الفصل الثالث

أنواع العمل

علمت في الفصول السابقة أهم أركان العمل الجوهرية التي بها كلها تُتمُّ العمل وتحسنه وتحصل على فائدته المبتغاة منه، وهي أركان عامة لازمة كلها لكل نوع من الأعمال على قدر ما يستحقه ويستوجبه، على أن لكل نوع من الأعمال أركانًا خصوصيةً، فضلًا عن هذه الأركان العمومية لا بد من الإلماع إليها، وإلى ما يقتضيه كل عمل من الأركان العامة أكثر من غيره.

وبما أنه لا يسعنا في هذا الكتاب أن نعدد كل الحرف والمهن، وليس في الطاقة وصف كل مهنة، والإحاطة علمًا بكل أركانها مما يقتضيانه من سعة الخبرة؛ لتعذر الوقوف على كل واحدة منها بالذات، نقتصر على ذكر أنواعها، وبيان ما تتيسر معرفته من المبادئ الأولية التي هي شروط لنجاح العمل.

(١) الزراعة

الزراعة ينبوع الثروة الأول، فالبلاد الزراعية يكون أهلها على العموم موسرين؛ لأنهم قلما يحتاجون إلى الواردات الأجنبية، فالزراعة في مثل هذه البلاد تعد مهنة حسنة؛ لأنها إذا وجهت إليها عناية تامة كانت ذات أرباح وافرة؛ ولهذا يلام كل اللوم من له أراض زراعية تشغله فأهملها، وجعل يلتمس وظيفة أو مهنة أخرى؛ لأنه إذا اهتم بزراعة أراضيه كما يجب فقد يربح أكثر مما يأمل أن يربحه من سائر الحرف الأخرى والوظائف.

ولعل بعض الناس يعرضون عن الزراعة لاعتقادهم أنها مهنة وضيعة، ولا سيما لأنهم يرون أن منزلة الزارع في الشرق حقيرة؛ لقلة علمه، وسقم عقله على الغالب! فمثل هؤلاء مخطئون، وهذا الخطأ آفة نجاحهم؛ لأن المهنة التي يرونها وضيعة تعد في يد الغربي المجتهد شريفة، فكبار الزراع في أمريكا مثلًا يعدون في مقدمة كبراء الأمة، وذوي الكلمة النافذة، والمقام الرفيع؛ لأنهم قد أثروا لاجتهادهم في زراعة أرضهم، ولم تقف الزراعة حائلًا في سبيل ترقية عقولهم وآدابهم؛ لأنهم درسوا العلوم في أيام حداثتهم، وما زالوا يطالعون المؤلفات الجديدة والجرائد في أوقات الفراغ من أعمالهم؛ ولهذا تراهم متى رجعوا من حقولهم دخلوا مجالس الساسة والعلماء، وجاروهم في الأحاديث والأسمار. فليست الزراعة إذًا سببَ حقارةِ الزراع الشرقيين؛ بل سذاجة هؤلاء الزراع وجهالتهم هما علة وضاعة هذه المهنة، وسبب حطة مكانتهم، وقلة أرباحهم من ورائها، وعلة استنكاف أهل الصناعة والعلم مجالستهم ومجاملتهم.

أو لعل البعض يهربون من هذه المهنة الشريفة؛ لظنهم أنها تقتضي شظف العيش، ووحشة الحياة بسبب العزلة عن مجتمعات الناس، وهذا الظن وهم باطل أيضًا؛ لأن الزارع يقدر أن يعيش كالصانع أو العالم الذي يساويه بالثروة والمعرفة، فيقدر أن يسكن مقصورة شاهقة، ويأكل طعامًا شهيًّا، ويسكن دارًا فسيحةً ونظيفةً، ومتى فرغ من العمل يلبس الأثواب الفاخرة، ويقصد إلى مجتمعات الناس، ويباريهم في المحادثة والمجاملة والمناقشة، كما يفعل أكثر الزراع الإنكليز الذين وصفهم وصفًا وافيًا «إدمون ديمولان» في كتابه «سر تقدم الإنكليز السكسون»، وكما يفعل الفلاح الأميركي أيضًا.

أو لعل البعض الآخر يزهدون في هذه المهنة لظنهم أنها تقتضي مشقات كثيرة، وأن أرباحها قليلة، وهؤلاء مخطئون أيضًا بهذا الظن؛ لأنهم إذا عرفوا أصولها، وأتقنوها، وتعهدوا المزروعات كما يجب ربحوا أرباحًا وافرةً تفوق على أتعابهم كثيرًا، وإذا اتسعت أراضي الزارع فله أن يستخدم فيها فلاحين أو مزارعين، ويقتصر هو على المراقبة والمناظرة وإدارة العمل.

وشروط إتقان هذه المهنة:
  • (١)

    أن يكون للزارع أراضٍ تستغرق زراعتها كل عنايته، وتغلُّ له ما يقوم بمعاشه المعتاد على الأقل، فتكون الأرض له كرأس المال للتاجر، وعليه أن يحتفظ بها، ويواظب على إصلاحها وتعهدها، ويسعى إلى توسيع نطاقها كما يفعل التاجر برأس ماله، والأفضل أن تكون كلها في بقعة واحدة بحيث تسهل عليه رعايتها.

  • (٢)

    أن يكون عالمًا بأصول الزراعة العلمية فضلًا عن الخبرة العملية، فإذا لم يتسنَّ له أن يدرسها في المدرسة؛ فله أن يستعين بالكتب والمجلات الزراعية، فضلًا عن المزاولة؛ ليعلم كيف يزرع ويغرس، وأين ومتى؛ لكي تخصب أرضه، وتقبل زراعته، وتنمو مغروساته وتثمر.

  • (٣)

    أن يعول على المزروعات والمغروسات الرائجة المحصول، الوافرة الربح إذا كانت التربة قابلة لها، لا أن يستمر على زرع صنف واحد أو بضعة أصناف معلومة.

  • (٤)

    أن يكون متفننًا ومتقنًا؛ لكي تكون مزروعاته ناميةً ومقبلةً، وحاصلاته جيدةً تروج قبل سواها، ولكي يستنبط — إن أمكن — أصنافًا جيدةً وغريبةً، ويشوق الناس إليها بحداثتها كما يتفنن بعض الزراع بتلوين الأزهار والفاكهة، وتغيير أشكالها.

  • (٥)

    إن الزراعة اقتضت التجارة لترويج الحاصلات؛ ولهذا وجب أن يكون الزارع ملمًّا بأحوال التجارة لكيلا يغبن في بيع حاصلاته، وإلا تكسد عنده، فعليه أن يراقب الأسعار، ويفهم أسباب ارتفاعها وهبوطها إلى غير ذلك.

  • (٦)

    يجب أن يتحاشى الاستدانة ما استطاع، ويحذر رهن أملاكه؛ لأن آفة الزراعة الدين، والحوت الذي يلتهم العقار هو الرهن، وذلك يتسنى للزارع إذا جعل لنفسه صندوق توفير احتياطيًّا يجمع فيه ما يوفره، وما يزيد على حاجته في سني الإقبال؛ ليستعين به في سني الإمحال. وكل يعلم أن بلوى الفلاح المصري هي الرهن الذي نقل كثيرًا من الأملاك من أيدي الأهالي إلى أيدي الصيارفة والمرابين بفوائظ فاحشة.

  • (٧)

    أن يستغل أرضه بنفسه ولو تحت مراقبته لا أن يؤجرها لزارع آخر؛ لأن المستأجر ينظر إلى النتيجة القريبة فقط؛ فلا يعتني بالأرض، ولا يهتم بإصلاحها كصاحبها الذي ينظر إلى النتيجة الدائمة فيعتني بأرضه أكثر من مستأجرها.

(٢) الصناعة

الصناعة من مقتضيات الحضارة والتمدن، وكلما ارتقى الناس في الحضارة والمدنية تزداد حاجتهم إلى المصنوعات؛ لذلك تعتبر الصناعة في البلاد المتمدنة من أهم أبواب الرزق. والسواد الأعظم من الناس يعولون عليها في التعيش، والذي لا يجد بابًا يسترزق منه يجنح إلى الصناعة؛ لأنها ملجأ كل متشرد، وكل من ليس له ثروة يثمرها أو علم أو مهنة أدبية يكتسب منها.

ولهذا جعل بعض النبلاء والأغنياء في أوروبا يعلمون أبناءهم صناعة حتى إذا جار الدهر على أحدهم فانحط من علائه، وذهبت ثروته، وضاقت ذات يده استعان بصناعته على الدهر، وكفته ذل السؤال، حتى إن بعض الملوك يعلمون أولادهم بعض الصنائع لغايات مختلفة حميدة؛ أهمها: أن يكون العمل بها رياضة لهم وتسلية وتفقهة، وكبحًا لجماح عنفوانهم؛ ولذلك يحسن بكل شخص أن يكون ذا صناعة يدوية، فإن كان في غنى عن الاسترزاق منها يلهو بها وقت الفراغ، ويتسلى وقت الضجر، ويروض جسمه بعد التقاعد الطويل، ويفكه بها فكره، ويجد لذة بصنع يديه.

وأهم «القوى» التي يعول عليها في الصناعة «القوة البدنية»، أما «القوة العقلية» فلزومها وقتي لا يتجاوز وقت تعلم الصناعة إلا نادرًا لأجل التحسين والإتقان والتفنن. «والقوة المالية» تلزم كرأس مال لبعض الصناعات التجارية، وخلاصة القول أن الكسب من الصناعة يتوقف غالبًا على بذل «القوة البدنية» أكثر من القوتين الأخريين، على أن هذا التوقف يختلف باختلاف الصناعات، فصناعة البناء مثلًا تحتاج إلى «القوة البدنية»، وإلى قليل من القوة العقلية، وصناعة الصياغة تحتاج إلى «قوة مالية» أكثر من القوة البدنية، وصناعة الرسم تحتاج إلى «قوة عقلية» أكثر من القوتين الأخريين، فيجب اعتبار هذا الاختلاف. وجل ما يطلب من الصانع:
  • (١)

    أن يكون قوي البنية، صحيح الجسم؛ بحيث يحتمل مشقة العمل، فلا يصح أن يكون ضعيفُ البصر خياطًا، والأشل رسامًا مثلًا! والأفضل أن يستشار الطبيب في اختيار الصناعة الملائمة لحالة الجسم الصحية.

  • (٢)

    أن يتعلم أصول صناعته جيدًا، ويقف على كل أساليبها، ويطلع على كل أسرارها، ويتفهم جيدًا جميع دخائلها؛ لئلا يدخل إليها من غير أبوابها فيعتسف العمل فيها اعتسافًا، ويبذل القوى جزافًا، ويضيع الوقت من غير أن يحكم المصنوع، وثم عليه أن يزاول العمل؛ لكي يتعوَّده فيستسهله؛ لأن العادة طبع، وما أسهل ما يصدر عن الطبع.

  • (٣)

    أن يعتدل في الجهد فلا يستفرغ وسعه دفعة واحدة؛ لئلا تفنى القوة، ويستحيل عليه أن يستأنف العمل، وأن يستريح برهات قصيرة في غضون العمل؛ لئلا يكلَّ، وتضعف قوته، ويتعذر عليه أن يعمل بنشاط كالأول. وأكثر من يفرط في الإجهاد الأحداث والشبان؛ لما في رءوسهم من العنفوان، وفي قلوبهم من النشاط، ولكنهم أول من يكلُّ.

وكثيرون ممن أفرطوا بالجهد في عهد شبيبتهم عن طمع أو اضطرار شاخوا عاجلًا، وعجزوا عن أسهل الأعمال في أول الكهولة، بل كثيرون منهم انقصف غصن عمرهم إبان نضارته؛ لشدة إفراطهم بالشغل.

وللإنسان كما للحيوان قدر محدود من القوة «عقلية أو جسدية» فإذا استنفد هذه القوة كلها دفعة واحدة استحال عليه استئناف العمل، فالواجب أن يبذل من القوة ما حضر منها في حينه، لا أن يستكدَّها فيبذل مئونة شهر منها في أسبوع واحد؛ لئلا تعجز في بقية الشهر عن العمل، وإذا استعجل المرء باستنفاد قواه كان مستعجلًا باستنفاد عمره.

وقد انتبهت الحكومات المتمدنة إلى هذا الأمر فعينت ساعات العمل، ويومًا للراحة لكي تتجدد قوى العمال، ويستطيعوا استئناف العمل ثانية، ولولا اهتمام الحكومات بذلك لاضطرت الفاقةُ وطمعُ أرباب المعامل وغيرُهم العمالَ أن يبقوا في عمل دائم فيشيخون شبانًا، ويموتون رجالًا.
  • (٤)

    أن يكثر رأس المال في الصناعات التجارية ما استطاع؛ لكي تكثر أرباحه، وإذا كانت دائرة صناعته واسعة واستخدم عمالًا كان كتاجر أيضًا؛ فيربح من كثرة رأس ماله وحسن إدارته في تشغيل العمال، وترويج المصنوعات.

  • (٥)

    أن يسعى إلى تكثير الزبائن وإرضائهم؛ ذلك بأن يُحَسِّنَ لهم المصنوع حسب رغبتهم بقدر الإمكان، ويعتدل بتقاضي الأثمان، ويستقيم في معاملتهم، وينجز مطالبهم في المواعيد المتفق عليها، ويتحاشى أن يغشهم بالرديء من المصنوعات.

وجل ما يلزم الصناعة من أركان العمل العمومية:
  • (١)

    الإتقان: ويكاد لزوم الإتقان ينحصر في الصناعة، بل يكاد رواج الصناعة يتوقف على الإتقان، فيجب أن يكون المصنوع على أفضل مثال، وفي أحسن شكل، وأحدث زي كامل الصنعة، قليل العيوب، وعديمها، إن أمكن، ومتينًا.

  • (٢)

    اغتنام الوقت: لأن الصانع لا يكسب إلا وقت العمل، وبقدر ما يصنع؛ إذ لا قوة مالية له يكسب منها في يقظته ومنامه، وفي حين لهوه وبطالته؛ ولذلك إذا تكاسل يومًا خسر نتيجة عمل يوم.

(٣) التجارة

لا يقف الكسب من التجارة عند حد؛ لأن القوة الأولى العاملة فيها هي المال، وبما أنه يمكن أن يتزايد رأس مال التاجر الواحد بإضافة بعض الربح إليه حتى يصير عظيمًا جدًّا، يمكن أيضًا أن يتزايد كسبه حتى يصير عظيمًا، فإذا جعل التاجر الصغير يوفر جانبًا من ربحه ويضيفه إلى رأس ماله كل مدة بعد أخرى يتزايد رأس ماله رويدًا، فيتزايد معه ربحه، وعلى تمادي الأيام يصبح من كبار التجار، وهؤلاء هم أعظم الناس كسبًا.

فالتجارة بناء على ما تقدم نصيب أصحاب الأموال على الغالب؛ لأنهم أقدر من سواهم عليها؛ لما في أيديهم من «القوة المالية»، ولما في طبعهم من حب المال الذي يحملهم على السعي في سبلها على سنن الاقتصاد، ويستميلهم إلى التوفير، وبالجملة يجنح إليها كل من يلذ له جمع المال، ويبتهج برؤية الأصفر الرنان.

وأهم ما يلزم التاجر:
  • (١)

    أن يكون عنده رأس المال الكافي لتجارته، لا أن يستدينه بالفائظ — إن وجد من يثق بأمانته فيقرضه — لئلا يكون صاحب المال شريكه في الجانب الوافر من الربح، ويكون هو كالمستخدَم عنده يأخذ أجرته الربح الفاضل عن فائظ المال، على أنه يجب أن يغتنم فرصة بعض التجارات المؤكدة الربح الوافر، حتى إذا لم يكن لديه رأس المال الكافي اقترض القدر اللازم منه إن أمكنه اقتراضه.

  • (٢)

    أن يكون مقتصدًا وموفرًا بحيث لا يمس رأس المال، بل بالحري يضيف إليه قسمًا من الربح؛ لأن آفة التجارة دودة الإسراف، وسماد أرضها الاقتصاد والتوفير، وإذا اطلعت على سِيَرِ أكثر التجار الكبار رأيت أنهم كانوا في أول الأمر يجولون بالسلع في الشوارع والبيوت، وبحسن حكمتهم في إدارة عملهم وباقتصادهم وتوفيرهم أصبحوا أصحاب المخازن العظيمة، وذوي رءوس الأموال الجسيمة، وفي فصل الاقتصاد كلام وافٍ بهذا الموضوع.

  • (٣)

    أن يكون عالمًا جيدًا بأصول التجارة، وخبيرًا بأحوال السوق، فعليه أن يعلم معدل الربح في كل صنف، ويتحقق السعر الذي يباع به عادة؛ ليعلم السعر الذي يجب أن يشتري به، وأن يكون ماهرًا بشراء الأصناف أكثر من بيعها؛ بحيث يشتريها بأرخص مما تباع؛ ليكون ربحه مؤكدًا.

ويجب أن يتشوف دائمًا إلى مستقبل الصنف الذي يتاجر به؛ ليكون على بينة من صعود سعره أو هبوطه؛ ليعلم ما إذا كان يخزن منه أو يعجل ببيع ما عنده منه، وأن يعلم أروج الأصناف وأكثرها ربحًا فيتاجر به، وأن يكون خبيرًا بالأصناف؛ بحيث يميز غثها من سمينها، وسعر كل نوع منها، وأن يعلم من أين يشتري أحسن البضائع، وفي أي الأوقات؛ بحيث يكون ربحه منها مضمونًا، وأن يختار أليق المحلات لتجارته بحيث يسهل الإقبال عليها.
  • (٤)

    أن يكون عارفًا أصول الحسابات التجارية، ولا سيما علم مسك الدفاتر، فضلًا عن المبادئ الرياضية، بحيث يعلم كل حين ما له وما عليه بكل وضوح، وفي أي حالة هو من حالتي الربح والخسارة؛ وبذلك يأمن الغلط والالتباس في معاملاته، وينجو من المشاكل والقلاقل.

  • (٥)

    أن يحسن معاملة الناس إلى حد النهاية بحيث يرضون عنه في كل حين فلا يخدعهم، ولا يخلف وعوده معهم ولا يغبنهم. وأكثر ما يجب أن يهتمَّ به استمالة «الزبائن» إلى حانوته بالبشاشة، والأمانة، والتساهل، وتلبية مطالبهم، وإعداد لوازمهم في حينها، وإكرامهم حيث يجب الإكرام، وإظهار الغيرة عليهم حيث يقتضي الحال.

وبما أن المرء لا يولد تاجرًا، فلا بد أن يتمرن على هذه الأمور بمزاولة التجارة؛ إما في متجر غيره حيث يكون مستخدمًا مدة كافية، أو في محل صغير له بحيث لا تكون خسارته كثيرة إذا لم يكن بد من الخسارة في أول الأمر.

وأهم ما يلزم التجارة من أركان العمل العامة:
  • (١)

    الاستقامة: لأن أساس التجارة الثقة باستقامة التاجر، بل يقال: إن هذه الثقة هي رأس المال؛ بدليل أن بعض الناس يتاجرون بمال غيرهم بناء على ثقة الغير بأمانتهم، فإذا انتفت الثقة بالتاجر سقطت تجارته لا محالة؛ إذ لا أحد يبيعه، ولا أحد يشتري منه.

  • (٢)

    الترتيب: ويقال: إن نصف البضاعة الترتيب، أي إذا كان الحانوت نظيفًا، والبضاعة فيه منضَّدة بغاية التناسب، وموجهة إلى المقبلين تظهر ضعفيها، وتستميل الشاري إليها.

  • (٣)

    الوقت: وخسارة الوقت في التجارة مزدوجة؛ أي أنها خسارة ما يمكن أن يعود من الربح في ذلك الوقت، وخسارة «الزبون» الذي إذا وجد الحانوت مقفلًا ذهب إلى غيره، وربما تعوَّد أن يذهب إلى ذلك الغير دائمًا.

  • (٤)

    التشهير: وهو في الأصل للتجارة؛ ولهذا يجب الإعلان عن الحانوت، وأفضل محتوياته، وأهمها؛ لكي يهتدي الناس إليه، ومن الصواب السخاء في هذا الوجه.

(٤) الإمرة

الإمرة تشمل الحكام ورؤساء الأعمال الذين لا بد لهم من استخدام العمال والفعلة، والأغنياء الذين لا غنى لهم عن الخدَمة والجوار؛ ولذلك يتساوى الحكام والرؤساء والسادة في حق معاملة محكوميهم، ومرءوسيهم ومسوديهم؛ أي أن ما يجوز للحاكم يجوز للرئيس والسيد، وما يحظر عليه يحظر عليهما بحسب الشريعة الأدبية على الإطلاق، وبحسب الشريعة المدنية على الغالب.

أما الارتقاء إلى مناصب الحكومة الانتخابية أو نحوها مما لا يستبد فيه حاكم أعلى، فلا بد له من الأهلية والدهاء والفضيلة حسب عرف البلاد وشرعها، وإلا كان المنصب متزعزعًا بصاحبه تقلقله أرياح الدسائس والمكايد، ثم القوة — مالية أو عصبية — ليكون ذو المنصب ذا حزب يعضده، ويؤثره على غيره، ثم الوجاهة؛ ليكون منظورًا فينتبه إليه، ويُعد في جملة المرشحين، ثم الفضل ليكون مرغوبًا محبوبًا لحسناته، ويؤمل منه حب الخير للبلاد فيُجنح إليه، وتلقى مقاليد الأمور لديه، وأما الوظائف التي يمنحها الحاكم الأعلى، فأنجح الوسائل للحصول عليها غير ما تقدَّم توسُّط ذوي الدالة على أهل الحل والعقد.

وربح الحاكم لا يتوقف على أهليته، وحسن تصرفه، ومهارته في عمله؛ لأن راتبه محدود يقبضه على كل حال، ولكن تلك الشروط لازمة لارتقائه إلى منصبه، وثباته فيه.

وكذلك الرئيس أو كل ذي سيادة لا يتوقف كسبه على استقامة سيادته رأسًا، على أن سيادته يجب أن تكون قويمةً لإدارة عمله، بحيث لا يشكو المرءوسون منها، ولا يتقمقمون فيقومون بواجباتهم نحوه في أوانها حقَّ القيام.

وأهم ما يجب على الرئيس نحو مرءوسه:
  • (١)

    أن يكون عادلًا فلا يطمع بحق مرءوسه، ولا يكلفه عمل ما ليس من واجباته، ولا يسأله عما ليس هو مسئولًا عنه. ومتى لاحظ المرءوس عدالة رئيسه رغب في أن يتمم له بعض النوافل بغية استرضائه، وتقليد عنقه بالجميل؛ لأنه يعتقد أن رئيسه العادل يعلم أن خدمته هذه نافلة، وأما إذا كان الرئيس جائرًا اجتهد المرءوس أن يرضيه في الظاهر فقط، وتغفَّله ليتقاعد عن العمل، وربما تعود أن يخونه كلما سنحت له فرصة.

  • (٢)

    أن يكون لطيفًا وبشوشًا لمرءوسه، ويحترمه كما يليق ويوده، ويسعى إلى خيره ما استطاع، ويؤاسيه، ويظهر له شعوره معه بتعبه، ومتى صادف المرءوس هذه المعاملة من رئيسه بذل جهده في إرضائه، وتهالك بخدمته، وأخلص النية له. ولا غرو أن يمقت المرءوس رئيسه، ويضمر له الشر إذا كان هذا يعامله بالخشونة والاحتقار، ويشمخ عليه ويستهينه ويمتهنه.

  • (٣)

    أن يكافئ مرءوسه على أتعابه فينقده استحقاقه من الأجرة في حينه، ولا يهضم له حقًّا، وإلا نفر هذا منه، وانفصل عنه إذا أمكنه، أو حاول أن يخونه في خدمته، ويغتنم الفرصة للاستعاضة مما حبسه من أجرته: إما بالتقاعد عن العمل أو بطرق دنيئة. وقلما يقوم مرءوس بعمله كما يجب إذا لم يُكافأ عليه بما يستحق.

  • (٤)

    أن يقدر خدمة المرءوس قدرها؛ فلا يبخسه استحقاق عمله من الاستحسان؛ لأن الاعتراف بقيمة العمل ينشط العامل إلى الإجادة والإتقان والإخلاص في العمل، ولا يتدلل على الرئيس اللطيف إلا المرءوس المغرور. وهذا لا يصلح للعمل.

(٥) الاستخدام

نطلق الاستخدام على كل عملٍ تحتَ إمرةِ آمرٍ ناهٍ؛ فيشمل التوظف في دوائر الحكومة، والعمل في دوائر الأعمال، وسائر أنواع الخدمة. وبالبداهة يعلم أن الخدمة والتوظف وُجِدَا مع الإمرة؛ لأنها تستلزمهما طبعًا، وحكمها من حيث الكسب يجري عليهما؛ أي أن كسب المستخدَم والموظف هو راتبه المحدود، والمقيد بأجل معين لقبضه، ولكن لكي يحصل المرء على خدمة أو وظيفة ويثبت فيهما ويترقى يجب أن يراعي الأمور الآتية:
  • (١)

    الأهلية: وقد سبق بيان حقيقتها في فصل خاص فلتراجع هناك، وأهلية الإنسان لخدمة أو وظيفة تقوم بمعرفة أحوال الوظيفة، وكيفية العمل بها، والواجبات المطلوبة لها، ثم باستطاعة العمل اللازم لها، والإنسان لا يولد ذا أهلية، فلا بد أن يتعلم، ويتمرَّن على العمل؛ ليصير ذا أهلية، فما لا يتعلمه في المدرسة يتعلمه بمزاولة العمل، ولهذا يخدم المستخدَمون في بعض الوظائف أو الحرف في أول الأمر مجانًا أو بأجرة زهيدة؛ لأنهم لا يحسنون العمل جيدًا، وربما أتلفوا شيئًا من الأدوات، وأفسدوا بعض الأعمال، وكلما مهروا في إتقان العمل وإجادته ترقوا في درجات خدمتهم، ونُقدوا أجرةً أزيدَ حسب استحقاقهم.

    ومن الغرور الفاضح أن يطلب المرء خدمة أو وظيفة ليس أهلًا لها، أو ليس له أقل إلمام بها؛ فإنه يسعى ويعمل على غير جدوى، ومثله مثل من يتطلَّب من الماء جذوة نار! فالأجدر به أن يطلب خدمة يكون ملمًّا بها ولو بعض الإلمام، ويبدأ يشتغل فيها ولو بلا أجرة، على أمل أن يحسن العمل بها بعد مزاولتها فيستحق أجرة.

  • (٢)

    الإذعان للرئيس أو المدير أو صاحب العمل: وهي من أهم شروط التمكن في الخدمة أو الوظيفة، فعلى المستخدَم أو الموظف أن يفرض أن رئيسه مستبد — وهو بالحقيقة مطلق التصرف في إدارة عمله — فإذا لاح له أن رئيسه غير صائب في عمل أو قول أو رأي، فليس له أن يعترض عليه أو يرشده أو يصلح غلطه إلا إذا كان موقنًا أنه يرضى عن تحرشه بأمرٍ لا يعنيه، بل بالحري يجب عليه أن يطيع كل أوامره الممكنة المتعلقة بالعمل عدلًا وشرعًا وأدبًا، ويجاريه على كل أهوائه ما استطاع، وما أذن له ضميره.

    وما أجهل من يقاوم رئيسه ويجادله جدالَ الخصم للخصم! فإنه يعرض نفسه لغضبه وسخطه ونقمته، وربما أفضى الأمر إلى فصله من وظيفته، والمرءوس الحكيم يقدر أن ينبه رئيسه إلى غلطه بأسلوب لطيف بحيث لا يذل أنفته، ولا يحط من قدر علمه، فينجو من انتقاضه، وتغير قلبه عليه. وصاحب الذوق السليم الحسن الخلق لا يخفى عليه أن كيف يفعل ذلك.

  • (٣)

    حسن مجاملة الرئيس: وما دام المستخدَم ملازمًا لرئيسه فلا بد له من مجاملته وملاطفته ما استطاع؛ لتوقي غضبه في بعض الأحوال الداعية، ولكسب تسامحه في حالة غلطه أو تقصيره، ولا يخفى أن البشاشة ولطف العشرة يخففان كثيرًا من تعب المستخدَم في عمله، ويحببان رئيسه به، ومن حسن المجاملة أن يحترم المرءوس رئيسه كما يجب، وألا يغض من مقامه مهما تسامح الرئيس به وتبذَّل؛ لأنه يحمله بذلك على احترامه هو.

  • (٤)

    الاستقامة في عمله: فيجب عليه أن يقوم بواجباته حَقَّ القيامِ في غياب رئيسِه كما في حضوره، ويتقن عمله ما استطاع كأنه له، ويكون غيورًا على العمل مبتغيًا نجاحه، حتى إذا اهتدى إلى عمل ما يفيده عمد إليه، ولو كلفه من المشقة غير ما يجب عليه، ومتى أدرك رئيسه إخلاصه وغيرته فضَّله على سواه، وإذا كان الرئيس كريم النفس موسرًا كافأه.

  • (٥)

    الإخلاص في معاملة زملائه الذين يشتغل معهم: فلا يشي بهم، ولا ينم عليهم، ولا يغتابهم لدى رئيسه، ولا يدس دسائسَ لهم؛ لئلا يشوش إدارة العمل ويخل بحركته، حتى يضطر الرئيس أن يبحث عن السبب؛ فيعلم أنه هو فيطرده؛ فيكون هو قد بحث عن خزيه بنفسه. ومهما بالغ سيئ النية في كتمان مكره فلا بد أن تكشفه الأيام لولي أمره؛ فيقع في غائلة شره.

وقد يكون المرء رئيسًا ومرءوسًا معًا كما في دوائر الحكومة، فيجب أن يكون أفضل الناس في استعمال السيادة؛ لأنه يعلم حالتي المرءوس والرئيس من نفسه، ويعرف حقوقهما جيدًا، فعليه أن يتحاشى أن يبخس غيره حقه.

ثم إن الخدمة والتوظف يميتان في المرء حب الاستقلال، ويلاشيان سجية الاعتماد على النفس كما بيناه في فصل الاستقلال؛ فراجعه هناك، وأصخ لما قيل فيه.

(٦) المهن الأدبية

قصرنا الكلام في فصل الصناعة على الصنائع اليدوية، فبقي علينا أن نتكلم عن الصناعات الأدبية التي يعول فيها على العقل والعلم أكثر من اليد. والمشهور من هذه الصناعات: الطب، والصيدلة — وهي تجارة بقدر ما هي صناعة — والمحاماة، والهندسة، والكتابة، والصحافة، والتعليم. ولا بد لطالب أي هذه الصناعات من الإلمام بها جيدًا، وبما أنها مجهولة من العامة، ولا يُتَوَصَّلُ إليها إِلَّا بَعْدَ الدرسِ الطويل، حظرت الحكومات استعمالها إِلَّا بَعْدَ تجاوز الامتحان بها في الكليات الكبرى الرسمية، ونيل الشهادة بها؛ دفعًا للتدجيل. على أن الكتابة والصحافة والتعليم يندر أن تدقق الحكومات بأمرها؛ لقلة ما يترتب عليها من الضرر بالناس.

ولا يخفى عليك أن العمل بإحدى هذه المهن يستدعي بحسب الظاهر «القوة العقلية»، ولكنه بالحقيقة يستدعي «القوة المالية» أيضًا؛ لأن الطبيب مثلًا لم ينل شهادة الطب إلا بعد إذ صرف مبالغَ طائلةً في سبيل تعلمه، فتلك المبالغ هي رأس ماله، فينبغي أن يحسَب حسابها في ميزانية هذه الصناعة، ولهذا السبب لا ينكر على الطبيب أن يأخذ أجرة العيادة قيمة وافرة؛ لأنه كان في أيام تعلُّمه يبذل الدراهم بسخاء، ويذيب دماغه في صحف الكتب، فهو قد زرع كل زرعه في فصل الصبا؛ ليحصده في بقية فصول حياته، وقس على الطبيب المحامي وغيره من ذوي الحرف المذكورة.

وبما أن الوالدين هم الذين غالبًا يختارون هذه الصناعات لأبنائهم، والأبناء قلما يفهمون جيدًا معنى مستقبلهم، فعلى الوالدين أن يترووا مليًّا قبل اختيار هذه الصناعات لأبنائهم، ويتحققوا جيدًا رواجها في البلاد التي يزمع أولادهم أن يعيشوا فيها، وثم ينظرون إلى ثروتهم؛ ليعلموا إن كانوا قادرين أن ينفقوا النفقات اللازمة لتعليمهم، ويحسبون أكثر نفقة تنفق عادة في سبيل ذلك؛ لئلا يخيب ظنهم ويعجزوا عن تكملة النفقة، فيذهب ما أنفقوه قبل الحصول على الشهادة سدًى.

وأخيرًا يجب أن يتأكدوا جيدًا درجات قوى أبنائهم العقلية؛ ليعلموا ما إذا كانوا قادرين أن يتعلموا الصناعة المختارة لهم في السنين المفروضة، ويتجاوزوا الامتحان لنيل الشهادة، وإلا فكأنهم يبنون على شفير هار، وتذهب النفقات أدراج الرياح، وكثيرًا ما يجهل الوالدون حقيقةَ ذكاء أبنائهم؛ لأن عين الحب عمياء، فالأفضل ألا يغتروا، بل يجب أن يقتنعوا بآراء معلمي المدارس الابتدائية التي يدرس فيها أبناؤهم؛ لأن الأساتذة أدرى بذلك منهم.

ويجب أيضًا أن تراعى أميال الأبناء إلى إحدى الصنائع؛ لأن الفتى أو الشاب لا يقدر أن يتعلم صناعة لا يميل إليها.

ذلك ما يجب أن يراعى في اختيار هذه الصناعات الأدبية، والاستعداد لها، وبما أن ذويها يتفاوتون بالنجاح في المهنة الواحدة، فلا بد من البحث المختصر في أسرار ذلك في كل صناعة على حدة، ولا نقصد بذلك أن نشير على أهل هذه الصناعات بما ينجحون به؛ لأنهم يتلقون في مدارسهم ما يغنيهم بهذا الشأن عن مشورة غيرهم، وإنما نريد أن نطلع أي قارئ على خلاصة ذلك ومجمله؛ توفية للموضوع حقه.

الطبيب

أهم ما على الطبيب:
  • (١)

    التضلع الكافي في فروع الطب: فلا يكتفي بأن ينال الشهادة التي تسوِّغ له تعاطي صناعته؛ لأنه كثيرًا ما يتجاوز أحد طلبة الطب الامتحان بمساعدة ذاكرته، ولكنه يبقى قليل الإلمام بالصناعة فلا يعرف إلا كلياتها، ولا يدرك منها ما يدركه إلا بالحذق، وقوة الاستدلال، والتمرن العملي، على أنه يجب عليه أن يفهم أصول الصناعة جيدًا بالدرس والممارسة؛ ليتثبت من الداء، ويصيب الدواء، وإلا كان أشبه بالدجالين منه بالأطباء، ولا يلبث أن ينفضح جهله فتنتفي ثقة الناس به.

  • (٢)

    أن يبذل العناية الكلية في معالجة مرضاه، ويبدي اهتمامًا فائقًا، وغيرة كلية على حياتهم؛ ليثقوا به، ويميلوا إليه، ويفضلوه على سواه، ويذيعوا مهارته وغيرته.

  • (٣)

    أن يكون لطيفًا بشوشًا وديعًا ليُستَحَبَّ، وأن يجامل الناس كثيرًا، ويحادث المريض وأهله فيما يتعلق بمرضه؛ لتسكين روعهم، وأن يبين لهم العلل والمعلولات، والأسباب والنتائج، ما أمكن؛ ليكونوا كأنهم على هدى، وليثقوا بإخلاصه. ولا يخفى أن الطبيب أجدر الناس بالمجاملة.

  • (٤)

    إذا صادف الطبيب حظًّا سعيدًا في بداءة تعاطيه صناعته بأن شُفِيَ بضعة من مرضاه الذين في درجة الخطر، أو نجحت عملياته الجراحية الأولى اشتهر أمره، واعتقد الناس بمهارته؛ لأنهم لا يثقون بشهادته، ولا هم بخبيرين بفنون الطب؛ ليعلموا مقدار علمه، ولكنهم ينظرون إلى أعماله، ويحكمون بحسبها، فعلى الطبيب الجديد أن يجتهد في معالجة مرضاه، وفي إتقان عملياته، ويعرض نفسه بالأكثر إلى المرضى الذين شفاؤهم أقرب إلى الإمكان من شفاء غيرهم.

  • (٥)

    في المدن الكبيرة أفضل للطبيب أن يختص نفسه بفرع من فروع الطب ليشتهر ويعالج كثيرًا.

المحاماة

كل ما هو لازم للطبيب لازم للمحامي أيضًا، ويزاد عليه أن يكون المحامي طلق اللسان، فصيح الكلام، قوي الحجة والبرهان؛ بحيث يرضي موكله، ويقنعه بمقدرته وكفاءته.

ولكي يحرز المحامي الشهرة يجب أن يتجنب الدعاوى التي لا يأمل نجاحها، والتي يعرف أنها خاسرة من طبعها، ولو دفع له صاحبها المبلغ الوفير أجرتها؛ لأنه إذا شاع أنه خسر إحدى القضايا لا يعزو الناس خسرانها إلى بطلانها، بل إلى جهله! ولذلك يحجم أصحاب القضايا عنه.

الهندسة

المهندس يكون على الغالب مستخدَمًا في حكومة أو دائرة أشغال كبيرة، فواجباته واجبات المستخدَم تمامًا، ويزاد عليها أنه يجب أن يكون ذا أهلية كافية؛ لأنه تحت مسئولية عظيمة؛ فهو المشير والآمر والناهي في كيفية تشييد المباني ورسمها، ولهذا فهو مسئول عن اختلالها، وعلى هذه المسئولية يتوقف ترقيه أو تقهقره.

الكتابة

هذه الصناعة جليلة لقلة النوابغ فيها، والكتبة هم أرفع الناس مقامًا في التاريخ، ولكتابات الكتبة في بلاد العلم قيمة غالية، وربما أثرى بعضهم من شق قلمه، وأما في بلادنا فالكتابات قليلة القيمة، ولو كانت وحيًا؛ لأن الجهل لم يزل أعمَّ من العلم في البلاد، فأهل العلم والكتبة في بلادنا لا ينالون البُلْغَةَ من العيش إلا بشق النفس قبل شق القلم.

والكاتب المفلح هو الذي يكتب ما يفهمه قراؤه، وما يمس عواطفهم أو يتوقون إلى معرفته، وليس من غرضنا بيان شروط الكتابة، بل بيان منزلتها.

الصحافة

للصحافة شأن عظيم جدًّا في البلاد المتمدنة، وأهلها ذوو ثروات طائلة، ومحرروها يُنقدون رواتب وافرة، وصناعة التحرير هناك لا تقل قيمة عن سائر المهن الأدبية، أما الصحافة في بلادنا فأسوأ حالًا من الكتابة والتأليف.

وقلما تروج الصحف في هذه البلاد لحسن تحريرها، بل لدهاء مروِّجيها أو لتحزُّبها وتطرفها ونحو ذلك، أما الصحف والمجلات المعتدلة المفيدة فقليلة الرواج.

التعليم

مهنة من أشرف المهن؛ لأن المعلم يربي العقول إلا أنها لا تزيد على بقية المهن الأدبية قيمة؛ لوفرة الأساتذة والمعلمين، وواجبات المعلم كواجبات المستخدَم، ويزاد عليها أن يكون المعلم طويل الأناة، يحتمل مضاجرة التلامذة، وعليه أن يبذل جهده في محاسنتهم وملاطفتهم؛ لكي يبقى مسرورًا بينهم، وإلا كايدوه وناكدوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤