الفصل السادس

قال الراوي: خرج الناس سكارى من لدُن ذلك الأستاذ الجليل وما هم بسكارى، ولكن تضارب المتناقضات واصطدام الحق بالباطل والحقيقة بالشعوذة، ثم انتصار الباطل على الحق وفوز الشعوذة، كل هذا بالحقيقة في تلك الجلسة، جلسة الإفك والرياء والنفاق، أضاع صوابهم، فشعروا بخلل توازن التفكير في نفوسهم، وضاقت بهم بؤرة الشعور.

فالإنسان مهما بلغ به السخف والحمق والجهل، ومهما بعدت في منازعه الغايات والمآرب والأهواء، يظل أمينًا على نزعة الخير في إنسانيته ولو في سر فؤاده، وإلا كان استمراره على السير بغرائزه الحيوانية أقرب لواقعه من سير إنساني يدفعه لبناء الحضارات والمدنيات، ولولا هذه الخميرة في فطرة الإنسان لما اختمر في ثورة الحق على الباطل أي عجين.

والإنسان كائن عجيب، إنه غامض في نموه وفي تكوناته، وحياته في تعقد يستمر تزايد العقد به، وفيه باستمرار تقدم الحضارة في مناحيه، فإن لم تتداركه الثقافة في أدق معانيها رجع القهقرى، وانحرف في كل أموره وفي توازنه، فقد يتوازن في ذاته مع مجتمعه، وهذا هو التوازن المستقيم المنقذ، وقد يتوازن في ذاته لذاته فيكون توازنه منحرفًا، وهذا ما وقع للخارجين سكارى مضطربين من دار الأستاذ الجليل، فإنهم في حين شعروا بخلل التوازن في تفكيرهم، لم يحاولوا بلوغ التوازن المستقيم مع المجتمع الذي يحيون به وفيه، بل استقروا على توازن منحرف، وهم لو حاولوا الاستقامة في توازنهم لاجتمعوا إخوانًا يتعاونون على نصرة الحق والحقيقة وخذلان الباطل والشعوذة، ولكنهم توازنوا مع فردية أنانيتهم، فتفرقوا زمرًا متباعدة الأهداف ومختلفة المنازع والغايات، فكان رئيس ديوان وزير الميمنة وجاسوسه زمرة انفصلت عن سائر الصحب، بعد أن أُجريت مراسم التوديع حسب الأصول، وكوَّن المشدوه الذي شهق واستعاذ بالله زمرة ثانية مع بعض الرفاق سارت في زقاق يتفرع عن تلك الطريق، ولم يكن رجل الزاوية وحيدًا عندما انصرف ورفاق له من زقاق آخر، وهكذا تعددت الزمر، وافترق الأصحاب وفي نفوسهم أشياء وأشياء، عبروا عن بعضها في سيرهم، وهاك مقتطفات من تلك الأحاديث: لم يعلق أي منهم بكلمة على ذلك المجلس عندما خرجوا مجتمعين، بل اكتفوا بابتسامات لها معانيها، وبتحيات تنم أوضاعها عن الحذر، فلم يكونوا يثقون بعضهم ببعض لاختلاف المآرب والغايات، ولكن لم ينفرد الرفاق المتحدة أهدافهم نوعًا، حتى ظهر كثير مما تُكِنُّه هذه النفوس.

التفت رئيس الديوان عندما أحس بخلو الطريق، وسأل رفيقه عن رأيه بالأستاذ الجليل.

– إنه ذكي ولا شك، ولكني لا أستطيع تقدير درجة علمه، لأنني لست من العلماء، ولست من الأتقياء الورعين ليتيسر لي الحكم على تقاه وورعه، فمثلنا ينخدع بهذه المظاهر، وبها قد تؤخذ الشعوب، ولا سيما عامة الناس فيها.

– ليس هذا ما أردت يا غافل، أنسيت المهمة التي جئنا من أجلها؟

– عفوًا، إنك تقصد ما أوصانا به مولانا الوزير، إن الرجل ولا شك مشعوذ ذكي ودجال خطر، يمكن استخدامه لمصلحة الوزير ولكن على حذر، ويجب أن نتصل حالًا بمولانا الوزير لنعلمه بكل شيء حتى يهيئ نفسه للاجتماع به صباح الغد، ولعلك أبلغته عن نية الوزير بزيارته؟

– نعم، همست في أذنه بما أمر به مولاي الوزير.

وقد استمر حديثهما التحليلي الناقد حتى بلغا قصر وزير الميمنة، وسيكون له شأنه.

أمَّا المشدوه الذي شهق فقد كان مأخوذًا بتقى الرجل، وبحسن سمعته وبرصانته وبجهورية صوته، وكان بعض رفاقه يوافقه ساخرًا والبعض يبكته حانقًا، ولم يكن بينهم من مخدوع غيره على ما ظهر، ولكن الراوي يؤكد: إن اشتداد المناقشة كشف عن أنَّ هذا المشدوه كان أخبثهم، وكان يحاول أنْ يخدع رفاقه، حتى يتهيبوا الرجل فلا يطمعوا فيه، ليحتكر وحده نفوذ الأستاذ في مصالحه، إن هؤلاء الرفاق كانوا جميعًا من رجال الأعمال، وقد أَثْرَوْا عن طريق تملق رجال الدولة وأتباعهم وبإفسادهم، فهم يعرفون كيف تؤكل الكتف، وقد أسرَّ كل من هؤلاء في نفسه خطة يستغل بها نفوذ ذلك الأستاذ الجليل عند سنوح الفرص.

ولم يكن رجل الزاوية أقل خبثًا من المشدوه، فإنه ما كاد ينفرد برفاقه في الزقاق الثاني حتى قهقه طويلًا قهقهات مختلفة الجرْس، أتبعها بقوله: أتعرفون قصة الحق مع الباطل؟ فقالوا: وهل للحق مع الباطل قصة؟ فأجاب: نعم، هي قصة لا يفتأ الناس يَشْقَوْن بتمثيل أدوارها المفجعة ما داموا في غفلتهم تائهين، وفي ضلالهم يعمهون، فاسمعوا إذا كانت لكم آذان البشر: كان الحق تائهًا في البيداء، فخطر له أنْ يقصد مدينة من المدن العامرة علَّه يستقر فيها، فامتطى حصانه الأبيض، وهو حصان مضمر لا شبيه له في الخيل قوةً ونشاطًا وجمالًا، وبينما كان في الطريق صادف إنسانًا أغبر أشعث ذا طِمْرَيْن، يوشك الضعف أنْ يقعده، ويكاد البؤس أنْ يتمثل به، فرقَّ قلب الحق لذلك الرجل العاجز الذليل المسكين، فسأله عن الجهة التي يقصدها، فإذا هي المدينة ذاتها التي يتجه إليها الحق، فنزل عن حصانه وساعد الرجل على امتطائه شارطًا عليه، ولم يبقَ للوصول إلى المدينة سوى ساعتين، أنْ يركب ساعة واحدة، يترك بعدها الحصان لصاحبه، فشكره الرجل ووعده بإنجاز ما اشترط.

مرت الساعة، لم يشأ الرجل النزول عن متن الحصان مدعيًا أنه حصانه، وأنه ورثه عن أبيه، واستغرب الحقُّ أنْ يرى ذلك الرجل العاجز المسكين قد أصبح على ظهر الحصان قويًّا نشيطًا متمردًا، وقد آلمه أن يسمع منه كلمات جارحة، يتهمه بها بالبغي والعدوان، وأوجع الحق في صميم فؤاده أنْ ينهره الرجل طالبًا إليه أنْ يرتدع عن محاولة اغتصاب ما ليس له.

تحير الحق في أمره، وسأل الرجل عن اسمه وعن حقيقته، فأجابه بزهو وكبرياء وصفاقة: أنا الباطل، أعيش في كنف إبليس وبحمايته ورعايته، وليس للحق أن يدعي ما دمت حاضرًا أي وجود بَلْهَ التملُّك، فما لك يا هذا تدعي أنَّ هذا حصانك؟! إنَّ الحصان لمن يمتطيه، خدعةً حصل عليه أم اختلاسًا، وعلى كلٍّ، ألا ترى هؤلاء الناس الجالسين تحت الشجرة عند مدخل المدينة؟ فمد الحق بصره وأومأ بالإيجاب، فصاح الباطل آنئذ: إنني رضيت بهؤلاء حَكمًا بيني وبينك، فهل تقبل؟ ارتاح قلب الحق لهذا العرض آملًا في الناس إنصافًا وخيرًا، فأعلن القبول، وما كادا يبلغان مجلس جماعة الناس حتى نادى الباطل بأعلى صوته: أفتونا أيها الناس المنصفون دون مواربة ولا محاباة، وما سمع الناس كلامه حتى رفعوا إليه رءوسهم بآذانها وعيونها منتظرين النص، فقال: من الذي يجب أن يمشي بين الناس؟ أهو الحق أم الباطل؟ فأجابوا جميعًا دون تلكؤ ولا تمهل: الحق هو الذي يجب أن يمشي.

– وهل يجوز أن يمشي الباطل؟

فأجابوا بلهجة قوية جازمة: لا يجوز للباطل أنْ يمشي مطلقًا. فالتفت الباطل إلى الحق، وقال: أسمعت فتوى العادلين؟ لم يجد الحق للجواب مجالًا، فصمت شاكيًا إلى الله ظلم الناس، وتقصيرهم في البحث عن حقائق الأمور واستهتارهم بالحق أينما وجد، فابتسمت الحياة، وطيبت خاطره بقولها: سأنتقم لك فلا تحزن.

وهنا التفت رجل الزاوية إلى رفاقه وقال: أكنا في مجلسنا الأخير سوى ممثلين لوقائع هذه القصة الفاجعة؟ ألم نؤخذ باللعب على الكلمات حين حكمنا على ذينك الشابين بالجنون، وعلى ذلك العالم الناهض الباذل ذاته بالشعوذة والدجل تبعًا لأستاذنا الجليل، صورة الباطل المجسمة؟

فاغتاظ الرفاق، وقالوا له: إنك تعلم أننا موظفون من أرباب المناصب، لا نستطيع إغضاب من ينتمي للسلطان، ونحن إنما جئنا نزور الأستاذ الجليل لنتملقه طمعًا باستغلال نفوذه، ولكنك أنت أيها الواعظ العبقري ما لك سكتَّ ولست من الموظفين؟ فابتسم ابتسامة صفراء وقال: إنني أحاول أن أجد منصبًا أعيِّن فيه أحد المقربين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤