرر والإدراك، وبالتفكير والتأمل، والإنسان لا يُستعبد، وخضوعه كعبد إنما يعني تنازله عن إنسانيته، والإنسان لا يَستعبد؛ إذ بمحاولة إخضاع الناس رجعة إلى حياة التوحش في كهوف السباع الضارية، ولسنا في عصر التوحش، ولا في عهد استعباد مَن للحرية خلق، ورسالة كل إنسان يعي لإنسانيته أن يكافح شعوذة التيجان الساحرة ودجل الاستغلال الخادع، لا فيما يأتي به الجهلاء والسذج الأغبياء، بل فيمن يحسن الصياغة من المتأدبين والمتعالمين، ولا سيما من حملة الشهادات، ففي هؤلاء قد تكون الأخطار والأضرار، ومن أذكيائهم استعاذ المصلحون فقالوا: اللهم أنقذ الأمة من أذكيائها، وقد استجار نبي العرب منهم في قوله: «أعوذ بالله من عالم اللسان جاهل القلب.» فتأمل فيما أقول أيها الشاب، وفكر، فأنت الأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤