الفصل الثالث

السعادة

السعادة ضالة كل حي متحرك، إذا أدركها يومًا فاتته أيامًا، والحياة بدونها أردأ من الموت! سئل أحد الملوك: «كم عمرك؟» قال: «عشت سبعة عشر يومًا»! فقيل له في ذلك، قال: «هذه أيام سروري، وأما سواها فالموت عندي أفضل منها.»

السعادة نيل المرء كل ما يتمنى من الممكنات، وبما أن أمانيَّ الناس مختلفة فوجوه سعادتهم وسبلها مختلفة أيضًا، فقد يكون عبد أسعد من سيده، وفقير أسعد من غني، وعامي أسعد من ملك؛ ذلك لأن أماني العبد والفقير والعامي قليلة، ونيلها سهل، وأماني السيد والغني والملك كثيرة، ودونها خرط القتاد، فإذًا لا يلام البخيل على بخله الشديد حتى لو كان بخله على نفسه! ولا عجب من أنه يعيش بالتقتير وخزائنه ملأى من الدنانير، فإنما سعادته بجمع تلك الدنانير فقط لا بتناول المآكل الطيبة، ولبس الملابس الفاخرة، والتحلي بالحلي الثمينة، ولا باغتنام أوقات اللهو والطرب.

ولا عجب أيضًا من ركوبه متن الأهوال في جمع المال، وهو لا ينفقه في سبيل الراحة والعيش الرغيد! فلذته إنما هي بالحصول عليه فقط. وأما بذله للمال في سبيل شيء مما يسميه غيره راحة ورغدًا وطربًا ولهوًا يثلم تلك اللذة. وهكذا تختلف أماني الناس بحسب أخلاقهم وميلهم وأذواقهم، وما على الذوق جدال.

وحاصل ما تقدم أن السعادة ليست في الغنى نفسه، ولا في السلطة نفسها، ولا في استتمام معدات السرور، ولا في شيء مما يرى بحسب الظاهر سببًا للسعادة، بل بإدراك الأماني فقط مهما كانت تلك الأماني، وما المال والسلطة وغيرهما إلا وسائل لإدراك تلك الأماني، فإذا لم تُبلِّغ هذه الوسائل ذويها إلى أمانيهم فما هم بسعداء؛ ألا ترى أن كثيرين من الملوك والأغنياء ينتحرون لتفاقم الخطوب عليهم، أو بالحري لعجز سلطتهم وأموالهم عن رد النوازل عنهم، أو عن تحصيل رغائبهم؟! ولو كانت السلطة أو الأموال أمرًا مسعدًا بنفسه لما فضلوا الموت على الحياة عند وقوع الخطوب والملمات.

فإذًا تتوقف السعادة على رضا النفس، فكلما طمعت النفس برغائبَ عزيزةِ المنالِ قلت سعادتها، وكلما قنعت بما يسهل نيله وفرت، فإذًا أسعد الناس أقنعهم نفسًا، ويليه من كان معدمًا ووضيعًا ثم صار يثري ويرتقي؛ لأنه لا يكاد يتمنى أمرًا إلا يرى أن حالته تقدره على نيله، فلا تتسع أمانيه ذراعًا حتى تكون مقدرته بماله وجاهه قد اتسعت ذراعين، ثم يلي هذا من كان في نعمة وسعة؛ لأنه يكون بالطبع أقدر من الفقير على نيلِ رغائبَ أكثرَ، ثم من كان مجتهدًا ودائبًا حتى إذا تمنت نفسه شيئًا كدَّ وسعى بكل قواه إليه فناله، ثم من كان كسولًا يحيا بالآمال، وأخيرًا من بلغت مطامعه إلى أقاصيها، وقصرت يده عن تناول رغائبه. وكثير من العظماء والحكام والأغنياء يُعَدُّونَ من هذا الصنف، ولعل كل عليل تأصلت علته هو أشقى الناس، ولو كان أغناهم، وأعظمهم سلطانًا؛ لأن الصحة أساس السعادة.

ولا يخفى أن الإنسان مفطور على الطمع غير المتناهي حتى إذا نال أمرًا طمع بآخر، فلا يكاد يشبعه شيء من مبتغيات هذه الحياة. يُروى عن إسكندر الكبير المقدوني أنه لما رأى أباه يفتح الممالك طفق يبكي؛ إذ لم يترك له قطرًا في الدنيا — حسب ظنه — ليزحف إليه، ويستولي عليه! وما دام هذا الطمع متأصلًا في نفس الإنسان فلا يمكن أن تتم سعادته، وإنما تختلف سعادة الواحد عن سعادة الآخر بحسب مطامعهما، فأطمعهم أقلهم سعادة — كما تقدم نصه.

ثبت أن السعادة متوقفة على نيل ما تطمع به النفس، وأن النفس شديدة الطمع، فإذًا وجب على المرء أن يسعى إلى ما يروي غلة النفس من مطامعها فيكون سعيدًا:

وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام

وفي الفصل التالي نذكر أهم الرغائب التي تحوم حولها مطامع النفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤