الفصل الثالث

التثمير

(١) ماهية التثمير

تثمير المال استخدامه في عمل لينتج منه ريع، وقد علمت أن المال قوة أجنبية عن الإنسان يمكنه أن يملك منها كثيرًا جدًّا، ويحسن الإدارة في تثميرها، ويجتني منها ريعًا وفيرًا؛ ولهذا ترى التجار لا يخزنون المال في خزائنهم، بل يدفعون المقبوض منه كل يوم في يومه ثمن بضائع، ويوفون منه ديونًا؛ بغية أن يكسبوا ريعه، ومن الحمق أن يحبس المرء ماله في خزينته مهما كان زهيدًا! وما أجهل البخلاء والمقترين الذين يخفون أموالهم تحت الأرض أو في أعماق الزوايا، فلا هم يستفيدون منها، ولا غيرهم يستخدمها؛ لينتفع بها، ويقاسمهم ريعها!

ولكي تكثر ثروة المرء يجب أن يثمر ما يوفره فتنمو ثروته سريعًا، ومتى أصبحت جسيمة انقطع عن كل عمل إلى إدارتها، واكتفى بها عملًا. على أن تثمير المال يقتضي حكمةً وحذقًا واختبارًا؛ لئلا يخسره صاحبه أو لا يربح منه، فيجب أن يكون عارفًا كل طرق التثمير وتقلباتها وتغيراتها، وعالمًا بأفضلها وآمنها وأكثرها ربحًا.

فالطريقة التي يكون ريع المال فيها أكثر يجب أن تستحب من غير مراعاة ميل أو غرض، وفيما يلي بيان هذه الطرق.

(٢) اقتناء العقار

يُفَضَّلُ اقتناء العقار على غيره من طرق التثمير؛ لأن العقار مال محفوظ على الغالب، يؤمن ضياعه واختلاسه، إلا إذا اختل نظام الحكومة، وفُقد الأمن، وأصبحت البلاد فوضى بلا وازع، ولأجل هذه المزية يكون ريع العقار أقل من ريع ثمنه على الغالب؛ لأن الفرق بين ريع العقار، وريع غيره يُعتبر في مقابل سلامة المال من الضياع، ويجب أن يخرج من ريع العقار قيمة تعب صاحبه في إدارته، والعمل فيه، كما يجب أن تخرج سائر النفقات الأخرى، والباقي هو ريع المال الصافي، فإذا ظهر من هذا التعديل أن المائة في العقار لا تربح كما في غيره، ولا يمكن أن تربح بعدئذ، فمن الجهل أن يتمسك المرء بعقاره، والأفضل أن يبيعه إذا كان الثمن معتدلًا، وثَمَّ يرى طريقة أخرى لتثمير ماله.

وما أجهل من يستدين مالًا بالربا ليشتري عقارًا صافي ريعه لا يفي بذلك الربا، على أنه يستحسن أن يستدين المرء ليشتري عقارًا إذا رأى أن صفقته رابحة ربحًا ظاهرًا، حتى إذا أصلح حصل منه عاجلًا ريعٌ يوفي الربا، ويستهلك الأصل تدريجًا، فيجب في اقتناء العقار ملاحظة نظام البلاد، ومستقبل الأملاك فيها، ونحو ذلك.

(٣) المراباة

المراباة إقراض المال في مقابل فائظ يأخذه الدائن من المديون مع أصل ماله، وهي مباحة قانونيًّا؛ لاعتبار أن المال ذو ريع طبعًا، ولهذا حدد القانون قيمة الربا، ولا تمدح المراباة إلا في البلاد التي تسهر حكومتها على حفظ الحقوق لذويها، وتروج حركة الأعمال فيها بحيث يندر الإفلاس، ويكون أهلوها أصحاب أملاك وعقارات؛ لتعتبر كضمانة للدين، والأفضل فيها أن يرتهن عقار المديون ضمانة للمال، حتى إذا عجز المديون عن رد المال بقي العقار في حوزة الدائن ملكًا حلالًا له؛ ولهذا لا يجوز أن يكون الرهن أقل قيمة من الدين، ويجب تحقق حال المستدين قبل تسليمه الدين لئلا يكون خادعًا أو سفيهًا لا تصح معاملته.

ومن الغلط أن يسلِّم المرءُ مالًا من غير أن يأخذ صكًّا به حتى من قريبه وأعز أصحابه؛ ليأمن ضياعه إذا طرأ ما لم يكن بالحسبان، وينجو من الندم، ولا حق للقريب أو الصديق أن يلوم قريبه وصديقه إذا طلب منه صكًّا أو رهنًا؛ لأنه يطلب ما هو حق وعدل، وإذا كان المستدين مصممًا على الإيفاء فلماذا يأبى أن يكتب صكًّا لدائنه أو يتذمر من طلبه للصك؟!

(٤) التجارة

التجارة أفضل طرق التثمير، وقد تكلمنا عنها قبلًا على قدر ما سمح المقام، ولا يستحسن تثمير المال بالتجارة إلا إذا كان المال كافيًا لتجارة تحتمل انقطاع صاحبه لها، واعتماده عليها، وإذا كان يربح منها أكثر من عمله الآخر، وإلا فالأفضل العدول عنها؛ لئلا يضيع المال؛ لعدم الطاقة على الاهتمام بتجارة صغيرة مع العمل الذي هو المسترزق الأصلي، ولهذا لا يُعَوِّلُ على التجارة إلا الذين وفرت ثروتهم، ورأوا أنهم بتفرغهم لتثميرها بالتجارة ينالون ربحًا يساوي أجرة أتعابهم وريعًا كافيًا لمالهم. وأما ذوو الثروات الصغيرة فيُعَوِّلون على المراباة ونحوها؛ ليبقوا متفرغين لأعمالهم التي يسترزقون منها.

وكم من أناس كانوا في بادئ الأمر يشتغلون في صناعة حقيرة أو يخدمون في وظيفة وضيعة، ولكنهم بحسن تدبرهم واقتصادهم وفروا رأس مال، وعدلوا عن الصناعة أو الخدمة إلى التجارة، وبحسن إدارتهم أصبحوا من عظماء المتمولين!

(٥) الإيداع في البنوك

يؤثر الإيداع في البنوك الاقتصادية كصندوق التوفير في البوستة ونحوه على سواه من طرق التثمير متى كان المتوفر زهيدًا لا يكفي ثمن عقار، ولا رأس مال لتجارة، ولا يؤمن ضياعه مع المستدين، وإلا فطرق التثمير المذكورة آنفًا أفضل؛ لأن ريع المال في البنوك زهيد جدًّا، ولهذا لا يُودِعُ في البنوك الاقتصادية إلا الذين يوفرون من دخلهم قيمًا زهيدةً، فيجمعونها في البنوك الاقتصادية إلى أن تصير مبلغًا وافرًا يستخدمونه في إحدى الطرق الأخرى، فترى أن هذه البنوك وسيلة للتوفير وإنماء المال ولو قليلًا. ولا يودع في البنوك الكبرى إلا التجار الذين يعاملون البنوك فيقبضون ويدفعون حسب الاقتضاء، وأصحاب الملايين الذين لا يقدرون أن يديروها في طرق التثمير الأخرى.

(٦) المساهمة

الأسهم المالية هي أنصبة في شركة تقوم بمشروع مالي عظيم، وأرباح المشروع توزَّع على تلك الأسهم كما وزِّعت نفقاته عليها قبلًا، والغالب أن هذه الأعمال العظيمة التي تقوم بها شركات تكون كثيرة الأرباح؛ لما في التعاون على الأعمال الكبرى من المزايا الاقتصادية لتوفير النفقات، وتكثير الأرباح، وإلا قام كلٌّ بعمل خاص، واستغنى عن الشركة، وكفى نفسه مئونة مشاكلها؛ ولهذا يفضل تثمير المال بهذه الطريقة على سائر الطرق، وإذا بحثت عن أسباب الثروات الطائلة في أميركا وأوروبا وجدت معظمها الشركات المالية التي لم تعد تحصى.

على أنه يجب البحث عن حقيقة الشركة قبل شراء أسهم منها، أي تجب معرفة أحوال الذين أسسوا الشركة، والاطلاع على الثقة بهم وخبرتهم، ويجب أيضًا درس المشروع جيدًا، وتحقق نفقاته وأرباحه ومستقبله وسائر أحواله؛ لئلا يكون المشروعُ فاسدَ المبدأ، والمؤسسون خادعين.

وما أجهل الذين يقدمون على شراء أسهم شركة؛ اقتداءً بغيرهم، غير عالمين شيئًا عن حقيقة المشروع الذي يشتركون به، فيشترون حينما يرون غيرهم يشتري، ويبيعون حينما يرون غيرهم يبيع! وقد جرى على هذا النحو بعض أهالي هذا القطر؛ فإنهم كلما ألف الأجانب شركة أسرع الأهالي إلى شراء بعض أسهمها؛ ظانين أن هؤلاء الأجانب لا يؤلفونها ما لم يكونوا واثقين أنها رابحة من غير بد!

ولهذا انتبه هؤلاء إلى سذاجة كثيرين من سكان القطر، وجعلوا يخدعونهم في جميع الأعمال المالية، فيؤلفون شركةً مثلًا، وينشرون الأدلة على أرجحية نجاحها، ويتواطئون مع البعض على أن يشتروا كثيرًا من أسهمها ثم يرفعون أسعار الأسهم؛ إيهامًا بالإقبال عليها، فيقبل البسطاء على شرائها بأكثرَ من قيمتها الأصلية، فيبيع الشارون المتواطَأ معهم أسهمهم، ويقاسمون المؤسسين الربح الناجم عن فرق الأسعار. ولهم غير ما تقدم طرق كثيرة للخداع ليس هنا محل بسطها، وإنما جل غرضنا أن ينتبه الناس إلى ذلك قبل شراء الأسهم المالية، والاطلاع على حقيقة المشروع، والأجدر بأهالي هذا القطر أن يكونوا هم المؤسسين للمشروع بمعرفة الخبيرين فيأمنوا خداع الأجانب.

(٧) المضاربة

هي تجارة موهومة بالأسهم، والأوراق المالية، وأسعار الحاصلات؛ كالقطن، إلى غير ذلك. والمضارب عرضة للخسارة الجسيمة كما هو عرضة للربح الطائل؛ لتصاعد الأسعار ونزولها في برهة قصيرة. وكان تقلُّب الأسعار في الأصل يترتب على حالة المشروع ذي الأسهم من حيث التحسن، ولكنَّ الماليين الكبار صاروا يتلاعبون بالأسعار؛ لما لهم من التأثير في الحركة المالية، فإقبالهم على الشراء يوهم بتحسن الحالة، والعكس يوهم بالعكس.

ولشدة هذا التأثير صار يمكنهم أن يعينوا الأسعار كما يشاءون؛ ولو سرًّا أو بالحيل، فيشترون رخيصًا ويبيعون غاليًا، وليس للمتمولين وحدهم التأثير في تقلب الأسعار؛ بل يشاركهم فيه أصحاب الشركات التلغرافية، وأصحاب الجرائد الكبرى الذين يتلاعبون بالأخبار لهذا الغرض؛ ولذلك ترى أن الماليين الكبار هم الرابحون في المضاربات، والمضاربين الصغار هم الخاسرون. وبالإجمال لا تمدح المضاربات، فالأجدر اجتنابها، وكفى إنذارًا بويلها خراب كثير من البيوت العامرة بسببها، وإلقاؤها بكثيرين من الأغنياء من حالق عزهم إلى قعر الفقر والهوان.

وإذا رقبنا حركة بورصة الإسكندرية جيدًا، ونظرنا إليها من كل جهاتها رأينا الثروات كريشات في مهب الريح طائرة بين هبوط أسعار البورصة وصعودها، فلا تستقر إلا في خزائن بضعة من كبار المتمولين. ففي يوم واحد تنتقل السعادة بين عدة أفراد، فلا يكاد المضارب يبتهج بالربح الطائل حتى يتقطب حاجباه غيظًا وحزنًا من خسارة باهظة، وهكذا تراه تارةً في نعيم، وطورًا في جحيم، كأنه يسعد في حلم، ويشقى في يقظة، وفي برهة غير طويلة ترى كثيرين من هؤلاء المضاربين الصغار والأوساط قد تعروا من كل ثروة، وانتفت الثقة بهم، وأصبحوا في موت أدبي ومالي معًا.

(٨) النصيب

أمر النصيب معروف عند العامة فضلًا عن الخاصة، وهو بالحق فكرة إبليسية يقصد بها ابتزاز الأموال بإغراء وإغواء. وأصحاب النصيب يوزعون أوراقًا ذات نمر متسلسلة بقيم متساوية، ويجعلون مجموع قيم هذه الأوراق — بعد طرح النفقات اللازمة — نصيب من يتفق أن «تسحب» نمرة من حق الأنصبة كنمرة الورقة التي في يده، فيربح هو المبلغ بلا عناء، وأولئك يخسرون ما دفعوه! وقد يقسم المبلغ إلى عدة أنصبة قسمة غير متساوية حتى لا يكون النصيب لواحد فقط.

وإذا تقصيت دخائل بعض تلك الأنصبة رأيت أن الأوراق التي تسحب النمر منها هي أضعاف الأوراق المبيعة، فالنمر الرابحة مائة ألف فرنك مثلًا تكون بين مليون نمرة، وعليه فأمل أن يكون الربح من النمر المبيعة هو عُشر، وأمل ربح الواحدة من كل النمر هو جزء من مليون، ولهذا يغلب أن تكون النمرة الرابحة في يد الشركة صاحبة النصيب! أما عامة الشعب فلا يحسبون هذا الحساب، ولا يدركون أن خيبتهم تساوي مليون مرة لأملهم، بل بالحري يعلقون كل أملهم على أرجحية الربح؛ فهم يطلبون السعادة من يد البخت لا من يد الكد، ويعتقدون أن القدر أضمر لهم حظوظهم، فيفحصون عن هذه الحظوظ، إن سعادة أو شقاء، في أوراق النصيب وغيرها.

ومعلوم أن العيش لا ينال إلا بعرق الجبين كما قال الخالق، وكما تقتضي الطبيعة؛ لأنه يستحيل أن يحصِّلَ كل إنسان رزقه من أرباح النصيب والمضاربات المتنوعة، وإلا فمن يقوم بالأشغال الأخرى التي عليها مدار البقاء، وبها حركة المجتمع الإنساني.

(٩) المقامرة

يحسب المقامرون أن المقامرة من طرق تثمير المال! وهكذا يجهل الجهال أنهم في ضلال. إن مال المقامرة حرام، ومال الحرام أثقل من الزئبق إذا وضع في الجيوب فلا يلبث أن يفتقها وينتثر منها، وهكذا ترى مال المقامرين يجول بين جيوبهم، ففي الصباح ترى أكياسهم ملأى بالأصفر الرنان، حتى إذا تتبعتهم في بحر النهار وآناء الليل تراهم يحسبون دنانيرهم، وإذا هي في الأكياس كالثمالة في الكأس فتأخذك الدهشة، ويستوقفك العجب، ويجول في ضميرك سؤال: «أين ذهب الذهب؟!» لأنه إن كان هذا قد خسر فذاك قد ربح، وإن ما نقص من هذا زاد مع ذاك.

وهاك أهم الطرق التي تذهب بها الأموال:
  • (١)

    جعالة صاحب النادي: فقد اصطلح أصحاب هذه الأندية أن يأخذوا من المقامرين نصيبًا من الرابح؛ جزاء خدمتهم، وتقديم آلة اللعب، والمحل، ونحو ذلك. لنفرض أن المال المقامر به هو ٢٠ غرشًا مثلًا مع كل من الاثنين، فإذا ربح أحدهما من الآخر ٦ غروش مثلًا يأخذ صاحب النادي غرشين، ثم إذا ربح الثاني من الآخر ٦ غروش أخذ صاحب النادي غرشين أيضًا، وهكذا بتوالي تردد الربح بين الاثنين ينتقل الجانب الأكبر من الأربعين غرشًا إلى صاحب النادي، فالدراهم — والحالة هذه — كالعصافة التي تفرغها من طبق إلى آخر؛ تكرارًا، فإنها تتطاير شيئًا فشيئًا أثناء التفريغ مهما كان الهواء ساكنًا حتى لا يبقى منها شيء أخيرًا.

  • (٢)

    الإسراف: فالمقامر سواء ربح أو خسر لا بدَّ له من الإنفاق، ولكن إذا ربح مبلغًا حمله الفرح من الربح على البذخ، وهكذا يتعوَّد الإسراف تدريجًا حتى يصير مبذرقًا في حالتي الخسارة والربح، ولما كان المقامر فاعلًا مشتغلًا نهاره وليله بلا أجرة لم يكن بد من تناقص ثروته تدريجًا إلى أن تنفد مهما كانت عظيمة.

  • (٣)

    إهمال الأشغال: ليس شيء يشغل الإنسان ويلهيه عن عمله كالمقامرة، فإذا زاولها المرء مرة أو مرتين تعودها، وتعلق بها، وعكف عليها، وترك كل أشغاله أخيرًا، وهكذا يخسر باب رزقه مهما كان واسعًا.

  • (٤)

    الرذيلة: تقود المقامرة إلى كثير من الرذائل؛ كالفسق؛ لأن الرابح يستفزه الربح إلى امتطاء متون الشهوات، فيخوض عباب اللهو والبطالة، ويندفع إلى حمأة الرذائل المختلفة، وأولها إدمان المسكرات. وهكذا يخسر صيته وصحته وصلاح أخلاقه، وربما أفضى أمره إلى الانتحار أخيرًا، وقد لوحظ أن جانبًا كبيرًا من المنتحرين كانوا مقامرين أو سكيرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤