الفصل الثالث

الإقدام

(١) حقيقة الإقدام

الإقدام طلب الأمر بجراءة واجتهاد وعزم وحزم. ومنشأ الإقدام «حب النفس»، وشرطاه «معرفة قدر النفس» و«الاعتماد على النفس»، وفي النبذات الآتية بيان ذلك.

الإقدام لازم للسعي لزومَ البسالةِ للحرب، ونجاح الإنسان في مساعيه مترتب على إقدامه على عظائم الأعمال، وخيبته تنجم عن تردده، وكم من الذين خسروا مستقبلهم من جراء ضعف قلوبهم وجبنهم! نعم؛ إن الإقدام على الأعمال الخطيرة يعد أحيانًا مخاطرة؛ لتعذُّر ثقة الإنسان التامة بمقدرته على إنجاز تلك الأعمال، ولكن متى درست المشروع درسًا دقيقًا، وكنت واثقًا من معرفتك كل حالاته، ومن استطاعتك على عمله حق الوثوق، فمن الجبن أن تتقاعد عنه.

وإذا كان المرء يتوقع الخيبة في كل ما يخطر له من المساعي والمشروعات، ويتهيب الجهاد الذي لا بد منه لإنجازها؛ فلا غرو أن يموت جوعًا قبل أن يشتد قلبه، وتثور الحمية في رأسه.

فلا تكن جبانًا كالذين تسنح لهم الفرص الحسنة، وينتبهون لها، ويتأكدون الظفر بها، ولكنهم يتقاعدون عن انتهازها لضعف قلوبهم فتفوتهم، ويسبقهم غيرهم إليها فيجني الغير ثمارها وهم ينظرون إليها والحسرة ملء قلوبهم.

ولا تكن متهورًا كالمغرورين الذين يُقدمون على المشروعات الخطيرة وهم جاهلون كفاءتهم، أو مخدوعون بأنفسهم، أو مدفوعون بآمالهم الباطلة، حتى متى خطوا خطوة أو أكثر وهن عزمهم، ونفدت حيلهم، وسقطوا من مقامهم في الهيئة الاجتماعية.

بل تفهَّم المشروع جيدًا، واعلم كل لوازمه وزِنْه، وقابله بطاقتك، فإذا تأكدت أنك تستطيع إنجازه فلا تبطئ، ولا تحسب للمشقات حسابًا؛ فإن الرجل من رقي العقبات، وذلل الصعوبات، واعتقد أن العزيمة تهون الصعب، وإن لذة الفوز بالمأمول تنسي المشقة.

(٢) حب النفس

حب النفس هو مراعاة المرء خير نفسه، وخير النفس يُطلق على الاحتفاظ بها، والاستئثار بما يسد حاجتها، وبديهي أنه ليس شيء أعز عند الإنسان من نفسه، فكل ما يحبه غير نفسه يبتغي الاستئثار به لقضاء حاجة في النفس أو للتمتع بلذة، ولولا حب النفس لما كان بقاء؛ لأنه هو المحرك عاطفة الطمع في الإنسان. والطمع هو الباعث على ابتغاء الرزق، وعلى الارتقاء، وتنازع المخلوقات البقاء. وبهذا المحرك الطبيعي الذي أنشأه الله في الجنس البشري يمشي هذا العمران في سبيله.

حب النفس أظهر في الإنسان منه في سائر المخلوقات؛ لأن الإنسان أسمى جزء من أجزاء هذا الكون بما اختُصَّ به من العقل والإرادة، وبالتالي هو أكثر حركة وعملًا؛ ولهذا وجب أن يكون أكثر أثرة من سائر المخلوقات، حتى إنه لا يقنع ولا يقف طمعه عند حد بدليل استئثاره بأفضل خيرات الدنيا ومحاسنها، وسيادته على كل ما فيها، واقتداره على استخدام قوات الطبيعة لخير نفسه، ثم لشعوره بعد كل ذلك بنقص السعادة، والافتقار دائمًا إلى خير أعظم مهما كان الخير الذي يتمتع به عظيمًا.

فترى أن حب النفس دافع قوي إلى السعي، ولكنه يجب أن يقف عند حد العدالة بحيث لا يلزم عنه كره الغير أو اشتهاء ما لهم؛ فإنه إذ ذاك رذيلة مكروهة تجر الويل لصاحبها بدل الخير.

(٣) معرفة قدر النفس

أفضل مزية للإنسان أن «يعرف قدر نفسه»، ومن سوء حظه أن أصعب شيء عليه أن يعرف ذلك؛ لأن إصابة السعي وراحة الإنسان في مسعاه تتوقف على هذه المزية، أي أن يعرف مبلغ علمه، ومقدار قواه العقلية من ذكاء وفطنة وذاكرة وقريحة … إلخ، وقواه الجسدية والمادية، ومقامه الأدبي ونفوذه. وبالإجمال كل صفاته ومزاياه أن يعرف كل ذلك معرفة حقيقية كما يعرفها فيه سائر الناس؛ حتى لا يكون مخدوعًا بحبه لنفسه. ونقيض «معرفة قدر النفس»: «الغرور»؛ وهو أن يجهل المرء كل تلك المذكورات أو بعضها، أو يتوهم نفسه غير ما هو، أو يعتقد أنه حائز على أكثر أو أقل مما هو عليه.

وإذا قابلنا أفعال العارف قدر نفسه بأفعال المغرور ظهرت لنا قيمة تلك المزية، فالأول يتكلم بما يعلم فيُحترم، والثاني يهرف بما لا يعرف فيُحتقر، وذاك يدَّعي ما فيه من المزايا فيُحسن الظن به، وهذا يدعي أكثر مما فيه فتكذبه شواهد الامتحان فيُرذل، أو يتظاهر بأقلَّ مما فيه تواضعًا أو جبنًا فيُبتذل، وذاك يسعى على قدر طاقته فينجح، وهذا يسعى فوق طاقته فيُخذل، وذاك يسعى عن علم وخبرة فينال على قدرهما، وهذا يخبط خبط عشواء فيخيب، وهكذا تكون مساعي الأول صائبة على الغالب، ومساعي الآخر خائبة. والناس يميزون بلا شك أفعال الاثنين؛ فيمدحون الأول، ويذمون الآخر، ويميلون إلى ذلك، ويكرهون هذا.

فحاذر أن تكون مغرورًا بنفسك؛ لئلا تحبط مساعيك، والغرور ضرب من الجنون، وقاك الله منه، فدائمًا زِنْ قولك، وقدِّر قيمة عملك، وتأملهما جيدًا، وانظر هل ينطبقان على حقيقتك، وهل يصح صدورهما عنك؟

ولكي تنجو من هذا الغرور استوعب كل ما يقال عنك من الأصدقاء، والأعداء، وغيرهم، واستطلع اعتقاد الناس فيك، وخذ المعدل الأوسط فهو «أنت».

ولا يَسُؤْك ما تسمعه من ذمِّك، والانتقاد عليك؛ لأنه يفيدك، فإن كنت حليمًا تتجنب الغلط الذي تنتبه إليه، وتتحاشى الخطأ الذي تُذعن أنك أتيته.

(٤) الاعتماد على النفس

بحث الكاتب الفرنساوي الشهير «أدمون ديمولان» عن سر تقدم الإنكليز السكسون، فوجد أنه «الاعتماد على النفس»، وألف كتابًا مطولًا بهذا الموضوع نقله إلى العربية حضرة العلامة الفاضل سعادة فتحي بك زغلول، وقد جمع فيه المؤلف كل ما يتعلق بمعيشة الإنكليز وأحوالهم، وإذا بها كلها راجعة إلى «الاعتماد على النفس».

طبيعة العمران وزعت الأعمال على الناس فأصاب كلٌّ منها على قدر طاقته، فإذا اتكل زيد على عمرو فكأنه أضاف حمله إلى حمل عمرو، وهذا لا يستطيع أن يحمل أكثر من حمله، وإذا كان الناس كلهم مُتَّكِلين فمن هو المُتَّكَل عليه؟ فإذًا قاعدة الاتكال فاسدة طبعًا.

والوالدون هم المطالبون بإنماء هذا المبدأ في الناشئة، ومن نكد الدنيا على الشرق أن التربية فيه شوك يخنق نبت هذا المبدأ؛ إذ تعوِّدُ الأحداث عيشة الاتكال: يعيش الولد في حجري والديه خلوًا من الواجبات عليه إلى أن يصير رب عائلة، وثَمَّ يُلقى على عاتقه بعض الواجب، ويبقى البعض الآخر على كاهل والديه إلى أن يرحلا من هذه الدنيا، فماذا تكون حاله بعدهما؟

ومعلوم أن هذه العيشة الاتكالية تعود المرء الخمول في أيام شبابه — أيام يكون عائشًا في ظل والديه — ويضطره إلى القناعة أيام يكون رب عائلة، فتكون مساعيه كلها وقتية، فكيف ينجح مثل هذا؟ بل كيف تتقدم البلاد إذا كان رجالها كلهم كهذا؟!

وفي الأقوال العربية المأثورة:

ما حَكَّ جلدك مثلُ ظفرك
فتولَّ أنت جميعَ أمرِك

أي ليس أحد غيرك يقضي حاجتك مهما كانت زهيدة لا تكلف عناء، وإن قضاها محبك فلا يُحسن قضاءها مثلك، وما من أحد يفرغ من أعماله ومساعيه الخاصة ليسعى ويعمل لغيره.

لا تتكل في تحصيل رزقك على أحد؛ كالأب أو القريب أو الصديق أو العبد أو الأجير أو المحسن، ولو كان ملزمًا بإعالتك؛ لئلا يكون عيشك عفنًا، وماؤك آسنًا، وفراشك خشنًا، وظهرك منحنيًّا تحت ثقل الجميل، بل اسعَ إلى رزقك بنفسك فتأكل العيش لذيذًا، وتترشف الشراب مريئًا، وتتوسد على فراش وثير. هذه هي السعادة، وما اللذة إلا بعد التعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤