الفصل الخامس

التَّوَدُّد

(١) حقيقة التودد

العمران معمل والناس أدواته، فكما تتوقف حركات الأدوات بعضها على بعض؛ هكذا تتوقف مساعي الناس بعضها على بعض، وإذا تأملت سير هذا العمران خيل لك أن الناس كلهم أسرة واحدة يعملون معًا لخير الجنس عن غير عمد. وهذا وجه من أوجه التسمية «بالهيئة الاجتماعية». ومن نواميس الهيئة الاجتماعية التآلف للتعاون. ولولا التعاون لما قام الناس بعظائم الأعمال، ألست ترى أن الشركات العملية والمالية على اختلاف أنواعها هي تعاون بشري محسوس؟

فإذًا لا مندوحة لك عن معاملة الناس، وبالتالي لا بد لك من مؤالفة أفراد الوسط الذين تسعى وتعمل بينهم ومعهم؛ بغية الحصول على معاونتهم، وذلك يتسنى لك «بالتودد» إليهم. ولولا نمو مبدأ التآلف بين أفراد الجنس البشري لما كان تعاونٌ؛ بل لبقوا ضعفاء تلاشيهم عوامل الطبيعة، فالوداد للناس كالجاذبية للأجرام السماوية، فإذا انتفت الجاذبية انتثرت الأجرام في الفضاء كالهباء.

يمكنك أن تعامل أحد الناس من غير أن تكونا صديقين، ولكن قلما ترجو مساعدته وتساهله؛ لأنه لا يعاملك إلا فيما يعود بالنفع عليه في الحال، ولا يصنع معك معروفًا على أمل أن تعامله بالمثل في المستقبل إلا إذا صرتما صديقين مخلصين، فإذا كثر أصدقاؤك يشتد ساعدك بهم في الأعمال الخطيرة؛ لثقتك بعضدهم عند مسيس الحاجة، وهم يعضدونك؛ لأن كلًّا منهم يأمل أن تعضده أيضًا إذا مست الحاجة كما عضدك؛ ولهذا ترى العقلاء يهتمون بتكثير الأصدقاء كما يهتمون بجمع الثروة، ويفاخرون بكثرة أصدقائهم كما يفاخرون بغناهم وجاههم.

فاجتهد بتكثير الأصدقاء الحسني السيرة الطيبي السريرة من أي طبقة كانوا؛ لأن لك من كل منهم نفعًا خاصًّا؛ فهذا ينفعك بعمله، وذاك بسعيه، وهذاك بماله، وذلك بتوسطه … إلخ، وليكن لكلٍّ مقامه عندك، فيكون لك في عينيه مقامك الحقيقي. ولكي تربح الأصدقاء يجب أن تكون مستقيمًا — كما تقدم آنفًا — ومخلصًا، ولطيفًا، ومتسامحًا، وعزيز النفس، وشاكرًا، وحسن المظهر، وإليك إيضاح ذلك.

(٢) اختيار الصديق

أصعب عقبة في سبيل التودد الاهتداء إلى الخِلِّ الوفي؛ أي الصديق الذي يخلص الود، ولا سيما في هذا الزمان الذي أصبح فيه ثوب الرياء صفيقًا لا يشف عما تحته، ولو ألقيت عليه أشعة «رنتجن»؛ ولهذا يجب التأني في انتخاب الأصدقاء، وعدم التسرع في الثقة بهم قبل أن تبرهن أعمالهم المتكررة على حسن نياتهم، والتحذر من الوقوع في أشراكهم. والاختبار الطويل خير واسطة للاستيثاق من إخلاص الصديق. وهاك أهم النصائح لاختيار الأصدقاء الأوفياء:
  • (١)

    ابحث عن أصدقاء من تلتمس صداقته أو يلتمس صداقتك، فمتى عرفت أحوالهم ومبادئهم ومكانتهم الأدبية عرفت أكثر أحواله ومكانته ومبادئه؛ لأن القرين بالمقارن يقتدي.

  • (٢)

    لاحظ سلوكه وابحث عن أسباب نجاحه؛ فتعلم شيئًا من شمائله.

  • (٣)

    استعلم عن معاملته ولو من معامليه؛ لتعلم إن كانوا مرتاحين إلى سلوكه راضين عن معاملته، واثقين به، وبالإجمال ابحث عن سوابقه.

  • (٤)

    لا تغتر بمظاهره؛ فقد تكون دخائله سيئة، ولا بلطفه؛ فقد يكون تدليسًا، ولا بما يبدو من كرم أخلاقه؛ فقد يكون بين الناس نعيمًا، ولكنه يكون لأهل بيته وأخصائه جحيمًا، وهكذا يكون لك متى وثقت به، ووقعت في أشراكه.

  • (٥)

    تجنب من يغتاب غيرك أمامك، ولا سيما في بدء صداقتكما؛ لأن مثل هذا شيمته الاغتياب؛ فالذي يقوله لك عن غيرك يقوله لغيرك عنك.

  • (٦)

    احذر من يسر لك أسرار غيرك؛ فإنه يسر أسرارك لغيرك، وصداقة مثل هذا تضر أكثر مما تنفع.

  • (٧)

    لا تثق بمن يسر لك أحواله الشخصية قبل أن تتمكن الصداقة بينكما؛ لأنه إما أن يكون من طبعه عديم الكتمان فلا يقدر أن يكتم أسرارك عن غيرك، وإما أن يكون خداعًا فلا يذكر لك إلا غير المهم من أحواله الشخصية أو مختلقات عنها؛ إغراءً لك؛ لتثق به وتطلعه على أحوالك، أو تكشف له أسرارك.

  • (٨)

    تجنب الصديق الذي يزين لك مشروعات مبنية على مقاصد شريرة؛ لأن ذا المقاصد الشريرة والمبادئ الفاسدة مهما كان مخلصًا لك فإنه سريع الانقلاب عليك لأقل داعٍ، ويؤذيك بما يعلمه من أوجه مضرتك.

  • (٩)

    لا تكشف لصديقك من سرائرك إلا ما لا بد من كشفه له ولو كان أكثر إخلاصًا لك من أبيك.

(٣) المظهر

مظهر المرء ما يبدو فيه من كسوة ومنزل ونحوهما مما يدل على مكانته ومبلغ جاهه، ولهذا يجب أن يكون مظهر المرء كساءً لمخبره، ولائقًا به لا متسعًا عليه ولا ضيقًا؛ لأنه إن كان المظهر أبهى من الجاه الحقيقي كلف صاحبه فوق طاقته، ودل الناس على غروره، وإن كان الجاه أبهى من المظهر شوَّهه المظهر، وحقَّر صاحبه، ودلَّ على شُحِّه.

ليس كل من تتودد إليهم من أهل الوسط الذي تسعى فيه يعلمون حقيقة أمرك، فهم يستدلون على مخبرك من مظهرك، فإن كنت زريَّ الملبس خسيس المجلس أزرى القوم بك، ولو كان عندك مال قارون، ولك علم أفلاطون.

فكن بين أقرانك مثلهم في الهندام والنظافة، ونفاسة الملابس والأثاث، وبالغ ما شئت في الهندام والنظافة؛ لأنهما مستحبان في كل حال، وقلما يكلفانك، وأما في نفاسة الملابس والأثاث فلا؛ لأنهما يجب أن يكونا على قدر جاهك. وجاه المرء على قدر سعة يده طبعًا.

ولا يخفَ عليك أن لكل سن ملبسًا يليق به، فلا تعدل عنه في حينه، ولا تبالغ في التأنق؛ لأن زيادته دلالة على الخفة والغرور.

(٤) الإخلاص

أسُّ الصداقة الإخلاص؛ وهو أن تكون المودة قلبية، ودعواها حقيقية، وأن يؤيدها العمل لخير الصديق عند مسيس الحاجة. نعم؛ إن وراء كل صداقة غاية مهما تنوعت ترجع إلى الانتفاع من الصديق، ولكن هذه الحقيقة لا تنفي الإخلاص كما يزعم البعض؛ بل بالحري تؤيده؛ لأن الإنسان مفطور على التآلف، وغاية التآلف التعاون كما تقدم؛ أي تبادل النفع والانتفاع، فلا بد إذًا لتأكيد التآلف القويم من الرغبة القلبية في هذا التبادل وإلا فسد التآلف أو كان اسمًا بلا مسمى. فالصديق المخلص هو الذي يبتغي من ائتلافه مع غيره أن ينفعه كما ينتفع منه، وأما الذي ينوي أن ينتفع ممن ائتلف معه، ولا ينفعه، أو ينفعه أقل مما ينتفع منه؛ فهو المتودد المرائي، فإذا افتضح أمره تحاشاه الناس.

فكن غيورًا على أصدقائك، وبادلهم الجميل، واسعَ إلى خيرهم ما استطعت فتتعلق قلوبهم بك، وينتهزوا الفرص لمكافأتك على جميلك، ومهما كنت في سعة وقوة فلا بد أن تحتاج يومًا ما إلى أيدي هؤلاء الأصدقاء، فإذا كان لك عليهم فضل مدوا أيدي المعاونة لك عن طيب خاطر، وإلا فلا أحد يلتفت إليك، ولو مت كمدًا. وهب أنك في غنى عن الأصدقاء، فيكفيك أنهم يذيعون أخبار مروءتك، ومكارم أخلاقك وإخلاصك؛ فيرتفع قدرك، ويتمجد مقامك، وترتاح نفسك إلى العمل الصالح الذي عملته.

(٥) اللطف

اللطف «مفتاح التودد»؛ وهو أن تفعم قلب من تتودد إليه بالسرور من مجاملتك، ومطارحتك، وتجعله دائمًا مرتاحًا إلى عشرتك؛ فتكتسب مودته لا محالة. اللطف جاذب القلوب، فَأَكْثِرْ منه تستولِ على قلوب كثيرة، وقد تستعبد قرينك، وتأسر المحيطين بك بلطفك، وأهم أركان اللطف:
  • (١)
    السلوك حسب أصول المجاملة «إتيكيت» Etiquette الدارجة: لأنه يدل على سلامة الذوق، ويعلن الواجبات والحقوق لذويها، ويحفظ المقامات لأهلها.
  • (٢)

    طلاوة اللسان: بحيث يكون الكلام سامي المعاني، رشيق المباني، عذب اللفظ، سهل المأخذ، وينبغي أن يتحاشى فيه ما يدل على الأنانية والعجب والخيلاء، واحتقار السامع أو غيره، وأن يخلو من الغلو والمبالغة والتخريف، والقول الهراء، واللفظ البذيء، إلى غير ذلك مما يدل على فساد الخلق، ورداءة النية، ودناءة المبادئ، ويحط من مقام قائله. وكثيرون يكتسبون قلوب غيرهم بعذوبة أحاديثهم.

  • (٣)

    ليونة الخلق: وسهولة المراس، بحيث تجاري أليفك على أهوائه القويمة، وتحمله على العدول عن آرائه الخرقاء، وأمياله المعوجة بأسلوب لطيف بحيث لا يستاء أحدكما من الآخر.

  • (٤)

    التواضع: بحيث لا تفتخر بنفسك أو بمن ينتمي إليك، ولا تعتدِ بقوتك، ولا تعجب بمحاسنك ومحامدك أمام قرينك؛ لئلا يكرهك لأجل خيلائك، ولا تبالغ بالتواضع إلى درجة التنازل عن مقامك؛ لئلا تمتهن، بل كن معتدلًا بحيث تحافظ على مقامك، ولا تحط من مقام غيرك.

  • (٥)

    البشاشة: فإن البشر في الوجه من أجزاء الجمال، والجمال يستميل القلوب، فاجتهد أن تكون دائمًا بشوشًا؛ لكي يرتاح الناس إلى عشرتك، ويتجرءوا على محاضرتك، وإن كنت عبوسًا مقطب الحاجبين تنحوا عن مجلسك.

  • (٦)

    الحلم: اجتهد أن تسود طبعك دائمًا بحيث لا تغضب، ولو كان هناك ما يدعو إلى الغضب؛ لأن الغضب لا يدفع مكروهًا، بل يزيد الحالة خطرًا، وينشئ الخصام بين الأصدقاء، ويولد الأحقاد والضغائن، وكثيرًا ما يدفع المرء لقول غير ما يريد؛ فيجسم العداء، ويوسع مجال الأحقاد والجفاء، فتدارك إذًا بالحكمة كل ما يسخط، وتدارك بالحلم والمسالمة العداء والخصام.

وهناك أركان أخرى للطف لا تغرب عن فطنة سليم العقل والذوق، وجلها داخل تحت هذه الأركان الستة.

(٦) التسامح

التسامح دواء الجفاء، وغذاء الوداد؛ وهو تدارك العداء، أو تلافي الجفاء بالتنازل عن الحق الزهيد إذا كان ملتبسًا أو فات أو طمع به الصديق. وكثير من المخاصمات التي تحدث في العالم ويتسع خرقها يكون سببها اختلاف طفيف على أمر زهيد، ويمكن تداركها بالتسامح، وكثيرًا ما تخسر الصديق بالتدقيق في محاسبته على الأمور الطفيفة، وهاك أهم أركان التسامح:
  • (١)

    التساهل: وهو أن تترك الحق القليل الذي تختلف عليه أنت وصاحبك، ولا تقتنعان كلاكما أنه لأحدكما دون الآخر، وأكرمكما خلقًا أسبقكما إلى هذا التساهل.

  • (٢)

    الإيهاب: وهو أن تترك لصديقك حقًّا زهيدًا لك في ذمته إذا شعرت أنه يتعذر عليه رده، أو أنه راغب باستبقائه له؛ كما لو كانت معه مديتك مثلًا ورغب أن تبقى معه تذكارًا لك، أو لسبب غير ذلك، فإذا ضننت بمثل هذا الأمر فربما عدك شحيحًا.

  • (٣)

    المجاراة: وهو موافقة صديقك على قصده إذا لم تجده محذورًا، كما إذا رغب إليك أن ترافقه إلى المتنزه الفلاني مثلًا، وأنت تفضل أن تذهب إلى متنزه آخر، فلا بأس أن ترافقه، وإذا أصر كل منكما على رغبته افترقتما لا محالة، وربما لا تجتمعان بعد.

  • (٤)

    التسليم: وهو أن توافق صديقك على رأيه إذا رجح لك صوابه، ولو كان مخالفًا لرأيك؛ فإن الإقرار بالغلط فضيلة وفخر كالقول الصائب، وإذا كابرت اجتنب محادثتك.

  • (٥)

    المغفرة: وهي أن تسامح صديقك على أخطائه، وتعذره على هفوته؛ فإن الغفران يمحو كل جفاء، ويجدد عهد الولاء، ويزيدك قدرًا في عيني صديقك، ويرفع مكانتك في قلبه، والحقد يثير البغض.

(٧) عزة النفس

عزة النفس هي إكرام المرء نفسه، ووضعها في مقامها. وهذا يستلزم أن يعرف المرء قدر نفسه، وهي وسط بين الكبرياء والضعة؛ ولذلك هي ضرورية للتودد؛ لئلا يظهر التودد بالكبرياء تدللًا فيُستثقَل، أو بالضعة تزلفًا فيستغَش.

لا تكتسب مودة الصديق إلا إذا تجلَّت له محاسنك ومحامدك التي هي «أنت» فيستحبها فيك، وهي لا تنجلى له كما هي إلا إذا لاءمت المقام الذي أنت فيه، وملأته تمامًا، ولم تزد عليه؛ لأنك إن كنت متكبرًا كنت في مقام من هو أعظم منك، وإذ ذاك يرى من تتودد إليه أن تلك المحامد والمحاسن قليلة عليك، فيجدك ناقصًا فيحتقرك لهذا النقص، أو بالحري يكرهك لادعاء الرفعة الباطلة! وإن كنت متضعًا كنت في مقام من هو أدنى منك، وإذ ذاك يتوهم محاسنك ومحامدك وهمية ترائي بها لا حقيقية؛ لأنها تظهر كثيرة عليك، وأليق بمن هو فوقك منك؛ فيكرهك لما يتوهمه من ريائك، أو بالحري يسخر بك لابتذالك.

تحفظ مكانتك لنفسك أولًا إذا احتفظت بحقوقك كلها، ولم تفقد منها شيئًا إلا ما يقتضي «التسامح» أن تهبه لصديقك عن طيب خاطر، فإن تركت حقًّا لك مجانًا لا يحسب لك، ولا يعرف تسامحًا منك حتى إذا تكرر ذلك منك كنت مبتذلًا فتستهان، وإن ادعيت أكثر من حقوقك حسبت طماعًا فتبغض، وثانيًا إذا قمت بما يجب عليك لغيرك، واعتذرت عما لم تستطع القيام به من واجباتك، فإن قمت بأكثر مما يجب عليك حسبت متزلفًا، وإن لم تقم بكل ما يجب عليك حسبت متدللًا.

واللبيب لا يتعذر عليه أن يعلم وقت كل من «عزة النفس» و«التسامح».

(٨) الشكر

الشكر عطر التودد، وهو معرفة الجميل، وذكره للصديق، والثناء عليه لأجله، ولو كان زهيدًا، وغاية الشكر أن يتيقن صاحب الجميل أن جميله معترف به، وغير ضائع في محله، فإذا لم تستطع أن تكافئه عليه بالمثل فاذكره له؛ إقرارًا بفضله، وإثباتًا لكرم أخلاقه، وإذا سكتَّ عن شكر صديقك على جميله ظنك ناكرًا له، أو غير عالم به، إذا لم يكن واضحًا أو غير محتاج له؛ فيعد عمله فضولًا، ويندم عليه، ويتوب عن غيره. فبالشكر تؤكد له انتفاعك من جميله، وتقديرك إياه قدره؛ فترغِّبه في أن يأتي جميلًا غيره. وقد يكون الشكر أحيانًا خير مكافأة لصاحب الجميل، وهو لا يكلفك إلا إظهاره، وإظهاره حق، ولا مفر من الحق.

فاشكر لصديقك كل أمر يفعله لك، وأثنِ عليه، وابذل جهدك أن تعوضه عوضًا منه في الفرصة الملائمة؛ لأن الاكتفاء بالشكر وحده مكافأة للجميل في كل أمر يحمل على الشك بالإخلاص، وسلامة الطوية؛ إذ إن الغرض من الصداقة كما علمت إنما هو تبادل الانتفاع والنفع، فإذا لم تكافئ صديقك على معروفه إلا بالثناء والشكر ملَّ هذه المكافأة الباطلة، واقتصر على تمنينك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤