الفصل الرابع

رغائب الإنسان

علمت في الفصل الأول [الإنسان في الطبيعة] أن الناس «يتنازعون البقاء»، فالبقاء إذن هو أول رغائب الإنسان، ومنشأ هذه الرغيبة حب النفس؛ بل إن حب النفس منشأ كل رغيبة، وعلمت أيضًا أن للبقاء خاصتين؛ وهما: «طول الأجل»، و«هناء المعيشة»، فطول الأجل يتسنى للإنسان غالبًا باستيفاء حاجيات الجسد اللازمة للحياة، وبالعيشة المرتبة حسب القواعد الصحية المقررة لأجل حفظ الجسم والعقل وبقائهما سليمين. أما الهناء فيتم بتوفر الراحة والسرور والتنعم بأطايب الحياة. وهذه المذكورات تتوفر للإنسان بتوفر الثروة له.

على أن ذلك كله ليس كل السعادة؛ أي أن السعادة لا تتم بمجرد أن يكون الإنسان صحيح الجسم، والعقل مستوفيًا حاجيات الجسد، وحاصلًا على كل بواعث الهناء والسرور، ولو كان الأمر كذلك لكان الإنسان يكتفي بأطيب الأطعمة، وأكثرها تغذية، وبأفضل الملابس للتدفئة في الشتاء، ولتلطيف الحر في الصيف، وَبِكِنٍّ يقيه حرارة النهار وبرد الليل، وثم يتقاعد عن العمل، ولا يتجشم المشاق في جمع الثروة الطائلة.

ولكن الواقع غير ذلك؛ أي أن الإنسان لا يقنع بالحاجيات فقط، بل يرغب في الكماليات الكثيرة التي ليست بضرورية للحياة؛ كالقصور الباسقة المزخرفة، والرياش الفاخرة، والملابس المنمَّقة، والحلي النفيسة إلى غير ذلك من البهرجات التي يتفنن بها، وتتزايد كل يوم بعد الآخر حتى صار القديم منها حاجيًّا، والحديث متبعًا أثر القديم، فإذًا في نفس الإنسان رغيبة عظمى يتوخاها من وراء هذه المظاهر والبهارج؛ ولذلك يستفرغ قواه لجمع المال بغية الحصول عليها.

وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الرغيبة إنما هي المجد والجاه؛ لأن مؤدى تلك المظاهر الأبهة والبهاء، والحصول على الاحترام والتجلة. نعم؛ إنها لكذلك، بيد أن المجد نفسه — وهو معلول للغنى — علة لرغيبة أخرى عظمى؛ إذ يتوصل إليها بواسطة ذلك؛ لأن اللذة المتوخاة من المجد لا يشعر بها في المجد نفسه بقدر ما يشعر بها في مؤداه. ومؤدى المجد إنما هو استمالة المحبوب بظواهر هذا المجد؛ لأنه معلوم أن الإنسان لا يهتم أن يكون مجيدًا في عيني نفسه؛ بل في عيني من يحبه؛ ليستميله إليه ببهاء ذلك المجد، فالرجل يسعى إلى المجد ليحسن في عيني المرأة فتميل إليه؛ لأن النفس تميل إلى الحَسَنِ، والمجد منتهى الحُسْنِ، وكذلك المرأة تسعى إلى المجد لتحسن في عيني الرجل فيميل إليها. وترى هذا البحث مسهبًا في كتابي «الحب والزواج» الذي أشرت إليه في أول هذا الكتاب.

فإذًا الحب المتبادل بين الجنسين «النشيط واللطيف» هو الأمنية العظمى التي يسعى إليها المرء في هذه الدنيا بواسطة الإثراء؛ ليستطيع إحراز المجد الجامع أقربَ صنوفِ الحسن. ولولا هذا الحب المتبادل لما سعى الناس إلى العُلى، ولا جمعوا المال، ولا وصلوا آناء الليل بأطراف النهار في الكد والدأب، ولا تكلفوا التفنن والاختراع، ولا ارتقت العلوم والمعارف، ولا … إلخ. وحاصل القول: لولا هذا الحب لم يكن عمران، بل يكون الإنسان كالحيوان الأعجم يقنع بكفافه من الحاجيات، ويستغني عن الكماليات.

وخلاصة ما تقدم أن رغائب الإنسان كلها من بقاء وهناء ومبادلة حب هي سعادته، وهي تقتضي أن يسعى جهده لتكثر ثروته فيسهل عليه نيل أمانيه، وأن يحافظ على صحته لينجو من الآلام الجسدية، وأن يحسن السير بحسب شرائع الحب الطاهر لكي يهنأ، فتكون «أبواب السعادة إذًا ثلاثة: الثروة، والحب، والصحة»، وموضوع هذا الكتاب «الثروة» فقط، وفيما يلي فصل عامٌّ عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤