الفصل الخامس

في قوة الثروة وتأثيرها

من الأقوال السائرة: «تملك غرشًا فتساوي غرشًا.» قول يؤيد الرأي العام على أن قيمة الإنسان وقوته وتأثيره بماله، والحق يقال: إن المال هو كالعصب الذي ينقل أوامر الإرادة، وكاليد التي يعمل بها العقل. ومشهور أن للمال تأثيرًا عظيمًا في ترقية البلاد، بل إن قوة البلاد بثروتها، وسعادة أهلها بغناهم؛ فأغنى الممالك أعظمهن صولة، وأسعدهن حالًا، وأكثرهن تمدنًا، ولا مشاحة في أن الأفراد الأغنياء هم القابضون على زمام القوة في المملكة؛ إذ يتصرفون في نظاماتها، ولو بعض التصرف، ويستخدمون حكومتها لبعض أغراضهم، وهم المتنعمون المغبوطون. لاحظ ذلك في مصر وفي أي مملكة تعرف شيئًا عن دخائلها.

وقد ثبت في الفصل السابق أن سعادة الإنسان قائمة بنيله ما يتمنى، وبما أن قوة المرء كامنة في ماله؛ فالمثري هو القادر على نيل ما يتمنى، وبالتالي هو السعيد، ولا موجب لإيضاح ذلك؛ لأنه معلوم أن المثري يبني بالمال القصور الباسقة، وبالمال يفرشها بالأثاث الفاخر، وبالمال يكتسي الحلل الثمينة، ويتحلى بالحلي النفيسة، وبالمال يأكل أشهى الأطعمة وألذها، وبالمال ينام خلي البال في سرير مطمئن، وبالمال يحصل على كل رغيبة ممكنة، وبالمال يكتسب الأموال الغزيرة.

ويقول عامة الناس: «المال يجر المال.» وهو أصوب الأقوال الذائعة، وقد أثبتته الخبرة القديمة، والمشاهدات المتواترة؛ فإن أصحاب الثروة يثمرون ثروتهم بقليل من العمل، وكثير من التدبير. وهذا هو سر أن تفاوت الناس بالثروة هو أضعاف تفاوتهم بالعمل، حتى إن أفقرهم أكثرهم معاناة ومقاساة لمشاق الحياة.

ولقد حاول بعض الكتاب أن يثبتوا أن العلم أفضل من المال؛ أي أشد تأثيرًا منه، وأكثر نفعًا، والحقيقة الراهنة أن المقابلة بين هاتين القوتين فاسدة؛ لأن تأثير العلم على الهيئة الاجتماعية أكثر منه على الأفراد، فالعلم يزيد ثروة البلاد؛ إذ يرشد إلى استخراج خيراتها منها بأسهل الطرق وأعجلها، ولكن لا يكون نصيب أرباب العلم من تلك الثروة بقدر نصيب أصحاب الأموال منها؛ لأن القوة في أيدي هؤلاء، وليس لأولئك إلا مزية الإرشاد إلى النفع، أما السبق إليه فللقوي طبعًا.

فالعلم علة ترقي البلاد عمومًا، وسبب غناها، وأما الأفراد فسعادتهم متوقفة على بذل قواهم، وأعظم القوى وأفعلها هو المال — كما سيجيء بسط ذلك في الفصل الأول من الباب الثاني [حقيقة العمل] — وأرباب العلم الذين يثرون من ثمرات علمهم كزولا الكاتب الفرنساوي الشهير، وكبلنغ الشاعر الإنكليزي الذائع الصيت هم نادرون، ومهما كثروا فلا يساوون المتمولين، ولا يجارونهم، وعلى كل حال فلا يغني العلم عالمًا ما لم يكن مقرونًا بالمال.

أما من حيث المكانة، فإذا قوبلت قيمة العالم بقيمة المثري كان المثري صاحب المقام الأول، والكلمة المسموعة، والأمر المطاع، ولو كان جاهلًا بعض الجهل أو أكثره، وكان العالم دونه، بل كأنه منه بمنزلة المرءوس لحاجته إليه، أو لقصر يده عن مجاراته في أي شيء، على أنه قد تعرض للاثنين معًا مواقف يظهر فيها فضل العالم، فتُعلن قوته الفعالة، وبيان ضعف المثري وقصوره، ولكن هذه المواقف ليست إلا نوادر مخالفة لنظام الهيئة الاجتماعية.

وإذ قد ثبت جيدًا أن قوة الأفراد قائمة بأموالهم، وأن العقل ليس إلا مديرًا لهذه القوة؛ فعلى المرء أن يجمع الأموال ليكون قويًّا؛ فيستطيع إدراك أمانيه التي فيها سعادته، ولكي يجمع الأموال يجب أن يحسن السعي، ويحكم العمل، ويسلك في سبيل الاقتصاد. وفي الأبواب والفصول التالية إيضاح كافٍ لهذه المناهج الثلاثة: «السعي، والعمل، والاقتصاد»؛ فاستوعبها واحتفظ بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤