الفصل الثاني

أركان العمل

علمت من الفصل السابق طبيعة العمل، وماهية القوى العاملة، وأسرار نجاح العمل، بقي أن تعلم ماذا يطلب منك؛ لكي تحسن العمل، وتتمه كما يجب، فكل ما ذكر في القسم السابق من أركان السعي — الأهلية، والإقدام، والاستقامة، والتودد — لازم للعمل أيضًا، ويزاد عليه الأمور الآتية التي هي للعمل كالأركان للبناء.

(١) العزم

العزم هو الإقدام على العمل بلا تردد، وهو أول ما يطلب للعمل، ويشترط فيه أن يكون مسبوقًا بتدبر العمل جيدًا، وبالاستيثاق من الطاقة عليه، ومن الحصول على نتائج تساوي القوى المبذولة له، وأن يقترن به التصميم على الاجتهاد والثبات والاحتمال.

يقال: «كل ابتداء صعب.» ولا شك بهذا القول؛ لأن الانتقال من الفكر إلى العمل تغيير للمألوف، وتغيير المألوف صعب، على أن هذه الصعوبة تزول بعد الاستمرار في العمل برهة حتى يألفه المرء ويتعوده، ويهتدي إلى مناهجه القويمة السهلة، فابتدئ.

ينظر الإنسان إلى العمل الذي لديه، فيرى أنه يستفرغ جهدًا عظيمًا، ويشغل وقتًا طويلًا، فيضجر منه قبل أن يشرع به، ويتخوف منه قبل أن يعالجه، ولذلك يتردد بالإقدام عليه، وكلما طال تردده استعظمه، ووهن عزمه، وأخيرًا يرجع عنه خاسرًا فوائده. فمتى تأكدت أن عملك ينجح فلا تنظر إليه كله دفعة واحدة؛ لئلا يهيلك أمره، بل انظر إلى كل جزء منه في يومه، ومتى أتممت هذا الجزء في حينه كما يجب فكأن عملك كله قد تم؛ أي أن الأجزاء الباقية منه تتم كما تم ذلك الجزء.

هذا من حيث الأعمال والمشروعات المحدودة الأجل. وأما الأعمال الدورية التي تُعمل كل يوم على التوالي، فالإقدام لازم في ابتدائها إلى أن يعتاد عليها فتسهل مزاولتها.

(٢) الحزم

الحزم ضبط الرأي في العمل، والأخذ فيه بالثقة، وهو واجب في كل جزء من العمل، ويشترط فيه أن يكون أسلوب العمل منظمًا في البال، وإن أمكن ففي لائحة أو رسم أيضًا كمقتضى الحال؛ لكي تعلم مداخله ومخارجه، وتتوزع أجزاؤه على القوى العاملة، والأوقات المعينة الكافية، فإذا دخلت في العمل من غير أن تصور أسلوبه في ذهنك لا تدري بعد ذلك كيف تخرج منه، ولا بدع أن تخطئ في عمله فيذهب تعبك سدى.

فالبنَّاء لا يحكم بناء قصر ما لم يرسم شكله، ولو في مخيلته؛ ليعلم كيف يضع أساسه، ويرتب نوافذه، وأروقته … إلخ، والنجار لا يقدر أن ينجز خزانة ما لم يرسم شكلها أو يتصوره؛ لكي يعلم كيف يقطع الأخشاب لها، والتاجر لا يقدر أن يشرع بتجارة قبل أن يدون قائمة بالأصناف التي يستوردها لمحله، ويحدد أسعارها … إلخ، وهكذا سائر الأعمال تحتاج إلى تروٍّ وتدبر، على أنها تتفاوت من هذا القبيل؛ فبعضها يحتاج إلى حزم أكثر من الآخر.

فلا تقدم على عمل ما لم تضع له مثالًا في بالك أو في أوراقك، ولو تعذر عليك ضبط المثال كما يجب؛ فإنك تستدل به على مواقع الخلل فتصلحها في أثناء العمل، ولهذا يجب أن تتفكر كل يوم بعمل الغد وما بعده ما استطعت، ولا يخفى عليك أن فساد أكثر الأعمال وخسارتها ناجمان عن التسرع بها، وعدم الاستبصار بأسلوبها.

(٣) المزاولة

المزاولة معالجة العمل ومحاولته؛ للتوفُّق إلى إحكامه وإتقانه بسهولة، وهي ضرورية لكل نوع من الأعمال، ومهما كان العمل صعبًا، وطريقته متعذرة على العامل، فبالمزاولة يتقنه، ويتعود طريقته. وكم من الأعمال التي نراها أو نسمع بها نعجب من اقتدار ذويها على إحكامها! وإذا علموا هم بتعجبنا عجبوا منا؛ لأنهم لا يتكلفون عناء، ولا يقدحون زناد الفكر لكي يعملوها!

خذ مثلًا الذين يلعبون على الآلات الموسيقية تجد أنهم يضربون أصعب الألحان من غير افتكار، وربما يتكلمون حديثًا طويلًا وهم يضربونها ولا يغلطون.

وإذا تأملت أعمال الإنسان الاكتسابية رأيتها كلها نتيجة المزاولة، فلولا مزاولة القراءة طويلًا لما كنا نفهم الكلمات بأقلَّ من لمحة، حتى إننا نستوعب من الكتاب في ساعة ما لا يمكن أن يلقيه علينا المتكلم في ساعتين، وقس على القراءة غيرها.

فإذا استصعبت عملًا في بادئ الأمر فلا تيأس من استطاعة أحكامه؛ لأن مزاولته والتمرن عليه يجعلانه بعدئذ عادة من عاداتك. وكم من الناس الذين لا يحسنون عملًا لأنهم يضجرون لأول عهدهم في العمل، ويقنطون من أحكامه فيتركونه خاسرين!

(٤) الاجتهاد

الاجتهاد استفراغ الطاقة في تحصيل أمر مستلزم للكلفة والمشقة، ولا نظن عملًا يتم بلا اجتهاد ما دام كل عمل لا يتم إلا ببذل قوة، على أن بعض الناس يستخِفُّون ببعض الأعمال فلا يُفرِّغون لها ما تستحقه من اجتهادهم؛ فيخسرون أثمارها، والعمل والاجتهاد في كفتي ميزان؛ إذا خف الاجتهاد هبط العمل، ولهذا وجب الاهتمام بكل عمل أكثر من استحقاقه لكي يتم.

وبعض الناس يتوهمون أن وسعهم أقل مما يقتضيه العمل فيتقاعدون عنه، فهم الكسالى، ومتى أصيب المرء بداء الكسل ضعفت همته، ووهنت عزيمته، وأصبح لا يستطيع العمل الحقير بعد إذ كان يتقاعد عن العمل الخطير فقط، وأصبح في آخر القوم في سبيل الحياة، وعاش مرذولًا!

وهمة الإنسان ونشاطه يقويان بالاستعمال كجميع أعضائه، ويضعفان بالكسل والتقاعد، فإذا أقدم الإنسان على الأعمال العظيمة، واستكدَّ قواه، واستفرغ وسعه إلى أن يجتني ثمرة عمله نشط إلى عملٍ أعظمَ، وعلت همته، واتسعت طاقته.

فأي عمل تعمله مهما كان صغيرًا وجِّه إليه كلَّ عنايتك، واجتهد فيه أكثر مما يستحقه؛ لكي تحسنه وتتمه في حينه، واحذر أن تعدى بداء الكسل؛ فهو آفة السعادة التي تدور الحياة على محورها.

(٥) الثبات

الثبات هو الاستمرار في العمل بلا انقطاع عنه إلى البطالة، وفي الأقوال المأثورة: «الثبات عنوان النجاح.» ولا شك في أن الذين نجحوا هم الذين ثبتوا في أعمالهم، ولم يضيعوا أوقات العمل في اللهو والبطالة.

ولا يخفى أن أكثر الأعمال تكون في أوائلها قليلة الفائدة، فيرى ذووها أنهم يستفيدون أقل مما يبذلون فيها من قواهم، فيزهدون عنها، ويهملونها تارةً، ثم يعودون إليها أخرى، فتتلاشى فائدتها تدريجًا، ويضيع اجتهادهم الأول فيها أدراج الرياح. والأجدر بمثل هؤلاء أن يثبتوا في عملهم إلى النهاية؛ إذ لا بد أن يجتنوا منه أثمار أتعابهم إذا كانوا مصيبين فيه.

الأعمال كالمغروسات التي لا بد في أول الأمر من بذل العناية الكلية، والاجتهاد في سياستها، وتعهدها … إلخ، حتى متى نمت اجتُنيتْ أثمار كثيرة منها من غير جهد. هكذا الأعمال لا بد من العناية والاجتهاد العظيمين في أول أمرها، حتى متى تعودها ذووها وعرفوا أبواب الفائدة منها وطرق رواجها؛ ربحوا منها ربحًا جزيلًا، ولم تعد تكلفهم عناية عظيمة؛ فالتاجر مثلًا يصرف مالًا كثيرًا، ويسعى طويلًا في السنة الأولى من غير جدوى، وقد يخسر بعضَ الخسارةِ، ولكن متى اشتهر محله، وكثر زبائنه راجت تجارته، وأخذ ربحه يتزايد تدريجًا، وتعبه يقلُّ.

(٦) المواظبة

المواظبة هي الاستمرار في العمل بلا انقطاع إلى غيره. والفرق بينها وبين الثبات زهيد كما ترى في تعريفهما، فما قيل فيه يقال فيها، ويزاد أن بعض الناس يبتدئون بعمل ما حتى إذا أتموا بعضه يئسوا من الحصول على الفائدة التي يرجونها منه أو ضجروا منه؛ لطول المدة التي يستغرقها، أو كرهوه لأسباب أخرى فيعدلون عنه إلى غيره، ويكون أمرهم مع غيره كما كان معه، وهكذا يبتدئون بأعمال كثيرة ولا يتمونها، فيصرفون قواهم فيها من غير أن ينتفعوا بشيء منها.

مثال ذلك: شرع بعضهم يحترف النجارة بعد إذ أنشأ معملًا جهزه بالمعدات اللازمة، ولم يكن في أول الأمر ملمًّا كلَّ الإلمامِ بهذه الصناعة، ومعمله لم يشتهر بعد فلم يكسب منه إلا اليسير فزهد فيه، وما انقضت السنة الأولى حتى باع المعدات بأبخس الأثمان، وتعاطى التجارة بالأقمشة فلم يربح في السنة الأولى ربحًا كافيًا؛ فباع تجارته رخيصة، وصار يطلب عملًا أو خدمةً.

وهكذا نرى بعض الشبان المتسرعين ييأسون سريعًا، ويتركون مشروعاتهم قبيل أن يئين آن اجتنائها، ذلك بعد إذ يكونون قد أنفقوا جانبًا من قواهم فيها، ولو واظبوا عليها إلى أن يبرعوا ويشتهروا بها لانتفعوا منها منافع تفوق اجتهادهم. ومهما كان العمل وضيعًا وقليل الربح فالثبات فيه والمواظبة عليه يجعلانه شريفًا ووافر الكسب.

والذي يحمل الشبان غالبًا على التردد في الأعمال والتنقل بينها هو اتساع مطامعهم، وقلة كفاءتهم، وعدم اهتدائهم إلى المهنة التي توافقهم؛ فالأولى بهم أن يكثروا من استشارة من هم أخبر منهم عن الأعمال التي يميلون إليها، ويسترشدوهم في مشروعاتهم، وعليهم هم أن يعملوا الفكرة في نتائج أعمالهم قبل الشروع بها، ويترووا جيدًا، ويتحروا كل أمر، ولا يقدموا على عمل قبل التثبت من حقيقة أحواله وفوائده، وكفاءتهم له.

(٧) الترتيب

الترتيب: وضع الشيء في محله، وإتمام الأمر في حينه. ولزومه للعمل كلزوم القانون للحكومة؛ فكما أن البلاد التي بلا قانون تكون في فوضى واضطراب، كذلك الأعمال التي بلا ترتيب، والترتيب يسهِّل أصعب الأعمال، ويحل أعقد المشاكل. وأحقر الأعمال بلا ترتيب يقتضي مشقة وعناء عظيمين.

ولا يخفى أن الإصابة في الترتيب لا يُتَوَصَّلُ إليها إلا بذكاء شديد، وفكرة حادة، وعلم واسع، وبعد اختبار، ومزاولة طويلة، ولهذا ترى أصحاب الأعمال الخطيرة كمديري المصارف، والسكك الحديدية، وأصحاب المعامل العظمى وغيرهم، الذين مهروا بالترتيب، يديرون حركات أعمالهم بغاية الدقة والضبط في وقت قصير بكل راحة وهم في مجالسهم؛ فيوزعون الأعمال على العمال كل حسب طاقته وأهليته، ويضربون لها مواعيدها الموافقة، ويعينون آجالها الكافية، فتستمر حركات العمل بكل نظام كما تتحرك الآلات الميكانيكية بيد محرك واحد.

فانظر دائمًا إلى عملك نظرة عامة، ورتِّبْ أجزاءه بعضها بعد بعض حسب الاقتضاء؛ لكيلا يقف الواحد منها في سبيل الآخر، ولسهولة الترتيب دَوِّنْ سلسلة أعمالك في صحيفة قبل الشروع بالعمل، ولو عمل كل يوم بيومه، وعين لكل جزء منها وقته، ومحله، وجميع الأحوال المرافقة له؛ لكي تكون على بينة من الواجبات التي يطلب منك القيام بها. واحذر أن تعين موعدًا واحدًا لعملين أو لمقابلة اثنين، وحدد دائمًا الأوقات والمواعيد، وأوضحها، وإياك أن تتأخر عن مواعيدك؛ لأن إلغاء حلقة من سلسلة ترتيبك تشوش نظام كل أعمالك على الغالب.

ثم رَتِّبْ مواد أعمالك، وأمتعة محلك ومعداته، وضع كل صنف منها في محله اللائق به؛ لكي تهتدي إليه حينما تحتاجه، ولا مشاحة أن العمل في المحل غير المرتب وبين المواد المختلطة يستغرق وقتًا أطولَ، ويستفرغ وسعًا أكثر، ويكلف عناءً أشد مما لو عمل في محل مرتب، وبين مواد موضوعة في محلاتها اللائقة بها.

فابتدئ بالترتيب من أحقر الأمور، ومن أصغر المحلات لكي تتعوده، ويصير ملكة في خلقك، وتصيبه في كل أمر. رتب أولًا غرفتك الخاصة؛ لكي تقدر أن ترتب محل عملك. ورتب ذهابك وإيابك، وزياراتك وتنزهاتك … إلخ، لكي تعرف أن ترتُّب أعمالك رتَّب كل أمر؛ لكي تبقى مستريحًا، ولا يغضبك خلل لا تتوقعه وخسارة لا تنتظرها إذا نجما عن عدم الترتيب.

(٨) الإتقان

الإتقان عمل الشيء أحسن ما يمكن؛ لكي يؤثَر على سواه، ولا مشاحة أن المصنوعات المتقنة؛ أي المتينة والجميلة أروج من سواها، وكذلك الأعمال التي تعمل بعناية، وتتم على أحسن ما ترام يُختار عاملوها لعمل أمثالها دون سواهم، كل ذلك تبعًا لناموس «إيثار الأفضل».

وإذا بحثت عن أسباب تقدم الأفراد ونجاحهم رأيت أن إتقان أعمالهم كان من جملة الأسباب الجوهرية؛ فالصانع إذا كانت مصنوعاته متينة وجميلة يقبل عليها الناس، وتشتهر مع الزمان، فيغزر مورد كسبه، وكذلك المستخدَم إذا اعتنى بعمله كما يجب، وأتمَّ واجباته بغاية الدقة والضبط فُضِّلَ على سواه من المستخدمين، والطبيب إذا لم تبد منه دلائل العناية والاهتمام بالعليل عدل إلى سواه، وقس عليه المحامي والتاجر وكل ذي عمل.

وبعض الناس يعتذرون عن عدم إتقانهم أعمالهم، وعدم إحكامهم مصنوعاتهم بأنها تكلفهم كثيرًا، والناس يرغبون في الرخيص، على أنهم يربحون منها ربحًا زهيدًا لا يساوي عنايتهم بها أو لا يربحون. والحقيقة أنهم مخطئون؛ لأن اشتهار مصنوعاتهم أو بضائعهم بجودتها مع اعتدال أثمانها يجعل إقبال الناس عليها عظيمًا جدًّا. فمهما كان الربح من السلعة قليلًا فكثرة البيع منها تجعل الربح كثيرًا.

نعم، إن الأغبياء ميالون إلى الرخيص من السلع، ولكنهم متى جربوه، ورأوا أنه سريع الزوال عدلوا عنه إلى الغالي، فإذا كان ثمنه معتدلًا ظهر لهم الفرق، وتأكدوا صحة القول الدارج: «الغالي رخيص.» على أن البلاد لا تعدم أناسًا عقلاء يميزون بين الغث والسمين، ويفضلون الغالي؛ لإتقانه وجودته، على الرخيص المزخرف الذي لا يكاد يفرح مقتنيه به حتى يحزن من فنائه.

ولا ننكر أن المستجد في صناعته أو تجارته إذا كانت مصنوعاته متقنة، وبضاعته جيدة فلا يربح في بادئ الأمر، وقد يخسر، بل لا بد له من تضحية التعب والخسارة في العام الأول إلى أن يشتهر بجودة سلعه، وثم فالإقبال على بضاعته يكفل له التعويض من الخسارة، والربح الوافر.

وما يقال عن إتقان التجارة والصناعة يقال أيضًا عن سائر الأعمال بلا استثناء؛ لأن كل عمل يقتضي عناية وإتقانًا مهما كان طفيفًا، فَتَعَوَّدِ الإتقان، ولو كنت تعمل مجانًا؛ لأنك إذا أتممت عملك كما يجب اكتسبت إقبالًا عليه باهرًا، وسمعةً حسنةً. هذا، ورواج العمل غير المتقن لا يدوم، فلا تغترَّ بربحك من صنعك الذي لم تحكمه كما يجب؛ فإنه غشٌّ لا يلبث أن يظهر فيبتعد عنه الناس.

(٩) الشهرة

الشهرة في حسن العمل من أركان العمل الجوهرية أيضًا. فإذا لم يعلم الناس أمر العامل فكيف يعاملونه، ويقبلون على عمله؟! ولهذا ترى التاجر يجتهد في نشر الإعلانات عن بضائعه وجودتها، وحسن معاملته، وطرقها، وكذلك الصانع والزارع والمحامي والطبيب … إلخ. وقد تحقق الخبيرون أن الإعلانات أفضل الوسائل للتشهير، ولهذا تراهم يبذلون الدراهم عليها بسخاء، ويتفننون فيها كل يوم فنًّا جديدًا، ويعرضون من أعمالهم أو بضائعهم، ويهبون بعضها هبات؛ لكي يراها الناس ويقبلوا عليها. وشرط الشهرة أن يكون المشهر متقنًا ومرضيًا للجمهور، وإلا فإشهاره يذهب أدراج الرياح.

(١٠) اغتنام الوقت

يقال: إن الوقت من ذهب؛ أي أنه ثمين جدًّا، فإذا أضعت منه شيئًا فكأنك أضعت جزءًا من مالك، ولا ريب بذلك؛ لأنك قد علمت في الفصل السابق أن نتيجة العمل تساوي القوة المبذولة له مضروبة بالوقت، فإذا كنت تكسب في النهار ريالًا، فإذا تركت الشغل نهارًا فكأنك خسرت ذلك الريال، وبطالة ساعة قد تفقد كسب عدة أيام.

ولا يخفى أن العمر كله جهاد في العمل، فلكل يوم من أيام حياتك عمل، وإذا لم تعمل في يومك عمله ضاعت عليك فائدته، وما أجهل الذي يؤجل عمله إلى حين غير حينه؛ لأنه إذا كان الحين المكرس لعمل ما قد ضاق عنه، فالحين الذي أُجِّل إليه يكون أضيق؛ لأنه قد كرس لعملين: عمله، وعمل الحين السابق!

فانظر دائمًا إلى أوقاتك المقبلة، ولاحظ الأعمال الموزعة عليها، وتممها فيها، ولا تؤجل عملًا إلى حين غير حينه؛ لئلا تثقل عليك الواجبات فتعجز عنها، وتتشوش كل أعمالك، ويختل نظامها. والأفضل أن ترسم لائحة بأعمالك، وتضعها في أقرب المواضع إليك؛ لكي تذكر بسهولة الواجبات المطلوبة منك قريبًا.

وليس الغرض من اغتنام الوقت تكريسه كله للعمل؛ بل تقسيمه تقسيمًا موافقًا للحياة؛ حيث يصيب الراحة والسرور منه كفافهما؛ لأنهما لازمان للحياة لزوم العمل لها، وعلى قاعدة أن «لكل شيء وقت» لا يجوز أن تغتنم ساعة السرور من وقت العمل كما يفعل الذين يستخفهم اللهو، حتى إذا سنحت لهم فرصة سرور تركوا عملهم، واغتنموها بناء على قاعدة «إن ساعة السرور لا تضيعها»، فكن منصفًا بين العمل واللهو، واحفظ لكل منهما وقته، وعلى هذه القاعدة الثابتة شاد عظماء الناس نجاحهم.

(١١) عطلة يوم في الأسبوع

ليست القوى الجسدية والعقلية مدخرة في الحيوان — إنسانًا أو أعجم — ادخارًا، بل تتجدد فيه مع الزمان بحيث كلما نفد الحاصل منها بدا غيره حسب مبدأ الحياة، ودرجة البنية، وحالة النمو؛ ولهذا وجب على الإنسان أن يفرغ منها قدر ما يحصل أو أقل منه في حينه، وإلا فإذا استنفدها عاجلًا، واستكدَّ نفسه لإعداد قوى جديدة بدلها حالًا فكأنه يستعجل الفناء والاضمحلال! إنما القوى كضرع الشاة إذا حلبته كل هنيهة جف، ونضب أخيرًا. فكم من أناس عجزوا وشاخوا ولاقوا حتفهم وهم في دور الشبيبة؛ لإفراطهم في الاجتهاد، واستمرارهم في العمل!

وتحتيم شريعة الله الموسوية بالراحة يوم السبت حكمة إلهية يراد بها إراحة القوى؛ لكي تتجدد وتتأهب لاستئناف العمل، وقد رأت الحكومات المتمدنة أن عطلة يوم في الأسبوع لازمة للعمران، وإلا انتهك العملة إما لطمعهم أو لحاجتهم، فحرمت العمل يوم الأحد تحريمًا مطلقًا.

(١٢) أوقات الفراغ

علمت مما تقدم أن العمل لا يجوز أن يشغل كل أوقات اليقظة، بل لا بد من تركه مدة ثلث اليقظة في اليوم، ومدة يوم في الأسبوع؛ بغية تجديد القوى، والتمتع بمسرات الحياة؛ ولذلك يجب أن تعلم كيف تقضي أوقات الفراغ هذه.

لا يستطيع الإنسان النشيط الهدوء والسكينة التامَّين وإلا قام له من أفكاره شاغل كان أشد إزعاجًا له من العمل، فلك أن تقسم أوقات الفراغ بالحكمة والعدل على أربعة أمور كلية:
  • (١)

    السكينة التامة بعد كل وجبة من الطعام؛ لأن الجسم والعقل يستلزمان الراحة التامة في ذلك الحين؛ لكيلا يعاق عمل الهضم. بعض الناس مرضى في معدهم لعدم مراعاتهم هذا القانون الصحي على الغالب.

  • (٢)

    الاجتماع ببعض الأصحاب والأقارب وذوي الأعمال؛ بغية الائتناس بهم، والاستفادة منهم، والسعي بينهم، وأفضل الأوقات لذلك أوقات العطلة العامة كالسهرة.

  • (٣)

    التمتع ببعض المسرات اللائقة؛ كالتنزه في المتنزهات العمومية، وحضور الملاهي الراقية التي لا تفسد الأخلاق.

  • (٤)

    القراءة، والمطالعة، ولهذه الوقت الأوفر؛ لأن الكتاب آنس وأفيد وألذ من كل ما تقدم. لا تقرأ من الكتب إلا أشهرها بالفائدة وألذها وأسماها مبدأ. لا تقرأ بعض الكتاب وتهمله عادلًا إلى غيره، ولا تقرأ في وسطه، بل ابتدئ من أوله، ولا تعدل عنه حتى تصل إلى آخره، وإلا فيذهب وقتك في قراءة بعضه سدًى. طالع الكتب العصرية على الأكثر؛ لأنها تسهل لك عشرة الناس. اقرأ الصحف؛ لأن مواضيعها حديث الناس الذين تعاشرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤