الفصل الرابع

الاستقامة

(١) حقيقة الاستقامة

الاستقامة سجية فطرية في الإنسان يأتيها عفوًا وابتداءً، والغدر خلة يتكلفها عند مسيس الحاجة، ويتعودها بعد تكرارها. وتعريف الاستقامة أن يسعى الإنسان إلى حقه بحيث لا يجحف بحق غيره، فإذا توهمنا الحقوق حول مركز دائرة، وأصحابها في محيط الدائرة، كل مقابل حقه، فإذا سعوا كلهم إلى حقوقهم في خطوط مستقيمة لا يمس أحدهم الآخر؛ لأن الخطوط المستقيمة من المركز إلى كل نقطة في المحيط لا تتماس على الإطلاق، ولكن إذا سعى بعضهم إلى حق غيره فلا بد أن يمسه أو يقاطعه في سبيله، وكذلك إذا سعى إلى حقه بالمراوغة في خط معوج فلا بد أن يقاطع غيره في طريقه، فترى أن هذا المبدأ الأدبي ينطبق على ناموس طبيعي رياضي.

الاستقامة قاعدة نظام الأعمال فإذا انتقضت اختل ذلك النظام، وإذا تحريت كل الأعمال العظيمة والحقيرة في العالم رأيت أنها لولا الاستقامة لتوقفت، وعلى مبدأ الاستقامة المتكافئة تروج تجارات التجار، وتجري أعمال جميع العمال وأصحاب الأعمال في سبلها؛ فالتاجر لا ينكر ما في ذمته لعميله؛ لئلا تنتفي ثقة العميل به، ويكف عن معاملته؛ لأنه إذا طمع بما لعميله عليه مرةً خسر النفع من معاملته كل أيام حياته، وإذا اشتهر عنه أنه غير مستقيم في أعماله خسر النفع من معاملة أي إنسان على الإطلاق، ولهذا يضطر أن يعامل كل معامليه بالاستقامة؛ لكي تدوم ثقتهم به، وينتفع من معاملتهم.

ومهما كان المرء شريرًا وخبيثًا، فإذا كان مستقيمًا في معاملته دار دولاب عمله، ولهذا ترى كثيرين يستقيمون في أعمالهم؛ لا عن ذمة طاهرة، ولا عن خوف الله، وإنما بغية أن يبلغوا إلى أمانيهم، ويجتنوا ثمرات أتعابهم، فإذًا يتوقف نجاح مساعي الأفراد على ثبوت الثقة بهم، ولا تثبت الثقة بهم إلا باستقامتهم.

ولا يخفى أن أكثر أبناء هذا الجيل يعوِّلون في مساعيهم على التحايل والتصنع والمراوغة، حتى صار يتعذر على الطيب السريرة أن يسلك معهم! فعليك أن تكون خبيرًا بكل ضروب الحيل والمكر والخداع التي يلجأ إليها المحتالون؛ لكيلا تقع في أشراكهم، وإياك أن تقتدي بهم؛ لأن الاستقامة أساس لكل عمل ناجح، وأهم أركان الاستقامة: «الصدق، والوفاء، والأمانة، والعدل»، فتفهمها فيما يلي.

(٢) الصدق

أشرف ما يتجمل به الإنسان الصدق، وأقبح ما يعاب به الكذب، ولهذا أصبحت لفظة «كذاب» شتيمة يشتم الخصم بها خصمه، والإنسان مطبوع على الصدق، ولا يلجئه إلى الكذب إلا سوء نيته أو طمعه أو غلطه أو نحو ذلك؛ فبالكذب يستر عيوبه وأغلاطه ومقاصده الشريرة، ويستر كذبه أيضًا! ولكن الحقيقة لا تخفى، فلا يأمن افتضاح أمره؛ ولذلك كان حريًّا به أن يتحاشى كل ما يضطره إلى الكذب، وإذا غلط أو أخطأ أو ساء تصرفه عن غير عمد؛ فالاعتذار والاستغفار أفضل من الكذب لمحو ذلك العار، على أن بعض الناس يخدعون أنفسهم بأنهم يكذبون كذبًا ضمنيًّا، ويظنون أنهم لم يكذبوا، وها أشهر أنواع الكذب:
  • (١)

    الكذب الواضح: وهو أن يقول الإنسان ما يعلم أنه غير صحيح. وهو أشهر أنواع الكذب وأفظعها.

  • (٢)

    الكذب المجهول: وهو أن يقول ما لا يعلم إن كان صحيحًا أو غير صحيح، مثاله: إذا طلب زيد إلى خادمه أن يمر بالبريد حتى إذا كان له كتاب جاء به، فلم يفعل الخادم ما أُمر به، ولما سأله سيده: «هل وجدت كتابًا لي؟» قال: «لا»، وهو يعني أنه لم يمر ليعلم إن كان له كتاب أو لا، أما سيده ففهم أنه مرَّ ولم يجد.

  • (٣)

    المواربة: وهي أن يقول القائل قولًا يوهم غير ما ينويه، مثاله: إذا سأل أحد صديقه: «هل معك ريال تقرضنيه؟» فيقول الصديق: «ليس معي غرش واحد.» فيفهم أنه ليس معه من النقود شيء، وذاك يعني أنه ليس معه غرش واحد فقط بل غروش، ويقنع ضميره بهذه المواربة أنه لم يكذب.

  • (٤)

    التحريف: وهو أن يقول القائل بعض الصحيح، ويغيِّر البعض الآخر؛ كما لو عوتب على قول أو عمل فيقصُّه غير ما هو ليوهم أنه لم يكن كما بلغ إلى معاتبه.

  • (٥)

    المبالغة: وهي أن يقص المرء الحادثة أعظم مما هي؛ كما لو شكا من أحد أنه اعتدى عليه، فيوهم أنه أذاه وأهانه، والحقيقة أقل مما قال. فبعض الناس يلتجئون إلى طرق الكذب هذه ليبقى لهم مخرج للتنصل من تهمة الكذب الواضح. فإذا لم يوصفوا بالكذَّابين علنًا؛ لعدم وضوح كذبهم، فحسبهم عقابًا على كذبهم أن يبغضهم الناس، وتقل ثقتهم بهم، والثقة رأس مال الإنسان، وبالصدق يحفظ رأس المال هذا.

(٣) الوفاء

الصدق يستلزم الوفاء، وهو ثبوت المرء على قوله، فإذا قال قولًا اليوم لا ينقضه غدًا، وإذا وعد وفى. ومما يعظم الثقة بالمرء أن يعد وعدًا ويوفيه في حينه.

وآفة الوعود التسويف، وليس الخلف بأكثر عارًا من تأجيل الوفاء بالوعد، فإذا فات موعد الوعد، ولم يعتذر الواعد عن تقصيره بعذر مقبول شكَّ الموعود بوفائه، وحاذر أن يقبل منه وعدًا بعد ذلك، ولا يخفى أنه لا غنى للناس عن ضرب الوعود، فالتاجر الذي عليه مال لعميله إذا لم يدفعه في الحال يضرب له أجلًا يدفع فيه ذلك المال، فإذا أخلف بغير عذر ارتاب العميل به، وإذا تكرر الخلف تاب عن معاملته.

وآفة العهود التردد؛ لأنه إذا طال يفضي إلى النقض، فإذا عاهدت فتاة أن تأخذ يدها مثلًا، وبعد برهة تردَّدت، وجعلت تشترط المعجزات في سبيل وفائك لها؛ لتحرجها إلى نقض العهد، وتبقى أنت طاهر الذيل من هذه الوصمة، فتعجيزها وإحراجها أظلم من نقضك للعهد، وإذا نقضت أنت العهد تجنب الناس معاهدتك على شيء.

فإذًا لا تعد ما لم تقصد أن توفي وتتأكد أنك تقدر أن توفي بالموعود به كله في الموعد المعين، وإذا حدث ما أعاقك عن الوفاء، فعليك أن تبسط عذرك، وتلتمس المسامحة حتى ولو كان ما وعدت به تبرُّعًا منك، وكذلك لا تقطع عهدًا مع أحد قبل أن تتأكد أنك قادر على القيام بكل شروط ذلك العهد كما يجب. وخير لك أن تظهر مقصرًا وعاجزًا من أن تؤاخذ على الخلف والنكث؛ فإنهما أقبح ما يوصم به الإنسان، وأدنى ما يحتقر لأجله.

(٤) الأمانة

الأمانة أن تصون لغيرك حقه الذي تحت تصرفك المطلق، ولا شيء أكثر تأييدًا للثقة بالإنسان مثل أمانته؛ لأنها تقضي بحفظ الحقوق لذويها في حين يسهل اهتضامها، ولا منازع أو مؤنب غير الضمير، كما إذا وجدت لقطة ثم عرفت صاحبها؛ فإذا لم تردَّها له فقد تأمن مداعاته وتعيير الناس؛ إذ لا أحد يعلم الأمر غيرك، وليس من مبكِّت لك غير ضميرك، لكن إذا رددتها اشتهرت بالنزاهة والأمانة، وعظمت الثقة بك حتى لقد يتجرأ بعض الناس أن يستودعك مبالغ طائلة، أو ينوط بك أعمالًا عظيمةً بلا رقيب عليك، والأمانة بحسب التعريف المذكور تشمل:
  • (١)

    صيانة المال الذي في يدك لغيرك، وليس له صكٌّ به عليك؛ كالوديعة مهما كان نوعها، والحصة من الأرباح أو الحاصلات ونحوها، واللقطة … إلى غير ذلك.

  • (٢)

    الأسرار التي توصى بكتمها، أو التي تطلع عليها اتفاقًا، وتعلم أن إفشاءها مضر أكثر من كتمانها.

  • (٣)

    القيام بالواجب عليك لغيرك إذا لم يكن عليك رقيب، كما إذا كنت مستخدمًا لتشتغل النهار كله، وكان صاحب العمل غائبًا.

  • (٤)

    القيام بالواجب عليك إذا لم يكن من يسألك؛ كما إذا كنت مفوضًا وأهملت واجبات وظيفتك، وليس من يقدر أن يسألك عن إهمالك، فتعد خائنًا.

  • (٥)

    الإخلاص في العمل المجهول من عامة الناس؛ كما إذا كنت طبيبًا ووصفت للمريض علاجًا وأنت غير متحقق مرضه؛ لعدم تروِّيك، أو لقصور علمك؛ فتكون خائنًا، أو إذا كنت صيدليًّا وليس عندك كل أجزاء العلاج المطلوبة فركبته ناقصًا وأظهرت لصاحبه أنه تامٌّ؛ فتكون خائنًا، أو إذا كنت تاجرًا ومزجت بعض البضائع بالرخيص من جنسها بحيث لا يعلم أحد أنها ممزوجة؛ فتكون غشاشًا، أو إذا غَبَنْتَ شاريًا في بيع سلعة يجهل ثمنها؛ فتكون غادرًا.

وهناك وجوه أخرى كثيرة يستطيع الإنسان أن يخون بها، ولكن لا يلبث أن يشتهر أمره، وتزول الثقة به؛ فيخسر مركزه الأدبي، وأخيرًا يقفل باب رزقه.

(٥) العدل

العدل هو أن يقنع المرء بحقه، وإن كان قادرًا أن يتمتع بحق غيره، وليس أنفى للإنسانية من الجور. وأعظم ما يستميل به الإنسان غيره إليه، ويؤيد مقامه بين مواطنيه، ويبسط سيادته على المسودين منه إنما هو العدل.

فإن كنت محكمًا — واليًا أو قاضيًا مثلًا — فالعدل أساس حكمك الذي لا يتزعزع؛ لأنه يرضي السواد الأعظم ممن هم تحت سلطتك، ويحببهم بك، ويحملهم على الطاعة لأوامرك، والاستكانة تحت إمرتك، فترتاح آمنًا القلاقل والدسائس، وتبقى منصتك ثابتة حتى إذا زعزعتها العوامل الخارجية أثبتوها هم.

وإذا كنت رئيسًا كمدير معمل مثلًا، فالعدل أيضًا يثبِّت رئاستك؛ لأنه إذا لم تعامل مرءوسيك بالعدل حاولوا أن يعصوك أو يشوشوا نظام أعمالك؛ لكي يلقوا تبعة الخلل عليك، وإذا جرت عليهم توقفوا عن مساعدتك في المواقف الحرجة؛ بدعوى أن مساعدتك ليست من واجباتهم، وقد يتألبون عليك أو يدسون لك الدسائس، فبالعدل اكتسب حبهم لك فيقضون كثيرًا من واجباتك في أوقات تكاثرها، ويؤيدون مركزك.

وإذا كنت مستخدمًا فبالعدل تكتسب إخلاص مستخدَميك وغيرتهم على مصلحتك، فإذا جرت عليهم خانوك أو أهملوك عند حاجتك إليهم، وتجنب الناس أن يعملوا تحت إمرتك.

وكذلك إذا كنت سيدًا أو صاحب سلطة أو سيطرة، مهما كان صنفها؛ فعليك أن تعامل الذين هم تحت إمرتك بالعدل؛ لتكتسب طاعتهم وغيرتهم وأمانتهم ومحبتهم.

والعدل يقوم بأن تكافئهم على أتعابهم حسب استحقاقهم، وألا تفرض عليهم من الواجبات أكثر مما يستطيعونه، أو مما تكافئهم عليه، وأن تحافظ على مراكزهم وتحترمهم، ولا تكلفهم غير واجباتهم، ولا تقيد حريتهم حيثما لا يجوز أن تقيد. وهم إذا صادفوا منك هذه المعاملة العادلة، والتصرف الحسن؛ تبرعوا بعمل النوافل لك؛ فضلًا عن الفروض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤