فصلٌ ختاميٌّ

أدبُ العصر بقلم الناظم

أمَا وقدِ اطَّلَع القارئ على شِعْر هذا الكتابِ، فمِن الأمانة أنْ أتحدَّث إليه بكلمةٍ نقْديةٍ في موضوعِه، وببحثٍ عامٍّ وجيزٍ في أدب العصر، وإنْ كان شيءٌ من هذا البحث قد ظهرَ في مجالٍ آخَر إمَّا بقلمي أو بقلم صديقي الأستاذ حسن صالح الجداوي معبِّرًا غالِبًا عن آرائنا المشتركة.

لقد وعدتُ في مقدِّمة الكتاب ببثِّ الرُّوح الفنِّية والرُّوح القومية معًا، كما وعدتُ بمراعاةِ الإيجاز المُجْدِي والسلاسةَ في التعبير، فلنسْتَعْرِضِ الآن بالنقد — زيادةً للفائدة — قيمةَ هذا المجهود الصغير استعراضًا يشتركُ فيه المؤلِّفُ والمعلِّمُ والطالبُ معًا.

•••

فأمَّا عن الرُّوح الفنِّية فرغمَ الإيجاز الذي لزِمْتُهُ قد حاولتُ بثَّها بلفْتي النظرَ إلى وجهة الجمال في موضوع الوصْف، وبالتصوير الخيالي الذي من شأنِه أن يُنمِّي قوةَ التخيُّل والتصوُّر عند الطالب ويدفَعُه إلى التجرُّد من مألوف الدراسة المادِّية للشِّعر، فيقرأ الشعرَ حينئذٍ بوجدانِه مصاحِبًا الشاعرَ في مشاهِدِه وتفكيره وتصويره، فمِن هذا القَبِيل هذه الأبيات من قصيدة «النيل»:

يجري بماءِ حياتِنا وحياتِهِ
فكأنَّما صِرْنا سَرِيَّ نباتِهِ!
من موجِهِ يُوحَى خفوقُ قلوبنا
ودماؤنا من لونِهِ وصفاتِهِ
لولاهُ كانتْ «مصر» قَفْرًا قاحِلًا
وبه ترى الجناتِ من جناته!
وترى المروجَ يمينَه وشمالَه
صُوَر الجمال حنَتْ على مِرآتِهِ
أو كالعساكر في عمائمِ قُطْنه
رفعتْ تحيَّتَها على راياتِهِ!

وكذلك هذا البيت من قصيدة «الصحراء»:

تمتدُّ كالأمل الجميل النائي
تقسو عليه عواصفُ الهوجاءِ

ثم هذه الأبيات:

ومتى أتى الفجرُ الجريحُ وبعدَه
جيشُ الشروق مضرَّجًا بدماء
بزغتْ ذُكاءُ وللسلامِ بُزُوغُها
فتُعِيد للأحياءِ نُورَ رجاء
فإذا الرمال من النَّدَى وشعاعِها
ما بين دمعِ هَوًى ونارِ حياء!

وليس من قصيدةٍ في الكتاب إلَّا وفيها أمثلة من هذا القَبِيل داعية إلى شحْذ الذِّهْن وتغذية الخيال وحب التصوير الفني، فليس طالبُ الدراسة الثانوية في مستوى الطالب الابتدائي، ولا يجوز أنْ يُناوَل الطالبُ الشِّعرَ بالمِلْعَقة، كما يُقال في الأمثال … وهذه الخُطَّة التهذيبية قدِ اتَّبعها أخيرًا أساتذة الأدب في مدارسنا الثانوية، فشجَّعوا الطلبةَ على دراسة وحفظ الشعر التصويري المُشبَع بالخيال؛ مثل شعر ابن حمديس، وابن خفاجة، ومَن نحا نحوَهما من نوابغ المتقدِّمين، وبذلك انقضى العهد الذي كان يُرغَم فيه الطالب على استِظْهار الكثير من النظيم المتجرِّد من الرُّوح الفنية وآثار الخيال الجوَّال، فلم تكن فيه جاذبيةٌ لطالب الأدب، ولا غذاء نافعٌ لمَلَكته الأدبية، وانْقَضى العهدُ الذي كان يؤَثِّر فيه الكلامُ المرصوفُ المنظوم على الشعر الحقِّ، والأسلوب التقريري الخبري على الأسلوب الخيالي التصويري، والقولُ الساذجُ العاثِرُ على الخيال الجريء الشَّرود، والتبسُّطُ والحشْوُ في التعبير على الإيجاز الجميل، الذي تقوم فيه الكلمة بمقام البيت الكامل، فتُفتِّق ذهنَ الطالب بتشجيع المعلم إيَّاه، وتبعثُ فيه حِدَّة التفكير والتخيُّل.

ومن أمثلة الإيجاز المتناهي الذي يتفقُ وأحسنَ التخيُّل التقديري في نظري قولُ خليل بك مطران في قصيدته «وقفة في ظلِّ تمثالٍ لرعمسيس الكبير»١ مُشِيرًا إلى الأُمَّة المصرية وموقِفِها إزاءِ مَلِكِها العظيم ونُصُبِه:
إنْ باتَ في حُجُبٍ باءَتْ إلى نُصُبٍ
يلوحُ منه لها معبودُها الجانِي
فبَجَّلَتْ تحتَ تاجِ الملكِ مُدْمِيَها
وقبَّلَتْ دَمَها في الْمَرْمَر القانِي
والشاهد كلمة «دمها»؛ فإنَّ معانيَ كثيرةً تنطوي تحتَها٢ كأَّنما يريد الشاعرُ أن يقولَ إنَّ هذا المَلِك في حياته خُضِّب بدم ضحاياه من المصريين، فلمَّا مات لم يَسْلَم تِمْثالُه من التَّخْضيب، بل انتقل إليه ذلك التخضيب! أو كأنَّما يُريد أن يقول إنَّ دمَه مثل أَزْكى الدِّماء المصرية، وقدْ كان مَفْدِيًّا في حياته، فلم يذهبِ الموتُ به، بل بقِيَ ماثِلًا في تمثالِه تكرِّمه الأمة وكأنَّما تكرِّم دمها؛ لأنَّه كان مَلِكها العظيم الشغوف بعظمتها، الحافظ لقوميتها، وقِسْ على ذلك ما تُؤثِر أنت من التقْدِير الخيالي الذي تُشِير إليه هذه الكلمة.
يُرْوَى عنِ امرأةِ كعبِ بن الأشْرَف قولُها لزَوْجها (عندَمَا دعاهُ في الليل الذين يُرِيدون قتْلَه مُظْهِرين الالْتِجاءَ إلى حِصْنه وقد نَهَتْه عنِ الخروج إليهم): «إنَّني أسمعُ صوتًا يَقْطُر منه الدمُ!» ومثل هذا التصوير الرائع الذي قالتْه على الفَوْر سيدةٌ عربيةٌ منذ قُرون قلَّما يَرْضَى عنه بعضُ علماء اللغة في هذا العصر إذا أنتَ أخفيتَ عنهم مَصْدَرَه؛ وما ذلك إلَّا لأنَّهم أبعَدُ الناس عن دراسة الخيال في الشِّعْر، وإنْ كان الشعرُ العربي في عُصور النهضة غنيًّا جدًّا بذلك الخيال،٣ ومع ذلك فهم يتعرَّضون للحُكْم على الشعر بدَلَ الانقطاع إلى تعليم قواعد اللغة وأصولها وتاريخها … فلا يُرْضِيهم مثلًا أنْ يُقال: «وضرَّجَتِ الحربُ الهواءَ من القَتْلى!» إشارةً إلى فظائع الحرب العالَمية الهوائية بالطَّيَّارات والمناطيد، بينما هذا التعبير دون نظيره القديم شُرودًا في الخيال، وبينما هو أكثر انطباقًا على العلم؛ لأنَّ الهواء مادة يمكن تضريجها بالدم من وجهة نظرية، بينما الصوت ليس بمادة فيما نعلم، ومِن الظلم أن تُتَّهم لغتنا الشريفة بهذا الجمود، فإنَّما الذنب واقعٌ على تقصير علماء اللغة أنفسِهم في صيانة رُوح اللغة قبلَ هَيْكَلِها، وفي مُراعاة أحاسِن التقاليد الأدبية القديمة، تقاليد الإبداع والإنتاج والافتنان، بينما نعيش في عصر اللاسلكيات والراديوم والإلكترون، وفي زمن المعجزات العلمية التي من شأنها أن تُفسِح المجالَ للغة الخيال ولسَعة التصوير وللابتكار في البيان والتعليل.

•••

وأمَّا الرُّوح القومية فإنَّ بثِّي لها عن طريق اختيار المواضيع ومغازيها، وعن أسلوبِها المصري؛ فقدِ اجتهدتُ في اختيار مواضيع متنوِّعة مرتَبِطة بتاريخ مصر القديم وبحياتها الاجتماعية وبنهضتها الحديثة، فمِن حق الأدب القومي أن نَحفِل بالمواضيع القومية الصميمة، ومهما كانتْ عنايتنا بتاريخ العرب فإنَّ أبلَغَ حفاوتنا بالأدب من حق وطننا علينا، وفي كل موضوع عالَجْتُه حاولتُ أنْ أُظهِر ما يزينه من محامد وذكريات وطنية جليلة، أو صفاته الممتازة الجديرة بإعجابنا وتقديرنا؛ فلا خير في قصر عناية الطالب المصري على بغداد ودمشق وقُرْطُبة، وطُلَيْطِلة، أو في إغفالِه واديَ الملوك ومعبدَ حاتاسو وبَقَايا العَظَمة الْمُدْهِشة لمصر القديمة، ومَشاهِد مصرَ الحديثة الناهِضة، وإلَّا ضاع يَقِينًا ركنٌ من أركان التربية الوطنية، وما يُقال عن الموضوع يصحُّ أن يُقال أيضًا عن اللغة، لقد كان زمنٌ يُقرِّر فيه ابنُ جِنِّي٤ وكثيرون غيرُه «بأنَّ أصلَ اللغةِ إنَّما هو تَواضُعٌ واصطلاحٌ»، وبجواز التَّوْليد، وبإباحة ما يُشاهِدونه «من اختراعاتِ الصُّنَّاع لآلاتِ صنائِعِهم من الأسماء: كالنَّجَّار، والصَّائغ، والحائك، والبَنَّاء، وكذلك الملَّاح»، وكان زمنٌ يقول فيه ابنُ السِّيد البطْلَيُوسي ولا يَخْشَى حَرَجًا في كتابِه «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب»: «الدِّيوان اسمٌ أعجميُّ عرَّبتْه العربُ … والأصلُ في تَسْمِيتِهم الدِّيوان ديوانًا أنَّ كسرى أمَرَ الكُتَّاب أن يَجْتَمِعوا في دارٍ ويعملوا له حسابَ السَّواد في ثلاثة أيَّام وأعْجَلَهم فيه، فأَخَذُوا في ذلك واطَّلَع عليهم ليَنظُر ما يَصْنَعون، فنَظَر إليهم يحسبون بأسرع ما يُمْكِن ويُحْسِنون كذلك، فعَجِب من كثرةِ حَرَكَتِهم وقال: أي «ديوانه»، ومعناه هؤلاء مجانين، وقيل: معناه شياطين، فسُمِّيَ موضعُهم ديوانًا واستعملتْه العربُ، وجعلوا كلَّ محصل من كلام أو شعرٍ دِيوانًا» … وكان زمنٌ يَسْمَح فيه سيبويهِ وتلاميذُه بالأَخْذ عن اللُّغات الأجنبية دون قيدٍ سوى شرطٍ واحدٍ هو الاستعمال، وكان زمنٌ يُقرِّر فيه الإمام التنوخي في كتابه «الأقصى القريب في علم البيان»: إنَّ «البلاغةَ تتعلَّق بالمعْنَى فقط، وهو أن يَبْلُغ المعنَى من نفْسِ السَّامِع مبلَغَه»، ويُقرِّر أيضًا: «أنَّ العنايةَ بالمعنى أعظمُ من العناية باللَّفْظ لِتمامِ غرض المتكلِّم من إفْهام السامع، فلا يَفِي حُسْن اللفظ بما نقص من المعنى، والمعاني، وإنِ اختلفتْ في الجودة والرَّداءة فقد يُرادُ الجيِّد لذاتِه، وقد يُراد الرَّديءُ لذاته، فيَقبُح وضْعُ الجيد في موضع الرديء، كما يَقبُح وضْع الرَّديء في مَوْضِع الجيِّد، ويُمْدَح المؤلِّف باتِّباع المعنى الذي لم يُسْبَقْ إليه — وينبغي أن يُقال الذي لم يسمَعْه قبلَ ابتداعِه — فإنَّ السَّبقَ إلى المعنى يَقِلُّ لكثْرة ما قال الناس: ولا فرقَ بين مَن لم يُسْبَق وبين مَن لم يَسْمَع؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ منهما مُبْتَدِعٌ، وإنما ينقص مَن لم يَسْمَع بقِلَّة اطِّلاعه على كلام الناس، ولا يَقْدَح ذلك في قريحته، بل تعظم لذلك» … مضت تلك الأزمان فإذا بنا قُبَيْل النهضة الأخيرة أمام الدَّاعِين إلى نُكْران ظروف مجتمعنا الحاضر يُطالِبوننا بأنْ نتقيَّدَ بأساليب الأَسْلاف الذين ما كانوا أنفسُهم إبَّان قوَّتِهم وعزَّتِهم يَعْبَئون بالتَّقيُّد، بل كانوا يَنشُدون الحرية دائمًا، وكانوا يعملون على نَمَاء اللغةِ وازدهارِها وزيادة ثروتها بالكثير من المعرَّبات، حتى وإنْ لم يُضطَرُّوا إليها، فكثُرتْ مُترادفاتُهم وفاخَروا بها، وبسَعةِ أسالِيبِهم، وبقابلية اللغة لاجتذاب حَسَنات سواها من اللغات دُونَ أن تَفْقِد هي شخصيَّتَها ومميِّزاتها … وقلَّما كنا نَجِد أسلوبَ الجاحظ الجميل — الذي هو أسلوبُ الفِكْر والبَدِيهة والفِطْرة المصقُولة — ينالُ مِن التحبيذ قدْرَ ما كانتْ تنال رسائلُ «شمس المعالي قابوس بن وشمكير» المسمَّاة «كمال البلاغة»، وما هي إلَّا أمثلة من التفنُّن السَّجْعي الذي ما كان يستَحِقُّ البَعْثَ ولفْتَ الأنظارِ إليه من جديد.
ثم أشرقتْ شمسُ النَّهْضة الأدبية الأخيرة فإذا علماءُ لغتِنا المتبحِّرون يُدْركون خسارتَنا الجَسِيمة بالاقتصار على ثروةِ الماضي التَّليدة بينَما لدَيْنا آلافُ الكلمات الظَّريفة المصقولة الجميلة ما بين مُشتقَّةٍ ومُعرَّبةٍ وموضوعةٍ، فاختارُوا منها الكثيرَ وأباحُوا استعمالَها، وقامُوا في شجاعة ونشاطٍ مقامَ مجمعٍ لغويٍّ راشِدٍ، وأخصُّ بالذكر مِن هؤلاء السادة الأعلام الأجِلَّاء الشيخَ إبراهيمَ اليازجيَّ، والإمامَ الشَّرتونيَّ، والعلَّامة الأب لويس معلوف اليسوعيَّ، والمحقِّقَ الكبير الأب شيخو اليسوعيَّ، فحَفِظوا في معاجِمِهم ومؤلَّفاتهم النفيسة الكثيرَ من الألفاظ العصرية القيِّمة، وشجَّعوا الأُدباء على استعمالها وإحيائها، فأصبحتْ شائعةً في أَرْقى أمثلةِ الإنشاء والشِّعْر العَصْري، وصارتْ ممَّا يُستحبُّ؛ لأنَّها دليلٌ على عصرنا الحاضر وعنوانُ أذواقِنا وثقافتنا، وما يُقال عن المفردات يُقال عن بعض الأساليب المستحدَثة، فأصبحتْ غايةُ ما يُطالَب به الأديب المعتدِلُ الغَيُورُ على حُرْمة لُغته أن يُحافِظ على شَرَف دِيباجتِه الإنشائية دون أن يكونَ مُتَطَرِّفًا في تجرُّده أو جامدًا في أسلوبه، وعلى هذا، فكما أصبح دليلًا على البَلادة الذِّهنية أن يتَّهِم القارئُ الشِّعر التصويري الخيالي الجريء بالتعقيد فقد أصبحَ حُجَّةً على الناقِد في تقعُّره أن يذمَّ الأديبَ الذي يمثِّل عصرَه أصدقَ تمثيلٍ في أسلوبه ولغته، مُؤْثِرًا عليه الناظِمَ الصانعَ المتكلِّفَ الذي يَقْضِي السنوات في نَصَبٍ محاوِلًا تقليدَ العربيةِ الأولى، فلا هو يستطيع أن يَمْلِكَ ناصِيَتَها كما يوَدُّ، ولا هو يَخدُمُ الأدبَ القومي كما يجب …٥

ومن الألفاظ التي تعمَّدتُ استعمالَها لأنَّها من أحسن الألفاظ العصرية البليغة كلمة: «توفَّقتُ» فإنَّها خيرُ من «وُفِّقتُ»؛ لأنَّ لفظ: «توفَّق» بمعنى «كان مظهرًا لتَوْفيق الله وتسهَّلتْ له طُرُق الخير»، بينما كلمة: «وَفَّق» قاصرةٌ على الدلالة على الإلْهام والهُدَى (راجع «المنجد» للعلَّامة لويس معلوف)، وكذلك استعمالي كلمة: «بساطة» بدل: «سذاجة»؛ فإنَّ الأُولى تُشِير ضِمْنًا إلى البِشْر وغِنى النفس، بينما الثانية ذات تلميحٍ إلى شيءٍ من البَلَه، وتعمَّدتُ التحرُّر من القَيْد العَرُوضي في قصيدة «أبي الهول» كما فعل شوقي بك في قصيدته البيروتية، وما عدا هذه القصيدة فقد حافظتُ جهدَ الطاقة على الأساليب القديمة — خلافًا لنَزْعَتِي ومَذْهبي — في جميع منظومات الكتاب، مكتَفِيًا بالرُّوح المصرية المشبعة بها، وحسبي أنْ أكونَ بذلك قد عبَّرتُ عن عواطفي ونظراتي الوطنية بلغةٍ شريفةٍ يصحُّ أن تُعَدَّ لسانَ الثقافة المصرية الحاضِرة، لا بلغةٍ غريبةٍ عن بيان هذا العصر وذوقه.

•••

لقد قام المجدِّدون الجريئون من علماء لغتنا الفطاحل المعاصِرين رغم تشتُّتِهم مقامَ أكاديمية لغوية، وحَفِظوا أساليبَ البيان ومفرداتِ التعبير لبيئاتنا العصرية، فساروا على سُنَّة السَّلَف الصالح في نشاطِهم وإنتاجِهم وإبداعِهم وزادوا ثروةَ اللغة، وكانُوا أئمةَ الأدباء في صِدْقِ التعبير والبِرِّ بعصْرِهم قبلَ سوالِفِ العُصُور، وهذا الكتاب نتيجةٌ طبيعيةٌ لهذه النهضة الأدبية؛ فلُغته إجمالًا لغةُ العصر، ومباحِثُه مفاخرُ الوطن ومظاهرُ حياته، ودِيباجتُه ليستْ مَثَلَ التقعُّر ولا أسلوبَ العامةِ، ونزعةُ الفِكْر والخيالِ فيه هي ثمرةُ اطِّلاعي الطويل على أدبِ الغرب؛ حيث القومية لها المكانُ المُعَلَّى من الإجلال، وحيثُ قضيتُ نصفَ حياتي العملية، فإذا لم أكن أرضَيْتُ به مَن لا يَرْضَوْن عن استقلال الأدب المصري ولو استقلالًا مُقَيَّدًا، ولا يرتاحون إلَّا إلى صميم العربية فلا يَرْضَوْن حتى عن الفيروزابادي، فلعلِّي أنصفتُ به بيئتي ووطني … ويكفِيني عِوَضًا وجزاءً حَسَنًا أن أشجِّعَ به النقدَ الأدبي وحبَّ البحث الشِّعري في نفوس قارئاته وقارئيه من طلاب الأدب.

أحمد زكي أبو شادي
١  مجلة «المقتطف»: ج٢، م٦٤، ص١٣٢.
٢  من قَبِيل البلاغة في الإيجاز كلمة: «تطفله» في قول الشاعِر قديمًا:
بانَ الخَلِيطُ فما أُؤَمِّلُه
وعفَا مِن الرَّوْحاء منزِلُه
ما ظبيةٌ أدماءُ عاطِلةٌ
تَحنُو على طفلٍ تطفلُه
٣  راجع كتاب «الخيال في الشِّعْر العربي» للأستاذ السيد محمد الخضر حسين التونسي.
٤  راجع «الخصائص» لأبي الفتح عثمان بن جِنِّي.
٥  كان المرحوم العلَّامة الشنقيطي بالتلقين في موطن رأسِه وبالمُطالَعة بحرًا زاخرًا في اللغة العربية، بل قامُوسًا جامِعًا حيًّا لمُفْرداتها وتاريخها بحافِظَتِه المُدْهِشة النادِرة، ومع ذلك فقد كان عاجِزًا في الإنشاء عَجْزًا بَيِّنًا، وكان لا يتكلَّم إلَّا العربيةَ الصَّميمةَ ولا يَعْرِفُ غيرَها، متطبِّعًا بطَبْعِ البداوة يُجيز ذَوقُه اللغويُّ قولَ الشاعر العربي:
عرِّجْ على حَرَمِ المحبوبِ مُنْتَصِبًا
لكعبةِ الحُسْن واعذرني على السَّهَرِ
مع أنَّ هذا التعبيرَ يُخالِف ذوقَ عصْرنا، وإنْ أساءَ شوقي بك بمِثْل ذلك في قوله:
شكرتُ الفُلْكَ يومَ حويت رَحْلِي
فيا لمفارقٍ شكر الغرابا
فأنتِ أرحتِنِي من كلِّ أنف
كأنف الميتِ في النَّزْع انتصابا!
وفي قوله:
مولاي عبدُك طائعٌ
فافعلْ به ما أنت فاعلْ
وفي أمثال ذلك من التعابير، فلم تَنفَع سَعَةُ الاطِّلاع اللُّغَوي، ولا الشُّهرة الأدبية في دفْعِ النقْد وإنصاف الذَّوْق الفني للأدب العصري. وإذن فمِقياس النفع للأدب لا يمكن أن يكون العلم اللُّغوي المحض الذي يُطبَّق دون مُراعاة للظُّروف، أو الذي لا يتيسَّرُ تطْبيقُه، وإنما المِقْياس الصادِقُ هو تمثيل ذلك الأدب لبيئته وأثره فيها. وبين كبار أدبائنا الذين يعدُّون خطأً من المحافِظين من يُقِرُّوني على هذا الرَّأْيِ وإن لم يَمْلِكوا الشجاعةَ الكافيةَ لإعلانِه خُوْفًا من صَيْحات الرَّجْعِيِّين؛ فهؤلاء الأعلامُ الأفاضلُ يُدْرِكون أنَّ ما وَرِثْناه من اللغة العربية ربما لم يبلُغُ نصفَها، وأنَّ الكثير ممَّا يُظنُّ من الشَّواذِّ ليس شاذًّا، وإنما قد جَنَى عليه النُّسَّاخ بالتَّحْريف والتَّصْحيف، كقَوْلِهم: «امرأةٌ وَحدة» بدلَ: «وَحيدة» «كفريدة وجديدة وسعيدة»، كما يَقْضِي القياسُ، وكجَمْعِهم «جليل» على «جِلَّة» بدل «أجِلَّة» خلافًا للقياس، «كأحِبَّة جمع حبيب ونحوها»، وكذلك يُدْرِك هؤلاء السادة أنَّه لا بد للعامية العربية من أصلٍ في الفُصْحى، وأنَّ نماءَ الفُصْحى أساسُه التَّعْريب والاقتباس من العامية المهذَّبة؛ ولذلك فهم في ضمائرهم يَشْعُرون بأنَّ ترك الوفاءِ لأدب العصر ومحاولة التقيُّد بالماضي البعيد إنما هو عبثٌ في عبثٍ لن يكون له أثرٌ تهذيبيٌّ صالحٌ، وكما أنَّ القاضيَ لن يَقْبَل عذرًا عن كلمة يستَقْبِحها العرفُ باعتبارِ أنَّ أصلَها اللُّغَوي إطراءٌ، فكذلك حكم الأدب على الأدباء المتقعِّرين الذين يَزْدَرون العُرْفَ ومطالبَ بيئَتِهم ويتعثَّرون في تشبُّهِهم بالماضي، دون أن يَبْلَغوا منه شأْوًا يُذكَر رغم دراسة السنين الطويلة، فيَهابُونَ الإنتاج ويقعدون عن العمل المُجْدي، وهكذا يَخْسَر الأدبُ مواهِبَهم، ولا يكونون قدوةً صالحةً لغيرهم في الإفادة والاستفادة الحقَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤