ملايين النورية

١

كان الهواءُ يهبُّ عاصفًا، والغيث يهطل منهمرًا، وقد ثارت عاصفة تحطم — لشدتها — زجاجَ النوافذ في قصر روشربيم في بيكارديا، وهو القصر الذي تبدأ فيه حوادث هذه الرواية.

وكان هذا القصر على بضعِ مراحلَ من طريق أميانس، وهو قديم يتصل عهد بنائه بأيام الصليبيين، ولكنه هُجر نحو مائة عامٍ لم يسكنه أحد، حتى رُويت عنه الأحاديث الخرافية المزعجة، وبات الناس يخافونه ولا يدنون منه؛ لكثرة ما رُوي عنه من الحوادث المخيفة؛ وأخصها أنه مسكون من الجان!

وكان ينتقل من وريثٍ إلى وريث، فلا يقيم به، ولا يجد من يستأجره. إلى أن جاء يومًا سائحان من الإنكليز إلى تلك الجهة وسمعا ما يروون من الخرافات عن ذلك القصر فزاراه وتفقداه، ثم اشترياه من صاحبه وأقاما فيه، وذلك منذ ٥ أو ٦ أعوام.

وكان أحد السائحين امرأة يبلغ عمرها نحو الخامسة والثلاثين، عصبية المزاج بارعة الجمال، غير أن آثار الهم والتفكير كانت باديةً بين ثناياها وجميع ظواهرها تدل على أنها من الأعيان.

أما السائح الآخر؛ فقد كان أبيض الشعر مصفر الوجه، إلا أن آثار القوة كانت تبدو من اتقاد عينيه، وخفة حركاته، وكان يدعوها بلقب ميلادي، ويخاطبها بلهجة الاحترام، وهي تدعوه باسم بب دون كلفة مما يدل على أنها مولاته وأنه وكيلها.

وقد حاول هذا الوكيل حين إقامتها في هذا القصر أن يجد خدامًا من أهل القرية فلم يلق من يجسر على المبيت فيه؛ لكثرة ما تداول على الأسماع من سمعته السيئة، فاضطر إلى إحضار الخدم من باريس.

وكان من عادة ميلادي أن تخرج في صباح كل يومٍ ممتطيةً جوادًا فتتنزه ساعةً وتعود، لكنها تجتنب الحقول والمزارع والمنازل والقرى المجاورة فلا تكلم أحدًا من الناس، حتى سكان القصر، ولا يأتي إلى هذا القصر أحد حتى الشحاذين.

وأغرب من هذا أن الخدم أنفسهم لم يكونوا يكلمون أحدًا كأنما الأمر قد صدر إليهم بهذا السكوت، غير أنهم كانوا يحدثون بعضهم بأسرار هذا القصر كما تراه من هذه المحادثة الآتية:

فقد اجتمع في المطبخ السائق وخادم والطباخة فقال الخادم: مسكينةٌ هذه السيدة؛ فقد كانت ليلتها أمس من أسوأ الليالي.

فقالت الطباخة: هو ما تقول؛ فقد سمعناها تصيح وتطلب العفو.

وقال السائق: حبذا لو كنت أعرف اللغة الإنكليزية؛ فإني كنت أفهم حديثها حين تصيح في الليل.

فقال الخادم: لا شك أن الأرواح مقيمة في هذا القصر، وأنها ستعود هذه الليلة.

فقال السائق: إنها تأتي كل ليلة منذ حينٍ غير بعيد.

فقالت الطباخة: ولكن أتعلمون في أية غرفةٍ من غرف القصر تنام ميلادي؟

فقال خادم الغرفة: ذلك يستحيل معرفته؛ فإن غرف القصر كثيرة وهي تنام كل ليلةٍ في غرفة؛ راجيةً أن لا تهتدي الأرواح إليها كأنما الأرواح تخفاها خافية!

فقالت الطباخة: أظن أن سيدتنا لا تهبط إليها الأرواح ولا تناجيها، وأنها قد تكون أذنبت ذنبًا عظيمًا ندمت عليه، وما نسمعه منها إنما هو مما يصيبها من تقريع الضمير.

فقال السائق: وأي تقريعٍ هذا؟! بل أي ذنبٍ يمكن أن تجترمه مثل هذه الحسناء؟!

فقالت الطباخة: إني عقدت كلامي على الظن، ومع ذلك فإني أعتقد أنها ارتكبت جريمة وعندي برهان!

لكنها قبل أن تتم حديثها وتذكر ذلك البرهان، قرع باب القصر الخارجي قرعًا شديدًا فتوقفت عن الحديث.

وانذهل جميع الخدم؛ لأنهم لم يتعودوا قدوم الزائرين فشغلهم الانذهال عن فتح الباب، ثم توالى القرع بشدة، فأسرع بب إلى المطبخ وأمر أحدهم أن يفتح الباب وينظر مَنِ الطارقُ.

فذهب أحدهم وعاد بعد هنيهةٍ، فقال للوكيل: إنهما يا سيدي اثنان؛ أحدهما: رجل، والآخر امرأة صبية، وقد ابتلت ثيابهما بمياه المطر.

فسأله الوكيل: ماذا يريدان؟

– إن مركبتهما قد انكسرت على الطريق وهما لا يعلمان أين يذهبان، فقلت لهما: إن سكان القصر لا يضيفون أحدًا!

– وهل ذهبا؟

– كلا، فإنهما لا يزالان يلحان بالدخول.

فلم يجبه الوكيل بحرف، ولكنه قطب حاجبيه وغادر المطبخ، فذهب إلى السيدة وعاد إلى الخادم كي ينفذ الأمر، وبقي الخادمان الآخران في المطبخ ينتظران.

٢

بعد ذلك بساعة كان الضيفان جالسين في قاعةٍ من قاعات القصر يتدفئان قرب النار، وقد مضت عليهما ساعة دون أن تحضر ميلادي أو وكيلها بب؛ فلم يريا غير الغلام.

ولم يكن هذان الضيفان إلا السير جمس نيفلي وفاندا، وقد كانا قادمين إلى باريس للانتقام من روكامبول بعد أن خدعت فاندا السير نيفلي، كما تقدم في الرواية السابقة (ضحايا الهند).

فلما وصلت المركبة القادمة بهما إلى أميانس سقطت في هوةٍ في ذلك الوادي الذي كان يشرف عليه قصر روشربيم، فلم يصب ركابها بأذًى إلا أن المركبة انكسرت ولم تعد صالحةً للسير …

وكانت الساعة العاشرة من الليل، والأمطار تنهمر غزيرة، فحارا في أمرهما ولم يعلما أين يسيران. فقال لهما السائق: إنه لا يوجد هنا ملجأ قريب غير قصر روشربيم، لكنه روى لهما جميع ما كان شائعًا من الخرافات عن ذلك القصر، فلم يحفلا بها، وقالت فاندا: ما زال سكان القصر من الإنكليز؛ فإني أرجو أن يأذنوا لنا بالمبيت في هذه الليلة.

فوافقها السير جمس، وبعد ساعة كانا في تلك القاعة كما ذكرنا، وكان السير جمس ينظر إليها نظراتٍ ملؤها الغرام وهي مقطبة صامتة تمثل دور اليأس والحقد الدفين خيرَ تمثيلٍ.

إلا أن السير جمس أراد أن يشاغلها بالحديث عن هواجسها، فقال لها: كيف رأيت هذا القصر؟ ألا يشبه تلك القصور التي كنا نقرأ عنها في الروايات الخرافية؟

– هو ما تقول؛ فإن كل ما فيه يدل على الغرابة.

– ولقد يخال إلي أننا في منزل إحدى بنات الجان، ولكن هذه الجنية لم تتنازل بعد إلى مقابلتنا.

– ربما هي تتأهب لاستقبالنا، فلنصبر.

فأطرق السير جمس برأسه إلى الأرض وقال: إني لا أرى كما ترين.

وفي ذلك الحين دخل عليهما الخادم وقد رأى من لهجتهما في حديثهما أنهما غير زوجين، فوقف أمامهما وقفة المتردد وقال: أسألكما العفو يا أسيادي، فإني متلجلج ولا أعلم ماذا أقول؛ فإن المسيو بب نائم.

فقالت فاندا: من المسيو بب هذا؟

– إنه وكيل القصر، ولا أجسر على إيقاظه.

– ألعلك محتاجٌ إليه؟

– كل الاحتياج يا سيدتي؛ فإن المسيو بب كان يحسب أنكما زوجان.

– كلا، إنه منخدع؛ فإن الذي تراه هو من أصدقائي …

– وهذا الذي يقلقني يا سيدتي.

– لماذا؟

– لأن المسيو بب أمرني أن أهيئ لكما الغرفة الحمراء، لكنه لا يوجد في هذه الغرفة إلا سريرٌ واحد.

– كيف ذلك؟! ألا يوجد سوى غرفة واحدة للضيوف في هذا القصر العظيم؟!

– يوجد نحو عشرين غرفة، لكنها جميعها لصاحبة القصر؛ لأنه ليس بيننا من يعلم في أية غرفةٍ تنام، ولهذا ترينني مضطربًا؛ فإني إذا أدخلت صديقك إلى الغرفة الحمراء، فأين تنامين أنت؟

– أنام على كرسي في هذه القاعة.

– إن ثيابك مبتلةٌ يا سيدتي والبرد شديد؛ فلا تسلمين من الخطر إذا نمت على الكرسي، ولكني سأفتح لك غرفة من غرف ميلادي فتبيتين فيها وعند الصباح أصلح سريرها فلا تعلم بشيءٍ مما جرى.

ثم أخذ مصباحًا فسار أمامها وسألها أن تتبعه، فودعت السير جمس وسارت في أثر الخادم حتى أوصلها إلى غرفةٍ متسعةٍ مفروشة بأفخر الرياش على الطريقة الإنكليزية، فوضع شيئًا من الحطب في المستوقد وخرج، فأقفلت فاندا الباب وخلعت ملابسها، ثم أطفأت المصباح وصعدت إلى السرير؛ بغية أن تنام ولكن لم تنم.

وكانت نار المستوقد لا تزال متأججة، يخرج منها نور ضعيف، والأمطار لا تزال تنهمر على النوافذ، فيضيع صوت سقوطها بين هزيم الرعود القاصفة.

وكانت فاندا تقول في نفسها: من عسى تكون هذه المرأة التي تغير غرفة نومها في كل ليلة؟!

وأقامت في سريرها نحو ساعة وهي تمعن الفكرة في حل هذا اللغز دون أن تهتديَ إلى حل.

وفيما هي أرقة مفكرة؛ خيل لها أنها تسمع صوت تنهدٍ من بُعد، ثم قرب هذا الصوت وانجلى، فرفعت رأسها عن المخدة وأصغت كل الإصغاء إلى هذا الصوت.

وكانت تسمع مع صوت التنهد، صوت قيودٍ من حديد، كأنما صاحب هذا الصوت كان أسيرًا يرسف في قيوده، فجعلت أصوات التنهد تتوالى والخطوات تتدانى، وأخذ لهب نار المستوقد يخمد وتنطفئ أشعته التي كانت تنير الغرفة.

ولم تكن فاندا من اللواتي يعتقدن بالخرافات والأرواح، ولكنها على بسالتها لم تنجُ من الاضطراب، إلى أن سمعت أن الخطوات وقفت عند باب غرفتها؛ فجعل العرق ينصب من جبينها.

وكانت فاندا قد أقفلت باب غرفتها، ومع ذلك فقد رأت أن الباب انفتح ورأت من بقية نور المستوقد الضعيف خيالًا دخل إلى هذه الغرفة يجر وراءه قيدًا كبيرًا من الحديد ويتنهد تنهدًا متصلًا، ثم رأت أن الخيال يمشي مشيًا بطيئًا إلى السرير.

وعند ذلك انطفأ نور المستوقد وساد الظلام، فلم تعد فاندا ترى الخيال ولكنها كانت تسمع صوت القيد ينجر على أرض الغرفة.

٣

وكانت فاندا باسلةً كما يعهدها القراء، ولكن قلبها قد انقبض حين شعرت أن هذا الخيال يدنو منها، وحاولت أن تصرخ وتستغيث لو لم يخطر في بالها ذكر روكامبول فتتشدد.

وما زال الخيال يدنو متباطئًا متوانيًا حتى وصل إلى السرير فوضع يده على فاندا ثم تنهد تنهدًا عميقًا وقال: يا مس ألن هو ذا أنا عدت إليك، أعرفتيني؟

فعلمت فاندا أن هذا الخيال أو هذه الروح الهائمة يحسب أنه يخاطب الإنكليزية صاحبة المنزل فزال خوفها في الحال …

أما الخيال فإنه عاد إلى الحديث فقال: ألم تندمي إلى الآن حق الندم يا مس ألن؟

ولم تجِب فاندا بحرف، وعاد الخيال إلى الحديث فقال: إن الله قد أذن لي أن أخرج من القبر كل ليلةٍ كي أذكرك بذنوبك وأوبخك على قتلي … مس ألن ماذا فعلت بأختك؟ ألم تمُت مخنوقة بأمرك؟ وماذا صنعت بأبيك، وهو أنا؟! ألم تحبسيني في سجنٍ عميق وتقيديني بالسلاسل عشرة أعوامٍ حتى قتلني الشقاء والجوع؟ ثم ماذا فعلت بابنة أختك؟ إنك لا تريدين أن تقولي شيئًا عنها، إلا أن الوقت لا يزال فسيحًا لديك فاندمي؛ فقد ينفعك الندم، وابحثي عن الفتاة المفقودة، وردي لها تلك الثروة العظيمة المسلوبة.

وكان الخيال قريبًا من فاندا، وكانت تشعر بأنفاسه تقع على يديها، فاطمأنت وقالت في نفسها: إن الأرواح لا يكون لها أنفاس ولا عيون، ثم إنه إذا كان الله يسمح لأرواح الموتى بالخروج من قبورها؛ لأن هذه الأرواح لا تخطئ الناس الذين تسير إليهم، فكيف أخطأ هذا الخيال وحسب أني مس ألن؟

وعند ذلك أيقنت أن الرجل يخدع تلك الإنكليزية منذ أعوامٍ هذه الخدعة الهائلة وأنه متنكر بشكل خيال.

ثم عاد الخيال إلى الكلام، وقال: مس ألن، إن البرد شديد وإن الأموات يشعرون به أكثر من الأحياء! وقد اجتزت طريق الأبدية للوصول إليك وهي طريقٌ شاسعة، فاستغفري الله واندمي على ذنوبك أعد إلى قبري ولا أخرج منه بعد الآن، وأستغفر لك الله.

وكان يقول هذا القول ويمشي عائدًا إلى المستوقد، وكان بقية لهبٍ، تمكنت فاندا من نوره الضعيف أن ترى الخيال، فرأت أنه شيخٌ عجوز مرتد بملابس ضباط الإنكليز.

ثم انطفأ اللهب وساد الظلام فقال الخيال: إني عندما أتيت إليك المرة الأخيرة ظهرت عليك دلائل الندم؛ لأنك بكيت البكاء الشديد وجعلت تصيحين وتستغيثين، وطلبتِ إلي أن أعود إلى قبري ووعدتني بالتوبة والطاعة لي، فماذا فعلت؟ إنك لم تفعلي شيئًا، بل إني أراك صامتةً لا تجيبين فاحذري؛ لأن العقاب هائلٌ شديد.

ثم هز قيوده هزًّا عنيفًا وقال: إنك تخافين في الليل وتعزمين عزمًا صادقًا على التوبة والندم وإرجاع الأموال المسلوبة، فإذا أقبل النهار محا توبة الليل وعدتِ إلى الآثام! أيتها الشقية قاتلة أختها وأبيها إن عقابك سترتجف له الأبدان!

وبعد أن قال هذا القول فتح الباب بسكينةٍ وخرج منه، فأقفل وراءه، وجعل يمشي مشيًا بطيئًا فتسمع فاندا صوت قيوده، وما زال هذا الصوت يتباعد حتى انقطع.

فتنفست فاندا الصعداء، ولكنها لم يغمض لها جفنٌ في تلك الليلة.

ولما أشرق الصباح نهضت من سريرها وفتحت نافذة الغرفة المطلة على حديقة القصر، ورأت السير نيفلي يتنزه فيها والخادم واقفٌ عند باب الحديقة، فلبست ملابسها وخرجت من تلك الغرفة إلى الحديقة، وكان أول من قابلها الخادم فسألها: أعلمت ميلادي يا سيدتي أنك نمت في إحدى غرفها؟

– كلا، كن مطمئنًّا.

– ألم تسمعي شيئًا مدة نومك؟

– كلا، ما خلا صوت الأمطار وهزيم الرعد.

– ألم تسمعي صوت الخيال؟

– أي خيالٍ تعني؟

فخشي الخادم أن يزيد في التصريح، وقال لها: ألتمس من سيدتي أن تبرح القصر قبل أن يستيقظ بب.

– إننا مسافران في الحال.

ثم نادت السير جمس وقالت له: أتريد أن نسافر الآن؟

– إنك تعلمين أني أطوع لك من البنان.

وبعد ساعة كان السير نيفلي وفاندا في قطار الإكسبرس المسافر إلى باريس.

٤

ولنذكر الآن شيئًا عن ميلادي؛ فإنه مضت ساعتان على سفر فاندا ونيفلي ولم يكن بب قد استيقظ من رقاده بعد.

وكان الخادم قد عاد إلى المطبخ بعد سفرهما، وفيما هو جالسٌ مع الخدم؛ إذ سمع قرع الجرس في المطبخ فقال: هو ذا ميلادي قد استيقظت.

وأسرع إلى حيث الجرس؛ كي يعلم نمرة الغرفة التي باتت فيها ميلادي؛ فإنه كان يوجد في المطبخ أزرار كهربائية متصلة أسلاكها بغرف ميلادي وتحت كل زر نمرة الغرفة المتصل بها السلك، ورأى الخادم أن نمرة الغرفة التي قرع جرسها كان ٩ فاطمأن باله كل الاطمئنان؛ لأن الغرفة التي نامت فيها فاندا كانت نمرتها ٣.

وكانت الغرف التي تنام فيها منقسمة إلى قسمين: قسم في الدور العلوي ونمرها ١ إلى ١٠، والقسم الثاني في الدور الأسفل ونمر غرفه من ١١ إلى ٢٠، وكانت إذا اختارت غرفةً من هذه الغرف للنوم أقفلت بابها من الداخل، ولكن كل هذا الحذر لم يكن يفيدها؛ فإن الخيال كان يزورها مرةً في كل ثلاث ليالٍ.

وكان الخدم يعلمون بزيارة الخيال من وجه سيدتهم؛ فإنه حين يزورها في الليل تصبح نحيلةً مضطربة مصفرة الوجه ولا تقوى على الكلام، وإذا لم يزرها أصبحت مرتاحة النفس براقة العين باسمة الثغر؛ لأنها تنام تلك الليلة، خلافًا لحالها في الليلة التي يزورها الخيال؛ فإن عينيها لا تذوقان طعم الرقاد.

ولما دق الجرس أسرع الخادم إلى الغرفة نمرة ٩، فطرق الباب بلطفٍ فأذنت له بالدخول، وعلم من هيئتها وارتياحها أن الخيال لم يزرها في الليلة السابقة.

وكانت جالسةً قرب المستوقد متشحة برداءٍ من الكشمير، وقد فتحت نوافذ الغرفة فملأتها أشعة الشمس، فلما دخل الخادم قالت له: أين هو بب؟

– إني لم أره بعد يا سيدتي.

– إذن، قل لي أنت؛ أرأيت الغريبين اللذين باتا ليلة أمس في القصر؟

– نعم يا سيدتي.

– صفهما لي.

– إنه شاب وصبية، ويظهر أن الزوج استاء؛ لأنه لم يرَ سيدتي.

وقد استعمل الخادم لفظة زوج؛ حذرًا من أن تعلم أنه أدخل فاندا إحدى غرفها.

فقالت له: أهي حسناء تلك الصبية؟

– إنها بارعة الجمال.

– أعرفت اسمها؟

– كلا يا سيدتي.

– أهما باقيان في القصر أم سافرا؟

– إنهما سافرا منذ الفجر.

فذهبت ميلادي إلى النافذة ونظرت في الفضاء نظرة فاحصٍ، ثم عادت إلى الخادم فقالت: إن الطقس جميل، اذهب وأسرج لي جوادي في الحال.

فخرج الخادم مسرعًا، ولما بلغ آخر السلم التقى بالوكيل فسأله الوكيل فأخبره أن ميلادي ستخرج للنزهة، وأنه ذاهبٌ لإسراج جوادها، فقال له: ألعلها سألت عني؟

– نعم يا سيدي، فقلت لها: إني لم أرك.

– حسنًا، امضِ في شأنك وأنا صاعدٌ إليها.

فصعد بب إلى الدور الأول وذهب توًّا إلى الغرفة التي نمرتها ٣ وهي الغرفة التي كانت نائمةً فيها فاندا، فطرق بابها فلم يجبه أحد، فطرق ثانيةً دون جدوى! وعند ذلك فتح الباب ودخل فلم يجد أحدًا في الغرفة، لكنه وجد رمادًا في المستوقد، ورأى الفراش مختل النظام، فقال في نفسه: ألعل ميلادي باتت هذه الليلة في غرفتين؟

ثم برح هذه الغرفة، وجعل يطرق جميع الأبواب حتى انتهى إلى نمرة ٩، فأجابته ميلادي من داخلها، وأمرته بالدخول فدخل، ورآها تلبس ملابس الركوب وعليها علائم السكينة والارتياح، فتقدم منها وقبَّل يدها، وقال: أرى أن سيدتي قد نامت مستريحة هذه الليلة؟

– نعم، فلم أُزعج في رقادي.

– ويسرني أن أراك اليوم ناعمة البال رضية الأخلاق.

– نعم، إننا في اليوم السابع عشر من الشهر، وإنه في مثل هذا اليوم من كل شهر يحضر رجلٌ من باريس.

– لقد أصبتِ، فقد سهوت عن التاريخ.

ثم خرجت ميلادي وخرج بب في أثرها حتى انتهت إلى الحديقة، فأعانها وكيلها على امتطاء الجواد وصحبها إلى الشارع، فأطلقت عنان الجواد إلى أن توارت عن الأنظار.

أما بب فإنه عاد إلى القصر وصعد وهو يضطرب إلى الغرفة نمرة ٣ وجعل يفحص الفراش فحصًا مدققًا، فرأى على المخدة شعرة علم من طولها أنها من رأس امرأة، ولكنه ما لبث أن نظر إلى لونها حتى ارتعش؛ لأن هذه الشعرة كانت شقراء وشعر ميلادي أسود! فأيقن أن ميلادي لم تبت الليلة الماضية في هذه الغرفة، وجعل العرق ينصب من جبينه؛ ليقينه أن تلك المرأة التي باتت أمس في هذا القصر، برحته في هذا الصباح وهي تحمل سر الخيال.

٥

وسارت ميلادي على ظهر جوادها تقطع تلك البراري وهي طلقة المحيا، فكانت تسير في طريقٍ خاص كأنها تسير لموعدٍ مضروب، وما زالت مجدة في سيرها حتى انتهت إلى روضةٍ في آخر القرية، كائنة على الطريق المؤدية إلى باريس.

وهناك أوقفت جوادها وجعلت تتلفت يمنةً ويسرة، ولم يطل وقوفها حتى برز لها رجلٌ من وراء الأكمة كان متنكرًا بملابس القرويين، ولكنها عرفته في الحال وقالت له بصوتٍ يتهدج: أهذا أنت يا فرانز؟ قل لي ما وراءك من الأخبار.

فحياها هذا الرجل، الذي دعته باسمٍ ألماني، وقال لها: إن الأخبار حسنة.

– وكيف ولدي؟

– إنه زاد جمالًا.

– أهو سعيد؟

– دون شك، ولكنه عاشقٌ مفتون وهو سيتزوج.

فاضطربت ميلادي وقالت: رباه! وماذا أصنع؟!

– لماذا تضطربين فإنه سيكون أسعد الناس بهذا الزواج؛ لأن التي يحبها بارعة الجمال، ولكنها فقيرة مدينة له بكل شيء حتى بهنائها؛ فإنها أيضًا هائمة بهواه.

فزالت آثار الاضطراب عن وجه ميلادي وأخذت يد فرانز وقالت: إنه بلغ من العمر أربعةً وعشرين عامًا، وإني لم أعد أراه بعد أن تجاوز عمره خمسة أعوام.

– إني يا سيدتي لم أجسر أبدًا على اعتراضك؛ بل إني كنت أمتثل لأوامرك وأنفذها كما تنفذ الآلة أغراض الصناع، وها أنا الآن لا أزال في موقفي القديم، أحب أن أتكلم ولكني لا أجسر على الكلام.

– قل: إني أريد أن تتكلم.

– ألا تظنين يا سيدتي أن حب الأم يكفر عن الذنوب؟

– اسكت.

ولكن فرانز أتم حديثه فقال: إنك أردت أن أتكلم وسأتلكم؛ فاعلمي يا سيدتي أنه قد مضى ٢٥ عامًا على موت أبيك.

فغطت ميلادي وجهها بيدها؛ إخفاءً لاضطرابها، فقال فرانز: وقد مضى أيضًا على قتل أختك ستة أعوام، فممن تخشين؟! ومن الذي يطالبك بعد أبيك وأختك بهذه الثروة الطائلة التي تتمتعين بها منذ عهدٍ بعيد؟! فلماذا لا تظهرين لابنك أنك أمه؟! ولماذا لا تقيمين في باريس؟!

وكانت دموع ميلادي تتساقط، ولكنها مسحت دمعها حين سمعت هذا القول، وقالت له: ألا تعلم أيها التعس، ما ألقاه من العذاب منذ ستة أعوام؟

– ماذا تعنين بما تقولين؟

– ألم تقل إن أبي مات؟

– ولا أزال أردد هذا الكلام؛ لأني واثقٌ من موته.

فابتسمت ميلادي ابتسام القنوط وقالت: ولكنه يخرج من قبره حين يريد!

– إن الأموات لا يخرجون يا سيدتي من القبور!

– ولكن أبي لم يجرِ على منوالهم؛ لأنه يخرج من قبره كل ليلةٍ وهو يجر جميع القيود التي كبلناه بها.

– ما هذا الوهم؟! بل ما هذا الجنون؟!

– ليس ما أقول لك وهمًا؛ بل هو حقيقة ثابتة؛ فإنه يدخل إلى غرفتي ويجلس على سريري، ويقول لي: توبي واستغفري وأرجعي الأموال المسلوبة.

فهز كتفيه قائلًا: لمن يريد أن ترجعي هذه الأموال؟!

– لابنة أختي.

– ما هذا الخوف؟! إنك تعلمين أن إرجاع الأموال محال؛ لأنك إذا أردت إرجاعها فإن الآخرين لا يريدون.

فذعرت وقالت له: بربك لا تكلمني عنهم.

فقال فرانز بلهجةٍ قاسية: إنك يا سيدتي قد جريت في صحبتي شوطًا بعيدًا ولم تكتمي عني أمرًا، ولذلك أسألك بحق ما بيننا من الصلات أن تبوحي لي بكل شيء.

فقطبت حاجبيها وقالت: إذن أنت تريد؟

– نعم!

فنزلت عن جوادها وتأبطت ذراعه، ثم مشت وإياه وجعلت تبوح له بأسرارها الغامضة.

ولم يعلم أحدٌ ما دار بينهما من الحديث عن الخيال وغيره من الأسرار، ولكن يظهر أن ميلادي قد اطمأنت بعد هذا الحديث، فعادت إلى القصر وعليها مظاهر السكينة والارتياح، خلافًا لوكيلها بب؛ فقد كان مضطربًا أشد الاضطراب، ولكنه لم يسأل الخادم عن المكان الذي نامت فيه فاندا.

ولما عادت ميلادي دخلت إلى قاعة الطعام، ودخل معها بب، وكان من عادته أن يخدمها على المائدة، لكنها كانت تعتبره صديقًا بل حليفًا لها، فكانت تتخلى عن كبريائها الإنكليزية وتكلمه من غير كلفة؛ لما كان بينهما من الروابط السرية.

غير أن ميلادي كانت ملازمةً للصمت مدة الأكل؛ على ما كان يبدو عليها من ظواهر الارتياح، فبدأ بب الحديث وقال: أرى على سيدتي مظاهر السرور؛ فهل وردتها أنباء حسنة من باريس؟

– نعم، إن ابني سيتزوج.

فأظهر بب سروره ودعا له بالهناء والعمر الطويل، غير أن ميلادي قاطعته وقالت له: أتعتقد بالأرواح يا بب؟

فتكلف هيئة البلاهة وقال: لا أعلم.

– ولكنك تعتقد مثلي فيما أظن أن أرواح الموتى تظهر للأحياء!

– لا، لا أعلم أيضًا، ولكني أصدق بكل ما ترويه لي يا سيدتي.

– ألم ترَ الخيال ولم تسمع رسف قيوده؟

– كلا، ولكن …

فنظرت ميلادي إليه نظرة ارتياب وقالت: لكن ماذا؟!

– ولكني أرى أن هذا الخيال وهذه القيود وهم يمثله لك فكرك المضطرب ولم يرَ أحدٌ من سكان القصر شيئًا من هذا، غير أني سمعتك في إحدى الليالي فأصغيت، فخيل لي أنك تجيبين على مسألةٍ تعرض عليك، ولكني لم أسمع صوتًا غير صوتك، وأظن أن تلك الخرافات التي أشيعت عن هذا القصر قد دعت إلى هذا الاضطراب في أفكارك!

فقالت له ميلادي: قد يكون ما تقوله حقًّا، ولكن هذا الخيال كان يزورني أيضًا في غلاسكو وفي لندرا؛ أي في غير هذا القصر الذي كثرت عنه الخرافات؛ لأن أبي كان يخرج إلي من قبره في كل ليلة، أتعلم ما كان يريد؟!

ثم قلبت شفتها إشارةً إلى الاحتقار وقالت: إنه يطلب إلي أن أرجع إلى تلك الفتاة النورية تلك الثروة التي ما وصلت إلي إلا بعد أن سفكت كثيرًا من الدماء! وهو يقول: إني إذا أرجعت هذا المال يصفح عن الزلة التي ارتكبتها في صباي، ويصفح عن حبي لذلك الهندي، وعن قتلي إياه وقتل أختي.

فارتعش بب وقال: أهو يطلب منك هذا الطلب؟!

– نعم، إنه يريد أن أحرم ولدي الذي تعود بسطة الكف وعيش السعة والإنفاق دون حساب، وأجعله فقيرًا معدمًا يعيش من شق القلم، أو يرتزق من صناعته.

ثم ضحكت ضحك الهازئ، وقالت: إنه ينذرني بالنار الأبدية، وماذا تهمني النار إذا بقي ولدي سعيدًا؟

وقامت بعد ذلك فجعلت تمشي بخطواتٍ غير متوازنة وقالت: لقد اسود هذا القصر في عيني وأريد أن أبرحه.

– إلى أين تبرحين يا سيدتي؟

– إلى باريس؛ أريد أن أرى ولدي وأهنأ بسعادته.

فلم يجِب بب بحرف، لكنه خرج من القاعة بحجة أنه يريد إصدار بعض الأوامر إلى الخدم وبقيت ميلادي وحدها.

ولما أقبل الليل ودنت ساعة الرقاد ترددت ميلادي هنيهةً باختيار غرفة تنام فيها، إلى أن وقع اختيارها على الغرفة التي نمرتها ١١ وكانت نوافذها تشرف على حديقة القصر.

ولكنها لم تصعد إلى سريرها بل جلست فوق مقعدٍ قرب المستوقد، وجعلت تنظر إلى الساعة من حينٍ إلى آخر وعليها دلائل القلق.

ولبثت على ذلك إلى أن دقت الساعة مؤذنةً بانتصاف الليل، فسمعت صفيرًا من الحديقة، فأسرعت إلى خزانةٍ ففتحتها وأخرجت منهلًا من الحرير، ثم فتحت النافذة المشرفة على الحديقة فربطت طرف الحبل بحديد النافذة، وأطلقت الطرف الآخر فبلغ أرض الحديقة.

ولم يمضِ على ذلك دقيقتان حتى رأت ميلادي رجلًا يتسلق الجدار، مستعينًا بهذا الحبل.

وتنحت عن النافذة ودخل ذاك الرجل منها إلى الغرفة، فأسرعت ميلادي إلى المصباح وأطفأته، فساد الظلام في تلك الغرفة.

٦

غير أن نار المستوقد كانت حامية، فكان ينبعث منه نور ضعيف ينير إنارة الشفق فيمكن مشاهدة الرجل الداخل من النافذة، ويعرف الناظر إليه أنه فرانز الألماني الذي التقت به ميلادي في آخر القرية، فقال لها عند دخوله: ألعلي تأخرت وجئت بعد فوات الأوان؟

– كلا، لأن الخيال لا يحضر إلا في منتصف الساعة الأولى بعد انتصاف الليل.

فنظر فرانز إلى ما حواليه وقال: أين يجب أن أختبئ؟

– هنا وراء السرير فلا يفصل بيننا غير ستار.

فاختبأ وقال لها: قد يمكن أن يكون الزائر خيالًا، ولكني أعتقد أنه جسمٌ مركب من لحمٍ وعظمٍ ودم، فإذا كان ذلك فلا بد لي من مقاتلته.

فاتقدت عيناها ببارقٍ من الغضب، وقالت: ألديك سلاح؟

– نعم، مسدس وخنجر، وأنتِ لديك مسدس أيضًا، فنامي في سريرك بثبات ولننتظر قدوم الخيال.

فامتثلت ميلادي، وجعل فرانز يخاطبها من وراء الستار همسًا، فقال لها: أواثقة أنت أن الخيال خيال أبيك؟

– ليس لدي ريب؛ لأن الوجه وجهه واللباس لباسه، ولا يختلف عنه إلا اختلافًا قليلًا في الصوت.

وفيما هي تقول ذلك سمعت تنهدًا، فقالت له: كفى لقد حضر.

ثم استحال التنهد إلى زفيرٍ وشهيق، تلاهما صوت القيود، فغطت ميلادي رأسها بلحافٍ وقالت لفرانز بصوتٍ منخفض: أسمعت؟

– نعم، اسكتي ولا تفوهي بحرف.

وكان الخيال قد بلغ الباب ولكنه لم يسرع بالدخول إلى الغرفة، فوقف عند الباب وانطلق لسانه بالكلام، فقال: رباه! ألا تريحني من هذا العذاب؟! أقُضِي علي أن أخرج كل ليلةٍ من قبري؛ كي ألين قلب هذه المرأة التي قتلت أباها وأختها دون إشفاق، إنها تقنع بالرجاء ولا تخاف من الوعيد، بل هي تنكر جلالك ولا تخشى بأسك، رباه عفوك؛ لأن كفرانها شديد.

وعند ذلك فتح الباب بعنفٍ ودنا من المستوقد وقال: إن البرد شديد وأنا في حاجةٍ إلى الدفء.

ثم وقف هنيهةً أمام النار، فجعلت أسنان ميلادي تصطك من الخوف، خلافًا لفرانز؛ فقد وقف موقف التأهب.

وبعد هنيهة دنا الخيال من ميلادي، فهز سريرها وقال: مس ألن، أتسمعينني؟

فاضطربت ميلادي وقالت له بصوتٍ متلجلج: ماذا تريد مني؟

– أريد أن ترجعي الأموال المختلسة أيتها السارقة السفاكة.

فلم تجبه بشيء، فدنا منها ووضع يده على كتفها، وقال لها: ألا تذكرين أباك؟

فصاحت تقول: رحماك.

– أتذكرين أختك؟

– نعم نعم، إني أذكر كل شيء، فأشفق علي.

– إذن أترجعين الأموال المسروقة؟

– لمن تريد أن أرجعها؟

– إلى ابنة أختك.

– وإذا كانت هذه الفتاة قد ماتت؟

– كلا، فهي لا تزال في قيد الحياة وأنا أرشدك إلى مكانها.

فقالت له بصوت المتوسل: كيف ذلك؟ أتريد أن أحرم ولدي وأجعله فقيرًا بعد غنى؟

– نعم؛ لأنه ابن الجريمة، وفوق ذلك فإنك إذا لم ترجعي المال إلى ابنة أختك فإن ابنك لا يستفيد منه بشيء؛ لأنه يموت ليلة زفافه قرب عروسه.

فصاحت ميلادي صيحة يأسٍ وقالت: إني أرد كل شيءٍ على أن يبقى ولدي حيًّا.

ولكنها قبل أن تتم كلامها خرج فرانز من وراء السرير، وقال له بصوت الساخر المتهكم: لكنك تموت قبله أيها المنافق.

ثم انقض بسرعةٍ على الخيال وضغط على عنقه ضغطًا شديدًا حتى كاد يخنقه، فرأى الخيال أنه لا يستطيع دفاعًا؛ فطلب العفو، وشعر فرانز أن قناع وجه ذلك الخيال قد سقط على الأرض.

وكان هذا القناع مصنوعٌ من الشمع على مثال وجه والد ميلادي، فلما سقط عن وجهه ورأت ميلادي أنه يطلب العفو؛ أيقنت أن فرانز قد تغلب عليه، فهبت من سريرها وأنارت الشمعة ونظرت إلى ذلك الخيال وهو تحت أقدام فرانز، فرأت أنه وكيلها بب! ولكنها لم تهجم على ذلك الرجل الذي كان يخدعها منذ عشرة أعوامٍ بهذه الحيلة الهائلة، بل قالت لفرانز: يجب على هذا الرجل أن يعترف بكل شيءٍ قبل أن يموت.

ثم قالت لفرانز، وكان راكعًا فوق صدره: انهض عنه كي يستطيع أن يتكلم؛ لأنه إذا حاول الفرار ألهبت دماغه بنار المسدس.

فامتثل فرانز، ونهض بب فألقى سلاسل قيوده وتغير فجأةً من الرعب إلى الارتياح والاطمئنان؛ كأنه لم يعد يرهب الموت، وقال لميلادي: إنك تريدين أن تعرفي كل شيء؟

– إن دقائق حياتك باتت معدودة، ولكني أريد أن أعرف سرك قبل أن تموت.

فقال بلهجة المتهكم: إني سأبوح بكل شيء، ولكني لا أبوح بما تريدين لرهبتي من الموت، بل إني أقول ما أقوله بملء الرضا، وأنت لم تعلمي السبب الذي حملني على أن أظهر لك بمظهر الخيال منذ عشرة أعوام، وكيف أني أقنع وجهي بقناعٍ من الشمع يشبه وجه أبيك.

ثم قهقه ضاحكًا وقال: إذن اسمعي.

إنك تعلمين يا ميلادي، بل يا مس ألن، أني اتهمت أباك حين كنت خادم غرفته، أنه دنس عرضي وأغوى امرأتي، فحالفتك مع فرانز على قتل أبيك، ولا شك أنك تعجبين كيف أني انقلبت عليك هذا الانقلاب؟!

– نعم، وأريد أن أعرف أيها الشقي من دفعك إلى هذه الخيانة!

فحملق بب بعينيه وقال: أتسألينني من أغراني؟ ومن عسى يغريني غير خيانتك وفظاعتك؟

اسمعي الآن: إنه كان لي امرأة طاهرة حسناء أحبها وتحبني كما تعلمين، فأتيتِ إلي يومًا وأنت لا تتجاوزين الخامسة عشرة من عمرك الدنس، وأخذتني بيدي وأكرهتني على أن أنظر من النافذة المطلة على حديقة قصرك في غلاسكو، ورأيت امرأتي جالسةً بالقرب من أبيك وهو يعانقها، فطلقت امرأتي، وأصبحت منذ ذلك الوقت آلةً بيدك للانتقام من أبيك.

ومضى على ذلك أربعة أعوامٍ وأنا أساعد فرانز على قتله، ثم مضت عشرة أعوامٍ أخرى وأنا أطوع لك من البنان، إلى أن انقلبت عليك هذا الانقلاب، وإليك بيان السبب:

جاءني رجلٌ ذات ليلةٍ وقال لي: إن امرأةً تحتضر وهي تريد أن تراك قبل أن تموت.

وذهبت إلى حيث كانت تقيم فوجدت أنها امرأتي وأنها مشرفةٌ على الموت، فنظرت إلي نظرةً قطعت قلبي، وقالت: إنك طردتني يا بب من منزلك كما تطرد الزوجة الخائنة، ولكني كنت طاهرةً عفيفةً بريئة، فما أحببت أن أموت قبل أن أطلعك على سرٍّ عظيم؛ وهو أن والد مس ألن الذي رأيتني وإياه في الحديقة لم يكن عاشقًا لي بل كان أبي!

ثم أعطتني لفافةً تقادم عهدها من الأوراق وقالت لي: اقرأ هذه الأوراق يثبت لك ما قلته.

فقرأتها وعلمت أن امرأتي كانت بنت أبيك من زواجٍ غير شرعي وهي أختك يا ميلادي، أعلمت الآن؟

إنك لا تفقهين مرادي؛ لأن قلبك الدنس لا يعرف غير الذنوب، أما أنا فقد ندمت على ذنبي القديم وذكرت أنك أنت السبب بالتفريق بيني وبين امرأتي، فأردت أن أرجع أموال أبيك إلى من هو أحق منك؛ أي إلى بنت أختك التي خنقتيها في لندرا، وهي فتاة تدعى جيبسي النورية وترقص في الشوارع، فإذا رجعت إليها ثروتها كانت أغنى أغنياء الإنكليز.

فهاجت ميلادي هياج الضواري وقالت: ستموت أيها الشقي دون أن تراها على هذا الغنى.

ثم أطلقت عليه مسدسها، فوقعت رصاصته بصدره، فوقع صريعًا تتدفق منه الدماء.

ثم نظرت إلى فرانز وقالت: لقد أصبت؛ إن الأموات لا يرجعون.

أما بب فكان لا يزال قادرًا على الكلام فقال لها: إنك يا مس ألن، قد أضفت جريمةً جديدةً إلى جرائمك القديمة، ولكن لا بد من عقابك وهو قريب.

فضحكت ميلادي وقالت: ألعلك تقوم ثانيةً من بين الأموات؟!

– كلا، ولكن يوجد من يعرف سري بين الأحياء.

ورأى بب أن وجهها قد اصفر فقال لها: لقد بدت عليك دلائل الخوف، وإذا أردت أن تعلمي كل شيء فاعلمي أيضًا أنه جاء إلى قصرك أمس غريبان، وأمرت باستقبالهما فبات الرجل في الغرفة الحمراء وباتت المرأة في إحدى غرفك؛ فخُدعت بها حين دخلت إلى غرفتك وحسبتك إياها، فمثلت أمامها دور الخيال وذكرت جميع ذنوبك.

فصاحت ميلادي صيحة جزعٍ أمام بب، فكان صوته يتلاشى فقال لها: إن يوم العقاب قريب وسيكون هائلًا أيتها الأفعى.

ثم أدار وجهه كي لا ينظر إليها، وقد خفت صوته وأطبقت عيناه.

•••

فقال فرانز لميلادي: لا تضطربي لمثل هذه الأمور التافهة، ولنبرح المكان قبل الصباح.

– إلى أين نذهب؟

– إلى باريس حيث ترين ولدك.

– لقد أصبت، لنذهب.

ثم انحدرت دمعة حنوٍ من عين تلك النمرة التي سفكت دم أبيها وأختها، كأنما ذكر ولدها أعاد إليها قلب المرأة!

٧

وبعد أن رحلت فاندا مع السير نيفلي بساعتين على قطار الإكسبرس إلى باريس، كان روكامبول — بطل هذه الرواية — في شارع الكبوشيين في باريس يسير سيرًا مستعجلًا، تدل ظواهره أنه ذاهبٌ إلى موعد، ثم رأى مركبة أجرة فأوقفها وأمر سائقها أن يسير به إلى شارع سربنت.

فلما وصل رأى نويل ينتظره، فكان أول سؤالٍ بادره به قوله: هل أتت فاندا؟

فقال له نويل: كلا أيها الرئيس، إني كنت أنتظرها أمس فلم تأتِ، وذهبت اليوم إلى المحطة ورأيت جميع الركاب دون أن أراها بينهم، ولكني علمت أن القطار خرج عن الخط قرب أميانس فلم يصب أحد من الركاب بضرر، غير أن بعضهم تركوا القطار وذهبوا إلى أميانس وأنا الآن واثق …

وقبل أن يتم كلامه فُتح الباب، ودخلت منه امرأة، فارتعش روكامبول حين رآها؛ لأنها كانت فاندا، فسلمت عليه سلامَ المحبين وقالت له: وصلت منذ ساعة، فأفرغت جعبة حيلي حتى تمكنت من الحضور؛ لأن السير جِمس نيفلي بات يعاملني معاملة العشاق ويغار علي أشد الغيرة، في حين أن شفتيه لم تلثما أطراف أصابعي بعد.

فابتسم روكامبول وقال: شرط أن تكوني علمت أسراره على الأقل.

– كلا، لم أقف على شيءٍ منه بعد.

– ولكني أريد أن أعلم تاريخ حياة جيبسي؛ لأن السير جورج ستوي الذي انضم إلينا لم يعلم حقيقته.

– ولكني علمت بعضه؛ لأن الصدفة أوقفتني على شيءٍ منه.

فاندهش روكامبول وقال: أوضحي ما تقولين!

– إن جيبسي غنية وتقدر ثروتها بالملايين الكثيرة.

ثم قصت عليه جميع ما حدث لها من الحوادث في قصر روشربين، وكيف أنها جاءت مع السير جمس نيفلي إلى ذاك المكان من أميانس، ومبيتها في إحدى غرف ميلادي، وظهور الخيال وما علمت منه من الأمور، إلى أن أتمت حديثها قائلة: إما أن أكون منخدعة أو تكون جيبسي ابنة أخت مس ألن صاحبة تلك الملايين.

وكان روكامبول مصغيًا إليها بانتباهٍ عظيم، فقال لها: إذا كان ذلك فلا خوف على جيبسي، لقد وضعتها في محلٍّ أمين وتولى مرميس حمايتها، وهو يحرص عليها أكثر من حرصه على نفسه.

– وما صنعت بالسير جورج ستوي؟

– أقمته في إحدى فنادق سانت جرمن وأمرته أن لا يبرح الفندق في النهار، غير أني مضطرٌ الآن بعد ما سمعت منك هذه الحكاية أن لا آذن له بالخروج في الليل أيضًا؛ حذرًا من أن يراه السير جمس نيفلي قبل أن أعود.

– كيف إلى أن تعود؟ ألعلك راحل؟

– نعم، فلا بد لي من زيارة قصر روشربين، والمباحثة قليلًا مع ذاك الخيال.

وبعد ليلة كان روكامبول ينزل من قطار السكة الحديدية إلى أقرب محطة من قصر روشربين.

وكانت فاندا قد أرشدت روكامبول إلى طريق القصر ووصفته له خير وصف، فكان يتوقع حين وصوله إليه أن يرى السكينة سائدة من حوله، ولكنه رأى نقيض ما كان يتوقع. إذ رأى كثيرًا من الناس واقفين عند بابه، وخادم القصر يقص عليهم ما حدث فيه لوكيله بب، فيقول: إنه كان خدام القصر سمعوا في الساعة الأولى بعد منتصف الليل، دوي مسدس، ولكنهم لم يجسروا على الدخول إلى غرف مولاتهم، غير أنهم سمعوا بعد ذلك ميلادي تنادي أحدهم، فأسرع إليها، فأمرته أن يسرج لها جوادين، فامتثل وهو منذهل؛ لأنه رآها مع رجل غريب لم يكن رآه في المكان من قبل.

ثم رحلت ميلادي مع فرانز، وعند الصباح تجاسر الخادم على الدنو من غرف ميلادي فسمع أنينًا، فتقدم حتى اهتدى إلى مصدر الأنين، ففتح الباب ووجد بب سابحًا بدمائه، لكن قلبه لا يزال ينبض.

ولما وصل روكامبول كان الخادم قد بلغ بحكايته إلى هذا الحد، فزحم الحضور واخترقهم إلى الخادم قائلًا: ألا يزال حيًّا؟

– نعم، ولكني لا أظنه يحيا أكثر من ساعة.

– سر بي إليه في الحال فإني طبيب.

فدخل به الخادم إلى القصر، وظل الفلاحون المتجمهرون وقوفًا عند الباب.

٨

ولندع الآن روكامبول في ذلك المكان، ونخبر شيئًا عن ابن ميلادي التي ارتكبت ما ارتكبته من الجرائم؛ حفظًا لثروته، فنسمع الآن حكايته من فمه يتلوها لصديقٍ له في باريس.

كان ابن ميلادي يدعى لوسيان وله صديقٌ يدعى بول، فكانا مختليين في غرفةٍ من منزله، ولوسيان يقص عليه حكايته قائلًا:

إن ما تتصل إليه ذاكرتي أني عندما كنت في الخامسة من عمري كنت في قصرٍ كبير لا أعلم في أي بلد، على كثرة بحثي عنه حين بلوغي سن الشباب، ولكني أظن أنه كان في إنجلترا أو إيكوسيا.

ولا أزال أذكر أمي؛ فقد كانت صبيةً حسناء، إذا رآها أحدٌ معي حسبها أختي الكبرى، ولا أعلم كيف افترقت عنها، وإذا كان هذا الفراق برضاها. ولكني أذكر أنها كانت تضمني إلى صدرها وتبكي، ولم أدرِ إلى الآن سبب هذا البكاء.

وبينما أنا ذات يومٍ نائم في القصر، صحوت، فإذا أنا بيدي امرأةٍ عجوز راكبة في قطار ينهب الأرض، فقضيت أيامًا أنوح وأبكي، ثم تناسيت أمي وألِفت الصغار الذين كانوا يلعبون معي.

وعندما بلغت العاشرة من عمري أُرسلت إلى مدرسةٍ داخلية كان يتولاها أستاذ كهل يحبني كما يحب ابنته، فأقمت في تلك المدرسة وربيت في منزل ذلك الشيخ إلى أن بلغت السادسة عشرة من عمري، وكنت في كل يومٍ أسأل الأستاذ — وهو يدعى برتود — عن أمي فيجيبني أنه لا يعلم شيئًا من أمري، وكان آخر ما قاله لي في هذا الشأن: إن رجلًا ألماني اللهجة دفعني إليه وجعل يرسل له كل عامٍ خمسة آلاف فرنك أجرة تعليمي ونفقاتي فعلمتك اللغات الشائعة وأحسنت تربيتك جهد ما استطعت.

وبعد عامٍ ورد إلى هذا الأستاذ كتاب ألماني يقول فيه: إن لوسيان قد أتم دروسه فأطلق سراحه وأعطته هذه الحوالة في طيه.

وكانت الحوالة على أحد المصارف الكبرى وقيمتها ألف جنيه ولهذا الأستاذ الفاضل فتاة في الرابعة عشرة من عمرها وهي كزنبقة الحقول وقد كنت بها من الهائمين، فلما أخذت هذه الحوالة ورأيت أني لم أكد أبلغ السابعة عشرة من العمر حتى كان إيرادي مائة ألف فرنك في العام بفضل ما كان يرد لي كل ثلاثة أشهر من هذه الحوالات السرية، جئت والد الفتاة واسمها ماري فبحت له بغرامي بها ورجوته أن يأذن لي بزواجها فأبى معتذرًا عن ذلك بحداثتي، وما زلت به حتى رضي أن يزوجني بها متى بلغت، وبلغت سن الرشد؛ أي بعد ستة أعوام.

وأنت تعرف أيها الصديق تتمة حكايتي، فإني تجولت سائحًا مدة عامين بصحبة أستاذي، ولما عدت أنشأت منزلًا ودخلت في سلك أعضاء النادي باسم لوسيان دي هاس؛ لأني لا أعرف اسمي الحقيقي، فجعل ذلك المكاتب السري الذي كان يكاتب أستاذي في عهد حداثتي يكاتبني رأسًا ويرسل لي في كل ثلاثة أشهر ثلاثة آلاف جنيه بدلًا من ألف. فلم أعد محتاجًا إلى شيءٍ من أسباب الراحة، غير أن الذي نغص عيشي أني عدت من سياحتي في البلاد المصرية فلم أجد أستاذي القديم برتود ولا ابنته ماري ولا المدرسة التي كان يدرِّس فيها، فبحثت عنهما في كل مكانٍ حتى يئست، إلى أن أخبرني أحد رفاقي أن الأستاذ مات وأن ابنته ماري تزوجت، وكنت لا أزال متدلهًا في حبها. فاندفعت مع تيار البذخ والإسراف بغية النسيان، فكنت أسكر وأقامر، أتعرض لهوى كل حسناء حتى جرى لي مع إحدى بنات الهوى حادث غريب.

فقال له صديقه: ألعلك برحت باريس منذ عامٍ واحتجبت عن الأنظار من أجلها؟

– هو ذاك، وأنا الآن من أسعد الناس.

– ألعل سعادتك من هذه الفتاة؟

– كلا، فإني هجرتها بعد أن أرسلت إليها كتاب وداع وفي طيه مائة ألف فرنك.

– لقد أحسنت، غير أني لا أعلم سبب انفصالك عنها قبل فتور حبها لك.

– كلا، فإنها كانت تهواني هوًى لا يوصف، وهي التي لم يدخل إلى قلبها من قبل شعاع من أشعة الغرام، ولكني لقيت ماري برتود التي أحببتها الحب الأول.

– ألقيتها أرملة؟

– كلا، فإنها لم تتزوج، ولا يزال أبوها حيًّا يرزق، وهي الآن في العشرين من عمرها تفتن النساك بجمالها الطاهر، وسأقترن بها بعد ثمانية أيام.

– ولكن كيف لقيت خطيبتك؟

– إنه حديثٌ يطول شرحه، فأشعلْ هذا السيكار واجلس أقصه عليك.

٩

ولنذكر شيئًا عن لوسيان قبل تتمة حكايته، فقد كان في الرابعة والعشرين من عمره ممشوق القوام شديد الساعد أسود الشعر أزرق العينين، يبتسم ابتسامًا يدل على السويداء، وهو حلو الكلام حاضر النكتة، كثير اللطف على بسالةٍ نادرة، فقد اتفق له مرةً وهو في ألمانيا أنه سمع أحد الضباط الألمانيين يطعن بفرنسا طعنًا شائنًا، فدعا جميع فرقة ذلك الضابط إلى المبارزة وبارز في يومٍ واحد ستةً من رجالها ففاز عليهم جميعًا.

لكنه كان مع هذه البسالة والجراءة طاهر النفس رقيق الحاشية يحبه جميع أصدقائة حبًّا أكيدًا؛ لما يرون به من مخائل النجابة والسلامة.

ولما أشعل صديقه سيكارة وعاد إلى موضعه، قال له لوسيان: أسمعت باسم تلك الفتاة التي تدعى جوزفين؟

– ومن لم يسمع بها؛ فإنها أشهر بنات الهوى، ألعلها هي التي علقت بحبها؟

– نعم، فقد اختطفتها ذات ليلة، بل هي التي اختطفتني؛ فإن هذه الفتاة كانت تفتخر أنها لم تهوَ أحدًا في حياتها من عشاقها الذين كانوا يترامون على أقدامها وينتحرون من أجلها، ولكنها أحبتني حبًّا قويًّا، واعترفت أن هذا أول عهدها بالحب الصادق.

فعشنا عامًا أو يزيد ونحن لا نفترق لحظة، ثم جاء دور الفتور وشعرت أن جذوة غرامي أخذت بالخمود، وفتح الصواب قلبي، وعلمت أن هذه المومس ستقذف بي إلى الهاوية، وجعلت أتهيأ للانفصال، خلافًا لما كنت أراه منها؛ فإن تعلقها بي كان يزيد في كل يوم.

وقد أصبحت يومًا وشعرت أن حبها قد زال من قلبي، بل وجدت نفسي أخافها وأرتعد لذكرها. فخرجت من ذلك المنزل المعتزل، الذي كنا فيه، أطلب النزهة وما زلت أنتقل من شارعٍ إلى شارع حتى انتهيت إلى حديقةٍ عمومية، كان كثير من الصغار مع مربياتهم يلعبون فيها.

فوقفت أمامهم أتأمل جمال الحداثة ثم حانت مني التفاتة، ورأيت شيخًا أحنت ظهره الأيام، يمشي متوكئًا على عصاه مشيَ المُتْعَبِ الضعيف تصحبه فتاة صبية.

وكان وقور الهيئة لطيف الملابس، غير أن ملابسه كانت تدل على الفقر وكذلك ملابس الفتاة التي كانت تصحبه؛ فإن قبعتها بسيطة دون أزهار، غير أني عرفتهما للحال؛ فإنهما كانا الأستاذ برتود وابنته ماري.

ولا تسأل عن دهشتي؛ فإني أسرعت إلى أستاذي القديم، وكدت أخنقه عنقًا وأنا أقول له: كيف بعثت بعد الموت؛ فإني بكيتك كثيرًا؟!

ولم يكن اضطرابه أقل من اضطرابي، فاضطر إلى الجلوس في مقعدٍ في الحديقة وقال لي: كلا يا بني إني لم أمت، ولكني لقيت من الأمراض ما هو أشد من الموت. فنظرت إلى ماري، فأطرقت بعينيها، وعند ذلك حكى لي الشيخ جميع ما حدث له ولابنته منذ خمسة أعوام، وحكايته أنه خسر ماله في مصرفٍ أصيب بالإفلاس، ثم جعلت تلاميذه تترك المدرسة واحدًا إثر واحد حتى اضطر إلى بيعها، وبقي عامين يدرِّس دروسًا خاصة في المنازل إلى أن أصيب بمرضٍ أقعده عن العمل، فامتنع مرغمًا عن التدريس واضطر إلى الإقامة مع بنته في منزلٍ صغير، فكانت تشتغل ١٠ ساعاتٍ في اليوم؛ كي تقي أباها شر العوز.

فتأثرت لحكايته وقلت لماري: أين زوجك، ألعله هجرك؟

فذهلت الفتاة وقالت: ليس لي زوج، ولم أفترق لحظةً عن أبي.

فضممتها إلى صدري وقبلت جبينها وقلت لها: أخطأت؛ فإن لك زوجًا وهو أنا.

ثم ركعت أمام أستاذي القديم وقلت له: ألعلك نسيت وعدك لي؟

– صديق لوسيان: لقد عرفت الباقي؛ إذن فأنت ستتزوج؟

– نعم، بعد ثمانية أيام، وإنما ذكرت لك أمري؛ كي تكون شاهدي في هذا الزواج.

– ومن يكون الشاهد الثاني؟

– لا أعلم، ولكني أرجو أن يكون ذلك الرجل الألماني الذي بت أظن أنه هو الذي يتولى شأني منذ حداثتي، وهو يدعى الماجور هوف، ولست أعلم متى أتى إلى باريس، ولكني عرفته منذ ٤ أعوام وهو ينظر إلي في بعض الأحيان نظراتٍ ملؤها الرفق والحنان، فيحدثني قلبي أن هذا الرجل غير غريبٍ عني.

– ألم تكلمه أبدًا؟

– نعم، فكان يجيبني ببرود؛ بل بقسوة، ولكني كنت أرى أنه يتكلف هذا البرود تكلفًا كأنه مكرهٌ عليه.

– إذن تعتقد أن الماجور هو والألماني الذي كان يعتني بأمرك هما واحد؟

– نعم، ولهذا أرجو أن يكون شاهدي الثاني.

– أين تجده؟

أجاب: في نادي اسبرج؛ فإنه من أعضائه، وسنذهب إليه في هذه الليلة.

– ليكن ما تريد، وسأوافيك إلى هذا النادي.

وبينما هو يلبس قبعته ويحاول الانصراف، سمع دق جرس الباب الخارجي فقال لوسيان: من ترى هذا الزائر؛ فإني لا أستقبل أحدًا في هذه الساعة؟

وبعد هنيهة، فتح الباب ودخل رجلٌ يناهز الستين من العمر فنظر إلى الشابين وقال: من منكما يا سيدي يدعى لوسيان؟

– لوسيان: هو أنا.

– لقد عهد لي يا سيدي مصرف دفيس هامغري وشركاه أن أدفع لك مائة ألف فرنك وأعطيك هذا الصندوق الصغير، وهذا الكتاب.

فانذهل لوسيان؛ لأنه منذ عشرة أيامٍ ورد إليه هذا المبلغ فأخذ المال والصندوق ثم فتح الكتاب فرأى ٣ أسطر مكتوبة بخطٍّ دقيق، يدل على أن يد امرأة قد كتبتها وقرأ ما يأتي:

ولدي العزيز

قدم بالنيابة عني هذه الهدية التي تجدها في الصندوق إلى خطيبتك، وفي طي الكتاب مفتاح الصندوق.

والدتك

فاحمر وجه لوسيان، وكان يرجو أن يعرف اسم والدته على الأقل، ثم فتح الصندوق الصغير فوجد فيه عقدًا من الماس لم يرَ أبهج منه، ولا تُقدر قيمته بأقلَّ من نصف مليون، فتنهد لوسيان وانحدرت دمعة من عينه وقال: إذن أمي لا تزال على قيد الحياة فما يدفعها إلى هذا الاحتجاب؟ وما بالها تكتم حتى اسمها عني؟

ثم خطر له أن يسأل موظف البنك الذي جاءه بالحوالة والصندوق، فقال له: إنك تستطيع الكلام يا سيدي أمام صديقي هذا؛ إذ لا أكتم عنه شيئًا من أسراري.

فذهل الشيخ الصراف وقال له: ماذا تريد أن أقول يا سيدي؟!

– أتأذن أن أسألك، كم بقي لك في خدمة هذا البنك الذي أنت فيه؟

– أربعون عامًا.

– إذن أنت عرفت كل شيء؟

– ماذا تعني يا سيدي؟

– أعني أنك ستقول لي كل ما تعلمه.

فأبدى الصراف حركة انذهالٍ صادقة وقال: أعيد عليك القول يا سيدي، إني لا أفهم شيئًا مما تقول.

– إذن اصغ إلي فستفهم ما أريد، إنه يردني من مصرفكم كل ثلاثة أشهر مبلغ كبير، فمن يرسل إلي هذا المال؟

– يرد إلينا من فرع بنكنا في لندرا.

– ممن؟

– لا أعلم.

– ولكنهم في لندرا يعلمون؟

– لا أظن.

– ولكن مدير البنك يعلم دون شك؟

– لا أستطيع أن أقول لك يا سيدي غير واحدٍ ذكرته الآن وهو أني كنت منذ ٣٠ عامًا عاملًا في بنكنا في لندرا، وجاء رجلٌ أعرفه دون شك إذا رأيته مرةً ثانية؛ لأنه لا يزال ممثلًا في ذهني، ودفع إلى البنك مبلغًا عظيمًا قسمه إلى قسمين متساويين، فوضع أحد القسمين باسم غلامٍ يدعى لوسيان يتربى في فرنسا، والقسم الآخر باسم رجلٍ هندي يدعى علي رمجاه.

وفي اليوم التالي جاء الهندي وقبض حصته من المال، وفي العام الثاني جاء الرجل فوضع أيضًا مبلغًا جسيمًا قدر المبلغ الأول، نصفه للوسيان والنصف الآخر باسم علي رمجاه، وجاء في اليوم التالي وقبض المال الذي وُضع باسمه.

فسأله لوسيان: وفي العام الثالث؟

– لم أكن في لندرا؛ فقد نقلوني إلى مصرف باريس.

– أهذا كل ما تعلمه؟

– أقسم لك أني لا أعلم غير ما ذكرت.

فقال لوسيان: إذا أظهرت لك الرجل الذي أظن أنه هو الذي كان يدفع المال في لندرا أتعرفه وتقول لي هذا هو؟

– إني لم أتقيد بالكتمان يا سيدي.

– إذن أعتمد عليك؟

– دون شك …

فقال لوسيان في نفسه: إذا كان هذا الرجل هو الماجور هوف فلا بد له من أن يقول لي أين أمي.

ثم ذهب الصراف ولبث الصديقان يتحدثان هنيهةً، وبعد ذلك افترقا على أن يجتمعا في المساء في نادي اسبرج.

١٠

وأرسل لوسيان كتاب الانفصال إلى عشيقته القديمة جوزفين، وأرسل إليها تلك المكافأة المالية وهو يحسب أنها سوف ترضى عن كرمه وتذكره بالخير، وما علم ما أثاره هذا الكتاب في نفسها من العواصف؛ فإنها بعد أن ورد إليها الكتاب أصابها مسٌ من الجنون وكادت تبتلى باليأس، ثم عادت إلى صوابها وجعلت تبحث عن الأسباب التي حملته على هجرانها، وراقبته سرًّا حتى علمت أنه يهوى ابنة أستاذه القديم، وأنه عازمٌ على الزواج بها، فهاجت عوامل الحقد واستحال ذلك الحب القديم إلى كرهٍ دفين وعولت على الانتقام.

وكان لهذه الفتاة حظوة عظيمة لدى شبان باريس؛ لفرط جمالها، ووفرة دلالها، وكثرة بذخها، فلما خطر لها خاطر الانتقام عادت إلى عيشتها القديمة في باريس، فاتخذت لها قصرًا شائقًا واشترت المركبات الجميلة، فما تجولت منتزهات باريس يومين حتى ازدحم الأغرار على أبوابها، والتف حولها العشاق.

وكان بين أولئك العشاق شاب جريء يدعى المركيز روكرول، علمت جوزفين بعد طول ترددٍ عليها أنه خير آلةٍ لقضاء أغراضها، فاختارته من بين عشاقها، وجعلت تمد له سبل غرامها حتى فتنته ولم يعد يطيق الصبر عنها، كل ذلك وهي تشغفه حبًّا وتقصيه عما يريد فتقلبه من هجرها ورضاها على أحر من الجمر.

إلى أن أعياه أمرها وكاد يجن بهواها، فخلا بها ليلةً وعرض عليها كل ما تطمع به أمثال أولئك النساء من مالٍ وعقارٍ وجواهرَ، فابتسمت له جوزفين وقالت: إني لا أطمع بمالك ولا أشك بصدق هواك، ولكني سأكشف لك حقيقة أمري، وأبوح لك ببعض سري وإنما اخترتك من بين عشاقي؛ لما توسمت فيك من دلائل الحب الأكيد ولشعور نفسي بميلها إليك، ولكني لا أقول لك شيئًا إلا متى تعهدت لي بالموافقة على ما أريد، وإلا فلا تطمع مني بمراد.

– سيدتي، إن حياتي وقفٌ لأمرك، فمريني أن أموت أو أنتحر فأسفك دمي على قدميك.

– إني لا أريد أن تموت بل أن تكون رسول الموت، أما وقد رضيت بشرطي فاسمع: إني ما أحببت في عمري سوى مرةً واحدة، وهذا الرجل الذي أحببته وهجرت من أجله باريس ورضيت معه بعيشٍ أشبه بعيش السجون، أصبحت أكرهه بقدر ما كنت أهواه ولا يطيب لي عيش إلا إذا انتقمت منه بالموت؛ فقد لقيت منه ما هو أشد من الموت.

فقال المركيز: إذن ليمت.

– ولكنه من الماهرين بأساليب المبارزة.

– وما يهمني؟

– إنه ماهرٌ بإطلاق الرصاص.

– وأرجو أن أصيب المرمى؛ فإن الحب يشد ساعدي.

ثم ركع أمامها وقال: بالله؛ اذكري لي اسمه فلم أعد أطيق الصبر.

– سأرسل لك اسمه.

– لماذا لا تقولين الآن؟

– لي في ذلك مأرب، قل لي أين أنت ذاهبٌ الآن؟

– إلى نادي اسبرج.

– اذهب الآن وانتظر فيه، فسأرسل لك اسم هذا الرجل.

فقبل يدها وذهب وهو يتنهد؛ فقد جعله غرام هذه المومس من المجانين.

ولنعد الآن إلى لوسيان؛ فإن موعد التقائه بصديقه في نادي اسبرج كان في الساعة العاشرة، ولكنه لم يحضر إلا في منتصف الليل؛ لأنه ذهب لزيارة خطيبته فأنسته مجالستها ذلك الموعدَ.

وكان عضوًا في ذلك النادي وقد عُرف لجميع أعضائه أنه ظريفٌ وغني، والظرف والغنى كافيان لإكثار الأصدقاء من حوله.

ولما دخل إلى القاعة التي كانت غاصةً بأعضاء النادي لاحظ أن قدومه أثَّر على الحاضرين تأثيرًا غريبًا لم يفقه له معنى، ولم يسلم عليه بينهم غير صديقه بول.

ورأى أن جميع الأنظار متجهةً إلى المركيز دي روكرول؛ لأنه كان واقفًا بينهم موقف الخطيب يكلمهم عن أمورٍ غريبة، فاندهش لوسيان وأصغى إلى المركيز فسمعه يقول ما يأتي:

الحق أيها السادة أن مثل هذه الأمور لا يتفق حدوثها إلا في باريس؛ فإن الرجل يأتي إليها بثروةٍ لا يعلم الناس موردها فينتحل لنفسه اسمًا؛ إذ لا يكون له أبٌ معروف، ويدعى من النبلاء؛ فيقبل عليه الناس ويحوم حوله الأصدقاء والنبلاء وهو ليس من النبل في شيء.

فارتعش لوسيان لسماعه؛ لأن كلامه كان ينطبق عليه!

وعاد المركيز إلى حديثه فقال: لو جاءكم رجل يومًا وقال لكم: إن هذا الرجل الذي يقيم بينكم منتحلًا أسماء الأعيان وما هو إلا مزورٌ محتال، وإن المال الذي لديه يورثه الخزي والعار، وهو لكم من الأصدقاء فماذا تقولون؟

وقال له أحد الحاضرين: إنك جريت شوطًا بعيدًا أيها المركيز.

– لا بأس فإني قد أحسن إلى كثيرين بفضيحة هذا الرجل.

وكان لوسيان قد اصفر وجهه، ولكنه كان ينظر إلى المركيز بسكينةٍ فقال له: من هذا الذي تريد فضيحته أيها المركيز؟

– هو رجلٌ ينتحل اسمًا لا حق له بانتحاله.

– يوجد كثير من الناس على هذه الشاكلة؟

– نعم، ولكن هذا الرجل غني لا يستطيع أن يظهر مورد ثروته وأظنه ابن مومس، إلا إذا استطاع أن يبرهن عكس ما أقول.

فوقف لوسيان عند هذا القول، ولكنه لم يجب بشيءٍ غير أن وقفته كانت هائلة، وبات جميع الذين سمعوا كلمات المركيز الأخيرة يتوقعون حدوث أمرٍ خطير بين الاثنين.

وساد السكون بضع ثوانٍ حتى أوشكت أن تسمع الأنفاس، إلى أن عاد المركيز إلى الكلام فقال: إني لا أتهم أحدًا إلا وأنا مستعد لإعطاء من أتهمه حق الدفاع.

فقال لوسيان: من هو الذي تتهمه؟

فأجابه المركيز ببرود: هو أنت.

فوقعت هذه الكلمات من صدر لوسيان وقوع الشرارة في لغم بارود، فجحظت عيناه وارتخى صوته، وقال: أيها المركيز، إني سأقتلك غدًا، وإن كان دمك لا يكفيني.

– هذا حق.

– نعم، ولكنه أحب قبل ذلك أن تكشف النقاب عما قلته.

– سأفعل ما تريد، فاعلم أنك لا تدعى لوسيان دي هاس، بل لوسيان فقط.

– وبعد ذلك؟

– ليس لك غير هذا الاسم.

– وبعد ذلك؟

– إنك لقيط، لا أب لك تعرفه ويعرفه الناس.

– إنك لا تعرف شيئًا من ذلك مثلي.

– كلا، بل أعرف أنك ابن فتاةٍ من بنات الهوى.

– كفى!

ثم هجم عليه وصفعه على وجهه، والتفت إلى الحضور فقال: إن هذا الرجل كان أمس من أصحابي ولم أسئ إليه مرةً في حياتي، ولكن هذه الفضيحة التي يتهمني بها لا تغسل إلا بالدماء، على أني عشت بينكم زمنًا طويلًا؛ فهل يذكر واحدٌ منكم أني أسأت إليه أقلَّ إساءة؟

فأجابه بعض الحاضرين: كلا.

وقال صديقه بول: إني أُعدك من أشرف رجال النبل، وقد أُهنت، فأنا أكون شاهدًا لك في المبارزة.

ثم التفت إلى الحاضرين قائلًا: من منكم أيها السادة يريد أن يكون معي الشاهد الثاني؟

فحدث عند ذلك اضطرابٌ عظيم؛ إذ لم يتقدم أحدٌ للقبول.

فأوشك لوسيان أن يُجن من يأسه، وغطى وجهه بيديه وهو يقول: أماه، أين أنت؟ إني لا أجد بين هؤلاء الناس من يريد أن يكون شاهدي للانتقام لك؟

وعند ذلك دخل رجلٌ في الأربعين من عمره، وعليه مظاهر الكآبة، فاخترق القاعة ووقف بين الجمهور، فأقبل كثيرون للسلام عليه، وكانوا يدعونه الماجور أفاتار.

أما الماجور أفاتار (أي روكامبول)؛ فإنه رأى علائم الاضطراب باديةً عليهم فسألهم عما هم فيه، فأخبره بول بجميع ما اتفق، فتقدم روكامبول من لوسيان وقال له: أنا شاهدك الثاني يا سيدي.

فصافحه لوسيان شاكرًا ممتنًّا.

أما المركيز فإنه قال للوسيان: إن الرجل إذا صُفع لا يستطيع أن ينام قبل أن ينتقم، وهذا القمر يسطع نوره في السماء فيجعل الليل نهارًا، فما تقول في المبارزة الآن؟

– إني طوعٌ لك.

– إن الحق حقي في اقتراح السلاح، وأنا أقترح القتال بالسيف، فلا نرجع حتى يقتل أحدنا الآخر.

– هو ما تقول، فليكن ما تريد.

وبعد ربع ساعة كان المركيز وشاهداه ولوسيان يسيرون في المركبات إلى الغابات.

فقال روكامبول للوسيان: إني لا أعلم إلى الآن سبب المبارزة، فهل لك أن تذكر لي السبب؟

– إن المركيز أهان أمي.

فاقتصر روكامبول على هذا السؤال، كما تقتضيه آداب اللياقة، وقال: فهمت.

وسارت بهم المركبات حتى وصلوا إلى ساحة القتال، فاقترع الخصمان على السيفين ووقفا في موقف المبارزة، إلى أن أشار إليهما روكامبول بالمبارزة، فأطبق كل منهما على الآخر وكلاهما باسلٌ شجاع.

ومرت بهما دقيقتان لم يكن يسمع في خلالهما غير صوت قرع السيفين، ثم بدأ لوسيان بالحديث قائلًا: إن واحدًا منا سيُقتل قريبًا يا حضرة المركيز، أفتأبى عليَّ في مثل هذه الساعة أن تخبرني عن السبب الذي دعاك إلى إهانتي وقتالي؟

– إن جوزفين وعدتني بحبها إذا قتلتك.

ثم حمل عليه بسيفه حملةً منكرة وطعنه بصدره طعنةً نجلاء، فاخترق السيف صدر لوسيان، لكنه لم يقع ولم يسقط السيف من يده.

وبينما المركيز يتأهب للدفاع والوقوف موقف الحذر انقض عليه لوسيان وهو يقول: إن جوزفين لن تفي بوعدها.

ثم طعنه بسيفه طعنةً صائبة، فاخترق حسامه قلب ذلك المركيز وسقط على الأرض قتيلًا، وعند ذلك تلاشت قوى لوسيان، وجعلت الدماء تتدفق من صدره.

١١

ولنعد الآن إلى روكامبول؛ لنروي للقراء كيف اتفق وجوده في نادي اسبرج حين كان لوسيان محتاجًا إلى شاهد، ولا بد لنا لذلك من العودة إلى قصر روشربين؛ حيث دخل إليه روكامبول بصفة طبيب.

وكان الخادم دخل به إلى الغرفة التي كان فيها بب، فكان مُلقًى على نفس السرير الذي كانت نائمة فيه ميلادي، وهو بملابس الضباط الإنكليز والقيود والقناع ملقاة على الأرض.

فدهش الخدم؛ لأنهم لم يروا من قبل بب مرتديًا بهذه الملابس، خلافًا لروكامبول؛ فإنه ذكر حكاية فاندا، فعلم لأول وهلةٍ أن هذا الشخص يعرف حكاية جيبسي، ويريد إرجاع المال إليها ولا بد له من الوقوف على أسراره، وإتمام مشروعه.

ولم يكن روكامبول كاذبًا في قوله: إنه من الأطباء؛ فقد تعلم من أستاذه القديم أندريا، ومما جرى له من الحوادث في أيام غروره، أكثر أنواع الجراحة، ففحص الجريح وعرف موضع الرصاصة، فقال له الخادم: أيموت؟

– لا أعلم، اذهب وأحضر لي ماء باردًا وعصابات.

فامتثل الخادم، وغسل روكامبول الجرح، ثم تحايل على الرصاصة فأخرجها، ورأى أن الجريح قد اتقدت عيناه ببارقٍ يشف عن الأمل بالحياة ورغبة في الانتقام، فرجا خيرًا، وقال للخدم الثلاثة الذين كانوا مجتمعين في تلك الغرفة: يجب أن أبقى وحدي هنيهةً مع الجريح.

فخرج الثلاثة وأقفل روكامبول الباب في أثرهم، ثم عاد إلى الجريح فنظر إليه بب نظرةً يتخللها الرجاء، وقال: أتراني أموت؟

– إن جرحك خطر ولكنه غير مميت فيما أراه، وفي كل حال، إن الخطر غير قريب.

وقد عرف روكامبول أنه يجب السرعة؛ إذ قدر أن بب لا يعيش أكثر من ساعتين، فقال له باللغة الإنكليزية: إني آتٍ إليك أحمل أخبارًا من جيبسي النورية.

فذعر بب عند سماعه اسم جيبسي، وقال: ماذا تقول؟ جيبسي؟!

– نعم، ابنة أخت مس ألن.

فزاد ذهول بب وقال: كيف تعرف هذه الأمور؟! ومن أنت؟!

– إني رجلٌ مثلك يريد إرجاع الأموال المختلَسة إلى أصحابها.

– إذن أنت تعرف جيبسي؟

– دون شك؛ لأني أنقذتها منذ أسبوعين من أيدي الخناقين.

فاصفر وجه بب وقال: لا تذكر لي شيئًا عن هؤلاء الناس.

ثم ظهرت عليه مظاهر التردد كأنما داخله الشك بصدق روكامبول، فقال له: إني لا أصدق ما تقول.

فقال له روكامبول بلهجة الكآبة: لماذا لا تصدقني؟

– لأن ميلادي أرسلتك إلي؛ كي تعلم كل شيء، لكنها لن تعلم شيئًا.

فأخذ روكامبول يده بين يديه وقال له بلهجةٍ تشف عن الصدق: إذن ألا تريد إتمام مشروعك؟

فهز بب رأسه قائلًا: إن ميلادي وشركاءها قادرون ولا سيما فرانز القاتل السفاك الذي ينتحل لنفسه اسم الماجور هوف.

فعلق هذا الاسم بذهن روكامبول وقال له: أتعتقد إذن أني من أتباع ميلادي وأحد شركائها في الجرائم؟

– نعم.

– وإذا برهنت لك عكس ما تعتقد، أتثق بي؟

– دون شك، لكني أريد البرهان.

– إذن اسمع.

ثم حكى له ما اتفق لفاندا في قصر روشربين، وكيف أنه مثَّل أمامها دور خيال، وهو يعتقد أنه يخاطب ميلادي، فأيقن بب من صدق روكامبول.

لكن بقي له شيء من الشك في مقاصده، فسأله: لماذا يهمك أمر جيبسي؟ ولماذا تريد أن تخدمها هذه الخدمة؟

فرأى روكامبول أنه لا بد له من الكلام، فقال له: ذلك لأني أحب جيبسي حبًّا صادقًا، ومن أجل ذلك أنقذتها من أيدي الخناقين، بعد أن كادوا يحرقونها.

فزال عند ذلك كل أثرٍ للشك من نفس بب، وقال له: لقد صدقتك فيما تروي، ولكن أتحسب نفسك قادرًا على مقاومة ميلادي؟

– إني إذا وقفت على حقيقة أمرها عبثت بها كما أشاء وأرجعت الأموال إلى أصحابها.

– أتقسم لي أنك ترجع المال إلى جيبسي؟

– أقسم لك بالله العلي على صدق ما أقول.

فتنهد بب وقال له: إني لا أستطيع الكلام؛ لضعفي، ولكني كتبت جميع أسرار مس ألن.

– أين وضعت ما كتبته؟

– في غرفتي وهي في الدور الأول ونمرتها عشرة، وقد خبأت ما كتبته تحت أول بلاطة بعد العتبة.

فدق روكامبول عند ذلك الجرس فأسرع إليه الخادم، فقال له: اذهب بي إلى الغرفة التي يبيت فيها المسيو بب.

فنظر الخادم إلى بب، فأشار إليه إشارة المصادقة، فمشى وتبعه روكامبول.

فلما وصل إلى غرفة بب جعل روكامبول يفتكر بطريقةٍ يبعد بها الخادم؛ كي لا يرى ماذا يصنع فقال له: ماذا تدعى؟

– جاك.

– أأنت من هذه القرية؟

– كلا، بل أنا من ماينس.

– كم بقي لك في خدمة ميلادي؟

– عامان.

– إنك ستصبح من غير خدمة.

فذعر الخادم وقال: رباه كيف ذلك؟!

– ذلك أن بب سيموت قريبًا، وميلادي لن تعود إلى هذا القصر، وستقفل الحكومة أبوابه وتختمها، ولكن لا تيأس فسأتخذك لخدمتي وتكون معي في باريس وأضاعف راتبك، على شرط إذا لقينا ميلادي في باريس ترشدني إليها.

فسُر الخادم سرورًا عظيمًا؛ لأنه كان يتمنى من دهرٍ طويل أن يرى باريس، فقال له: إن ذلك سهلٌ ميسور يا سيدي، وسأكون في خدمتك من المخلصين الصادقين.

فأعطاه روكامبول مائة فرنك وأرشده إلى المكان الذي يقيم فيه بباريس، ثم سأله: هل أبلغتم البوليس عن الحادثة التي جرت؟

– كلا يا سيدي.

– إذن أسرع إلى إبلاغه، قبل أن يموت بب، فتغدو أنت ورفاقك من المتهمين.

فلما خلا المكان بروكامبول أخرج خنجره ودنا من البلاطة التي أرشده إليها بب، فاقتلعها ورأى تحتها علبة صغيرة من الحديد الرفيع، فأخذها وأرجع البلاطة إلى ما كانت عليه ثم عاد إلى بب فأخبره بما فعل وأراه العلبة، فقال له بصوتٍ خافت: نعم هذه هي وهذا مفتاحها.

ثم أشار إلى مفتاحٍ صغير كان معلقًا في عنقه، فأخذه روكامبول ووضعه مع العلبة في جيبه، وخرج فسار توًّا إلى محطة السكة الحديدية.

وبعد ساعة أقبل رجال البوليس، وكان لا يزال في بب بقية رمق فلم يستطع أن يظهر لهم الجريمة ولكنه تمكن من نفي التهمة عن الخدم.

وبعد هنيهة أسلم الروح فحملوه إلى المستشفى وأقفلوا القصر فوضعوا الأختام على أبوابه، وتفرق الخدم فذهب كلٌّ إلى قريته ما خلا جاك؛ فإنه جعل يتأهب للسفر إلى باريس.

أما روكامبول فإنه صبر في المحطة إلى أن أتى القطار، فدخل إليه ولما سار به فتح تلك العلبة، فوجد فيها دفترًا مطويًّا يظهر أنه متقادم؛ لاصفرار أوراقه، ورأى في أسفل العلبة مِدالية عليها رسم صبية بالغة غاية في الجمال، وقد حفر تحتها هذه الكلمات: «مس ألن في العاشرة من عمرها»، ثم فتح الورقة الأولى من الدفتر، فوجد عنوانه: «تاريخ قاتلة أبيها».

١٢

وفتح الدفتر وجعل يقرأ والقطار سائر فيه إلى باريس ما يأتي:

في ليلة عيد الميلاد سنة ١٨٣٥، وهو العيد الذي يجله الإنكليز كُلَّ الإجلال، كان الضباب كثيفًا حتى لم يعد يستطيع المارة الاهتداء إلى سبيلهم، واضطر البوليس أن يحمل المشاعل بدلًا من العصي لكثافة الظلام.

ولم يكن يوجد أحدٌ في الشوارع ما خلا فتاة في ريعان الصبا والجمال كانت تسير مسرعة على غير هدى، وهي باسطة يديها إلى الأمام كالعميان؛ حذرًا من أن تصطدم بشيء؛ لأنها لم تكن ترى غير الظلام الكثيف.

وفيما هي تسير رأت خمارة مفتوحة فوقفت عند بابها وسألت صاحبها أن يهديها إلى الشارع الذي تسير فيه، فأجابها صاحب الخمارة، وهو يتأمل محاسنها، وذكر لها اسم الشارع، فشكرته وانصرفت.

ولكنها لم تسِر خطوتين حتى خرج لها رجل كان في الخمارة ودنا منها قائلًا: إني خبيرٌ بشوارع العاصمة يا سيدتي، فقولي لي أين تقيمين أقودك إلى منزلك؟

فنظرت إليه الفتاة وارتعشت لما رأته من ملامحه الجاذبة؛ فقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره أسمر اللون أسود العينين، فوق الربعة، كان لابسًا ملابس البحارة، غير أن نعومة يديه وأسلوب حديثه كانا يدلان على أنه ليس من هذه الطائفة، ولعله أصيب بما أصيبت به الفتاة من الارتعاش حين رآها فأراد أن يوصلها إلى منزلها.

غير أن الفتاة حاولت الامتناع، فما أمهلها وتأبط ذراعها وقال لها: هلمي بنا فإني سأوصلك إلى حيث تشاءين دون أن يكون عليك أقل خطر.

فجعلت الفتاة تضطرب وترتجف من الغريب، وإنها على اضطرابها وارتعاشها أنست به، ولم تعد تبدي مقاومة، فسألها: أين تقيمين؟

– في بيكاديللي.

– إذن تعالي معي من هذا الشارع، ولا تخشي مكروهًا؛ لأني من الأصدقاء.

– كيف تكون من الأصدقاء وأنت لا تعرفني؟

– هو ما تقولين، غير أني حين رأيتك واقفة بباب الخمارة هاجت بي عاطفة لا تغلب، وشعرت أني أكون عبدًا لك لأول أمر تصدرينه إلي، فثقي، إني لكِ من المخلصين.

فتنهدت وقالت: ليس لي أصدقاء، وما أنا إلا فتاة شقية حُرمت من إرثها.

– أنت حُرمت من إرثك؟! وكيف تُحرمين منه ولك مثل هذا الجمال؟ بالله يا سيدتي، قولي لي عن اسمك؛ لأن ملامحك تدل على أنك من الأسرات النبيلة.

– إني أُدعى مس ألن.

– وأنا من تحسبينني؟ أتظنين أني بحار كما تدل عليه ملابسي؟ كلا يا سيدتي، المسي يدي تعلمي أني لست من البحارة.

فارتعشت مس ألن حين شعرت بنعومة يده، وعاد الرجل إلى الحديث فقال: سأخبرك في غير هذا المكان من أنا ولكني أخبرك الآن أني أستطيع أن أخدمك أجلَّ خدمةٍ.

– وأنا أصدِّق ما تقول.

– إذن أخبريني عن السبب الذي حُرمتِ من أجله.

– ذلك؛ لأن لي أختًا أكبر مني ولأن أبي لا يحبني؛ لاعتقاده أن أمي ولدتني بالإثم، فحرمني من إرثه وكتب جميع ماله لأختي الكبيرة.

– أرضيت بهذا الحرمان؟

– إني رضيت به؛ لأني لا أستطيع منعه.

– وإن أتاكِ صديقٌ من السماء؟

فثارت في فؤاد الفتاة كوامن الحقد، وقالت: ليكن هذا الصديق من جهنم أو من السماء، فإني أرضى به صديقًا إذا كان يساعدني فيما أريد.

– مس ألن، إني أحبك وأحب أن تكوني غنيةً قادرة، وسأسحق أعداءك تحت قدميك، فقولي لي ماذا يدعى أبوك؟!

– يدعى الكومندور بروكنس.

– حسنًا، سترد إليك أخباري، والآن إننا وصلنا إلى بيكاديللي، فنادي البوليس الواقف أمامنا، يرشدك إلى منزلك، أما أنا فسترينني قريبًا.

ثم عانقها طويلًا وقبلها في ثغرها، فصاحت الفتاة صيحةَ اضطرابٍ، واحتجب الرجل عنها في جنح الظلام.

ويظهر أن بب لم يعلم ما حدث بعد هذا اللقاء السري؛ لأنه لم يذكر شيئًا من ذلك في دفتره.

لكنه قال فيه: إنه بعد ذلك بعدة أشهر كانت مس ألن مقيمة في قصرٍ قديم في إيكوسيا مع أبيها.

وكان أبوها عجوزًا، ترمل ثم تزوج مرةً ثانية وهو في الخمسين من عمره بامرأةٍ ماتت على أثر ولادتها مس ألن ابنته الثانية، وكان له ابنة من امرأته الأولى تدعى مس أنَّا، فكان يحب الكبرى بقدر ما كان يكره الصغرى، حتى كان يظن بعضهم أن السبب في كرهه لابنته الثانية ظنه أنها ثمرة حب غير شرعي.

وكانت أختها تقيم في أجمل قصرٍ من قصور أبيها في لندرا، خلافًا لمس ألن؛ لأن أباها كان يقيم معظم شهور السنة في إيكوسيا فيصحب معه ابنته مس ألن؛ كي لا تتمتع بملاهي العاصمة.

ولم يكن في منزله كثير من الخدم إذ لم يكن فيه غير وكيله بب مع امرأته وخادم غرفة يدعى فرانز أصله من الألمانيين وثلاثة من صغار الخدم لم يكونوا يخرجون من المطبخ.

وكان يظهر من فرانز أنه شديد الإخلاص لمس ألن على حداثة عهده في خدمة هذا المنزل، فكان يخرج كل يومٍ في وقتٍ معين إلى البوسطة ويعود برسالة إلى مس ألن فتقرأها وتبكي بكاءً شديدًا.

وقد اتفق ليلةً أن أباها كان جالسًا في غرفته وكانت مس ألن جالسةً في القاعة وهي تتوجع، وقد حاولت أن تبرح هذه القاعة فلم تستطع وصاحت صيحةً عظيمة، فوصلت صيحتها إلى مسمع أبيها، فجاءها وقال لها بلهجةٍ تدل على الاستياء: ما هذا الصياح؟

– إني مصابةٌ بصداعٍ شديد.

ثم بدرت منها صيحة أخرى فنادى أبوها فرانز؛ كي يعتني بها، فأقبل فرانز ونظر إليها نظرةً سرية، فامتنعت عن الصياح وتكلفت السكينة، فقال لها أبوها: إن أختك ستتزوج بعد شهر، فاجتهدي أن تنالي الشفاء في هذه المدة واذهبي الآن إلى غرفتك ونامي؛ فقد حان وقت الرقاد.

ثم تركها وانصرف.

ولم يكد يذهب حتى عادت إلى التوجع والصياح، فأسرع فرانز إليها قائلًا: عضي منديلك واخفتي صوتك وإلا كنا من الهالكين.

– أتظن أن الوقت قد دنا؟

– نعم.

– ما هذا المصاب؟ وهو، إنه لم يرجع بعد.

– إنه سيحضر بعد ثلاثة أيام.

وعند ذلك عادت إلى التوجع والصياح فوضعت منديلها في فمها وعضته؛ إخفاءً لصياحها، فحملها فرانز وخرج بها إلى غرفةٍ في الدور الأسفل؛ كي لا يصل صوتها إلى مسامع أبيها.

وكان أبوها يكرهها كرهًا شديدًا كما تقدم، ولكنه يندم في بعض الأحيان إذا بالغ في الإساءة إليها ويشفق عليها، فلما دخل إلى غرفته بعد أن غادر ابنته وهي مصابة بصداعٍ أليم — كما كانت تدعي — خلع ملابسه وصعد إلى سريره فجعل يفكر بابنته ويندم لقسوته؛ بحيث أرق ولم يستطع الرقاد.

وفيما هو آرقٌ يتأمل، سمع أصواتًا متتابعةً كانت تصل إليه شبه الأنين! فقام ولبس رداءً طويلًا، وأخذ بيده مصباحًا وذهب إلى غرفة ابنته فلم يجدها فيها، فأصغى، فسمع أن الصياح صادرٌ من الدور الأسفل.

فاضطرب ونزل في السلم فانتهى إلى دهليز، فمشى فيه إلى الجهة التي يصدر منها الصوت، حتى انتهى إلى غرفةٍ رأى نورًا فيها، ففتح بابها ودخل فرأى ابنته في سريرها، وفرانز واقفًا أمامها، وهي تصرخ وتتوجع من آلام الولادة، فصاح صيحةً هائلة وتراجع منصعقًا وهو يقول: تبًّا لك من شقية!

ولما وصل روكامبول بقراءته إلى هذا الحد، كان القطار قد وقف في محطة باريس، فأعاد الدفتر إلى العلبة، وأعاد العلبة إلى جيبه، وخرج من القطار وركب مركبة وذهب إلى المنزل الذي كان استأجره باسم الماجور أفاتار.

وكانت الساعة تدق مؤذنةً بانتصاف الليل، فلم ينم؛ بل إنه وضع العلبة في موضعٍ أمين، وقال في نفسه: يظهر من رواية بب أن فرانز والماجور هوف واحد، وهذا الماجور عضوٌ من أعضاء نادي أسبرج، فلأذهب إليه.

١٣

وقد عرف القراء ما حدث لروكامبول حين وصوله إلى هذا النادي؛ فإنه بحث عن الماجور هوف ولم يجده فسمع آخر خصام لوسيان مع المركيز ورضي أن يكون شاهده.

وقد تقدم لنا الكلام أن المركيز قُتل في ساحة المبارزة، وأن لوسيان أصيب بجرحٍ في صدره، فحمل شاهدا المركيز ذلك القتيل إلى أهله وأخذ روكامبول وبول الجريح إلى بيت صديقه بول، وبعد هنيهة أقبل الطبيب فغسل الجرح وضمده وقرر أنه غير خطر، ولكن الجريح لا يستطيع الخروج من البيت قبل شهر.

وكان روكامبول قد شعر بميلٍ وانعطاف إلى لوسيان وقد وقف على بعض حكايته من صديقه، فأشفق عليه إشفاقًا شديدًا حين علم أنه كان عازمًا على الاقتران بعد أسبوع.

وكان بول حائرًا في أمره، لا يعلم كيف يخبر خطيبة لوسيان بهذا النبأ المحزن، فقال له روكامبول: أنا أتولى عنك هذه المهمة، فأرشدني إلى منزلها.

فدله على البيت الذي تقيم فيه.

وأقام روكامبول أمام سرير الجريح إلى الصباح، ولوسيان نائم نومًا هادئًا، ولما فتح عينيه وجد روكامبول واقفًا أمام سريره، فشكره بابتسامة؛ لأن الطبيب منعه عن الكلام، فخاطبه روكامبول قائلًا: إنك نمت نومًا هادئًا وقد وثقت أن جرحك لا يحمل على الخوف فأنا ذاهب الآن، وسأعود في المساء لعيادتك.

ثم تركه تاركًا عنده صديقه بول، وذهب وهو يقول في نفسه: لقد اشتركت في هذه الحادثة فلأندفع بها إلى النهاية، وسأهتم بعد الفراغ منها بأمور جيبسي.

ولذلك لم يعد إلى منزله بل سار مشيًا على الأقدام في الشارع المؤدي إلى بيت خطيبة لوسيان، فكان كلما سار بضع خطواتٍ يقف مفكرًا ويخاطب نفسه: إني أرى شبهًا غريبًا بين لوسيان وبين صورة ممثلة في ذهني لا أذكر صاحبها، فمن عسى أن يكون شبيهه؟

ومشى في شارع الجزائر ومنه إلى شارع سانت أونوريه، ثم انتهى إلى شارع سوردبير؛ حيث تقيم ماري، وجعل يبحث عن نمرة منزلها، ولكنه لم يدخل إلى هذا الشارع حتى انذهل فجأةً؛ لأنه رأى رجلًا دخل إلى الشارع أيضًا وجعل ينظر مثله إلى نمر منازله فكان سبب انذهاله، فعرف أن هذا الشخص كان الماجور هوف الذي أتى عند منتصف الليل يبحث عنه في نادي أسبرج، وقد كان رآه مرةً أثناء حوادث كارل مورليكس فخاطب نفسه: ما شأن هذا الشخص في هذا الشارع؟! وماذا يبغي من المجيء إليه في هذا الصباح؟!

أما هوف فإنه مر دون أن ينتبه إلى روكامبول، وكان يحمل علبةً بيده وعليه دلائل الاهتمام.

وبقي يبحث عن النمر حتى اهتدى إلى نمرة ١٧، فوقف وزادت دهشة روكامبول؛ لأنه هو أيضًا كان يبحث عن تلك النمرة؛ وهي نمرة البيت الذي تقيم فيه خطيبة لوسيان.

فتردد الماجور هنيهةً، ثم دخل وأسرع روكامبول في أثره ووقف وراء الباب فسمعه يخاطب البواب: أهذا البيت الذي تقيم فيه المدموازيل ماري برتود مع أبيها؟

– نعم.

– أهي في منزلها الآن؟

– نعم، ولكنها نائمة.

– إذن أعطها هذه العلبة.

ثم سأله: في أية ساعة تخرج الفتاة من منزلها؟

– إنها تخرج في صباح كل يوم؛ لتوصل شغلها إلى العامل، ولكنها بعد أن خطبت لم تعد تبرح البيت في الصباح.

– ألا تذهب إلى النزهة في التوبلري مع أبيها كل يومٍ بعد الظهر؟

– نعم، حين يكون الطقس صاحيًا.

– حسنًا، لا تقل لها: إني سألت عنها.

ثم نفحه بدينار فحياه البواب إلى الأرض.

وكان روكامبول قد سمع كل هذا الحديث، فخاطب نفسه: إذا صدق حديث بب؛ أية علاقة لهذا الرجل مع خطيبة لوسيان؟

ثم سمع أن الماجور قد أنهى حديثه مع البواب، فأسرع إلى الاختباء وراء الباب، وعند ذلك خرج الماجور هوف وسار في طريقه دون أن يرى روكامبول.

فخاطب روكامبول نفسه: سأخبر ماري بجرح خطيبها بعد عودتي؛ لأن المهم الآن أن أقتفي أثر هذا الرجل.

فمشى الماجور وروكامبول في أثره حتى رأى مركبةً فأوقفها وقال لسائقها: سر بي إلى الجران أوتيل.

فسمعه روكامبول وكان هذا كل ما يريد أن يعرفه؛ لأنه إذا لم يكن مقيمًا في هذا الفندق فيكون ذاهبًا ليرى شخصًا فيه، وقد يمكن أن يكون هذا الشخص ميلادي؛ لأن فرانز كان شريكًا لها في قتل بب في قصر روشربين، وما دام موجودًا في باريسَ، فلا بد أن تكون هي أيضًا فيها.

وجعل روكامبول يمعن في التفكير؛ عله يهتدي إلى علاقة فرانز بخطيبة لوسيان فلم يهتد إلى مراد، وفيما هو يجهد فكره خطر له خاطر ارتعش له؛ إذ ذكر ما قرأه في دفتر بب؛ وهو أن مس ألن ولدت غلامًا ففكر في نفسه: ألا يمكن أن يكون لوسيانُ ابنَ ميلادي؟

وكأنما هذا الخاطر قد أزعجه فجعل العرق ينصب من جبينه وهو يفتكر في نفسه: أيكون مثل هذا الفتى الباسل ابنًا لتلك النمرة الضارية التي تقتل أباها وأختها؛ كي تنهب نقود تلك المسكينة جيبسي؟ فشبه عند ذلك ميلادي بذلك النذل الفيكونت كارل دي مورليكس، وشبه ابنها لوسيان بابن أخيه أجينور الذي تزوج أنطوانيت كما تقدم في الأجزاء السابقة.

وخطر له أن يدخل إلى الجران أوتيل في أثر الماجور هوف لكنه فضل الرجوع إلى منزله؛ لأنه ذكر أن لوسيان يشبه شبهًا غريبًا ذلك الرسم المنقوش على المدالية التي وجدها مع دفتر بب في العلبة، وقد قرأ تحت الرسم مس ألن في السادسة عشرة من عمرها … فأحب أن يعيد النظر إلى هذا الرسم؛ ليزيل من نفسه كل أثر للريب، ولما عاد إلى منزله وجد ميلون ينتظره مع الخادم جاك الذي كان في خدمة ميلادي في قصر روشربين فدنا منه ميلون وقال له: إن فاندا قد حضرت مدة غيابك.

فاضطرب وسأله: متى حضرت؟

– منذ عشر دقائق، وقالت إنها لا تعود اليوم ولكنها ترجو أن تحضر في نصف الليل مغتنمةً فرصة ذهاب السير جمس إلى النادي وقد تركت لك هذه الرسالة، ففضها روكامبول فإذا بها ما يأتي:

يا رئيسي المعبود

إن حب السير جمس بدأ يقلقني، ولكنه لم يتجاوز بعد حد الاحترام، وهو لا يزال متكتمًا ينكر معرفة جيبسي أتمَّ الإنكار، ولكن لا بد لي من إغوائه وحمله على الإفشاء.

وقد ورد إليه أمس كتاب عليه كثير من الطوابع الغريبة، ورده من الهند إلى لندرا، فأرسله إليه عماله فيها، فقرأه وأسرع إلى تخبئته في محفظته وهو حريص عليها، فلا يضعها إلا في جيبه.

وأنت أيها الرئيس ماذا علمت؟ إلى اللقاء في منتصف الليل.

عبدتك فاندا

أحرق روكامبول هذه الرسالة بعد الفراغ من تلاوتها، ثم ذهب إلى خزانةٍ فأخرج منها العلبة التي كان فيها دفتر بب وأعاد النظر إلى المدالية، فصاح صيحة دهش؛ لأنه رأى الشبه تامًّا بين لوسيان وميلادي، فعلم عند ذلك السبب في سؤال الماجور هوف عن موعد خروج خطيبة لوسيان للنزهة وأن ميلادي تود أن ترى خطيبة ابنها.

وعند ذلك نادى روكامبول ميلون وقال له: ألْبِس جاك ثيابًا يتنكر بها ما أمكن، ثم عد به إلي فإني في انتظارك.

فخرج ميلون وعاد روكامبول إلى دفتر بب فقرأ فيه ما يأتي:

١٤

بعد أن ولدت مس ألن غلامًا بثمانية أيام، قدم أبوها إلى غرفتها وهو مقطب الجبين، غير أنه كان يظهر من ملامحه أنه لم يكن يريد أن يندفع بالحدة ويخرج عن حد الاعتدال، فدخل إلى غرفتها وهي لا تزال في سريرها وطفلها في مهدٍ بجانبها، فدنا منها وقال لها بصوتٍ يتهدج: مس ألن، إني ما أتيت إليك لأوبخك؛ فإن سلوكك لم يمسني إلا لأنك تلقبين باسمي ولا أريد أن يتلطخ اسمي بالعار؛ وقد ارتكبت ذلةً عظيمة، ولكني لا أبحث عن شريكك بالجريمة ولا أحاول الجمع بينكما بزواجٍ يغسل هذا العار، فإن زواجك لم يخطر لي في بال؛ ولذلك جئت أخيرك بين أمرين؛ وهما: إما أن تدخلي إلى الدير فتقضين العمر بالتوبة والاستغفار، أو يذهب بك وكيلي بب إلى فرنسا.

فإذا ارتضيت بالشرط الأول تعهدت بتربية غلامك كما يستحق أن يتربى غلام لا يُعْرَفُ أبوه، وإذا اخترت الشرط الثاني؛ وجب عليك تغيير اسمك فيذهب بك بب إلى المدينة التي تختارينها في فرنسا، فيعطيك عند وصولك مائة ألف فرنك تستطيعين بها تربية غلامك كما تشائين.

فمدت مس ألن يدها متوسلةً إلى أبيها أن يصفح عنها، غير أنه صدها بعنفٍ وقال: إن الطبيب الذي يتولى العناية بك أقسم لي بشرفه وعرض امرأته على كتمان سرك وأكد لي أنك تستطيعين السفر بعد ٤ أيام فأنا أمهلك ثمانية أيام لا أزيدها ساعة؛ فإن أختك ستحضر قريبًا مع خطيبها، ولا أريد أن يتدنس بيتي بوجودك فيه أكثر من هذا الحد.

وعادت إلى التوسل ونادته بأبيها رجاء استعطافه، فقال لها: لا تعودي إلى ذكر اسمي أيتها الشقيةُ؛ فإني لست أباك.

ثم خرج وهو يهدر ويزمجر.

وبعد خروجه دخل فرانز فوجدها مندفعةً في البكاء وهي تقبِّل طفلها وتقول: إني أبغض هذا الرجل الذي ينكر أني فتاته وأبغض تلك الأخت التي يضحونني من أجلها، وأبغض …

وقبل أن تتم كلامها سمعت صوتًا يقول لها: لا تبغضي أكثر من هؤلاء يا مس ألن.

فالتفتت وصاحت صيحة فرحٍ لا توصف؛ لأنها رأت أن العناية قد لاحظتها عيونها وبدلت خوفها بأمان وأرسلت لها ذلك الرجل الذي لقيته تلك الليلة الهائلة.

أما الرجل فإنه أسرع إليها وعانقها عناقًا كثيرًا، ثم أخذ الولد من مهده فجعل يقبله ويقول: ولدي!

وقد انقطع بعد ذلك بكاء مس ألن وجعلت تنظر إلى زوجها نظرات الإعجاب ثم قالت له: ألعلك أتيت لإنقاذي من هذا الرجل الذي ينكر أني فتاته؟

– جئت أنتقم لك.

فاتقدت عيناها بنار الحقد وقالت: نعم، انتقم لي كيف شئت وعلى أفظع شكل فلا تروق لي حياة بغير الانتقام.

فأشار هذا الرجل عند ذلك إشارة إلى فرانز كي يخرج وقال له: احذر أن يعود أبوها وإذا عاد …

فابتسم فرانز وقد برق الخنجر في يده وقال: لا تخف فإنه لا يصل إليكم حيًّا … ثم خرج.

وجلس الرجل فوق سرير مس ألن وأخذ يدها بين يديه وقال: أتريدين الانتقام؟

– لا أريد سواه.

– أتكرهين أباك؟

– كما أكره الموت.

– وأختك مس أنا؟

– إن كرهي لها لا يوصف؛ فهي علة مصائبي.

– ولكنك لا تعلمين إلى الآن من أنا؟

– أعرف أنك جميلٌ وقوي وأعرف أني أرتعش لنظراتك وأهتز لنبرات صوتك، وأني أحبك وأكون أسعد النساء إذا أتيح لي أن أعيش العمر عبدةً لك!

– ولكني لست إنكليزيًّا.

– كن كيف شئت؛ فإني كرهت هذه البلاد التي يؤذن فيها الشرع للأب أن يحرم ابنته.

– ولست مسيحيًّا أيضًا.

– وماذا يهمني معتقدك فلك دينك ولي ديني.

– ألعلك سمعت بتلك الجمعية الهائلة التي نشأت في غابات الهند ودعيت جمعية الخناقين.

– نعم …

– إن هذه الجمعية قادرة على ما تشاء؛ فهي تسن الشرائع في الهند وتغرس الهول في نفوس الإنكليز فإذا شاءت عدلت، وإذا شاءت ظلمت. ثم إنها تنثر المخاوف والموت من حولها وهي مطمئنة آمنة.

فتنبهت مس ألن وقالت: ألعلك من أعضائها؟

– بل أنا رئيسها الأعظم الذي يدير حركاتها من الغابات في الهند وفي عواصم البلاد.

فأعجبت الصبية إعجابًا شديدًا وقالت: كنت أرى من عينيك أنك ما خلقت لتُطيع بل لتُطاع.

ثم طوقته بذراعيها وقالت له: مر يا سيدي ورئيسي بما تشاء أطعك طوع الإماء.

– احذري يا مس ألن؛ فإنك إذا رضيت أن أنتقم لك وجبت عليك الطاعة المطلقة؟

فنظرت إليه نظرةً جمعت بين الافتتان والإعجاب وقالت: سأطيعك طاعةً لا حد لها.

– ليكن إذن ما تريدين، واعلمي الآن أني أدعى علي رمجاه.

ولم يعلم أحد ما جرى بين رئيس الخناقين الأعظم وبين مس ألن، فإن بب نفسه لم يعلم؛ لأنه وضع كثيرًا من النقط عند وصوله في حكايته إلى هذا الموضع. ففكر روكامبول هنيهةً ثم قلب الصفحة وأتم القراءة ما يأتي:

بعد هذه الحادثة بأربع وعشرين ساعة كان والد مس ألن جالسًا في غرفته وأمامه وكيله بب وهو يظهر له رغبته بسفر مس ألن في القريب العاجل؛ لقرب قدوم ابنته الصغرى، دون أن ينتبه إلى نظرات بب التي كانت تسفر عن الحقد الدفين، ثم سأله: أين امرأتك با بب؛ فإني لم أرها اليوم؟

فارتعش بب واتقدت عيناه ولكنه أسرع فكظم غيظه وقال: إنها سافرت يا حضرة الميلورد في هذا الصباح إلى أدمبرج؛ كي ترث عمًّا لها توفي منذ أيام …

– ولكنها ترجع قريبًا، أليس كذلك؟

وثارت العواصف في فؤاد بب ونوى قتله منذ ذاك الحين ولكنه كظم غيظه وقال: إن في الباب يا سيدي الميلورد غريبًا يريد مقابلتكم، وهو يقول إنه قادم من لندرا يحمل أنباء من ابنتكم مس أنا.

فاضطرب الشيخ وقال له: أسرع بإدخاله إلي.

ففتح بب الباب وأدخل ذلك الغريب وهو رجلٌ في الخامسة والثلاثين من عمره، طويل القامة براق العينين، وقد كان الكومندور خدم في الهند وبحارها مدةً طويلة فعرف من هيئة ذاك الرجل أنه هندي إنكليزي.

ولما دخل هذا الرجل خرج بب، فدنا منه الكومندور، وقال له: إني أتيت لمباحثتك في بعض الشئون.

– أأنت قادم من قِبل ابنتي؟

– نعم، ولا، سيدي الميلورد.

فانذهل وقال: كيف ذلك؟!

– إنك أقمت يا سيدي مدةً طويلةً في الهند، وعرفت دون شك احترام بعض الهنود للإلهة كالي، وأريد بهؤلاء الهنود الذين يلقبونهم بالخناقين.

فظهرت على وجه الميلورد علائم الاشمئزاز وقال: نعم عرفت هؤلاء الأوغاد الأشقياء.

وكان هذا الرجل الهندي علي رمجاه نفسه زوج مس ألن، فلم يحفل باشمئزاز الشيخ وقال له: قد يكونون من الأشرار كما تدعيه، ولكنهم إذا صدر إليهم أمر من رؤسائهم ينفذونه لا محالة، وأنت تعلم يا حضرة الميلورد أن للإلهة كالي رغائبَ شتى، منها أنها تريد أن يضحى لها في كل عام بعض البنات الإنكليزيات؛ فتنقش على صدورهن الوشوم، ويقضى عليهن بالبتولية الدائمة.

فاضطرب الشيخ وقال له: إني أعرف كل الأمور، ولكني لا أعلم لماذا تقولها لي؟!

– لأن الإلهة كالي قد افتكرت بك.

– بي أنا؟!

– نعم، فإن لك ابنتين: إحداهما تدعى مس أنا، والثانية مس ألن.

– وهذه الإلهة قد ضحت مس ألن؟

فقال علي رمجاه: كلا يا سيدي، بل إنها ضحت أختها.

فانقلبت سحنة الشيخ واتقدت عيناه الغائرتان بأشعة الغضب، فانتهز الهندي وقال له: اخرج من هنا أيها الشقي.

فلم يتحرك علي من موضعه وقال له ببرود: إني أتيت لأبلغك أن مس أنا لا يحق لها الزواج؛ لأنها ضحية الإلهة كالي، وأن ثروتك يجب أن تعطى لابنتك مس ألن.

فنهض الشيخ من مكانه مغضبًا وقال: خسئت أيها السافل؛ فإن ذلك لا يكون، ثم جعل يدق جرسًا أمامه وينادي بب بصوتٍ مضطرب.

ففتح الباب وبدلًا من أن يدخل بب دخل فرانز.

وكان في يد فرانز حبل من تلك الحبال التي يستعملها الخناقون، فأشار له علي عند دخوله إشارةً سرية، فأطلق الحبل من يده على الشيخ فالتف على عنقه ثم شد فسقط على الأرض وهو يكاد لا يعي من الذعر.

أما علي فإنه أسرع إلى المغسلة فوضع قليلًا من الماء في كأس وأخرج من جيبه زجاجة فصب بعض نقطٍ منها في الكأس فوق الماء، وجاء إلى الشيخ فركع فوق صدره وفتح له فمه، ثم صب فيه الماء الممزوج بنقط الزجاجة، فما وصل المزيج إلى جوفه حتى صاح صيحةً منكرة وسقط صريعًا لا يعي.

فنهض علي عنه، وأمر فرانز أن يجلسه على كرسيه فأجلسه عليه، فكانت هيئته تدل على أنه مات بالسكتة الدماغية.

وعند ذلك أخذ علي مفتاحًا كان معلقًا بسلسلة في عنق الشيخ، وفتح به صندوقًا من الحديد كان الشيخ يضع فوقه فيه أوراقه الخطيرة، ففتش بين الأوراق حتى عثر بظرفٍ مختوم بختم الكومندور.

وكان هذا الظرف يتضمن وصية الشيخ التي حرم بها مس ألن من الميراث ووهب جميع ثروته لبنته الكبرى، ففتحه علي وقرأ الوصية ثم أدناها من نور الشمعة فأحرقها وهو يضحك ويقول: أما وقد أحرقت الوصية؛ فإن الإرث يقسم بين الأختين وسيكون لنا مع الأخت الكبرى شأن.

وفي الليلة نفسها أرسلت مس ألن إلى أختها مس أنا هذا التلغراف الآتي:

أكاد أجن من الحزن … إن والدنا توفي على كرسيه. احضري حالًا لتشييع الجنازة.

أختك ألن

فقال روكامبول: لقد بدأت أن أفهم، ثم أتم تلاوة دفتر بب وقرأ ما يأتي: في صباح اليوم التالي أقبلت مس أنا مع خطيبها، فوجدت أختها مس ألن منهوكة القوى من الحزن وعيناها جاحظتان من كثرة البكاء، فكانت ساعةً مؤثرة وقد تظاهرت مس ألن بالحزن الشديد حتى وهم الناس أنها كانت أشد حزنًا من أختها.

وقد حكم جميع الأطباء أن الشيخ مات بالسكتة، وطلبت مس أنا تشريح جثة أبيها وتحنيطها، فاعترضتها مس ألن أنها سمعت أباها يقول مرات كثيرة: إنه يحب أن تبقى جثته على حالها بعد موته. فأذعنت أختها لها، وأخذوا يهتمون بدفنه وإعداد مشهد حافل.

وقد قرروا أن يكون الدفنُ في اليوم التالي، فلفوا الجثة بالأكفان ووضعوها في تابوتٍ عظيم ووضعوا فوقه وسامات الكومندور، ونقلوه إلى أقرب كنيسة فوضعوه فيها إلى الصباح؛ حيث يحتفلون بتشييع الجنازة.

وقد عينوا كاهنًا لحراسة الجثة والصلاة عليها في الليل، فأقام الكاهن يحرسها وفي يده كتاب صلاته، ثم شعر فجأةً أن الكتاب سقط من يده فتراخت عيناه وأطبقتا فنام نومًا عميقًا.

وعند ذلك دخل إلى هذه الكنيسة رجلان وهما فرانز وبب يحملان مثالًا من الشمع يمثل هيئة الكومندور أتم تمثيل، وألبساه نفس ملابسه الحمراء فوضعاه قرب التابوت، ثم فتحوا التابوت ونزعوا الأكفان وأخرجوا الجثة، فكفَّنا مثال الشمع بأكفانها ووضعاه في التابوت وأقفلاه كما كان.

ولما فرغا حملا الجثة فقال فرانز، يجب أن نسرع؛ فإن قلبه بدأ ينبض ونخشى أن يستفيق.

فقال بب: لنسرع إذن؛ إذ لا يجب أن يستفيق إلا في المكان المعد له، ثم حملاه وذهبا به إلى القصر في جنح الظلام.

وفي الصباح دفنوا مثال الشمع وهم يحسبون أنهم دفنوا الشيخ.

وكان علي رمجاه قد اكتشف بإرشاد مس ألن قبوًا في ذلك القصر ينزل إليه بسلمٍ يبلغ طولها ٣٠ درجة تحت الأرض، فلما فتح الشيخ المسكين عينيه وجد نفسه في حالةٍ تقشعر لها الأبدان؛ فإنه كان مقيد اليدين والرجلين بسلاسلَ من الحديد وفي وسطه سلسلة غليظة مشدودة إلى وتدٍ في الجدار.

فحسب نفسه حالمًا لأول وهلة، إلى أن سمع صوت قيوده فلم يشكك أنه في يقظة، وجعل يصيح صياح القانطين فلا يجيبه غير الصدى.

وبعد ذلك ببضع ساعات فُتح باب القبو ودخل فرانز يحمل إبريقًا للماء وقطعةً من الخبز، فقدمهما له وقال بلهجة المتهكم: هذا ما أرسلته إليك ابنتك المحبوبة مس ألن.

ولبث هذا الشيخ المنكود ستة أعوامٍ في هذا القبو إلى أن أشفق عليه فرانز فخنقه.

•••

أما ما جرى للأختين بعد دفن المثال؛ فهو أن مس أنا كانت تعلم أن أباها جعلها وريثته الوحيدة في وصيته، فبحثت بحثًا طويلًا عن الوصية فلم تجدها، فاقتسمت الأختان تلك الثروة الواسعة.

وبعد ستة أشهر؛ أي بعد انقضاء أيام الحداد، تزوجت مس أنا خطيبها، فلما صحت في اليوم التالي لعرسها وجدت صدرها موشومًا بنقوشٍ غريبة وعرفت أنها نقوش لخناقين فارتعشت؛ لأنها لم تعلم كيف تمكنوا من وشمها وهي نائمة.

وفي المساء وُجِدَ زوجها مخنوقًا على قارعة الطريق؛ فإن الخناقين قتلوه؛ كي لا تلد امرأته البنين، فترملت في اليوم الثاني لزواجها، ولكنها أحست بعد بضعة أشهر أن جنينًا يتحرك في أحشائها فولدت فتاةً خشيت عليها من الخناقين فعهدت بتربيتها إلى رجلٍ من النور يدعى فيروا، واحتجبت عنها كل الاحتجاب.

غير أنها رأتها مرةً ترقص في حفلةٍ عمومية فهاجت بها عواطف الأمومة وأغشي عليها، وبعد ذلك ببضعة أيامٍ خنقها الخناقون وهي تعانق ابنتها في منزلها، فعادت ثروتها كلها إلى أختها مس ألن زوجة علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند.

إلى هنا انتهى دفتر بب وقد بقيت فيه مسائل غامضة، مثل السبب الذي دعا ميلادي؛ أي مس ألن، أن تعيش بعيدةً عن ولدها، غير أن روكامبول رجا أن يجلي هذه الغوامض بدهائه المعروف.

وقد أتم روكامبول تلاوة الدفتر الساعة الرابعة بعد الظهر، وكانت أشعة الشمس تنفذ إلى غرفته فقال في نفسه: إن الطقس جميل وفي مثل هذا الطقس تخرج ماري خطيبة لوسيان للنزهة، ولا بد لميلادي أن تراها لتعرفها، فنادى خادمه الجديد جاك وخرج وإياه.

١٥

أما خطيبة لوسيان فإنها بعد أن صحت من رقادها صعد إليها البواب وأعطاها ذلك الصندوق الذي أحضره لها الماجور هوف، فسألته عن الذي أرسله فقال لها: لا أعلم. فحسبت أنه هدية من لوسيان وأطلقت سراح البواب.

وكان هذا الصندوق من خشب الصندل ومفتاحه معلقًا به، وذهبت به إلى غرفتها ففتحته بيدٍ تضطرب، ووجدت به قطعًا من الدانتيلا الثمينة مصفرة مما يدل على تقادم عهدها، وأنها أثر عائلي قديم، ووجدت في الصندوق أيضًا كتابًا معنونًا باسمها ففتحته وأسرعت بنظرها إلى التوقيع فاضطربت اضطرابًا شديدًا؛ لأنها لم تجد توقيع لوسيان، فنادت أباها وقرأت وإياه هذه الرسالة، وهي كما يأتي:

ابنتي المحبوبة …

اسمحي لي أن أدعوك بهذا الاسم، فإنك الملاك الذي أرسله الله لحراسة ولدي الحبيب. إني في باريس من عدة ساعاتٍ فقط، ومنذ ثلاثة أيام لم أكن أطمع بالحضور إليها، وقد أرسلت إلى ولدي مع رجلٍ أئتمنه عقدًا من الماس هديةً لك، ولا أعلم إذا كان لوسيان قدمه لك أو أنه أبقاه إلى يوم العرس.

أما أنا فإني أرسلت إليك هذه الدانتيلا القديمة التي تجدينها في الصندوق؛ لأنها كانت على الثوب الذي لبسته يوم عرسي، وأنا لا أعلم إلى الآن وا أسفاه إذا كان يؤذن لي أن أضم ولدي إلى صدري، ولكني طامعة بهذا الرجاء، وفي كل حال فإني أحب أن أرى تلك التي اختارها ولدي عروسةً له، وعلمت بعد الاستقصاء أنك تخرجين للنزهة في التويلري مع أبيك، فأرجو أن تذهبي اليوم حسب العادة؛ لأن والدة لوسيان تعرفك حين تمرين بها من دقات قلبها.

وكانت الرسالة موقعًا عليها باسم ألن، ففرحت ماري فرحًا لا يوصف وقالت: ما عسى أن يكون من لوسيان بعد أن يعرف أمه فإني أخشى أن يقتله الفرح.

وأقامت مع أبيها وهي تناجي نفسها بأعذب الأمالي، إلى أن دنت ساعة الأصيل، وزهت سلطانة الكواكب في سمائها، فلبست ثيابًا بسيطة تزيدها جمالًا وسارت مع أبيها إلى النزهة في التويلري وقلبها يخفق خفوق الطائر؛ لرجائها أن ترى لوسيان، فما رأت أحدًا عند وصولها، وجلست على مقعدٍ من مقاعد الحديقة تراقب المتنزهين وتتوقع أن ترى من تحب من حينٍ إلى حين.

وبعد أن استراح أبوها هنيهةً، نهض وإياها وجعلا يتنزهان بين أشجار الحديقة، وعند ذلك وقفت مركبة بالقرب من الحديقة وخرج منها رجل وغلام وهما روكامبول وخادمه جاك، الذي كان في خدمة ميلادي، ودخلا إلى الحديقة وكانا متنكرين تنكرًا عظيمًا، ولا سيما جاك؛ حذرًا من أن تعرفه ميلادي، ووقفا في ظل شجرة وجعلا يراقبان القادمين إلى الحديقة.

وكان والد ماري قد تعب من المشي فجلس على مقعدٍ مع ابنته، وبعد هنيهة أقبلت مركبة وخرجت منها امرأة تناهز الأربعين، وهي بارعة في الجمال ولابسة ملابس تدل على بساطتها أنها من النبيلات، فمشت تلك المرأة في الحديقة دون أن تراها ماري، وجلست على مقعدٍ في ظل شجرة بحيث كانت ترى كما تشاء دون أن تراها الفتاة.

وعند ذلك قال جاك لروكامبول: هذه هي ميلادي يا سيدي.

وتفرس فيها روكامبول حتى انطبعت صورتها في ذهنه وخرج مع جاك من الحديقة إلى المركبة التي كانت تنتظره خارجًا، ودخل إليها معه وأرخى ستائر نوافذها، ثم عمد إلى صندوقٍ كان أبقاه فيها ففتحه وأخرج منه ملابسَ جديدةً وتَزَيَّا بها، وخلع تنكره القديم، وعاد إلى شكل الماجور أفاتار.

وعند ذلك خرج من المركبة وقال لجاك: اذهب الآن وحدك إلى المنزل وانتظرني به.

وعاد روكامبول إلى الحديقة وهو بملابس الماجور أفاتار وذهب توًّا إلى الفتاة وأبيها وقال لها بعد أن حياها ألستِ الآنسة ماري برتود؟

فاضطربت ماري وقالت: نعم يا سيدي!

– إني صديق للوسيان.

وزاد اضطراب ماري وقالت: ألعله قادم؟!

– كلا يا سيدتي، لذلك أرسلني.

فذعرت ماري وقالت: رباه كيف أرسلك؟! ولماذا لم يحضر؟!

– لا تضطربي يا سيدتي؛ إذ ليس ما يدعو إلى الاضطراب، والحكاية أنه اختصم مع أحد أعضاء النادي فتبارزا وأصيب بخدشٍ خفيف بعد قتل خصمه.

وصاحت ماري تقول: ويلاه، أهو جريح؟ قل لي بربك: أأصيب بمكروه؟ قل ولا تُخْفِ عني شيئًا بالله؟

– لا تجزعي يا سيدتي، فإنه جريح وجرحه بسيط.

وصاحت ماري صيحةً ثانية، ثم سمع روكامبول صيحةً أخرى شديدة، والتفت فرأى أن هذه الصيحة خرجت من صدر ميلادي المختبئة في ظل الشجرة، وأنها أغمي عليها من الحنو والخوف.

١٦

ولنعد الآن إلى فاندا؛ فقد علم القراء أن السير جمس نيفلي الذي استلم رئاسة جمعية الخناقين من السير جورج ستوي فتن بها حين رآها وأنها كانت توهمه أن روكامبول خدعها وخانها، وأنها لا تحيا إلا بالانتقام، وأن السير نيفلي كان مندفعًا إلى الحضور معها إلى باريس بعاملين؛ وهما: عامل حبها، والتفتيش عن جيبسي التي اختطفها روكامبول من معبد الهنود في لندرا وهي فوق المحرقة.

ولقد علم القراء أيضًا كيف أنهما باتا ليلةً في قصر روشربين ولم يعلم بسر الخيال ولم يخطر له في بال أنه يقيم في قصر امرأة تخدمها جمعية الخناقين بملء الغيرة والإخلاص.

ولما وصل مع فاندا إلى باريس أقام وإياها في فندق اللوفر وهو أجمل فنادقها، غير أنه كان واسع الثروة، فكره أن تقيم حبيبته في الفندق، واشترى لها في اليوم التالي منزلًا جميلًا بما فيه من الرياش وأقام معها، وركع أمامها وقال لها: هو ذا قصرك أيتها الحبيبة فاحكمي فيه وبي كما تشائي.

فابتسمت له فاندا ألطفَ ابتسامٍ وقالت له: إذن أنت تحبني؟

– إن سعادتي أن أكون لك عبدًا ما حييت.

– وأنا أوافقك في هواك، لكن على شروطٍ أحب أن تسمعها.

– وأنا لا أشترط إلا أن أمتثل لشروطك، فمُرِي بما تشائين.

– لقد قلت لك: إن لي شروطًا والحق أني لا أشترط غير شرطٍ واحد، وهو أن تنتقم لي، فإذا انتقمت كما أريد أحببتك حب الهائمين، وصرت أنا العبدة وأنت السيد المطاع.

وكانت فاندا في باريس منذ ثلاثة أيام ولكنها لم تستطع أن تخرج من المنزل إلا مرةً واحدة، فلما انتقلت مع السير نيفلي إلى المنزل الجديد لم يكن يفارقها لحظة فقالت له فاندا في اليوم الثالث: إنك وعدتني أن تنتقم لي وأنت تعلم بأني لا أحبك إلا على هذا الشرط، فما بالك تناسيت هذا العهد؟ وإذا كنت تنفق ساعاتك بقربي فكيف تستطيع أن تعثر بهذا الشقي الذي اختطف جيبسي؟

فابتسم السير نيفلي وقال لها: إن لدي قومًا يشتغلون بأمري ويضحون أنفسهم لكلمةٍ تخرج من فمي فهم ينفذون إرادتي، وهم الذين يبحثون الآن عن هذا الرجل وينتقمون لك منه كما تريدين.

– ومتى يعثرون به؟ ومتى يكون هذا الانتقام؟

– بعد يومين أو ثلاثة أيام، وأنا أنتظر نتائج مساعيهم في هذا المنزل.

وتنهدت جزعًا وقالت: كيف أطيق الصبر ثلاثة أيام؟

وفيما هم على ذلك دخل الخادم يحمل رسالة إلى السير نيفلي، فارتعش حين رأى طوابع البريد الغريبة عليها، ثم فضها وقرأ ما فيها ووضعها في محفظة جيبه دون أن يُطلع عليها فاندا.

وعاد إلى فاندا فحادثها بضع دقائق ثم قال لها: إني مضطر أن أذهب إلى إدارة بنك دافيد همبري.

أما فاندا فإنها كانت تنظر خلسةً إلى الرسالة حين كان يقرأها، ولم تعلم من أمرها إلا أنها مكتوبة بلغة هندية، وكانت الرسالة واردة إليه من كلكوتا وهي كما يأتي:

علي رمجاه يأذن للمس ألن أن تعرف ولدها، وعلى السير جمس نيفلي نائبي في أوروبا أن يبلغها هذا الأمر.

ولم يكد السير نيفلي يخرج من المنزل حتى أسرعت فاندا وركبت مركبة وانطلقت بها إلى المنزل الذي يقيم فيه روكامبول، ولكنها لم تجده فيه كما تقدم، وكتبت إليه تلك الرسالة التي أخبرته فيها بما علمته ووعدته أن تعود إليه في منتصف الليل وسلمت الرسالة إلى ميلون.

أما السير نيفلي فإنه لم يكن يكاتب مس ألن؛ أي ميلادي، إلا بواسطة بنك همبري، فذهب إلى البنك وكتب إليها ما يأتي:

إن وكيل علي رمجاه يريد أن يرى الماجور هوف، فليرسل الجواب إلى السير جمس نيفلي في شارع جبرائيل في الشانزليزيه وليعين مكان الاجتماع.

وبعد ربع ساعة ورد إليه الجواب الآتي:

إن الماجور هوف ينتظر السير نيفلي بين الساعة ١١ ومنتصف الليل في نادي إسبرج.

وقد وصل هذا الكتاب إلى منزل السير نيفلي قبل عودته من البنك بمدة عشر دقائق، وكانت فاندا في المنزل فأخذ الخادم الكتاب من عامل البريد فدفعه إليها وانصرف.

فأسرعت فاندا إلى شفرة رقيقة فحمتها وأدخلتها برفق بين طيات الظرف؛ فانسال الغراء وانفتح الظرف دون أن يتمزق ورقه، فاطلعت على الرسالة وأرجعتها إلى الظرف وأقفلته.

ثم أتى السير جمس ففتح الرسالة وتلاها دون أن يهتدي إلى ما فعلته فاندا، فلما أذنت الساعة الحادية عشرة خرج من المنزل وأخبر فاندا أنه سيعود متأخرًا.

ولم يكد يبرح المنزل حتى أسرعت فاندا إلى روكامبول؛ حيث كان ينتظرها، وأخبرته بمضمون الرسالة فقال لها: حسنًا فعلتِ، وقد بلغنا المراد فيما أظن، ولم يبق علينا إلا أن نضع الخطة التي يجب أن ننتهجها، فاجلسي بجانبي واصغي لما أقول.

١٧

بينما كان روكامبول يشرح خطته لفاندا كان يجري في الشارع الأميريكي أمور خطيرة لها علاقة عظيمة بمشروع روكامبول.

وكان يوجد في هذا الشارع قهاوي؛ وهي: قهوة النعيم، وقهوة الأبرياء، وقهوة الألدورادو.

أما قهوة النعيم فكان يتردد إليها المتشردون الذين لم يمهروا بعدُ في مهنة اللصوصية ولم يحصلوا على شهاداتها. وأما قهوة الأبرياء فلم يكن يدخل إليها غير الذين سجنوا ست مراتٍ على الأقل لجرائمَ مختلفةٍ. وأما قهوة الألدورادو فكان يجتمع فيها كبار اللصوص، ويحق حضور مجتمعاتهم وحفلاتهم لصغارهم، فكانت تغص كل ليلة، بعد منتصف الليل، بلصوص هذا الشارع.

وكان في هذا الشارع كثير من الأفران والآبار التي نزحت مياهها، فكان هؤلاء اللصوص ينامون في الشتاء فوق الأفران الدافئة، وينامون في الصيف في تلك الآبار الرطبة؛ ولذلك كثر وجود اللصوص في هذا الشارع.

ففي تلك الليلة التي كان روكامبول مجتمعًا فيها بفاندا، كان بعض أولئك اللصوص في قهوة الألدورادو وبينهم فتاة تبحث في مباحث الغرام، فاعترضتها رصيفة لها قائلة: أتعتقدين أنت بالغرام يا زبلي؟

– كيف لا أعتقد به؟ ولو كنت تعرفين غرامي بغوستاف وشغفه بي لما اعترضت علي هذا الاعتراض، لكنه سجين لا يستطيع الوصول إلينا كي يثبت لك صدق الغرام، أما أنا فإن إيمان قلبي بالحب لا يتزعزع، وفوق ذلك إني أعرف من يُحِبُّ الحُبَّ نَفْسَهُ.

– كيف ذلك؟ ومن هو هذا الأبله؟ وأين يجدونه؟

– يجدونه في المنزل الذي كنت فيه وطردوني منه لعجزي عن دفع أجرة الشهر، وما هو أبله، بل هو متوقد الذهن تدل مخائله على النجابة والذكاء، وحكايته أنه يهوى فتاةً ما رأت عيناي أجمل منها لكنها مجنونة، لا تطيق أن ترى سواه وتضحك وتبكي في حينٍ واحد.

– ألعله يحبها لجنونها؟

فقالت زبلي: لا أعلم، لا أعلم، ولكنه فتى جميل في الثامنة عشرة من عمره، ووالله ما حنت أمٌّ على ولدها حنو هذا الفتى على تلك الفتاة؛ فإنه ينام عند قدميها ويبيت طول ليله ساهرًا عليها، وقد اشتدت أعراض جنونها في إحدى الليالي فرأيته يبكي بكاءً يقطع القلوب.

فقالت السارقة: ويح لنفسي! إني لو عثرت بمثل هذا العاشق لحبسته وأوثقته؛ خوفًا من أن يسرقوه! وماذا يدعى هذا العاشق المفتون؟

– إنه يدعى باسمٍ غريب، لم أسمعه غير مرة من غوستاف، وهو مرميس!

فلم تكد تلفظ هذا الاسم حتى برز رجل من بين الجمهور وقال: افسحوا لي كي أرى هذه الفتاة.

فتباعد الحضور احترامًا له وهم يقولون: هو ذا باتير!

كل من طالع الأجزاء السابقة يعرف أن باتير هو زعيم تلك العصابة التي انتزعها منه روكامبول وخلف في قلبه الحقد الدفين، فكان باتير هذا لا يزال محترمًا في تلك القهاوي، غير أن الفتاة زبلي كانت حديثة العهد في المهنة فلم تحفل به احتفال أولئك اللصوص، ودنا باتير من زبلي قائلًا لها: إنك تعرفين إذن مرميس؟

– نعم!

فاتقدت عيناه ببارقٍ نفذت منه أشعة الحقد، وأضاف: إني لم أرَ هذا الغلام منذ عهدٍ طويل، فهل تقولين أين يقيم؟

– كلا، إني أرى من عينيك أنك تريد به شرًّا؛ فلا أرشدك إلى مكانه.

فقال بلهجة المتوعد: بل ترشدينني إليه.

– كلا؛ لأني خائفة عليه منك.

عند ذلك دنا منها صاحب القهوة وقال لها همسًا: لقد أخطأت أيتها الفتاة لا يجب معاداة رجل مثل باتير.

غير أن الفتاة كانت باسلة فلم تَخَفْ هذا الوعيدَ وقالت: كلا، إني لا أرشدك إلى مكانه.

فضم باتير يديه وهجم عليها يريد أن يضربها، فتداخل صاحب القهوة بينهما قائلًا لباتير: لا حاجة لضربها؛ لأن الرجل لا يضرب المرأة إذا كان قادرًا على نيل مأربه بواسطةٍ أخرى.

فاصفر وجه باتير وأجابه: إني أضرب من أريد.

ثم تقدم منها فاعترضه صاحب القهوة أيضًا وقال: اصغِ إليَّ وتَأَنَّ. إن هذه الفتاة قد دلت على مكان مرميس دون أن تريد.

– كيف ذلك؟!

– ألم تقل: إن الفتى الذي يدعى مرميس يقيم في المنزل الذي كانت هي مقيمة فيه وطردت منه؛ لأنها لم تدفع الأجرة؟

فقالت زبلي: ولكن لا يوجد بينكم من يعرف أين كنت أقيم؟

فبرزت لها عند ذلك إحدى الفتيات وقالت: إنك منخدعة، أنا أعرف منزلك القديم؛ لأنك كنت تقيمين في منزل خمَّار، في شارع فيرلابو، وهذا المنزل في وسط الشارع من الجهة اليسرى، وبالقرب منه دكان بائع تبغ.

فأنكرت زبلي كل الإنكار، غير أن باتير علم من اضطراب صوتها أنها غير صادقة في إنكارها، فقال: لقد علمت الآن ما أريد أن أعلمه.

ثم ترك الألدورادو وذهب إلى سطح فرن فاضطجع قرب رفيق، فسأله رفيقه: ماذا صنعت بالألدورادو؟

– علمت عنوان مرميس.

فاستغرب الرجل هذا الاسم وقال: من هو مرميس هذا؟!

– لقد أصبت، إنك لم تعرفني إلا بعد اعتزال الرئاسة!

– نعم، إني لم أعرفك، غير أني أرى من تحية الرفاق لك أنك كنتَ من قبل شيئًا مذكورًا.

وتنهد باتير وقال: وا أسفاه! لقد انقضت تلك الأيام، وأنا أحاول منذ ستة أشهر أن أؤلف عصابة ولا أظفر بمراد، فكان بعض أولئك اللصوص يعتذر بقوله: إن مهنة اللصوص بائرة في هذه الأيام، وبعضهم يجيب: أية ثقةٍ تريد أن تكون لنا برجلٍ غلبه روكامبول وانتزع منه عصابته؟

فقال له اللص: وأي عجبٍ لهذا؟! إن روكامبول قد غلب كثيرين سواك.

فثارت كوامن الحقد في صدر باتير وأجاب: إنه سلبني رجالي ونفوذي، حتى صاحبة الخمارة التي كنا نأوي إليها؛ لأني أردت أن أستدين منها ريالًا واحدًا فأبت، ولو لم يتيسر لي سرقات صغيرة من حينٍ إلى حين لمت من الجوع.

– هو ذاك، ولكنك لم تذكر لي شيئًا عن مرميس.

– إنه غلامٌ ربيته وعلمته أساليب المهنة، فكان أذكى لصٍّ بين العصابة، فسلبني إياه روكامبول.

– ألعلك تريد أن تدخل في العصابة، أو أنت تبحث عنه لتراه؟

فامتعض وجه باتير وارتسمت على محياه علائم الحقد الوحشي وقال: أنا أخضع لهذا الرجل؟ ولكني أريد أن أراه لأنتقم.

– اصغ إلي أيها الصديق؛ إني ما عرفت روكامبول ولكني سمعت من أخباره ما يدعوني إلى نصحك بعدم التعرض له.

– قد أصبت، إنه قد يغلبني إذا كنت وحدي ولكني أجد أصحابًا يعينوني عليه، وسوف ترى.

ولم يزد باتير على ما قاله شيئًا، لكنه عاد إلى الاضطجاع وجعل يراقب الداخلين والخارجين من الألدورادو، حتى بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

وانطفئت أنوار القهوة، وتفرق من كان فيها، فقام باتير وجعل يتأهب للذهاب، فسأله رفيقه: إلى أين؟

– إلى حيث أقضي القضاء المبرم على روكامبول.

فقال له: إني أعيد عليك النصح، فارجع عن التصدي لهذا الرجل؛ إذ لستَ كُفؤًا له.

– إن الأيام بيننا، ومَنْ يَعِشْ يَرَ.

ثم تركه ومضى.

١٨

سار باتير إلى باريس، فجعل يجتاز شوارعها المقفرة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فلا يرى غير بعض المارة من حينٍ إلى حين ولا ينتبه إليهم؛ لانشغاله بروكامبول، وهو لو رأى أحدهم منفردًا في مثل ذلك الوقت وفي غير هذه الأحوال لانقض عليه وسلبه ما معه، غير أن انشغاله بالانتقام صرفه عن كل أمرٍ سواه.

وما زال سائرًا حتى بلغ إلى شارع بلوفند، في الشارع الذي حبس فيه تيميلون أنطوانيت وفاندا. وهناك وقف باتير عند أحد أبواب المنازل ووضع إصبعيه في فمه وصفر صفيرًا خاصًّا، فلم يفتح الباب لكن النافذة المطلة على الشارع فُتح بعضها، وأعاد باتير الصفير ففتحت النافذة كلها، وسُمع صوتٌ يقول: ها أنا قادمٌ إليك؟

وبعد حينٍ فُتح الباب وخرج منه رجل، وكان هذا الرجل تيميلون عدو روكامبول الألد الذي طالما ورد ذكره في الأجزاء السابقة.

وكان ظهره قد انحنى وبدت عليه دلائل الكبر وتغير وجهه، حتى لو رآه روكامبول نفسه لما استطاع أن يعرفه.

وقد عاد هذا الداهية إلى باريس غير حافلٍ بروكامبول؛ لأنه لم يعد إلى تلك العاصمة إلا للانتقام منه؛ لأن هذا الرجل لم يكن يحب في الوجود غير ابنته، ولا يطمع إلا بالمال، وقد ماتت ابنته وضاع ماله، ولم يعد يتشوق إلا للانتقام من روكامبول.

وكان قد لقي يوم عودته باتير، وهو يعرفه كما يعرف جميع اللصوص، وسأله عن أحواله فقص عليه باتير جميع ما حدث له مع روكامبول، ولمَّا أتم حديثه سأله: إذن أنت تكره روكامبول؟

– كرهي له لا يوصف.

– وأنا أكرهه بعضَ الكُرْهِ؛ إذ بيني وبينه حسابٌ قديم يجب تسديده، فقل لي: أين تبيت في الليل؛ كي أجدك حين الحاجة إليك؟

– على سطح الفرن في الشارع الأميريكي.

– حسنًا، لا بد لنا أن نلتقي. ثم افترقا.

وبعد يومين علم تيميلون أن روكامبول في لندرا، فسافر إليها ثم عاد منها بعد ثمانية أيامٍ، فلقي باتير وقال له: إن روكامبول عاد من لندرا إلى باريس، فابحث عنه في الليل والنهار، وفي أية ساعة تقف فيه على أثره أسرع إلى إخباري في شارع بلفوند.

ولذلك أسرع باتير إلى موافاته في تلك الليلة حين علم مقر مرميس، ولما سمع تيميلون صفيره فرح فرحًا وحشيًّا؛ لوثوقه من أن باتير قد اهتدى إلى روكامبول، ولما برز له من الباب سأله: أوجدته؟ وأين هو؟

– إني لم أجده، ولكني علمت أين يوجد مرميس.

ثم قص عليه كلمة كلمة، جميع ما حدث له في الألدورادو.

وسُر تيميلون من تقريره وقال له: إذن إن مرميس يقيم مع امرأة؟

– كلا، بل مع فتاةٍ حسناء.

– إنها مجنونة ولا تتكلم غير الإنكليزية.

– لا أعلم بالحقيقة من أمرها بعد؛ غير أن زبلي تكلمت عنها هذا الكلام.

فاتقدت عينا تيميلون ببارقٍ من السرور، ووضع يده على كتف باتير قائلًا: أظن أنك اكتشفت اكتشافًا عظيمًا.

– أحقٌّ ما تقوله؟

– لم أعلم الحقيقة بعد، ولكني أظن أنه يوجد في باريس أو في لندرا من يدفع كثيرًا من النقود؛ للاستيلاء على هذه الفتاة التي تقيم مع مرميس، وهلم بنا.

– إلى أين؟

– إلى شارع فيرابو، ألم تقل أنها تقيم هناك؟

– ليكن ما تريد، غير أنه يجب الحذر الشديد من مرميس؛ لأنه يعرفني ويعلم أني لا أحب رئيسه روكامبول.

– ولكنه لا يعرفني أنا، فقف أنت بعيدًا وأرشدني إلى المنزل، فهذا كل ما أريد.

– إذن هلم بنا.

وسار الاثنان إلى ذلك الشارع، وقد نفض تيميلون عنه غبار الشيخوخة وقَوَّمَ حُبَّ الانتقامِ عِوَجَ ظَهْرِهِ، فسار وهو يقول: أي روكامبول! إن ابنتي قد ماتت، ولم أعد أخشاك، وأنا أضحي حياتي مقدمًا في سبيل الانتقام منك!

١٩

ولنبسط للقراء الآن السبب الذي حمل روكامبول على إقامة مرميس وجيبسي في شارع فيرابو؛ فإنه حين عاد من لندرا إلى باريس قال في نفسه: إني أحضرت اثنين يجب أن أبالغ في إخفائهما؛ وهما: السير جورج ستوي الذي أستعين به على السير جمس وطائفة الخناقين، وجيبسي التي يجب أن أحجبها عن السير جمس.

أما السير جورج؛ لا أجد له محلًّا أفضلَ من شارع سانت جرمان؛ لأن الإنكليز لا ينتابون هذا الشارع، وإذا كانت فاندا قد أحسنت تمثيل دورها لا بد أن تكون مثلتني لدى السير جمس بأني من أولئك الخناقين الذين يلبسون أحسن الثياب وينتحلون أفضل الألقاب وينتابون أجمل الشوارع وأشهر النوادي، وإذا كنت قد اختطفت جيبسي واتخذتها خليلةً لي كما يعتقد، لا بد لي من أن أتخذ لها منزلًا جميلًا في الشانزليزيه، أو في شارع ملهرب. إذن يجب أن أقيمها في شارع لا يطرقه إلا العوام؛ إذ لا يخطر في باله أني أقيمها في مثله.

ولذلك أرسل نويل كي يبحث له عن منزلٍ حقير في شارع يسكنه الفقراء، واستأجر غرفتين في منزل خمَّار أقام فيها مرميس وجيبسي.

وكان قد أصدر أمره إلى مرميس أن لا يفارق جيبسي لحظة، ولكن مرميس لم يكن في حاجةٍ إلى تلقي مثل هذا الأمر؛ لأنه كان مشغوفًا بحب الفتاة، وقد استأجر اثنان من العصابة؛ وهما: مورت وشانوان غرفة تحت غرفة جيبسي، وكانا يلعبان بالورق في حانوت الخمار ويراقبان.

أما جيبسي فقد كانت مجنونة، وجنونها لم يقلق روكامبول؛ لاعتقاده أنه متى عرف الداء وجد الدواء، وكان واثقًا أن جنون جيبسي لم يكن ناتجًا، كما يتبادر إلى الأذهان، عما لقيت من الرعب يوم وضعها الخناقون على المحرقة في معبدهم وأضرموا النار في الحطب، بل إن جنونها كان لفرط شغفها بآرثر نويل، ولما لقيته بعد ذلك الحبِّ من جفائه واحتقاره، وكان خبيرًا بعواطف القلوب فقال في نفسه: إن هذا الحب القديم لا يدفعه غير حبٍّ جديد، ولذلك سر سرورًا عظيمًا حين باغت مرميس مع جيبسي ورأى تلك النظرات التي تشف عن الغرام الأكيد.

ولم تكن جيبسي تخرج من غرفتها ولا تقبل الطعام إلا من مرميس، وكان مرميس يعتني بها منذ ثمانية أيام اعتناءَ الأم بولدها ولا يكلمها إلا بالإشارة؛ لأنه كان يجهل اللغة الإنكليزية، فأحضر له روكامبول كتبًا بهذه اللغة وقال له: إن جيبسي لا بد لها أن يعود إليها الصواب، فادرس لغتها؛ فقد يروق لك أن تحادثها بعد شفائها.

فجعل مرميس يدرس هذه اللغة بملء الاجتهاد، وهو يرجو أن يعرف أن يقول لها يومًا: أحبك.

وكان ميلون ونويل يزورانها أيضًا، فكانت لا تنظر إلى نويل وتبتسم لميلون؛ لأنها لم تكن تعرف غير ميلون ومرميس!

وفي اليوم التالي الذي اجتمع فيه تيميلون بباتير وأرشده إلى المكان الذي يقيم فيه مرميس مع جيبسي، كان رجل مارًّا في شارع فيرابو عليه ملامح المسكنة وهو يرتدي ثيابًا بدت عليها آثار القدم، فكان ينتقل من بيتٍ إلى بيت يحاول استئجار غرفة وفي يده قطعة من الخشب الأسود مكتوبٌ عليها بحروفٍ بيضاء هذه الكلمات: مكتب معد للتخديم.

وما زال يتنقل وهو لا تعجبه غرفة حتى انتهى إلى منزل الخمار الذي تقيم فيه جيبسي، فنادى البواب فبرز له الخمار نفسه وقال له: لا بواب عندي؛ فماذا تريد؟

– أريد غرفةً أجعلها مكتبًا لي.

– أتدفع مقدمًا؟

– نعم.

فدخل به إلى الخمارة ودخلا من بابٍ فيها إلى ساحة، وصعدا سلمًا مظلمة حتى انتهيا إلى الدور الأول، وهناك صف من الغرف فأخذ الخمار مفتاحًا، وبينما هو يفتح إحدى الغرف نظر الرجل من ثقب قفل الغرفة المجاورة ورأى مرميس جالسًا يقرأ أمام سرير جيبسي فعرفه للحال؛ لأن هذا الرجل المتنكر بشكل شيخ الخدامين لم يكن إلا تيميلون.

وبعد أن فتح الخمار بابها دخل تيميلون في أثره وتفحصها تفحصًا دقيقًا، واعترض اعتراضاتٍ شتى حتى انتهى الأمر بقبوله ونقده أجرة شهر مقدمًا قائلًا: سأحضر غدًا أثاثي.

ثم خرج وإياه وعلق إعلانه على باب المنزل وانصرف.

وبعد ساعة عاد إلى الخمار وقال له: أعطني مفتاح الغرفة؛ لأني أحب أن أقيس نوافذها؛ كي أعرف قياس الستائر.

فأعطاه المفتاح، وصعد تيميلون وحده ودخل إلى الغرفة المجاورة لغرفة مرميس، وجعل يتأملها فوجد أن الغرفتين لا يفصل بينهما غير جدارٍ رقيق من الخشب ملصوق فوقه ورقٌ ملون، فأغلق باب الغرفة وأخرج مدية من جيبه، وأزاح الورق وجعل يثقب الخشب بملء الرفق؛ كي لا يسمع مرميس، حتى أوشك أن يتم الثقب، ثم قال في نفسه: كفى اليوم، وسأعود غدًا إلى إتمام الثقب، وأعاد الورق إلى ما كان عليه ونزل إلى الحانوت ورد المفتاح إلى الخمار وانصرف.

وفيما هو ذاهب رأى امرأة دخلت إلى الشارع لابسة ثياب الخادمات، فعرف للحال أنها فاندا وقال في نفسه: إما أن يكون الشقاء قد بلغ منها فاضطرت إلى الخدمة، وإما أن تكون متنكرة بهذه الثياب.

ومشى الهويناء وهو يراقبها خلسة، فمرت به دون أن تعرفه، ودخلت حانوت الخمار فانجلت له الغوامض وقال: إنها دون شك رسول روكامبول إلى مرميس.

كان يوجد بإزاء الخمارة دكان لبيع التبغ وتتولى البيع فيه امرأة ثرثارة، فذهب تيميلون إليها واشترى مقدارًا من التبغ وبادأها بالحديث، وهي تزن له التبغ، فما صدقت أن رأته يريد المحادثة حتى اندفعت بكلامها كالسيل فما أبقت على شيءٍ مما تعلمه عن سكان هذا الشارع.

وكان تيميلون يسمع حديثها وعيناه ناظرتان إلى الخمارة فرأى رجلين دخلا إليها من بابها الداخلي وجلسا يلعبان بالورق، وعلم أن أحدهما شانوان والآخر مورت، ثم رأى رجلًا ثالثًا قد انضم إليهما وعرف أنه ميلون، وقال في نفسه: يظهر أن روكامبول شديد الحرص على تلك الفتاة، فبعث جميع رجاله لحراستها.

وعند ذلك خرجت فاندا، فقطع تيميلون حديثه مع المرأة على الكره منه، واندفع يقتفي أثرها حتى رأت مركبة في الطريق صعدت إليها وقالت للسائق: سر بي إلى شارع سانت لازار نمرة ٢٨.

وكان تيميلون سمعها تدل السائق على هذا المنزل، ولم يكن يوجد في تلك الساعة مركبة غير هذه، ولكنه رأى في الوقت نفسه أن مركبة من مركبات الأومنيبوس، التي تسير إلى شارع سانت لازار، قد دنت منه وركب فيها، غير أن الأومنيبوس لا يدرك المركبات، فتوارت مركبة فاندا عن أبصاره.

وكانت المسافة بعيدة إلى ذلك الشارع الذي كانت فاندا ذاهبة إليه، غير أن تيميلون لم يبالِ بذلك البعدِ؛ لأنه عرف نمرة المنزل. ولما وصلت مركبة الأومنيبوس إليه رأى مركبة جميلة واقفة عند بابه، وأن امرأة خرجت منه، وقالت لرجلٍ كان يصحبها: سأفعل ما تريد، وإلى اللقاء في هذا المساء.

وارتعش تيميلون؛ لأنه عرف أن هذه المرأة هي فاندا وقد خلعت تنكرها ورجعت إلى روائها القديم، وقد زاد ارتعاشه حين رأى الرجل يعين المرأة على الصعود إلى المركبة ويقول للسائق: إلى الشانزليزيه؛ إذ عرف أنه الماجور أفاتار؛ أي روكامبول.

وقال في نفسه: لقد علمت الآن أن روكامبول يقيم في سانت لازار وأن جيبسي تقيم في فيرابو، ومتى عرفت إلى أين ذاهبة فاندا أستطيع أن أعلم أين يقيم السير جمس نيفلي.

ثم سار به الأمنيبوس إلى الشانزليزيه حيث كانت فاندا ذاهبة.

٢٠

ولندع تيميلون يقتفي أثر فاندا، ولنقص على القراء ما حدث بين فاندا وروكامبول في الليلة السابقة حين اغتنمت فرصة خروج السير جمس من المنزل، وأسرعت إلى سانت لازار لمقابلة روكامبول؛ فقد قال لها حين خلا بها: لم يعد حاجة إلى الاهتمام بمعرفة أسرار السير جمس؛ فقد عرفت حكاية مس ألن؛ أي ميلادي، بالتدقيق وذهب وقت البحث، وآن أوان العمل. اعلمي أن ميلادي قد قتلت أختها ونهبت مال ابنتها ويجب أن ترد إلى ابنة أختها؛ أي إلى جيبسي، الأموال المسروقة.

– ألا يجب أن نعرف أين توجد هذه الأموال؟

– إن السير جمس لا يعرف أين موضعها؛ لأنها بيد ميلادي، والذي أراه أن الثروة لم تُمس بل إيرادها كان يقسم إلى قسمين: تأخذ ميلادي قسمًا، ويرسل القسم الآخر إلى خزينة الخناقين؛ كي يستعينوا به على إخراج الإنكليز من الهند متى توفرت لهم الأسباب، لكني لا أزال أجهل السبب الذي حمل علي رمجاه على هجر ميلادي ومنعها عن رؤية ولدها.

ثم قص عليها ما حدث أمامه في حديقة التويلري وقال لها: إن ماري برتود عرفت أن ميلادي والدة خطيبها، ولما رأت ما أصاب ميلادي من الإغماء استعانت بي، فحملتها إلى مركبةٍ سارت بنا إلى منزل ماري، واقتنعت ماري ونحن في الطريق أن جرح لوسيان سريع الاندمال، ولما استفاقت ميلادي من إغمائها جعلت تبكي بكاءً شديدًا، فقالت لها ماري: يجب أن نذهب إلى منزله؛ لأن وجود أمه بقربه يعجل في شفائه.

فاضطربت ميلادي حين سماعها هذا الاقتراح وقالت: كلا، إن ذلك محال؛ إذ لا أستطيعه! ثم استحلفت ماري أن لا تذكر شيئًا من أمرها أمام لوسيان، واستحلفتني أنا أيضًا نفس اليمين؛ لاعتقادها أني من أصحاب ابنها.

تعجبت فاندا وقالت: كيف تأبى أن ترى ابنها وهو جريح؟!

– ليست هي تأبى هذا اللقاء لكن علي رمجاه يمنعها عن الاجتماع بابنها لسرٍّ ستكشفه الأيام.

– إذن أنت موطد العلائق مع ميلادي.

– ومع الماجور هوف أيضًا، لقد جددت معرفتي به حين أعدت ميلادي إلى الجران أوتيل.

– وعلى ماذا عولت الآن؟

– إني لم أر في صدر ميلادي غير عاطفة واحدة؛ وهي حبها لابنها، ويجب أن نضربها في موضع ضعفها.

– كيف ذلك؟!

– افترضي أن ماري برتود قد اختفت، وأن لوسيان علم أن أمه قد اختطفتها.

– حسنًا، وبعد ذلك؟

– نرشد لوسيان على ميلادي ونقول له: هذه أمك، وهي وحدها تستطيع أن ترشدك إلى خطيبتك.

وقالت فاندا: ولكن ميلادي تثبت لابنها أنها بريئة، وأنها لا تعلم أين هي ماري.

– نعم.

ثم سكت هنيهةً وقال: أتظنين أنه حين ترى ميلادي ابنها في حالة يأسٍ لاختفاء خطيبته، وأتى أحدهم قائلًا لها: ماذا تدفعين إذا أنقذت ابنك وأعدت له الصبية ألا تدفع له ثروتها؟

– ربما.

– وهذا الذي أبتغيه.

– ولكن كيف السبيل إلى اختطاف الفتاة وأين نضعها؟

– ذلك سهلٌ ميسور علي لا سيما ولي مثل هذه العصابة.

وسكتت فاندا هنيهة ثم قالت: أيها الرئيس، أعزمت على أن تبقيني مدةً طويلة مع السير نيفلي؟

– إلى أن يتم لي النصر الأكيد على الخناقين وعلى ميلادي.

– إن ذلك يطول!

– بل هو أقصر مما تظنين.

– سأفعل ما تريد، إنما بقي أمر أراك لم تفطن له؛ وهو أن لوسيان وماري شريفان، وكلاهما نقي القلب، طاهر السريرة، أليس من الظلم أن نضربهما هذه الضربة القاضية؟

ووضع روكامبول يده فوق جبينه شأن المفكر المهموم وقال: لقد خطر في بالي جميع ما تقولين، ولكني رأيت ولا بد من إرجاع الملايين لجيبسي، ومتى عادت إليها فهي تعطي دون شك ابن ميلادي شيئًا من هذا المال.

– ولكنها مجنونة؟

– إنها تشفى ولا خطر عليها من هذا الجنون.

– ليكن ما تريد، والآن بماذا تأمر؟

– ليس لدي اليوم شيء أقوله، ولكن يجب أن أراك غدًا.

وذهبت فاندا، وفي صباح اليوم التالي عادت إلى روكامبول فقالت له: لدي أخبار عن علي رمجاه.

ثم أخبرته أن السير نيفلي لم يعد في تلك الليلة إلا قرب الفجر وكان معه رجلان هنديان قدما من لندرا، فخلا بهما في غرفةٍ مجاورة لغرفتي، وقد أنصتُّ إلى حديثهم ولم أفهم شيئًا؛ لأنهم كانوا يتكلمون باللغة الهندية، لكني سمعتهم يذكرون اسم جيبسي مراتٍ كثيرة واستنتجت من ذلك أنهم وقفوا على أثرها.

فقال روكامبول: لا بأس، إذا كان الخناقون جاءوا إلى مساعدته فإني لا أدعهم يساعدونه.

– كيف ذلك؟!

فقام روكامبول إلى خزانة وأخرج منها زجاجة فيها رشاش أبيض وأعطاها إياها، وقال لها: يجب أن تسقي السير نيفلي هذا المخدر هذه الليلة، وإنه حين يستقر في جوفه يسقط صريعًا فتضعين عند ذلك مصباحًا على نافذة الغرفة المشرفة على الحديقة فأعلم أن الأمر قد تم.

– وبعد ذلك؟

– إن البقية خاصة بي، اذهبي الآن، ولكن قبل أن تعودي إلى السير نيفلي، اذهبي إلى فيرابو واسألي ميلون عن جيبسي، وإذا كان رأى ما يوجب الحذر.

فامتثلت فاندا وتنكرت بالشكل الذي رآها فيه تيميلون، ثم خرجت وعادت بعد ساعة، فخلعت تنكرها، وأوصلها روكامبول إلى المركبة وقال للسائق: إلى الشانزليزيه، وهي الكلمة التي سمعها تيميلون.

٢١

بينما كان الماجور هوف عند ميلادي في الفندق الذي كانت فيه، جاءه عامل دافي همبري برسالة السير جمس، وكانت ميلادي تقول لفرانز: إلى متى هذا الصبر على ظلم علي رمجاه؟ أيكون لي ابن، وهو أبوه، ويكون هذا الابن مريضًا جريحًا معرضًا لخطر الموت، ثم لا يأذن لي أن أراه؟

فقال لها فرانز: إنك تعلمين أن ثروتك مرهونة لإرادة علي رمجاه والخضوع له، فافتكري واحذري.

– لا أبالي إذا كنت فقيرة؛ فإني أحب أن أرى ابني.

– ولكنك إذا كنت فقيرة ألا يكون ابنك فقيرًا مثلك؟!

فردت هذه الكلمات الصواب إلى ميلادي وقالت: يا للشقاء! ولكني لا أعلم لماذا هذا الرجل يمنعني عن أن أرى ولدي وهو قد هجرني منذ خمسة عشر عامًا.

– أنا أعلم.

فدهشت ميلادي وقالت: أنت؟!

وقبل أن يجيبها دخل الرسول برسالة السير جمس، وتلاها فرانز وعرضها على ميلادي فقالت: من هو السير جمس هذا؟

– هو وكيل علي رمجاه وخلف السير جورج ستوي.

– أهو الآن هنا؟

– دون شك، إنه يريد أن يراني.

ثم قام إلى المائدة فكتب إلى السير نيفلي تلك الرسالة التي فتحتها فاندا واطلعت على فحواها، كما تقدم، وعاد إلى ميلادي فقالت له: لقد قلت لي إنك تعرف السبب في حرماني من أن أرى ولدي.

– ولكني أستمهلك في إيضاح السبب إلى الغد فربما غنيت عن ذلك بعد مقابلة السير نيفلي.

فلم تجد ميلادي سبيلًا إلا الإلحاح، وفي المساء ذهب فرانز إلى نادي أسبرج وبعد حينٍ جاءه الخادم برقعة زيارة السير جمس، فاستقبله في القاعة المعدة لاستقبال الغرباء.

وبعد أن تبادلا الإشارات السرية وتعارفا، قال السير جمس: إني حامل أوامر علي رمجاه.

فانحنى فرانز وقال: بماذا يأمر الرئيس؟

إنه يأذن لميلادي أن ترى ولدها.

فإن هذا الرئيس الأعظم سيتخلى عن الرئاسة؛ لأنه يتولاها منذ خمسة وعشرين عامًا ولا يجيز نظام الخناقين تولي رئيس واحد أكثر من ربع قرن، وأنا أقول لك هذا القول مقدمة للبحث في ثروة مس ألن؛ فإن نصف إيراد هذه الثروة كان يدفع حتى اليوم إلى الخزينة الهندية، ولكن علي رمجاه متى تخلى عن السلطة يضطر إلى التصفية.

قال فرانز: ماذا تريد بذلك؟

– أريد أنه يجب عليه أن يدفع للخزينة أصل المال وليس الإيراد.

– إن مس ألن لا تخالف لعلي رمجاه أمرًا.

– هو ما يرجوه، ولكني أعد نبأ آخر إلى مس ألن وهو أن رئيس جمعيتنا الأعظم يجب عليه أن يكون عازبًا مدة توليه الرئاسة ولكنه يحق له الزواج متى تخلى عنها ولا يزال علي رمجاه يهوى ميلادي ويحب ولدها؛ لأنه ولده أيضًا.

فاضطرب فرانز وقال: ماذا تعني بذلك؟

– أعني أن علي رمجاه قادم إلى أوروبا وهو يريد أن يتزوج ميلادي.

فارتعد فرانز وقال: هذا إذا رضيت ميلادي؟

– إن هذا شأنها وليس شأني، ولكن لا بد لي من أن أطلعك على أمرٍ وهو أن ميلادي وإن تكن قد دفعت نصف مالها إلى الخناقين مقابل قتل أبيها؛ فإنها لا تزال تحتاج إلى هذه الطائفة لصيانة النصف الآخر؛ لأن الفتاة النورية أي جيبسي لا تزال في قيد الحياة وهي تستطيع مطالبتها بهذه الثروة كل حين.

– إني أعلم أنكم تكلفتم بجيبسي.

– ولكنها أفلتت من أيدينا وغادرت إنكلترا إلى باريس.

– أجاءت وحدها؟

– كلا، بل مع رجلٍ يحبها ويحميها وقد يمكن أن ينتقم لها؛ لأنه رجلٌ شديد. فاضطرب فرانز اضطرابًا عظيمًا وقال: يجب أن تموت هذه الفتاة.

وأنا ما أتيتك إلا لمثل هذا.

٢٢

وافترق السير جمس نيفلي عن فرانز في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ولكنه لم يعد إلى منزله إلا حين شروق الفجر، وقد عاد إليه مع الهنديَيْنِ اللذَيْنِ تقدم ذكرهما في حديث فاندا، فأقام معهما ساعةً ثم صرفهما ونام نومًا هادئًا إلى الظهر، بينما كانت فاندا مع روكامبول.

ولما صحا أحضر له الخادم رسالةً ففضها وقرأ ما يأتي:

إن رجلًا عاش زمنًا طويلًا في لندرا يسأل السير نيفلي أن يقابله؛ لأنه يستطيع أن يخدمه خدماتٍ جليلةً.

ولم يكن السير نيفلي في ظروفه الحاضرة وورد مثل هذه الرسالة لمزقها دون أن يجيب عليها، غير أن الهنديين أبلغاه أنهما يئسا من لقاء جيبسي فأمل خيرًا بصاحب هذه الرسالة وأمر الخادم أن يدخله إليه.

وبعد هنيهة دخل الخادم بالرجل، ونظر السير نيفلي هذا الزائر فرأى عليه ملامح نبلاء الإنكليز، وما شكك لحظة أنه منهم، أما الرجل فإنه حياه وفاجأه بقوله: أيها الميلورد، إني أعرف أين هي جيبسي.

ولو فوجئ السير نيفلي بدوي مدفع لما بغت كما بغت بقول هذا الرجل، وقال في نفسه: هب أن هذا الرجل عرف أين تقيم جيبسي؛ فكيف عرف أني أهتم لها؟!

أما الرجل فإنه كان يتوقع منه مثل هذا الانذهال، فوضع إصبعه على شفتيه وقال له: أيوجد لديك غرفة معتزلة إذا خلونا بها لا يسمع حديثنا أحد؟

– لا يوجد في المنزل غير امرأةٍ لا تعرف الإنكليزية وأنا واثقٌ منها كل الثقة.

فابتسم الرجل وقال: إذا كان الحذر واجبًا فإنما هو من هذه المرأة.

وارتعش السير وقال: أوضح لي ما تقول …

فاستأذن الرجل السير نيفلي وأغلق الباب ثم عاد إليه قائلًا: أيها الميلورد، إننا لسنا الآن في لندرا، وإذا كان لديك في باريس عصابة من الخناقين فليست هي الآن في هذا المنزل، وإذا خطر لك أن تستعمل العنف لا تجد من يعينك؛ لذلك أقول لك: إنك إذا خفت أو حملتني على الانصراف تفقد خير فرصة تعينك على إيجاد جيبسي والاستئثار بثروتها التي قد تطالِبُ بها يومًا من الأيام، فاصغ إلى حديثي ولا تلمني إذا حذرت من تلك المرأة التي تثق بها.

ولم يسع السير نيفلي بعد ما رآه من هذا الشخص الواقف على داخل أسراره إلا الإذعان له فقال: إننا في الدور الثاني من هذا المنزل والمرأة التي تخشاها مقيمةٌ في الدور الأول، ولا سبيل لها إلى سماع حديثنا.

– إذن اصغ؛ فإني أبدأ بذكر شيء عن أمورك فإنك تدعى في لندرا السير جمس نيفلي، وأنت زعيم جمعية الخناقين، وقد خلفت بهذه الزعامة السير جورج ستوي؛ لعدم كفائته، ثم إنك أتيت باريس لسببين؛ أحدهما: لخدمة الجمعية التي تمثلها، والثاني: غرامك بهذه المرأة المقيمة في منزلك.

وإن هذه المرأة تدعى فاندا، وقد أخبرتك عنها أن عاشقها تخلى عنها واختطف فتاةً نورية تدعى جيبسي، وأنت آتٍ إلى باريس؛ كي تنتقم لفاندا من عاشقها القديم؛ لأنها لا تحبك إلا على هذا الشرط، وكي تظفر بجيبسي، ولذلك أحضرت اثنين من الهنود؛ كي يبحثا عن الصبية وعن خاطفها، وخابت مساعيهما ومساعيك؛ لأن هذا الشخص أعظم من الهنود، وقد طالما عجز عنه بوليس باريس.

فاندهش السير نيفلي وقال: من هو هذا الرجل؟!

– هو رجلٌ يدعى روكامبول كان من كبار المجرمين، ثم تاب توبةً صادقةً، أتريد أن أقص عليك بإيجاز؟

– نعم …

فحكى له حكايته وكيف هرب من سجن طولون وما جرى له البارون مورليكس.

حتى إذا فرغ من حكايته قال له السير نيفلي:

– أهو الذي اختطف جيبسي؟

– نعم …

– ألعله يهواها؟

– كلا، ولكنه يهوى تلك المرأة التي تهواها أنت.

– كيف يكون ذلك وهو قد هجرها شر هجران؟!

– إني يا حضرة الميلورد أدعى تيميلون، وقد عرفت روكامبول وفاندا حق العرفان وهما يسخران بك، وفي كل يوم.

فاضطرب السير نيفلي وقال: إن هذا محال!

– بل هو الحقيقة وقد اجتمعا في صباح اليوم.

فضحك جمس ضحكة مرة ثم قال: إذا كان حقًّا ما تقول فإنها موتًا تموت.

وجعل يخطو في أرض الغرفة خطواتٍ مضطربة وآثار الغضب الوحشي باديةً بين عينيه، ثم وقف أمام تيميلون وقال له: إني لا أعلم من أنت، ولكن اصغ إلى ما أقول، فاعلم أنه إذا كان ما تقوله حقًّا؛ فإن هذه المرأة تموت، وأما إذا كنت كاذبًا فأنت الذي تموت دونها.

فابتسم تيميلون وقال: إني أرجو أن أعيش بعدها عمرًا طويلًا، ثم أرجوك أن تعلم يا سيدي أني ما أتيت إليك كي أخبرك فقط بما ينذرك من الأخطار.

– إذن ماذا تريد؟

– أن أتفق وإياك، فقد قلت لك: إني أعرف أين جيبسي، وأنا أستطيع أن أسلمها لك، وأن أثبت أن روكامبول وفاندا لا يزالان متعاشقين يتراسلان ويهزأون بك.

– إذن أنت قادم لتبيعني هذه الأسرار؟

– إن الانتقام فوق المال.

ثم اتقدت عيناه ببارقٍ من الغضب وقال: إن روكامبول قتل ابنتي.

– إذن أنت تريد الانتقام؟

– اصغِ إليَّ يا حضرة الميلورد، إني شديد الفقر، ومع ذلك فإني لا أسألك من المال إلا قدر ما أحتاج إليه من النفقة؛ لإنفاذ مشروعنا، فإذا سلمت إليك جيبسي وعلقت روكامبول على المشنقة وأحببت أن تنعم علي بشيء من المال أسد به عوزي كنت لك من الشاكرين.

وكان السير نيفلي قد تمرس بالآفات ودرس أخلاق الأمم وعلم أن عاطفة الانتقام، أشد العواطف الإنسانية، فوثق مما قاله تيميلون وقال له: لقد صدقتك.

– إذن نحن على اتفاق وأنت راضٍ أن أخدمك؟

– نعم … ولكني أريد قبل كل شيء، أن تبرهن لي على اتفاق روكامبول وفاندا.

– هو ذاك، وسأبرهن لك عن ذلك في منتصف هذه الليلة.

– إذن؛ فإن فاندا تموت.

– كلما عجلت بموتها أحسنت؛ فإنها أعظم مساعد لهذا العدو الشديد الذي يدعونه روكامبول، ولا بد لي قبل انصرافي من أن أنبهك إلى أمرٍ يا سيدي الميلورد، وهو أني عندما كانت ابنتي في قيد الحياة لم أكن أخشى إلا روكامبول، أما الآن؛ فإن روكامبول لا يخشى سواي، ولهذا أحذرك من أن تذكر اسمي أمام أحدٍ من الناس، فإذا وصل إليه خسرنا كل شيء.

– كن مطمئنًّا؛ فقد نسيت اسمك.

– هذا جل ما أتمناه …

ثم ودعه وانصرف.

أما فاندا فإنها لم تر تيميلون حين دخوله وانصرافه، وأما السير نيفلي فإنه بعد انصراف تيميلون، الذي أرسلته الأقدار لنصرته، أبلغ فاندا أنه منحرف الصحة فلا يتعشى هذه الليلة ولكنه يتناول معها الشاي في الساعة التاسعة، وأقام في غرفته وهو يحاول إخفاء اضطرابه؛ كي يتمكن من الاجتماع بها دون أن تظن به ظنون السوء.

وكذلك فاندا فقد كانت أيضًا شديدة الاهتمام بالأوامر التي أصدرها إليها روكامبول وهي «أن السير نيفلي يثقل علينا فإذا شرب هذا الرشاش ضعي مصباحًا على النافذة المشرفة على الحديقة وعلي الباقي.»

وكان لفاندا ثقة عظيمة بروكامبول ولكنها كانت تقول في نفسها، كيف يستطيع اختطاف السير نيفلي من شارع الشانزليزيه؟! وماذا يريد أن يصنع به؟! وكيف أمهد له سبل هذا الاختطاف؟!

وبعد أن أمعنت في التفكير أبعدت جميع الخدم بطرق مختلفة؛ كي يخلو الجو لروكامبول، وبعد حين جاءها السير نيفلي وكانت فاندا قد أعدت الشاي ووضعت في كأس السير نيفلي ذلك الرشاش الذي أخذته من روكامبول.

وكان السير نيفلي قد آلى على نفسه أن يقتل فاندا إذا ثبت له ما قاله عنها تيميلون، ولكنه آلى على نفسه أيضًا أن يحتفظ بمظاهر السكينة إلى أن يأتيه تيميلون بالبرهان. فدنا من فاندا فقبل يدها حسب عادته، ثم جلس حول مائدة الشاي فقالت له: أتريد كأسًا من الشاي؟

– دون شك.

فأخذت الإبريق وصبت في كأسه وكأسها وهو ينظر إليها نظراتٍ تدل على مبلغ افتنانه بها، في حين أن العواصف كانت ثائرة في قلبه ولم يرها مرة أجمل مما كانت عليه في هذه الساعة، فثارت الغيرة في فؤاده ونسي ما عقد النية عليه من التزام السكينة فنظر إليها قبل أن يشرب جرعة من الشاي وقال لها بلهجة المتهكم: كيف حال صديقك روكامبول؟

فاضطربت فاندا بالرغم من دهائها لهذه المباغتة وبدت عليها ملامح الذعر بشكلٍ ظاهر، فلم يعد السير نيفلي محتاجًا إلى برهان تيميلون؛ إذ قرأ خيانتها بين عينيها فاستل خنجره وهجم عليها وهو يقول: أيتها الخائنة، إنك خدعتيني فاستعدي للموت.

٢٣

ورأت فاندا أنه لم يعد لها مناص وأن خنجر جمس سيخترق قلبها فلا ينقذها غير الصدفة والاتفاق، ولكنها عاشت زمنًا طويلًا مع روكامبول فتعلمت الحيلة في مثل هذه المواقف، واستعانت على عدوها بدهائها، فوثبت إلى آخر الغرفة وسقط الرداء عن منكبيها فظهر من تحته كتفاها ونصف صدرها، فوقفت يد السير جمس وتراجع وهو ينظر مبهوتًا إلى جمال هذا الصدر الذي لم يره قبل الآن، ثم ضحك، وقد هاجت به العواطف الوحشية وقال: إنك ستموتين دون شك ولكني أحب أن يكون انتقامي تامًّا … ولم يتم كلامه.

فتنفست فاندا الصعداء، وعلمت أن الوقت لا يزال لديها فسيحًا بما رأته من ظواهر افتتانه بها، وركعت وقالت: ماذا يهمني الموت والعار إذا كنت تنقذ ولدي؟

فاندهش السير جمس وقال: ولدك؟! ألعل لك ولدًا؟!

فضحكت فاندا ضحك القانطين وقالت: أتحسب أنه لو لم يكن لي ولد في قبضة روكامبول أكنت أطيع مثل هذا الشقي السافل؟

ثم كشفت صدرها وقالت له بلهجة المتوسل: افعل بي ما تشاء ثم اقتلني بعد ذلك؛ فقد استحقيت القتل، ولا أبالي بالموت، ولكن عدني أنك تنقذ ولدي من قبضة روكامبول.

فانقلب السير جمس انقلابًا غريبًا، حتى إن يده سقطت إلى ركبته وهي لا تزال مسلحة بالخنجر، فوقفت فاندا وقالت له: إذا أبيت أن تجيب طلبي وتعدني هذا الوعد فإني أنجو من قبضتك بالموت، ثم أدنت من فمها خاتمًا كان بإصبعها؛ فخدع السير جمس بهذه المظاهرة وحسب أنه يوجد في خاتمها سم يقتل في الحال، وهو لم يكن يريد قتل فاندا فقط …

فعاد إلى المائدة وجلس أمام كأس الشاي المعد لذلك فقال لها: إذن لك ولد كما تقولين؟

– نعم.

– أتحبينه؟

– وأية أم لا تحب ولدها؟

قال: أتقولين إنه في قبضة روكامبول، وإنك تخافين أن يقتل هذا الولد؟

وكان يسألها هذه الأسئلة وعيناه تنظران إلى كتفيها العاريتين وصدرها الجميل فيتزايد هياجه بالتدريج، وهي تنظر إليه نظرات توسل تفتن الجماد، فثار في فؤاده جمر ذلك الحب الشائن، ونوى على إجابتها إلى سؤالها وإدراك سؤاله منها ثم قتلها.

فقال: تكلمي بإيجاز، ماذا تريدين أن أصنع بولدك؟

فعلمت فاندا أنه قد حكم عليها بالموت، وحاولت أن تطيل الوقت راجيةً أن تجد منفذًا للخلاص فقالت: أريد أن تنقذ ولدي فعدني وعد الصادقين.

– إني أعدك بذلك ولكني أريد أن أعلم أين هو؟

– ليس من يعلم مقره غير روكامبول.

– وروكامبول أين يقيم؟

– في شارع سانت لازار نمرة ٢٨.

– أهذا كل ما تطلبينه إلي؟

فنظرت إليه نظرةً ساحرة وقالت: نعم.

ولكن السير نيفلي لم يكن من الذين تُلين قلوبهم هذه النظرات فقال لها: إننا الآن وحدنا في هذا المنزل؛ فإن جميع الخدم قد ذهبوا والمطر ينهمر في الخارج؛ فلا يسمع أحد صراخك، فاعلمي أنه يجب أن تطيعيني … وتموتي.

ثم أخذ الخنجر وحاول أن يهجم عليها فقالت له: دعني أصلي وأستغفر الله قبل أن تقتلني.

وعادت إلى الركوع.

– إنك تؤمنين بالآلهة وتعتقدين بالخلود؟! إذن صلي ولكن أسرعي بالصلاة.

ثم أخذ كأس الشاي كأنه يريد أن يشغل نفسه كي لا يطول انتظاره، وشرب ما فيه.

وبعد ذلك هجم بخنجره على فاندا فصاحت صيحة يأس فألقى خنجره على المائدة وأوقفها وضمها إلى صدره وجعل يقبلها، ويقول: إني أحبك وأبغضك في حينٍ واحد.

غير أن فاندا هبت لها قوة من السماء فتخلصت منه وصدمته صدمة قوية وأسرعت إلى المائدة فقبضت على الخنجر، وقالت له: إذا دنوت خطوة فأنت من الهالكين.

وضحك السير نيفلي وقال: أتحسبين أن الخناقين يخشون خنجر امرأة؟!

ثم تراجع إلى الوراء وأخرج من جيبه ذلك الحبل الذي اشتهر باستعماله الخناقون، وخافت فاندا خوفًا شديدًا وأيقنت أنها مائتة لا محالة، وأما السير نيفلي فإنه أطلق الحبل فالتف على عنق فاندا فأطبقت عينيها وتأهبت للموت وهي تذكر همسًا اسم روكامبول.

على أنها شعرت أن الحبل لم يضغط على عنقها، ففتحت عينيها ورأت السير نيفلي واقفًا وقوف الصنم وقد اصفر وجهه اصفرار الأموات، وهو يتمتم كلمات لا معنى لها …

ثم أَنَّ أنينًا مزعجًا ووهت رجلاه وحاول أن يشد الحبل؛ كي يضغط على عنق فاندا، ولكن الحبل أفلت من يده وانقلب على الأرض صريعًا؛ بفعل ذلك المخدر الذي وضعته له فاندا في كأس الشاي.

ثم انطبقت عيناه وأخذ جسمه يهتز ويتشنج كأنه في حالة النزع، ولم يكن غير دقيقة حتى سكن جسمه وأصبح شبيهًا بالأموات.

وتنهدت فاندا تنهد المنفرج بعد اليأس، وبقيت بضع دقائق مضطربة لا تعمل شيئًا غير النظر إلى هذا الرجل الذي كاد يقتلها، ثم ذكرت روكامبول وذكرت معه الواجب، وقامت إلى المصباح وأخذته عن المائدة ووضعته على النافذة حسب الاتفاق، فرأت رجلًا يمشي في الحديقة ثم رأت رجلًا آخر، فعلمت أنهما روكامبول وميلون.

وبعد هنيهة دخل روكامبول إلى الغرفة وسألها: أقضي الأمر؟

أجابته بلهجة المضطرب: نعم، وها هو ملقًى على الأرض.

ونظر إليه روكامبول ثم نظر إلى فاندا، ورأى الحبل لا يزال في عنقها، فذعر وقال: ما هذا؟

– لولا دقيقة واحدة لكنت من الأموات.

ثم قصت عليه جميع ما حدث لها معه، فقال لها: لا بأس، إنك لا تخشينه بعد الآن …

– ألعله مات؟

– كلا … ولكنه في نفس الحالة التي كانت فيها أنطوانيت حين أخرجناها من سجن سانت لازار، إذا كنت تذكرين، لو كنت في الزمن القديم لكنت قتلته دون إشفاق، أما الآن فقد آليت على نفسي أن لا أسفك دمًا بشريًّا إلا حين أضطر الدفاع عن نفسي.

– إذن على ماذا عولت؟ وماذا تصنع به؟

– سأسجنه في قبو منزل الخمار الذي تقيم فيه جيبسي إلى أن أسترجع ملايين جيبسي، وأخدره مرة ثانية، وأضعه في صندوق وأشحنه إلى لندرا بعنوان أحد الخناقين كما تشحن البضائع.

ثم التفت إلى ميلون وقال له: أتسمع حركة؟

– لا …

وقالت فاندا: لا يوجد سوانا في المنزل فإني صرفت الخدم لهذا الغرض.

– أحسنت …

ثم أمر ميلون أن يحمل السير جمس وينتظره عند باب الحديقة، فحمله ميلون وخرج به ممتثلًا.

وعاد روكامبول إلى فاندا وقال لها: أستودعك الله وسنتقابل غدًا.

– كيف ذلك أتتركني وحدي في هذا المنزل؟!

– نعم، إذ يجب أن تبقي فيه ولا خطر عليك …

– لماذا؟

– ألم أقص عليك قصة المس ألن؟ إذن اعلمي أن علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند تجدد غرامه بميلادي بعد أن هجرها عشرون عامًا، وهو يريد أن يتزوجها، غير أن ميلادي تأبى هذا الزواج؛ لأنها استرسلت في هوى فرانز، الذي يدعو نفسه الماجور هوف …

وهي ستحضر غدًا إلى هذا المنزل؛ كي ترى فيه السير جمس وهي لا تعرفه من قبل ولكنها تعرف أنه نائب علي رمجاه، وغرضها من هذه المقابلة أن يحمل علي رمجاه على الرجوع عن قصده من زواجها، وأريد أن تبقي في هذا المنزل كي تستقبليها.

– وأنت أين تكون؟

– أكون معك دون شك، وسأحضر إليك قبل الساعة الثامنة صباحًا.

ثم ودعها وقبَّل جبينها وخرج.

ووقفت فاندا في النافذة تشيعه بالنظر، حتى توارى عن نظرها مع ميلون، وعادت إلى الغرفة وتنهدت تنهدًا طويلًا قائلة: لقد سلمت الليلة من أشد الأخطار …

ولم تكد تتم كلامها حتى سمعت صوتًا من ورائها يقول: إذا سلمت في المرة الأولى فلا تسلمين في الثانية.

والتفتت منذعرة، فرأت رجلًا وامرأة واقفين دون حركة على عتبة الباب، أما الرجل فكان تيميلون، وأما المرأة فكانت شيفيوت التي جرحتها فاندا بالرصاص حين أنقذت أنطوانيت من مخالبها.

وعرفتها فاندا للحال، وصاحت مستغيثة صيحة منكرة غير أن صياحها لم يبلغ إلى روكامبول؛ لأنه كان قد خرج من الحديقة.

٢٤

أما روكامبول فإنه سار في أثر ميلون، وكان ميلون حاملًا السير جمس على كتفيه، وألقوه في مركبة كانت تنتظرهم بقيادة نويل، فصعد إليها روكامبول وميلون ووضعا السير نيفلي بينهما، وأمر روكامبول نويل أن يسير بهم إلى منزل الخمار، الذي تقيم فيه جيبسي.

وسارت المركبة بهم تقطع الأرض نهبًا حتى وصلت إلى منزل الخمار، وأخرجوا السير نيفلي ووضعوه في إحدى الغرف مؤقتًا، ودخل روكامبول مع الخمار إلى أقبية المنزل يتفقدها، ورأى بينها قبوًا تحت قبوٍ آخر له باب سري على سطح أرض القبو الذي فوقه، لا يظهر له أثر، واختار روكامبول هذا القبو بعد أن فحصه فحصًا دقيقًا، وأمر ميلون فأنزل السير نيفلي إليه ثم أقفل بابه وقال: إن هذا الرجل سيصحو بعد يومين وسترى إذا كان يبقى له شهية للطعام حين يستفيق.

ثم خرج إلى الشارع وتبعه ميلون، وكان نويل لا يزال ينتظر في المركبة وسأله ميلون: أأذهب معك أيها الرئيس؟

– كلا، ابق هنا، وغدًا لا تنسَ موعدنا في الساعة التاسعة.

وركب روكامبول المركبة قائلًا لنويل: سر بي إلى الجران أوتيل.

وبعد ذلك بربع ساعة وقفت المركبة أمام باب الفندق، وهناك قهوة خاصة بالفندق، ولم يدخل روكامبول إليه بل دخل إلى القهوة؛ حيث رأى فرانز وميلادي جالسين حول مائدة، يشربان الشاي وهما منهمكان انهماكًا عظيمًا، بمحادثة يظهر أنها كانت خطيرة جدًّا، حتى إنهما لم ينتبها إليه حين دخوله، ولكنهما لو رأياه لما عرفاه؛ لأنه كان متنكرًا بزي الإنكليز.

وجلس روكامبول قرب مائدة مجاورة لمائدتهما، وطلب إلى الخادم أن يأتيه بكأس شراب وبجريدة التيمس، ولما جاءه بالجريدة أدناها من وجهه حيث لم يعد أحد يراه، وجعل يوهم أنه يقرأ وهو في الحقيقة يسمع حديث فرانز وميلادي ولم يفُته منه حرف.

وكانت ميلادي تقول لفرانز: ما أجمل ولدي لوسيان فإني ما كنت أحسب أنه جميل إلى هذا الحد، فإنه أبيض البشرة مثلي ولكنه حاد النظر برَّاق العينين كأبيه.

ورد فرانز: بالله لا تذكري اسم أبيه؛ لأني شديد الغيرة عليك منه.

وهزت ميلادي كتفيها إشارةً إلى عدم اكتراثها بعلي رمجاه.

وتابع فرانز: لا تحاولي الإنكار؛ فإنك لا تزالين تحبينه.

وضحكت ميلادي ضحكًا أزال من فؤاده كل شك وقال لها: إن الغيرة بقدر الحب.

– كن مطمئنًّا؛ فإني لا أنكر أني أحببت علي رمجاه أَصْدَقَ حُبٍّ، غير أنه هجرني وتخلى عني فتناسيت حبه حتى نسيته، ولو لم يكن والد ابني لما ذكرته بلسان، وكفى أنه هجرني ٢٠ عامًا، ولما فرغ من شئونه السياسية قال في نفسه: إن لي ولدًا وامرأة في أوروبا فلأذهب إليهما.

والآن اعلم أني أحتقرك، وعندما أذكر أني من النبيلات أذكر أيضًا أنك كنت خادمًا في منزل أبي، ولكن الجريمة جعلتنا متساويين، وأنا أحتقرك وأحبك في حينٍ واحد؛ لأنك ألفتني دهرًا طويلًا فتمكن هواك مني وجرى حبك في عروقي مجرى دمي وفي مفاصلي؛ لأن يدي سفكت دم أبي وأنت كنت تقبل هذه اليد، إذن لا تغار علي بعد الآن لأني لا أحب علي رمجاه.

– لا ريب عندي فيما تقولين، ولكن علي قد يكون باقيًا على حبك، فلو خطر له أن يتخذك زوجة شرعية فماذا تفعلين؟

– ماذا تظن؟ أأتزوجه؟!

– ربما.

فابتسمت ابتسام الأبالسة وقالت: اصغ إلي يا فرانز، إن علي رمجاه لا يزال الرئيس الأعظم للخناقين ولديه جيش من أولئك الجنود السريين يستطيع أن يفعل بمساعدتهم ما يشاء، ولكنه سيتخلى عن هذه السلطة كما يقال، فإذا بقيت له فلا بد له من البقاء في الهند فلا نخشاه، وإذا تخلى عنها وحضر إلى أوروبا لا يبقى له شيء من وسائل النفوذ السرية، ويصبح رجلًا عاديًّا كسائر الأشخاص، فكيف نخشاه؟

– لكنه إذا عاد وطلب الاقتران بك، أترفضين؟

– كلا، بل أقبل.

فامتعض وجه فرانز وقال: كيف ذلك؟!

– إني أقبل كي يكون لولدي والد معروف، وأما البقية فهي عليك؛ لأنك ذكي الفؤاد، وإذا عاد علي رمجاه إلى أوروبا يكون خاليًا من كل سلطة كما تقدم؛ إذ يكون قد اعتزل رئاسة الخناقين، وإذا كان الخنجر لا يخترق صدره؛ فإن السم يمزق أحشاءه.

وعقب هذا الحديث سكوت قصير دل على الرضى، ثم عاد فرانز إلى الحديث قائلًا: على ماذا عولت؟

– على أن أرى نائب علي رمجاه.

– وماذا تقولين له؟

– أقول له: إني مستعدة لاستقبال علي رمجاه للامتثال لما يريد، لكني أشترط شرطًا واحدًا، وهو قتل تلك النورية التي قد تطالبني بثروة أمها؛ أي أختي.

– ومتى عزمت على مقابلة السير جمس؟

– غدًا.

– هل أصحبك إليه؟

– كلا، لأني أذهب إليه وحدي في الساعة العاشرة.

فانحنى فرانز إشارةً إلى الامتثال، ثم شرب جرعة من الشاي ونظر إلى ما حواليه، كأنه خشي أن يكون أحدًا سمع الحديث، فلم ير أحدًا؛ لأن روكامبول كان قد توارى عن الأنظار، وكانت الساعة الأولى بعد منتصف الليل.

بعد ذلك ببضع ساعات؛ أي في الساعة الثامنة من الصباح، ذهب روكامبول إلى منزل السير نيفلي وطرق الباب، ففتح له أحد الخدم فقال له: السير نيفلي في المنزل؟

– كلا يا سيدي.

– والسيدة؟

– هي أيضًا خارج المنزل.

– كيف ذلك؟

– إنها خرجت من المنزل مساء أمس ولم تعد بعد.

– في أية ساعة؟

فاضطرب الخادم وقال: الحق يا سيدي أني لا أعلم شيئًا من الحقيقة، كسائر خدم المنزل، لقد أذنوا لنا أمس بالانصراف ولما عدنا في الساعة الثالثة من الصباح، رأينا جميع الأبواب مفتوحة، ولم نرَ السيد ولا السيدة.

فارتعش روكامبول؛ إذ كان يعلم أنهم لا يجدون السير نيفلي، ولكن اختفاء فاندا لم يخطر له في بال، فدخل إلى المنزل والعرق البارد ينصب من جبينه وقلبه منقبض أشد الانقباض.

٢٥

لنعد الآن إلى فاندا، لقد تركناها منذعرة وقد رأت تيميلون وشيفيوت واقفين في الباب بعد ذهاب روكامبول.

وكل من قرأ الأجزاء الماضية يذكر ما كان في صدر شيفيوت هذه من الحقد على فاندا حين أطلقت رصاصة على صدرها وأنقذت أنطوانيت من قبضتها، وقد عرف القراء في الجزء السابق أن روكامبول لقيها وهي تحمل تلك الطفلة الموشومة، وهي ابنة ناديا، فضمها إلى حزبه يوم جرد باتير من عصابته، وعهد بالطفلة إليها وإلى صاحبة الخمارة.

فأقامت شيفيوت مع صاحبة الخمارة، بعد سفر روكامبول إلى إنكلترا، ثم وسوس الخناس بين المرأتين فاختصمتا، واضطرت شيفيوت إلى ترك الخمارة والطفلة.

ولم تكن شيفيوت قد خضعت لروكامبول إلا لما تولاها من الرعب، فذهبت في البدء إلى خمارات باريس، وعادت إلى عيشتها السابقة ومشاركة اللصوص إلى أن طاردهم البوليس، فالتجأت معهم إلى الشارع الأميريكي، وهناك لقيت باتير فحكت له ما اتفق لها مع صاحبة الخمارة وحكى لها اتفاقه مع تيميلون وهي واثقة من فوزه، لا سيما بعدما عرفت أن ابنته قد ماتت وبات حرًّا مطلقًا لا يخشى روكامبول.

أما فاندا فإنها لما رأت هذين العدوين الشديدين واقفين بالباب ذعرت ذعرًا شديدًا، وخطر لها أن تفر منهما وتلقي نفسها من النافذة إلى الحديقة، وأسرعت إلى النافذة، غير أن حبل السير جمس كان لا يزال معلقًا في عنقها وطرفه ملقىً على الأرض، فأسرع تيمليون ووضع رجله عليه وأسرعت شيفيوت إلى الخنجر الذي تركته فاندا إلى الطاولة. أما تيميلون فإنه أخذ طرف الحبل بيده وشده فضغط على عنق فاندا، واضطرت مكرهة إلى أن تتبعه؛ حذرًا من أن تختنق.

وقد حدث جميع ذلك بسرعة عظيمة فقال لها تيميلون: لقد قبضنا عليك هذه المرة ولا سبيل لك إلى النجاة بعد الآن.

ودنت منها شيفيوت وصفعتها صفعة شديدة صاحت لها فاندا صيحة ألم بصوتٍ مختنق، وحاولت شيفيوت أن تخنقها بيديها فحال تيميلون دون قصدها وقال: ارجعي، لا أريد أن تخنقيها.

فاعترضته شيفيوت وقالت: من عساه يكون أولى مني بخنقها ولا يزال أثر رصاصها بصدري؟

– هو ما تقولين، ولكن الوقت لم يحِن بعد، وثقي أني لا أدع أحدًا يخنقها سواكِ.

وعند ذلك دخل باتير فقال لهما تيميلون بلهجة السيادة: أوثقا يديها وضعا منديلًا في فمها كي لا تصيح؛ لأننا سنجتاز مسافة شاسعة قبل الوصول إلى حيث نسير.

وبعد ذلك بربع ساعة كانت فاندا ملقاة في مركبة وهي موثوقة اليدين والرجلين بحراسة شيفيوت وباتير، فركب تيميلون بإزاء السائق وسار بالمركبة إلى جهة الشارع الأميريكي.

ولقد وصفنا هذا الشارع للقراء، وكان من شأنه في ذلك العهد الذي نقُص فيه هذه الرواية أنه كان ملجأً أمينًا للصوص؛ لأن الجنود طالما طاردتهم في ذلك المكان فكانت تندحر عنهم كل مرة بخسائر؛ لكثرة ما كان فيه من العقبات والدهاليز الخفية التي يلجأون إليها، ولما عجزت الشرطة عنهم تركتهم وشأنهم.

وقد اتفق مرة لتيميلون حين كان بوليسًا سريًّا، أنه اكتشف موضعًا في ذلك الشارع لا يعرفه أحد؛ وذلك أن لصًّا سرق مرة مبلغًا كبيرًا من المال، فقبضت الحكومة عليه ولكنها لم تعثر بالنقود، فأرسلت إليه تيميلون كي يغريه على الإقرار فاتفق معه على أن ينقذه من السجن، ويقتسم وإياه النقود إذا أرشده إليه، فرضي اللص؛ كي ينقذه كما وعد، فأعطاه مبردًا لكسر قيوده، وقال له: إذا أقبل الظلام وكسرت قيدك، أسرع إلى النافذة تجد حبلًا معلقًا فيها، فتمسك به واخرج من السجن تجدني في انتظارك.

وفي المساء كسر اللص قيده وكان الظلام حالكًا والنافذة على علوٍ شاهق فخرج إليها واعتصم بالحبل، فما نزل خطوة حتى انقطع الحبل بدهاء تيميلون فانقلب يهوي إلى الأرض وتحطم ومات وفاز تيميلون وحده بالنقود وبمعرفة ذلك المكان الخفي.

فلما وصلت المركبة التي يقودها تيميلون إلى الشارع الأميريكي سار بها إلى منعطفٍ خفي فأوقفها، ونزل إلى فاندا فحلَّ قيود رجليها وقال لها: يجب أن تسيري معنا الآن إلى حيث نريد وإني لا أريد قتلك لكنك إذا حاولت الهرب قتلتك في الحال دون إشفاق.

فلم تجد فاندا أولى من الامتثال وسارت يخفرها باتير وشيفيوت ويتقدمهم تيميلون؛ ليرشدهم إلى الطريق.

وساروا نحو ربع ساعة حتى اقتربوا من الآبار، فقال باتير: أعرف بئرًا خفية، ألا تريد أن تراها أيها الرئيس؟

فقال تيميلون: إن الآبار التي تعرفها أنت يعرفها سواك، ولا أريد أن يرى أحد هذه الأسيرة الجميلة.

– إلى أين إذن نسير؟

– إلى بئر الشيطان.

– إنها بئرٌ شهيرة لا يذهب إليها أحد من الناس.

– ذلك؛ لأنه لا يوجد بينكم من يعرف مدخلها، أتعرف مدخلها أنت؟

– كلا، ولم أجد أحدًا من الرفاق يعرفه.

– إذن، اتبعوني؛ لأني أقدم منكم في المهنة وأعرف ما لا تعرفون، وأنت أيتها الحسناء لا تنسي ما قلته لك؛ لأن حياتك موقوفة على إشارةٍ تبدو منك.

وسار بهم تيميلون في طريقٍ مقفرة لا يسلكها أحد من الناس، حتى انتهى إلى سورٍ قديمة تهدم معظمها؛ لتقادم عهدها.

فدخل منها إلى حديقة مهجورة ذلت أغصانها، فسار إلى آخرها ووجد هناك كثيرًا من الأحجاب والأدغال بعضها فوق بعض، فالتفت إلى شيفيوت وقال لها: احرصي جيدًا على الأسيرة، وأنت يا باتير هلم معي إلى إزاحة هذه الأدغال والحجارة.

فاقترب باتير منه وتعاون الاثنان على إزاحتها؛ فانكشف لهم فم بئر عمقها نحو مترين، فألقى تيميلون نفسه فيها وأخرج من جيبه شمعةً وكبريتًا فأنار الشمعة وجعل يفتش في البئر ويمر يديه على جدرانها، فكان باتير وشيفيوت ينظران معجبين وفاندا تنظر نظرة الرعب، وقلبها ينذرها بمصاب، وأن هذا الرجل يعد لها عقابًا هائلًا لا يخطر إلا في بال الأبالسة.

وعثرت يد تيميلون، بالجدار بينما كان يبحث، فرأوا أن ذراعه قد دخلت في الجدار، ثم شاهدوا حجرًا ضخمًا قد سقط وفتح فيه منفذًا يكفي لمرور إنسان، فعاد وعليه دلائل الفوز إلى الطرف الأخير من البئر وقال لباتير: هات الأسيرة الآن.

فحمل باتير فاندا بين يديه وأدلاها إلى البئر بالحبل الذي كانت موثوقة به، ولما بلغت إلى البئر قال لها تيميلون: انزلا أنتما الآن.

فنزل باتير وتبعته شيفيوت فرأيا أن ذلك المنفذ الذي فتح في الجدار يؤدي إلى سردابٍ طويل.

فقال لهما تيميلون: احرصا على الأسيرة الآن.

فقالت له شيفيوت: أتريد أن أخنقها؟

– كلا، لم يحن الوقت بعد.

ثم دخل من المنفذ إلى الدهليز قائلًا: اتبعوني.

فدخلت فاندا وتبعتها شيفيوت وهي تنهال عليها بأقبحِ الشتائمِ، وسار باتير وراءهم فكان تيميلون يتقدمهم وبيده الشمعة، فيضطر إلى الانحناء من حينٍ إلى حين؛ لقلة ارتفاع قبة السرداب.

ثم وقف أمام باب ضخم من الخشب، وكان له قفل كبير مفتاحه فيه، فأدار المفتاح ففُتح الباب وهب منه هواء بارد؛ يدل على شدة الرطوبة في هذا المكان.

فدخل تيميلون وتبعه جميعهم، ووجدوا قبوًا متسعًا لا مَنْفَذَ منه، وجعلت الجراذين والفيران تتراكض منذعرة بين أرجلهم، فقال تيميلون لفاندا بلهجة المتهكم: أرجو على الأقل أن لا تمل سيدتي في هذه القاعة؛ لأن لها رفاقًا فيها!

ثم أشار إشارةً إلى باتير فقلب فاندا إلى الأرض، وتعاون مع شيفيوت على تقييد رجليها وتركاها ملقاة على ظهرها، فدنا تيميلون وأخرج الكمامة من فمها وقال: لا بأس من أن تصرخي وتستغيثي فعسى أن ترسل إليك الأقدار من يعينك.

فنظرت فاندا نظرة احتقار وقالت له: إني لم أخف، ولن أخافك، فافعل بي ما تشاء.

فقالت لها شيفيوت: سيكون لك خير غذاء فكلي من هذه الجراذين إلى أن تأكلك.

فاضطربت فاندا وهالها ما سمعته من هذه الشقية فقالت: ليكن ما يريده الله، ولا بد لروكامبول أن يبحث عني ويجدني، والويل لكم أيها الأشقياء.

فقال لها تيميلون: وأنا في انتظار ذلك، أتمنى لك ليلة مباركة.

ثم خرج مع رفيقيه فساد الظلام في القبو وسمعت فاندا صوت قفل الباب وصرير المفتاح، ثم سمعت خطوات أولئك الأشقياء هنيهةً، وانقطع بعد ذلك ولم تعد تسمع غير صوت الجرذان.

ولما صعد تيميلون إلى سطح البئر الأول، وضعوا الحجارة والأدغال على بابه كما كانت.

وقالت شيفيوت لتيميلون: لقد أحسنت بهذا الانتقام، غير أني كنت أؤثر أن أخنقها بيدي.

– لماذا؟

– لأننا نضمن موتها.

– نعم، ولكنها إذا ماتت خنقًا تموت دون عذاب.

– لقد أصبت أيضًا، ولكني أخشى أن يدركها روكامبول.

فضحك تيميلون وقال: وأنا أرجو أن يدركها روكامبول فقد نصبت له الفخ.

– أي فخٍّ تعني؟

– فاندا.

ثم سار الثلاثة في سبيلهم دون أن يوضح لها تيميلون مقاصده.

٢٦

في صباح اليوم التالي؛ أي بعد بضع ساعات من زمن القبض على فاندا والسير جمس، حيث وقع أحدهما في قبضة روكامبول والآخر في قبضة تيميلون، فتح صاحب الخمارة التي يقيم فوقها مرميس وجيبسي خمارته، جاء حمالان يحملان أثاث تيميلون؛ ليضعاه في الغرفة التي استأجرها في منزله بصفة شيخ الخدامين.

وكان تيميلون يسير وراءهما متنكرًا، فدخل إلى الخمارة وطلب إلى صاحبها أن يعطيه مفتاح غرفته، فأعطاه المفتاح وقال له: لقد انتظرتك أمس فلم تحضر!

فاعتذر له تيميلون عذرًا مقبولًا، ثم دعاه إلى أن يشرب كأسًا معه فرضي الخمار شاكرًا وجلس الاثنان حول مائدة بينما كان الحمالان ينقلان الأثاث إلى الغرفة.

وفيما هما يتحدثان بدرت التفاتة من تيميلون إلى سطح القبو المعد لتخزين الخمر؛ فانتبه وجعل ينظر نظرة المراقب.

والعادة في أيام الشتاء حين تكثر الوحول، أن كل خمارة وتاجر وصاحب قهوة وغيرهم يضع الرمال في أرض دكانه أو مخزنه كي لا يلوثها الداخلون إليها بالوحول فتظهر آثار أقدامهم على تلك الرمال.

وقد استلفت أنظار تيميلون أنه رأى آثار أقدام مختلفة فوق سطح قبو الخمارة ورأى أولًا آثار قدمين حافيين فعلم أنهما قدما الخمار نفسه؛ لأنه خلع حذاءه حين النزول إلى القبو، ثم رأى آثار قدمين ضخمين ورأى بينهما آثار حذاءٍ لطيف، فداخلته الظنون وترك الخمارة هنيهة بحجة مراقبة أثاثه وخرج إلى الشارع.

وكانت الوحول لا تزال على حالها في ذلك الشارع من الليلة السابقة؛ لأن الكناسين لم يكونوا قد أزاحوها بعد، ورأى فوق تلك الوحول آثار الأقدام نفسها التي رآها على رمال سطح القبو.

فاقتفاها، ورأى أثر عجلات مركبة وقفت قرب منزل الخمار ولاحظ آثار الأقدام قد احتجبت عند هذه العجلات، فأيقن أن الذين دخلوا إلى القبو هم الذين قدموا بالمركبة.

وعاد تيميلون إلى غرفته وأطلق سراح أحد الحمالين وأعطاه أجرته وبقي الآخر وهو باتير الذي كان متنكرًا بملابس حمال، فقال له باتير: إني أنتظر أوامرك.

– صبرًا لأرى إذا كان الطير لا يزال في القفص.

ثم قام إلى الجدار وأزاح عنه الورق ونظر من الثقب الذي ثقبه فيه كما تقدم، فرأى منه أن جيبسي لا تزال نائمة، ورأى قرب سريرها مرميس جالسًا حول مائدة عليها كتاب مفتوح وقد وضع رأسه بين يديه وجعل يقرأ في ذلك الكتاب؛ لأنه كان يدرس اللغة الإنكليزية كما أمره روكامبول باعتناءٍ عظيم؛ رجاء أن يتعلمها ويتمكن يومًا من محادثة من يحب فيها.

فسأله باتير: ألا يزال في الغرفة؟

أشار إليه تيميلون إشارة المصادقة، ثم سد الثقب بقطعةٍ من العجين كانت في جيبه وأعاد الورق إلى ما كان عليه وعاد إلى باتير قائلًا: إن الطير لا يزال في قفصه ولم يبق علينا إلا إيجاد السير نيفلي.

– من يعلم ماذا صنع به روكامبول؟

– أظن أني أعلم؛ لأن روكامبول قد جاء أمس مع ميلون إلى هذا المنزل ودخلا إلى الخمارة.

– كيف عرفت ذلك؟!

فضحك تيميلون وقال: إنك أيها الأبله لم تكن إلا لصًّا، ولكنك لم تخدم البوليس، اصغ إلي الآن تعلم.

ثم ذهب وإياه إلى آخر الغرفة فجلس كل منهما على كرسي، وجعل تيميلون يكلم باتير همسًا قائلًا: أتذكر أننا حين ذهبنا ليلة أمس إلى منزل السير نيفلي رأينا مركبة واقفة قرب باب الحديقة؟

– نعم.

– إن هذه المركبة كانت لروكامبول استخدمها لاختطاف الإنكليزي، ولم نكن نستطيع عند ذلك مقاومته؛ لأنه كان مع رجاله وهو أشد منا، فاكتفينا باختطاف فاندا.

فقال باتير، عند ذكر فاندا: إني لا أزال على رأي شيفيوت بشأن هذه المرأة.

– ما هو رأي شيفيوت؟

– أن نقتلها في الحال ونأمن شرها.

فهز تيميلون رأسه وقال: لقد قلت لك إن لي مأربًا في الإبقاء عليها، فلا تجادلني.

وأحنى باتير رأسه إشارةً إلى الخضوع، وعاد تيميلون إلى حديثه السابق وقال: إن روكامبول اختطف الإنكليزي في مركبة، وقد وجدت آثار عجلات مركبة قرب منزل هذا الخمار، ورأيت في خمارته أثر حذاءٍ ضخم عرفت مساميره في الأرض، وهو حذاء ميلون دون شك الذي كان يحمل الإنكليزي على كتفه، ورأيت بقربه حذاءً لطيفًا لا شك عندي أن صاحبه روكامبول.

– أتظن أنهم جاءوا به إلى هنا؟

– بل أؤكد.

– إذن، إن الخمار شريك لهم؟

– وهذا لا ريب فيه.

– أين تظن أنهم وضعوا الإنكليزي؟

– لم أعلم بعد، وربما وقفت على الحقيقة هذا المساء، اصغ إلي الآن؛ إنه يجب أن تجتمع بشيفيوت.

– إنها تنتظرني في زاوية شارع مَرْتين.

– إذن اذهب إليها وسيرا معًا إلى بئر الشيطان بالطعام إلى فاندا؛ لأني لا أحب أن تموت جوعًا، بل أحب أن تبقى في قيد الحياة لحاجتي إليها الآن، ولا أظن أن الجرذان أكلتها.

وحاول باتير أن يعترضه فقال له تيميلون ببرود: ألا تريد أن تنتقم من روكامبول؟

– أعندك شك في ذلك؟

– إذن اعلم أنك إذا خالفت أقل أمرٍ من أوامري لا أكون مسئولًا عن شيء، بل إني أفعل خيرًا من هذا؛ وهو أني أعقد الصلح مع روكامبول وأدعك تفعل ما تشاء.

فاضطرب باتير لهذا الإنذار وقال: كفى، مُرْ بما تريد.

– تذهب إلى فاندا بسلةٍ من الطعام، ولا تفارقها إلا متى رأيتها اكتفت من الأكل.

– أيجب أن أحل وثاق يديها؟

– دون شك، ولكنك تعيد وثاقها متى فرغت من الطعام، ويجب أن تأخذ معك غدارة.

– لماذا؟!

– لقتل شيفيوت إذا تعرضت لفاندا بشيءٍ من القسوة.

– سأمتثل لما تريد.

ففكر تيميلون هنيهةً ثم قال لباتير: انظر إلى هذه النافذة، إنها تطل على الشارع، ويجب أن تحضر إليه عند منتصف الليل، فإذا رأيت النافذة مفتوحة اخلع حذاءك واصعد إلى غرفتي وادخل إلي؛ كي نفتش عن الإنكليزي.

فامتثل باتير وانصرف لتنفيذ أوامر تيميلون، أما تيميلون فإنه بقي في غرفته إلى الظهر وهو يراقب راجيًا أن يرى روكامبول وميلون فلم يحضر أحد منهما، وفيما هو يحاول الانصراف رأى اثنين من الحمالين يدخلان برميلًا ضخمًا من الخمر إلى قبو الخمارة، والخمار يساعدهم لضخامة البرميل، فعرض تيميلون مساعدته على الرجل فرضيها شاكرًا.

وعاونهم حتى أدخلوا البرميل إلى القبو وهو يراقب كل ما يراه، فلما وصل البرميل إلى القبو المظلم أنار الرجل شمعة كي يستنير بها ويضعها موضعه، فاندهش تيميلون؛ لأنه رأى في أرض القبو الموحلة أثر الأقدام الذي رآه في الخمارة وفي الشارع!

وبعد ذلك صعدوا جميعهم إلى الخمارة فراقب تيميلون باب القبو وشرب كأسًا من الشراب مع الرجل وخرج، فما مشي هنيهةً في الشارع حتى رأى ميلون قادمًا إلى الخمارة فقال في نفسه: إنه قادم للبحث عن فاندا، ثم مضى في شأنه وهو يضحك ضحك الساخر.

وفي الساعة العاشرة من المساء عاد إلى غرفته وأضاء الشمعة وفتح النافذة المطلة على الشارع، وقال: لننتظر الآن إلى أن تقفل الخمارة أبوابها، ويتفرق الناس.

٢٧

وأقام تيميلون في منزله ينظر من الغرفة المطلة على الشارع فيراقب المارة ويعود إلى الغرفة المشرفة على الخمارة، فيراقب زبائنها، فكان يسمع أقدام المقيمين في هذا المنزل يصعدون إلى غرفهم للمبيت فيها، وبقي على ذلك إلى منتصف الليل، فرأى صاحب الخمارة أقفل باب خمارته المتصل بالشارع، ودخل من الباب المتصل بالمنزل إلى غرفةٍ له عند مدخل المنزل العام فدخل إليها.

كل ذلك جرى وتيميلون يراقب ما حوله كل المراقبة، حتى إذا انتصف الليل وسمع غطيط النائمين، ذهب إلى النافذة المطلة على الشارع فرأى باتير واقفًا ينتظره، فأشار إليه أن يوافيه إلى الباب العمومي، ثم خلع نعليه ونزل ففتح الباب برفق دون أن يسمع له أحد حسًّا، فدخل الاثنان غرفة تيميلون وجعلا يتحادثان بصوتٍ منخفض، فقال تيميلون: أرأيت الأسيرة؟

– نعم.

– ألم تمت ولم تأكلها الجرذان؟

– كلا، لأني لم أرَ في حياتي أشد منها أعصابًا، وأثبت جنانًا بين النساء.

– كيف ذلك؟!

– ألا تعلم أننا أوثقنا يديها ورجليها وألقيناها على الأرض؟

– نعم!

– ولكننا رأيناها واقفة، ولا أدري كيف تمكنت من الوقوف؟!

– ألعلها قطعت وثاق رجليها؟

– كلا، فقد كانت موثقة كما تركناها، لكن يظهر أنها لقيت عناءً شديدًا من الجرذان؛ لقد لمحت في خدها أثر العض الموجع ولذلك بذلت جهدها فوقفت وسحقت بعض هذه الجرذان.

– أكانت عليها علائم اليأس؟

– كلا، بل كانت هادئة رابطة الجأش، وقد حاولت شيفيوت أن تسيء إليها فمنعتها.

– وهل أكلت؟

– بشهيةٍ عظيمة! فإني حللت وثاق يديها، ولما انتهت من الطعام أعدت الوثاق فما أبدت مقاومة!

– أبدر منها شيء يدل على أملها بالنجاة؟

– لم تقل كلمة بهذا الشأن، لكنها هادئة.

– سيان عندي كيف كانت، غير أن المهم أن نسرع بالعمل.

– أعلمت أين هو الإنكليزي؟

– بالتقريب، هلم بنا.

ثم قام تيميلون إلى خزانة وأخذ منها حبلًا وضعه في جيبه وقال لباتير: اعلم أن خطرًا عظيمًا يتهددنا؛ لأن جميع عصابة روكامبول يقيمون في هذا المنزل، وأخصهم من رجال عصابتك القديمة، فإذا شعروا بنا كنا من الهالكين؛ ولذلك يجب الانتباه الشديد ولا سيما حين نزولنا إلى السلم؛ كي لا يشعر بنا الخمار.

– سأكون على خير ما تريد، وما زلت أرجو أن أنتقم من روكامبول!

– كل آتٍ قريب.

ثم أخذ من خزانته حلقة ضخمة فيها كثير من المفاتيح المختلفة وخرجا من الغرفة إلى السلم، فكان تيميلون يقف عند كل درجة ويصغي فلا يسمع غير غطيط النائمين.

فلما وصلا إلى آخر السلم عطفا إلى قبو الخمار فجعل تيميلون يمر يده على الباب متلمسًا قفله حتى عثر به، فقال لرفيقه: إن كسر هذا الباب سهل ولكني أخشى أن ينتبه لصوته النائمين.

ثم أخذ المفاتيح من جيبه يجربها في القفل بصبرٍ عجيب حتى فتح، ودخل إليه مع باتير وأقفل الباب، ثم أضاء شمعته، وجعل يفحص هذا القبو فحصًا مدققًا فلم يجد أثرًا للأسير، فطرق كل موضع في جدرانه علَّه يجد بابًا سريًّا فلم يجد، ففتح البراميل وأزاحها من موضعها فلم يعثر بشيء، ثم أرجعها إلى ما كانت عليه وجعل يفحص الأرض فرأى عليها آثار الأقدام، واتبعها فرأى أنها انتهت عند منتصف أرض القبو فقال في نفسه: لا بد أن يكون تحت هذا القبو قبو آخر، فأعطى الشمعة لباتير ووضع أذنه على الأرض وأصغى؛ إذ قال في نفسه إن الأسير مهما بالغوا بشد الكمامة على فمه فإنه يستطيع الأنين، لكنه لم يسمع شيئًا فعاد إلى تجربةٍ أخرى، وهي أنه جعل يزيل الوحول والأتربة عن المكان الذي انتهت إليه آثار الأقدام فانكشفت له حلقة ضخمة ففرح فرحًا عظيمًا وتعاون مع باتير على رفع الحلقة فارتفع معها باب من الخشب كانت مغروسة فيه وانكشف له من تحت هذا الباب بئر عمقها نحو ثلاثة أمتار.

وعند ذلك أخذ الشمعة من باتير وأدناها من فم البئر فرأى جسمًا ممدودًا على الأرض لا حراك فيه فوقف شعر رأسه من الذعر؛ لأنه خشي أن يكون قتيلًا، وإذا مات السير جمس ضاعت أمانيه.

غير أنه بقي له شيء من الرجاء، فأخذ الحبل الذي أحضره معه فلف بعضه على وسط باتير وعقده، فقال له باتير: ماذا تصنع؟!

– سوف ترى، ثبت قدميك في الأرض.

ثم أمسك الحبل ونزل إلى البئر والشمعة بيده، ورأى السير جمس ممدودًا، فلمس جسمه فرآه باردًا، فوضع يده على قلبه فوجده ينبض، فأجال نظره في القبو فرأى طاقة مفتوحة تنفذ إلى المزاريب فانتبه للحال وقال: إنهم لم يدعوا هذه النافذة مفتوحة إلا التماسًا للهواء كي لا يموت، فهو إذن غير ميت، وإنما قد سقوه مخدرًا فأصابه ما أصاب أنطوانيت حين أخرجوها من سجن سانت لازار.

وحاول أن يستوثق من صحة ظنه؛ ففتح فم السير جمس ونظر إلى لثته فوجدها حمراء؛ وذلك يدل على الحياة فقال في نفسه: سنتم البحث في غير هذا المكان والمهم الآن إخراجه من هذا القبو.

وعند ذلك أخذ حبله الطويل فلفه تحت ذراعي السير جمس وعقده ثم تسلق على الحبل حتى بلغ سطح البئر فاستعان بباتير ونشلا السير جمس من البئر.

فلما رآه باتير اضطرب وقال: إنه ميت! وأية فائدة لنا منه؟!

– كلا، ولو كانوا يريدون قتله لقتلوه في منزله ولم يتكلفوا عناء نقله إلى هذا المكان.

– ولكن جسمه بارد وقلبه ساكن ولا أثر للحياة فيه.

فضحك تيميلون ضحك المشفق وقال: يظهر جليًّا أنك لا تعرف شيئًا من أعمال روكامبول.

فذعر باتير ذعرًا شديدًا بدت لوائحه على وجهه فقال له تيميلون: ألعلك كنت تحسب مخاصمة روكامبول من الأمور السهلة؟

– كلا، ولكن لم يخطر في بالي أنه يحيي ويميت؟

– بل هو يفعل أكثر من ذلك، فإذا كان الخوف قد تولاك فلا يزال الوقت فسيحًا لديك.

فتحمس باتير وقال: كلا، إن ثقتي بك أعظم من خوفي منه.

وعند ذلك ركع تيميلون أمام السير جمس وهو يعيد النظر إليه، وكلما حدق في وجهه رأى أن حالته تشبه الحالة التي كانت عليها أنطوانيت فيزداد وثوقًا بحياته.

وكان باتير يراقبه، فلما رأى دلائل الرجاء على وجه تيميلون قال له: إذن هو حي؟

– دون شك.

– ماذا عزمت أن تفعل؟

– يجب أن نرجع كل شيء إلى ما كان عليه، فإنهم لا بد أن يدخلوا إلى القبو ثم يجب أن تحمل السير جمس إلى غرفتي.

فجعل الاثنان يصلحان البراميل وأعادا باب البئر إلى موضعه وأرجعا الوحول والتراب إلى ما كانت عليه حتى اختفى أثر الباب، فأمر تيميلون باتير بحمل السير جمس فخرجا من القبو وأقفلا بابه وصعدا بجمس إلى غرفة تيميلون، دون أن يشعر بهما أحد.

وبعد أن وضعه فوق سريره قال باتير: إنك تؤكد إنه حي، ولكنه ضائع الرشد دون شك، فكيف يرد إليه الصواب؟!

– لا حاجة إلى ذلك فهو يفيق من تلقاء نفسه.

– متى؟

– إنه شرب المخدر ليلة أمس وسيستفيق ليلة غد كما جرى لأنطوانيت.

– وما يجب أن نصنع من الآن إلى الغد؟

– يجب أن نهتم بروكامبول.

فاتقدت عينا باتير بشرر الحقد، وفتش تيميلون جيوب السير نيفلي فلقي فيها أوراقًا مالية تبلغ قيمتها ألف ريال؛ فسُر بها وقال: سنحارب بهذا المال روكامبول، ويعجبني من الإنكليز أنهم يدفعون نفقات الحروب، ثم أخذ من هذه الأوراق ٣٠٠ فرنك دفعها لباتير قائلًا: اذهب الآن كما أتيت وسأقفل الباب الخارجي بعد ذهابك، وفي صباح غد تذهب إلى منزلي في شارع بلفرند ثم تقابل البواب وتعطيه هذا المال وتكلفه عني أن يشتري لي برميلًا من البارود.

فعجب باتير وقال له: ماذا تريد أن تصنع بالبارود؟!

– ستعلم ذلك فيما بعد.

– أهذا كل ما تأمرني به؟

– كلا، بل يجب أيضًا أن تذهب إلى امرأةٍ عجوز تقيم في شارع فيلديو ولا بد أنك تعرفها.

– ما اسمها؟

– فيليبيت.

– عرفتها.

– إذن أرسلها إلي فإني بحاجةٍ إليها.

– ومتى يجب أن أعود؟

– في الليلة القادمة في مثل هذه الساعة …

وانصرف باتير لتنفيذ أوامره وبقي تيميلون وحده أمام السير جمس.

٢٨

بينما كان تيميلون منصرفًا بكل قواه إلى الانتقام بعد أن ضحى حياته مقدمًا في سبيله، وبينما كان يعد الوسائل الجهنمية لبلوغه أمانيه كانت فاندا لا تزال سجينة في بئر الشيطان.

وقد علم القراء كيف دخلت إلى هذا السجن، وكيف أن تيميلون أوثق يديها ورجليها، وأمر باتير حين أرسله بالطعام إليها أن يحميها من شيفيوت.

وقد أقامت في تلك البئر يومًا وليلة كانا لديها كالأدهار؛ لفرط ما لقيته من الهول في مطاردة الجرذان، غير أنها لم تيأس وكانت تذكر روكامبول في ساعاتها الهائلة فتطمئن نفسها وتقول: أليس هو الذي أنقذ أنطوانيت من سجن لازار فأماتها وأحياها؟ أليس هو الذي أنقذ مدلين من مخالب مورليكس، وقد ذهب للبحث عنها في أقصى سيبيريا؟ أليس هو الذي أنقذ جيبسي من النار وقد وضعها الخناقون على المحرقة؟ إذن هو ينقذني دون شك ولا خوف علي أن يقتلني تيميلون، إذا كان هذا قصده لفعل، وقد يكون مراده أن يميتني جوعًا، لكني أستطيع الصبر على الجوع أربعة أيام، ولا بد لروكامبول أن يهتدي إلى سجني في خلال هذه المدة فإنه يبحث عني الآن دون شك؛ لأنه لم يجدني في منزل السير نيفلي.

وكانت قد ألفت الظلمات المكتنفة بها وتلك الجراذين التي كانت تجول بين قدميها، ولم تكن تعلم المسكينة كم مضى عليها من الزمان في تلك البئر؛ لأن الظلام كان سائدًا فيها، ولا ينفذ إليها نور النهار.

وفيما هي على ذلك، سمعت عن بُعْدٍ أصواتًا ووقعَ أقدامٍ، ورأت أشعة من النور تنفذ إلى سجنها من خلال الباب، وجاشت نفسها بالأمل وقالت: ألا يمكن أن يكون روكامبول قادمًا لإنقاذي؟ ولكن ساء فألها لسوء حظها؛ لأن الباب انفتح ورأت باتير داخلًا تصحبه شيفيوت، فقالت في نفسها: لقد دنت الساعة، وما هما قادمان إلا لقتلي، فعولت على الدفاع بأسنانها؛ لأنها كانت موثوقة اليدين والرجلين.

إلا أن باتير طمأنها بقوله: إننا قادمان بطعام العشاء لسيدتي الدوقة.

وقالت شيفيوت: تبًّا لك من شقية! لقد أكرهوني على أن أحضر لك العشاء، وأنا لا أريد إلا أن أمتص دم عروقك.

وأجابتها فاندا بنظرة احتقار، وأخرج باتير مسدسًا من جيبه وقال لشيفيوت: إنك تعلمين أوامر الرئيس ولا تضطريني إلى تنفيذها فيك أو أقتلك لا محالة.

وعضت شيفيوت شفتها من القهر وقالت: حسنًا … سأصبر.

أما فاندا فإنها استنتجت من ذلك أن تيميلون لم يحكم بموتها بعد، وبالتالي فهي تستطيع أن تأكل آمنة من أن يكون الطعام مسمومًا.

وبينما كان باتير يحل وثاق يديها كانت شيفيوت تخرج الأكل من السلة وتضعه أمام المصباح الذي جاءت به، وكانت الجرذان تهرب متبددة حين رأت أشعة النور، وشيفيوت تتهكم على فاندا وتشتمها بأقبح الألفاظ.

وكان هذا الطعام مؤلفًا من خبز وجبن ودهن خنزير ونصف زجاجة من النبيذ، وجعلت تأكل بشهية وهي غير مكترثة بما تسمعه من الشتائم وتمكنت من أن تأخذ قطعة من الدهن وتجلس عليها.

ولما انتهت من طعامها أوثق باتير يديها وذهب مع شيفيوت وأقفلا الباب وانصرفا، فعادت الظلمات إلى ما كانت عليه.

غير أن فاندا بينما كانت تأكل والنور أمامها كانت تتظاهر بالاشمئزاز من شتائم شيفيوت وتنظر إلى جدران البئر نظر الفاحص، فرأت أن جدرانه كثيرة الثقوب والحفر، ورأت في أعلى أحد الجدران ثقبًا يشبه عش الطيور فخطر لها في الحال خاطر الفرار.

وكان باتير قد أوثقها وأبقاها على ظهرها فوق الأرض، غير أن يديها كانتا مقيدتين وبقيت أصابعها مطلقة دون قيد، فجعلت تبحث بأصابعها في الأرض عن قطعة الدهن التي اقتصدتها من الطعام حتى عثرت بها، وجعلت تمسح بها وثاق يديها حتى أذابتها كلها فوق الوثاق.

وعند ذلك انقلبت على بطنها بحيث أصبحت يداها بارزتين؛ لأنهما كانتا مشدودتين وراء ظهرها.

وكان النور قد زال وانقطعت الأصوات، فعادت الجرذان إلى الطواف حول فاندا ولكنها لم تنتهرها في هذه المرة؛ بغية إرهابها وإبعادها، بل إنها سكتت ولم تتحرك كأنها أصبحت تأنس بالجرذان.

وشم الجرذان رائحة الدهن فأقبلت تلتمسه فوق وثاق يدي فاندا فتلحس الوثاق ثم تطلب المزيد فتقرضه بأسنانها الحادة، كل ذلك وفاندا صابرة لا تتحرك والجرذان تلعب فوق ظهرها وتتلهى بقرض الوثاق لما رأت عليه من الدهن.

فلما أحست أن الجرذان قد أكلت كثيرًا من الوثاق حتى ضعف تحركت حركة عنيفة، فتفرق الجرذان من حولها ثم شدت الوثاق فقطعته وصارت مطلقة اليدين وعند ذلك حلت بيديها وثاق رجليها، وأصبحت قادرةً على استعمال أعضائها وسحق الجرذان برجليها، ولكنها لم تزل أسيرة بسجنها المظلم.

وفيما هي مستندةً إلى الجدار تعمل الفكرة في طريقة النجاة، شعرت أن الجرذان تتراكض وعلمت من صياحها أنها منذعرة كأنما فاجأها عدو ولم تكن تتوقع مفاجأته، فرفعت عينيها في إحدى زوايا البئر فرأت نقطتين تنيران كالقبس، فقالت في نفسها: لا شك أنهما عينا هرة وأن الله أرسلها لي معينًا على هذه الجرذان.

ولم يطل وقوف هذه الهرة؛ فإن فاندا رأتها وثبت وتلا وثوبها صيحة الجرذان، فدنت فاندا من الهرة وانتهرتها، فهربت وتسلقت مقدار مترٍ من الجدار، ثم وقفت والتفتت فرأت فاندا بريق عينيها، وعرفت الطريق التي سارت فيها، فتقدمت فاندا أيضًا فصعدت ووقفت في مركز أعلى فمدت فاندا يديها ومشت إلى الجدار الذي تسلقته الهرة حتى وصلت إليه.

وكانت جدران البئر كثيرة الثقوب، وقد عرفت فاندا ذلك حين كان باتير في البئر؛ فإنها رأت الحفر على ضوء مصباحه.

وقد كانت رأت أيضًا شبه كوة في مرتفع الجدار فقالت في نفسها: لا شك أن هذه الكوة منفذ إلى الخارج خفي عن تيميلون وإلا لما نفذت الهرة إلى هذا المكان، فرجح لديها أمل الفرار، فأخذت تتسلق الجدار بصبرٍ عجيب فتبحث بيديها عن الثقوب فإذا ظفرت بها تعلقت بها ثم جعلت تبحث برجليها عن ثقوبٍ أخرى ترتكز عليها، فإذا صعدت واستقرت ترتاح قليلًا ثم تعود قليلًا إلى البحث عن ثقوبٍ أعلى فتتسلقها وتنشب فيها يديها ورجليها.

كل ذلك والهرة تختفي وتغيب فترشدها ببرق عينيها إلى الطريق.

ولبثت على ذلك نحو ساعة وهي معرضةٌ للسقوط في كل حين، حتى أوشكت أن تبلغ إلى آخر الجدار واختفى عنها أثر المنفذ ولكنها شعرت بأنفاسٍ حامية تهب فوق شعرها فعلمت أنها أنفاس الهرة، فزجرتها فهربت وولجت من المنفذ فاهتدت فاندا إليه، ولم يكن غير هنيهة حتى نشبت يديها بأطرافه وأمنت السقوط.

وكانت هذه الكوة كبيرة يستطيع الإنسان أن يمر بها، وهي منفذ دهليز طويل لا يزيد ارتفاعه عن متر، فدخلت فاندا إليه وعللت نفسها بقرب النجاة، فجعلت تزحف على بطنها فيه زحف الأفاعي فلم يطل زحفها حتى رأت نورًا خفيفًا يتجلى لها، فعلمت أنه نور النهار.

وكان الدهليز كثير التعاريج، فجعلت فاندا تزحف على بطنها حتى رأت عن بعد عشرة أقدام ذلك المنفذ الذي يخرج منه النور؛ ففرحت فرحًا لا يوصف، ولم يعد لديها شك بالنجاة لا سيما وقد رأت الدهليز يرتفع سطحه ويتسع كلما دنت من المنفذ؛ بحيث لم تعد في حاجةٍ إلى الزحف، وبلغت ذلك الثقب الذي يخرج منه النور ورأت أنه يشرف على بئرٍ أخرى لا سطح لها؛ لأنها رأت النور يتدفق فيه من جميع الجهات.

غير أن هذا الثقب كان ضيقًا جدًّا يستحيل على الإنسان أن يمر منه مهما كان نحيلًا، ففحصته فاندا وصاحت صيحة يأسٍ؛ لأنها رأت أن المنفذ من صنع الطبيعة لا من صنع الإنسان، وهو في صخرٍ أصمَّ لا يفيد في توسيعه غير الآلات، ومن أين تجدها في سجنها الضيق؟

ولكنها جعلت تنظر من هذا الثقب إلى البئر المشرف عليها فرأت في أرضها كثيرًا من الرمال ومصطلًى للنار وبعض أخشابٍ متفرقة وأباريق مكسرة، فاستدلت من ذلك أن بعض اللصوص يلجأون إلى هذه البئر ويبيتون فيها، فقالت في نفسها: إنهم قد يحضرون فأطمعهم بالمال فينقذونني وعند ذلك عاد إليها الرجاء بالنجاة.

ولبثت على ذلك عدة ساعاتٍ تستنشق هواءً نقيًّا وهي آمنة من الجرذان، ثم رأت أن النور جعل يضعف بالتدريج فعلمت أن النهار قد انقضى، وبعد حينٍ أقبل الليل وساد الظلام.

وقد خطر لفاندا أن ترجع على أعقابها وتعود إلى البئر التي وضعت فيها؛ حذرًا من أن يعود تيميلون ورجاله فيفطنون إليها، ولكنها سمعت عند ذلك حركة في البئر التي يشرف عليها المنفذ فعلمت أنها وقع أقدام، ثم رأت شبحًا أسود وسمعت صوت امرأة تقول: حبذا لو كان باقيًا أثرٌ للنار؛ فإن البرد يقتلني.

ثم رأتها تبحث في الرماد علها تجد نارًا مخبوءة فرأت بقيةً من نارٍ، فنفخت فيها ووضعت فوقها الأخشاب فرأت فاندا على لهيب النار وجه تلك المرأة، وتنهدت تنهدَ المنفرج بعد اليأس.

٢٩

ولنعد الآن إلى تيميلون؛ فلقد تركناه أمام السير نيفلي وهو لا يزال غائبًا عن الصواب، وكان تيميلون أمر باتير أن يبحث له عن امرأةٍ تدعى فيليبيت ويرسلها إليه وأن يعود هو نفسه إليه في الليلة القادمة.

كان تيميلون قد وضع السير نيفلي في غرفةٍ داخلية بعيدة عن السلم؛ بحيث لو استيقظ وصرخ لما يتولاه من الاندهاش؛ لا يصل صوته إلى الخارج، ويستطيع تيميلون أن يظهر له كل شيء فاضطر لهذا السبب أن يبقى في المنزل إلى أن يستفيق؛ إذ لو صحا ووجد نفسه منفردًا وفي الحالة التي كان عليها فلا بد له من الضجر والخروج من المنزل فينفضح الأمر.

وقد فات تيميلون؛ لانهماكه بالسير نيفلي، أن يأمر باتير بإرسال الطعام إلى فاندا وجلس بالقرب من الإنكليزي يراقبه ويتوقع صحوه من حينٍ إلى حين.

أما فيليبيت التي كان ينتظر قدومها؛ فقد كانت في بدء أمرها من بنات الهوى، فلما دالت دولةُ جمالِها، وانقطعت أسباب رزقها، جعلت ترتزق من السرقة، وقد خدمت تيميلون بإخلاص في كثيرٍ من الأغراض.

وفي الساعة العاشرة من الصباح جاءت هذه المرأة إلى تيميلون، فأدخلها إلى المنزل وأقفل بابه، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال تيميلون: ماذا تصنعين؟

– لا أزال أعمل بالمهنة التي تعرفها، غير أن البوليس منتشرٌ في كل مكان وقد ضيق علينا سبل الارتزاق.

– أين تبيتين في الليل؟

– كنت أبيت في الأسبوع الماضي في الشارع الأميريكي.

– والآن؟

– اضطررت إلى المبيت في بئرٍ في ضواحي هذا الشارع؛ لكثرة ما لقيته من مطاردة الجنود، وهذه البئر لم يحضر إليها أحدٌ بعد، وإني أبيت فيها منذ ثلاثة أيامٍ وحدي.

فأخذ تيميلون ورقة كبيرة بيضاء ورسم عليها طريق جميع الآبار التي يعرفها، وقال لها: انظري في هذه الخريطة، ودليني على مكان البئر التي تبيتين فيها.

فنظرت إليها نظرًا مدققًا وأرشدته إلى المكان فانذهل؛ لأنه علم أنها تنام في بئرٍ مجاورة للبئر التي سجن فيها فاندا وقال لها: ألم تجدي في أسفل هذه البئر ثقبًا صغيرًا تحت صخرٍ أصمَّ؟

– لم ألاحظه.

– ولكنك بت فيه ثلاث ليالٍ كما تقولين، ألم تسمعي صوت امرأةٍ تستغيث؟

– كلا! ومن أين تأتي الاستغاثة؟!

– من جوف الأرض.

– لم أسمع شيئًا، وفوق ذلك إني أنام سكرى لا أعي على شيء.

– ولكن إن أردت أن نتفق على عمل، أول ما أشترطه عليك أن لا تسكري.

– أتريد أن أمتنع عن الشرب مدةً طويلة؟

– يومين فقط.

فتنهدت وقالت: كيف أطيق الصبر يومين؟

– متى علمت أنك ستكسبين ٢٠٠ فرنك.

– إذا كان ما تقول فإني أرضى ولا أشرب غير الماء، قل ماذا تريد أن أصنع؟

عاد تيميلون إلى الخريطة ودلها على المكان المسجونة فيه فاندا، فقال لها: إنك تعلمين هذا المكان، ألم تجدي هنالك سورًا أو حديقة مخربة؟

– نعم رأيتهما ودخلت إلى الحديقة أيضًا.

– ألم تجدي بها بئرًا مغطاةً بالأغصان والحجارة؟

– نعم نعم، ويخال لي أني أراها من هنا.

– إذن اعلمي أن هذه البئر يوجد تحتها بئرٌ أخرى لها بابٌ محكم الأقفال، ولهذه البئر كوةٌ في أعلى جدارها تنفذ إلى سردابٍ يتصل بالبئر التي تنامين فيها، وإذا بحثت في بئرك تجدين في أرضها ثقبًا صغيرًا يظهر لك منه السرداب، ولكن هذا الثقب ضيق، لا يمكن لجسمٍ أكبر من جسم الهرة أن يمر منه وهو في صخرٍ أصمَّ، بحيث لو أراد البناءون توسيعه بالآلات لما استطاعوا ذلك إلا بشغل يومين على الأقل.

وقد سجنت في هذه البئر امرأة لا بد أن تسمعي صوت استغاثتها.

– وإذا سمعتها تستغيث أيجب أن أسكت؟

– كلا، بل إنك تخرجين من بئرك وتذهبين إلى الحديقة فتزيلين الأدغال وتنزلين إلى البئر التي حبست فيها المرأة، وتجدين بابًا قويًّا لا تستطيعين كسر أقفاله.

– وأية فائدة من ذهابي إلى هذا الباب؟

– إنك تحاولين كسره ولا تستطيعين، عند ذلك تعلم تلك المرأة الموثوقة اليدين والرجلين أنك تريدين إنقاذها، فتستغيث بك وتعهد إليك قضاء مهمةٍ في شارع سانت لازار.

– أأذهب إلى حيث ترسلني؟

– دون شك، لكن يجب أن أراك في الساعة السابعة من صباح غدٍ في زاوية هذا الشارع.

– أهذا كل ما تريد؟

– نعم، وبعد أن أراك تذهبين إلى حيث ترسلك المرأة.

– ولكنك أنت الذي سجنت هذه المرأة، فكيف تريد أن ينقذها سواك؟

– اذهبي الآن في سبيلك وستعلمين كل شيء.

فامتثلت العجوز وذهبت، فعاد تيميلون إلى غرفة السير نيفلي وهو يقول: سيكون روكامبول غدًا في قبضتي.

٣٠

وقد عرف القراء الآن أن هذه المرأة التي لقيتها فاندا في البئر لم تكن إلا فيليبيت.

وكانت هذه العجوز قد حافظت على عهدها مع تيميلون فلم تشرب قدحًا مدة النهار بطوله، فلما عادت إلى البئر كانت صاحية، وقد ذهبت في البدء إلى البئر التي دخلت منه فاندا، فوقفت عند بابه مدةً طويلة فلم تسمع صياحًا ولا استغاثة.

فعادت إلى بئرها وجعلت تنفخ النار كما تقدم في حين أن فاندا كانت في الدهليز أمام الثقب المشرف على البئر.

وكانت فاندا تنظرها وهي تنفخ النار من الثقب، ولكنها لم تتبين وجهها؛ لضعف نور اللهب، فبعد أن ترددت هنيهةً عزمت على الركون إليها والاستغاثة بها فبدأت بالسعال؛ كي تسترعي سمع العجوز، فسمعت العجوز سعالها وتظاهرت بالانذهال العظيم وقالت: من عسى يوجد في هذا المكان؟!

وأجابتها فاندا من الثقب وقالت: يوجد امرأةٌ تعيسة تكاد تموت من الجوع.

فأخذت العجوز قطعةً ملتهبةً من الخشب وأدنتها من الثقب ورأت وجه فاندا وقالت لها: من أنت؟! وكيف وصلت إلى هنا؟!

– إني أسيرةٌ في هذه البئر وقد برح بي الجوع.

وقد أدركت فيليبيت في الحال أنها أسيرة تيميلون، وأنها تمكنت من حل وثاقها والبلوغ إلى الدهليز، ولكنها تظاهرت بالانذهال وقالت لها: كيف تمكنت من الدخول إلى الدهليز وهذا الثقب ضيق لا يمكن أن يمر به إنسان؟!

– إني لم أسجن بهذا الدهليز، بل في بئرٍ تتصل به، وإن في هذه البئر كثيرًا من الجرذان فقضمت وثاق يدي، وفككت بعد ذلك وثاق رجلي، وبعد البحث الطويل رأيت منفذًا بلغت منه إلى هذا المكان، وكنت أرجو أن أستطيع النجاة، ولكن الثقب ضيق ولا سبيل إلى الخروج منه.

– ومن الذي سجنك؟!

– رجلٌ يكرهني ويريد أن يميتني جوعًا.

فأخذت العجوز قطعة خبزٍ من جيبها وقالت: خذي وكلي فإنك لا تموتين جوعًا بعد أن اهتديت إليك، لكن ألا يوجد طريقة لإنقاذك؟!

– إنك عجوز لا تستطيعين كسر باب البئر التي سجنت فيها، لكنك تستطيعين أن تدعي لي الرجل الذي يهواني.

– ألك عشيق؟

– نعم، وهو من كبار الأغنياء، وسيهبك مالًا يكفيك إلى آخر العمر.

فارتعشت فيليبيت كأنما خطر لها أن تخون تيميلون، وكانت فاندا لا تزال بالملابس التي كانت عليها حين اختطفها تيميلون، ولم يكن قد خطر لهم تفتيشها، فأخذت كيسًا من جيبها وهزته فسمعت العجوز رنين ما فيه من الذهب ومدت يدها إليها، فقالت لها فاندا: اصغي إلي، إني لست متسولة وإني كثيرة المال وكذلك عشيقي؛ لأنه من أصحاب الملايين، وإذا وصلت إليه وأخبرته بأمري وأنقذني أعطاك مائتي جنيه، عدا ما أمنحه إياك أنا من الهبات.

فاضطربت العجوز اضطرابًا شديدًا وذكرت أن تيميلون لم يعدها إلا بخمسة عشر دينارًا، في حين أن هذه المرأة تعدها بثروةٍ عظيمة، فقالت لها: قولي يا سيدتي، أين هو عشيقك هذا؛ لأنك تريدين أن أذهب إليه دون شك؟

– نعم، وهو يقيم في شارع سانت لازار نمرة ٥٢، واسمه الماجور أفاتار.

– إنه اسمٌ غريب أخاف أن أنساه وأنسى اسم الشارع والنمرة.

فأخذت فاندا ورقة من دفتر كان بجيبها، وكتبت عليه باللغة الروسية بضعة أسطر وباللغة الفرنسية اسم الماجور أفاتار ونمرة الشارع ثم أعطتها الورقة، وقالت لها: أسرعي إليه، وإذا لم تجديه في المنزل تجدين رجلًا ضخمًا وهو خادم المنزل وهو يرشدك إلى الماجور أفاتار.

– سأفعل ما تريدين، وها أنا ذاهبةٌ في الحال، ولكن ألا تعطيني واحدًا من هذه الدنانير؟

كلا، إنك إذا كان لديك دينار فلا تمرين بخمارةٍ حتى تدخلي إليها وتسكري قبل الوصول إليه، ولكنك ستكونين راضية أتم الرضا بعد عودتك، والآن قولي أين نحن من ساعات الليل؟

– في الساعة ١١.

فسُرت فاندا؛ لأنهم لم يحضروا لها الطعام وقالت: لا شك أنهم لا يحضرونه قبل الصباح؛ لأنهم لو حضروا ولم يروها بحثوا عنها فوجدوها في الدهليز، فلما ذهبت العجوز أقامت فاندا ترجو وتنتظر.

أما العجوز فإنها لما صارت خارج البئر تنبهت لما هي فيه وتنازعها عاملان: عامل الإخلاص لتيميلون، وعامل الطمع بالمال؛ لأن تيميلون وعدها أن يعطيها خمسة عشر دينارًا لكن فاندا وعدتها بمائتين، فعزمت في البدء على خيانة تيميلون، لكنها ذكرت أن هذا الداهية كان يخدم البوليس فقالت في نفسها: إني إذا خنته من أجل المال قبض علي وسلبني ما كسبته وعدت بالخسران.

وفيما هي واقفة هذا الموقف من التردد رأت رجلًا يدنو منها، ثم سمعت هذا الرجل يناديها باسمها، فعلمت أنه صوت تيميلون، وقالت له: كيف أتيت إلى هنا؟ ألعلك خشيت أن أخونك؟

– كلا، ولكن حدث لي ما لم يكن في الحسبان، بحيث تمكنت من مبارحة المنزل، وأتيت أتجسس في هذا المكان والآن هل سمعت صراخها؟

– بل سمعت ما هو خيرٌ من ذلك؛ لأنها كلمتني ورأيتها.

فاضطرب وقال: هذا محال؛ لأنك لا تستطيعين المرور من الثقب.

– هو ما تقول، ولكنها هي تمكنت من الوصول إلى الثقب؛ لأن الجرذان قرضت وثاقها؛ فتسلقت الجدار إلى الدهليز ووصلت منه إلى الثقب ووعدتني بإعطائي مائتي دينار إذا أنقذتها.

فغير تيميلون خطته في الحال وقال: حسنًا سنقتسم هذا المال.

– كيف ذلك؟!

– ذلك لأني لم أقبض أجرة سجنها غير ٤٠ دينارًا.

فظنت العجوز أنها أدركت قصده وقالت له: إذن اذهب إلى الرجل الذي أرسلتني إليه في شارع لازار نمرة ٥٢؛ لأنها أعطتني رسالة إليه؟

– دون شك.

ثم أخذ منها الرسالة وجعل يقرأها على نور سيكارة كان يدخنها.

٣١

وقد عرف القراء أن تيميلون كان متقيدًا بالبقاء أمام السير نيفلي؛ إذ كان يخشى أن يستفيق فجأةً ويفتضح أمره، أما السبب في وجوده عند بئر العجوز، فهو أن السير نيفلي قد استفاق قبل أن يلتقي تيميلون بالعجوز بساعتين.

وكان تيميلون قد أقام طول النهار قرب السير نيفلي وهو يفتح النوافذ من حينٍ إلى حين، وينظر إلى السير نيفلي فيجده جثةً باردة، ويذكر أن أنطوانيت لم تستفق إلا بعد ٣ أيام، ولا بد إذن للسير نيفلي أن يبقى على هذه الحال يومًا وليلة أيضًا.

غير أنه كان يقول: إن الأمزجة تختلف وإن بنية الرجال أشد من بنية النساء فقد يصحو قبل هذه المدة.

وقد صحَّت ظنونه؛ فإنه بينما كان يفتكر بهذه الأمور سمع فجأةً تنهدًا ضعيفًا خرج من صدر السير نيفلي، فارتعش تيميلون وأسرع إليه فوجد أن شفتيه قد فتحتا بعد انطباقهما، ووضع يده فوق قلبه فشعر أن النبض عاد إليه وعادت الحياة.

وعند ذلك أخذ قدحًا ووضع فيه خلًّا وغمس بأطراف منديله وجعل يدلك صدغيه، ثم شفتيه ثم عينيه وكان في خلال ذلك قد خلع تنكره وعاد إلى الهيئة التي عرفه بها السير نيفلي في منزله.

ولم يطل دلكه حتى فتح السير نيفلي عينيه، ثم ابتسم وقال له: كنت أعرف من أنت؛ إذ عرفتك من صوتك.

فتراجع تيميلون منذهلًا وقال: كيف ذلك؟!

– ذلك أني حين شربت ذلك المخدر فقدت كل صوابي ما خلا حاسة السمع، فعلمت كل شيء وسمعت حديث فاندا مع روكامبول وحديث روكامبول مع ميلون في المركبة التي نقلوني إليها، وعرفت أيضًا اسم الشارع الذي نحن فيه وهو فيرابو، وأن جيبسي تقيم في هذا المنزل مع فتًى يدعى مرميس، ثم علمت أيضًا أنهم وضعوني في بئر وأنت الذي أنقذتني منها.

والآن لنتحدث؛ إذ عرفت أني عالمٌ بكل شيء، لقد علمت من حديثك مع امرأة تدعى فيليبيت أن فاندا في قبضتك.

فقال تيميلون: نعم.

– ماذا عزمت أن تصنع بها؟

– أن أستخدمها شركًا لقنص روكامبول ثم أقتل الاثنين.

– متى؟

– كنت أنتظر لتنفيذ ذلك أن تستفيق.

– لماذا، ألعلك محتاجٌ إلي؟

– كلا …

فابتسم السير جمس وقال: إذن تريد أن تعرض علي شروطك؟!

فقال له تيميلون: لقد قلت لك أيها الميلورد منذ يومين: إن خير جزاءٍ لي هو قتل روكامبول، ومع ذلك إني فقير وقد صرت شيخًا، فإذا أردت أن تساعدني بشيءٍ من المال، يقيني شر العوز في شيخوختي، أكون لك من الشاكرين.

– كم تريد؟

– مائة ألف فرنك …

– سأعطيك هذا المال، أهذا كل ما تريد؟

– وتعطي أيضًا الذين خدموك قدر ما تريد …

– ليعينوا أيضًا المبلغ الذي يريدونه فلا أبخل عليهم بشيء، أبقي شيءٌ بعد؟

– كلا، سوى أمر واحد وهو أني أنبهك أن هذا المنزل غاص بأعدائنا ويجب الحذر الشديد، أما الآن وقد صحوت فقد وجب أن أبدأ بالعمل.

– افعل ما تشاء.

وعند ذلك سمع صفيرًا من الشارع فقال تيميلون: هو ذا باتير قد حضر.

وقال له السير جمس: أهو الرجل الذي واعدته على المقابلة في هذا المساء؟

– نعم …

– إذن أوضح لي أمرًا لا يزال خافيًا علي …

– قل ما تريد يا سيدي.

– لماذا أمرت هذا الرجل أن يشتري برميلًا من البارود؟

فأجابه ببرود: كي أنسف به فاندا وروكامبول …

ثم عاد إلى التفكير وقال له: يجب الآن أن أذهب للقاء باتير.

– افعل ما تشاء؛ فإن من كانت له مهارتك لا يتعارض فيما يريد.

٣٢

ولنعد الآن إلى روكامبول، لقد غادرناه حائرًا مضطربًا في منزل السير جمس حين علم من الخدم أن فاندا غير موجودة فيه، وقد أجابه الخدم كلهم جوابًا واحدًا؛ وهو أنهم خرجوا من المنزل بالإجازة ولما عادوا إليه، عند الفجر لم يجدوا السيد ولا السيدة.

فقال لهم روكامبول عند ذلك: إني صديقٌ حميم للسير جمس نيفلي، وأنا قلق مثلكم لاختفائه، وإذا كان لا بد لي من إيجاده وإيجاد السيدة التي كانت معه يجب أن تطيعوني، ثم إني مرتاب ريبةً شديدة وينبغي لاكتشاف الحقيقة أن لا يعلم أحدٌ من سكان الشارع بشيءٍ مما حدث.

ووعده الخدم بالامتثال له وبالكتمان، فدخل روكامبول إلى القاعة وأقام ينتظر.

وبعد ربع ساعة جاء ميلون فقال له روكامبول: كنا نحسب أن الفوز لنا فإذا نحن مغلوبون.

وحملق ميلون بعينيه وقال: لا أفهم ما تعني.

– أين فاندا؟

– يجب أن تكون هنا.

– إنهم لم يروها في المنزل منذ الليلة الماضية، ولا حاجة إلى القول أنهم اختطفوها.

– من الذي اختطفها؟!

– هذا ما يجب أن نبحث عنه، فاتبعني.

ثم مشى أمامه يتبعه ميلون إلى غرفة فاندا، وهي الغرفة التي تخدر فيها السير جمس، ففحص أرض الغرفة وقال له: انظر ألا تجد فيها أثر العراك والنعال الموحلة.

– نعم …

– إنهم اختطفوها دون شك، وقد رأيت هذه الأقدام عند الباب الخارجي، وأثر مركبةٍ ذات أربع عجلات ولا بد أن يكونوا استخدموها لنقل فاندا.

– إذا لم يكن الإنكليزي الذي اختطفها فمن تراه يكون؟

– أخشى أن يكون ذلك من صنع رجاله، وقد أنفذوا خطةً كانت مقررةً من قبل.

فقال ميلون: إن ذلك بعيدٌ أيضًا؛ لأنه إذا كان الإنكليزي أمر رجاله من قبل كما تقول فلماذا لم يصبر على تنفيذ أمره وحاول قتلها؟!

فاقتنع روكامبول من كلام ميلون ولكنه قال: لا بد أن يكون الذين دخلوا إلى هذا المنزل على اتفاقٍ مع السير جمس، وإلا كيف تمكنوا من الدخول؟!

– إني لا أرى ما تراه؛ لأنهم إذا كانوا على اتفاقٍ معه كان يجب أن يفتح لهم الباب بنفسه؛ إذ لم يكن أحدٌ من الخدم في المنزل، وإذا كان ذلك فلماذا لم يقبلوا لنجدته حين اختطفناه؟

– لقد أصبت أيضًا، فمن تظنه اختطفها؟!

– أظنه ذلك الرجل الألماني الذي تدعونه الماجور هوف.

ففكر روكامبول هنيهةً ثم قال: إذا صح ظنك؛ فإن هذا الرجل لم يفعل وحده ما فعل، ولا بد أن يكون لميلادي دخل بهذا الشأن، وستحضر ميلادي؛ لأنها واعدت السير نيفلي على الاجتماع في هذا المنزل.

وفيما هو يقول ذلك سمع صوت جرس الباب الخارجي فأطل من النافذة المشرفة على الحديقة، ورأى امرأةً نزلت من مركبة ودخلت وهي مبرقعة ببرقعٍ كثيف، فعلم روكامبول لفوره إنها ميلادي، وأسرع إلى مناداة أحد الخدم وقال له: ادخل بهذه المرأة إلى القاعة وسلها أن تنتظر.

فامتثل الخادم وانصرف.

أما ميلادي فقد كانت واثقةً أن الذي يستقبلها هو السير جمس نيفلي نائب زوجها علي رمجاه الهائل، ودخلت دون حذر، ولم تكد تجلس في القاعة حتى دخل روكامبول.

وانذهلت ميلادي حين رأته؛ لأنها ذكرت في الحال أنه ذلك الرجل الذي قال: إنه صديق لوسيان، وأوصلها إلى منزل خطيبته، وقالت له: كيف اتفق وجودك هنا يا سيدي؟! ألعلك تعرف السير جمس؟!

– إنه عهد إلي يا سيدتي أن أستقبلك.

فاضطربت ميلادي اضطرابًا شديدًا ولكنها أخفت اضطرابها وقالت: تريد أن تقول يا سيدي: إن السير جمس اضطر إلى الذهاب لبعض الشئون فعهد إليك أن تدعوني إلى الانتظار؟

– كلا يا سيدتي؛ فإن السير جمس سافر في هذا الصباح إلى لندرا.

– إذن لم يبق لي إلا الرجوع من حيث أتيت.

– لا حاجة إلى رجوعك يا سيدتي؛ فإن لي سلطة السير جمس، بل لي سلطة علي رمجاه أيضًا.

فانذهلت ميلادي انذهالًا شديدًا وقالت: ماذا تقول؟!

– لا يجب أن تنذهلي يا سيدتي؛ فإن لرئيس الخناقين في الهند كثيرًا من النواب في أوروبا …

– ماذا تدعى يا سيدي؟

– الماجور أفاتار، وسأذكر لك بأتم الإيجاز، ما تعلمين منه أني واقفٌ على كل أسرارك؛ فإن علي رمجاه والد ابنك وإنك اشتركت معه بقتل أبيك وبينك وبينه أسرارٌ كثيرة تقضي عليك بطاعته.

فأيقنت ميلادي أنه حقيقةً نائبُ علي رمجاه، وقالت له: بماذا يأمر الرئيس؟

– سأطلعك على أوامره بعد ثلاثة أيام، وقد أذنوا لك أمس برؤية ابنك فهل رأيته؟

– نعم …

– إذن بعد ثلاثة أيام في مثل هذه الساعة ترينني عند ابنك، فتعلمين ما يريد علي رمجاه.

ونهضت ميلادي تحاول الانصراف فودعها روكامبول بملء الاحترام، حتى إذا وصلت إلى الباب قال لها: كلمة أيضًا يا سيدتي.

– ما هي؟

– لا يوجد في باريس من يعرف شيئًا من علائقي مع الخناقين، فإذا أردت السلامة لولدك فاحذري أن يعلم باجتماعنا أحد.

– لا حاجة إلى توصيتي، وسأكتمها كل الكتمان عن ولدي.

– لا أريد كتمانها عن ولدك فقط بل عن فرانز أيضًا.

فاحمر وجه ميلادي وقالت: أتعرف هذا السر أيضًا؟!

– إني أعرف كل شيء، فاحذري.

ثم أعانها على الصعود إلى المركبة وعادت إلى الفندق.

وعاد روكامبول إلى ميلون وقال له: إن هذه المرأة كانت تحسب أنها تجد السير جمس ولا تعلم شيئًا من أمر فاندا.

فقال ميلون: إذن لا دخل لها في اختطافها.

– إني واثقٌ كل الثقة …

ثم وضع رأسه بين يديه وجعل يفتكر.

وقال ميلون: اصغ إلي يا حضرة الرئيس، إن فاسيلكيا قد ماتت، والسير نيفلي في قبضة يدنا، وإذا كانت فاندا قد اختطفت فما اختطفها إلا تيميلون.

فاضطرب روكامبول اضطرابًا شديدًا وقال: ويحك! ما هذا الاسم الذي ذكرته؟! وكيف خطر لك هذا الخاطر؟!

– ذلك لأن تيميلون ألدُّ عدوٍّ لك.

– هو ما تقول، ولكنه غير موجود في فرنسا؟

– من يعلم؟

– وهب أنه الآن في فرنسا فكيف اهتدى إلى فاندا؟

– ألم تقل لك فاندا: إن السير نيفلي حاول قتلها؟

– نعم …

– إذن من الذي أنبأه بخيانة فاندا حتى أراد قتلها وقد كان مفتونًا بها؟

واتقدت عينا روكامبول ببارقٍ هائل من الغضب وقال: الويل له إذا كان قد تصدى لي.

وهز ميلون رأسه وقال: أظن يا حضرة الرئيس أن تيميلون لم يعد يخشاك!

– لماذا؟!

– لأنه لم يعد لديه ما يخافه بعد موت ابنته.

ورجع روكامبول خطوةً إلى الوراء وقال: أأنت واثقٌ مما تقول؟

– نعم، وقد علمت ذلك حين كنا في لندرا.

وعاد روكامبول إلى التفكير إلى أن قال له ميلون: أرى يا سيدي، أنه إذا كان تيميلون قد اختطفها فلا يجب أن نضيع الوقت بالتفكير فقد يخشى أن يقتلها.

وجعل العرق البارد ينصب من جبين روكامبول دون أن يجيب، فقال له ميلون: يجب أن نخرج من هذا البيت؛ كي نبحث عن تيميلون.

– كلا، يجب أن تبقى أنت هنا فإنه إذا كان تيميلون قد اختطفها فهو حليف السير نيفلي دون شك، ولديه مفتاح المنزل وهو غير عالم باختطاف السير نيفلي، فإذا كان ذلك فلا بد له من العودة إلى هذا المنزل ليراه.

– أصَبت يا سيدي وسأبقى هنا، وأنت ماذا تصنع؟

– إني ذاهب للبحث عن فاندا.

•••

مهما يكن البوليس حاذقًا فإنه يضل سعيًا حين بحثه عن مجرم لم يهتد إلى أثرٍ من آثاره.

وكان روكامبول أمهر من أحذق بوليس في العالم كما دلت عليه أعماله، إلا أنه في هذه المرة خفي عنه كل أثر؛ فإن ميلون نبهه إلى تيميلون، غير أن مداخلة هذ الرجل لم تكن أمرًا أكيدًا، ولا ريب أن فاندا قد اختُطفت ولكن لم يقم دليل لروكامبول أن الذي اختطفها هو تيميلون، فرأى روكامبول أن يبدأ بالبحث عن فاندا.

فخرج من المنزل وكان أول ما رآه أثر دواليب المركبة التي عاد فيها تيميلون فرأى أنها قد دارت قبل مسيرها، فعلم أنها سارت في جهة الشانزليزيه.

فلقي حمالًا كان يرود في ذلك الشارع فسأله، أخبره الحمال أنه شاهد بعد نصف ساعة من منتصف ليلة أمس مركبةً مرت بقربه، وسمع رجلٌ يقول لسائقها: سر بنا إلى رومانفيل من الشارع الخارجي، ولم ينظر الحمال إلى داخل المركبة فلم يعلم من فيها.

فلم يستفد روكامبول شيئًا مما سمعه؛ لأن هذه المعلومات كانت مبهمة فسار في سبيله، ولكنه لم يبتعد قليلًا حتى ناداه العتال وقال له: إن مصابيح المركبة كانت حمراءَ وكان أحد الجوادين أبيضَ اللون والآخر أسودَ.

وهذان اللونان كثيرا الشيوع بين جياد المركبات غير أن روكامبول قال في نفسه: لا بد أن يكون قد استأجروا المركبة من هنا، فَلِنَرَى.

وسار روكامبول إلى أقرب إصطبل فرأى تلك المركبة التي وصفها الحمال واقفة عند بابه، وعلى دواليبها أثر وحولٍ حمراء وبيضاء، وهذه الوحول لا توجد عادةً في شوارع باريس، فلا بد أن تكون هذه المركبة سارت إلى الضواحي ومرت قبل ذلك بتلك السواقي التي تنحدر فيها مياه المعامل القذرة.

ففتح روكامبول باب المركبة ودخل إليها وقال للسائق: إني أستأجر مركبتك بالساعة.

– إلى أين يريد سيدي أن أسير به؟

– فنظر إليه روكامبول تلك النظرات الجافة الخاصة برجال البوليس وقال: إلى إدارة البوليس، فأظهر السائق حركة اشمئزاز تنبه لها روكامبول وسار بمركبته بالكره عنه.

فلما وصلت إلى الشانزليزيه أوقف روكامبول السائق وقال له: إننا ذاهبان إلى دائرة البوليس ولكن لا نصل إليها بوقتٍ قريب كما تظن.

فانذهل السائق وقال: لماذا؟!

– لأنه يجدر بنا أن نذهب توًّا إلى رومانفيل.

فلم يكد روكامبول يتم جملته حتى بدت دلائل الذعر على وجه السائق، فقال روكامبول: يسرني أنك فهمت قصدي كما أرى من اضطرابك فقف قليلًا، ثم خرج من المركبة وصعد إلى جنب السائق وجلس بقربه وقال له: سر الآن؛ فإني أحب أن أحادثك في بعض الشئون.

٣٣

إذا كان يوجد فئة بين الناس تخاف البوليس خوفًا أكيدًا فهي فئة الحوذيين، ولعل ذلك لكثرة ما ترتكب من الهفوات ولشدة غلظتهم في معاملة من يركبون مركباتهم؛ ولذلك حسب السائق أن روكامبول من كبار رجال البوليس السري فهُلِعَ قلبُه خوفًا ولكنه أخفى اضطرابه قدر الإمكان، وحاول أن يتظاهر بالجسارة؛ توهمًا منه أن ذلك يدفع عنه المظنة، فقال له: ماذا تريد أن تحدثني به؟ وما هذا السلوك الغريب؟ وإلى أين تريد أن تسير؟

ونظر إليه روكامبول نظرةً هادئة وقال له: لا تحاول الإنكار مع مثلي؛ فإنه لا يفيدك، وإذا سرت بك إلى دائرة البوليس فإنك تقيم في السجن إلى أن ينتهي أمرك.

وقال له السائق بلهجة الخائف: لكن الأبرياء لا يسجنون؟

– بشرط أن يثبتوا براءتهم ولا أرى ذلك سهلًا عليك، على أني سأقص عليك أمرك بإيجاز؛ كي لا تعود إلى الإنكار، فاعلم أنك أجرت مركبتك في الليلة الماضية …

– دون شك، وما يمنعني عن تأجيرها؟ ألا يجب أن أعيش؟

– نعم، ولكن ذلك يتعلق بالرجل الذي أجرته إياها، فإذا كنت لا تريد أن تقول: ماذا فعلت في الليلة الماضية فأنا أقول عنك: إنك خرجت من شارع مارينيان.

– هذا الشارع الذي أقيم فيه.

– وإنك ذهبت منه إلى رومانفيل.

فاضطرب السائق اضطرابًا شديدًا لم يبق لروكامبول أقل أثرٍ للريب، فتابع: وكان يوجد في مركبتك امرأة قيدوها ووضعوا الكمامة في فمها.

وتبدل اضطراب السائق باصفرار الوجه، وتابع روكامبول: إن وجهك ينوب عن لسانك بالاعتراف، فلنذهب الآن إلى رومانفيل قبل الذهاب إلى البوليس، واحذر أن تسلك غير الطريق التي سلكتها أمس.

قال له السائق: أرى يا سيدي أنك من كبار رجال البوليس وأحذقهم ولا ينطلي عليك محال.

فابتسم روكامبول قائلًا: لقد حاولوا ذلك كثيرًا ولم يفلحوا!

– لكني أقسم لك يا سيدي أني لا أعرف الرجلين ولا المرأة التي اختطفوها!

– إذن كان يوجد رجلان؟

– نعم …

– وامرأة؟

– إنك تعلم ذلك أكثر مني.

– ربما … لكنني أحببت أن أمتحنك لأعلم إذا كنت صادقًا، فقل لي الآن: كيف كان هذان الرجلان؟

– أحدهما طويل ضخم الجثة أبيض الشعر.

– أيدعى تيميلون؟

– هو ما تقول؛ فإني سمعت الرجل الذي كان معه يدعوه بهذا الاسم.

– والآخر، ماذا يدعى؟

– إن اسمه غريب؛ لأني سمعت المرأة تدعوه باتير وهو يدعوها شيفيوت.

وجمدت عروق روكامبول من الخوف والإشفاق على فاندا، وقال في نفسه: ما عسى يكون مصيرها بين هؤلاء الأشقياء الثلاثة؟

وبعد صمتٍ قليل قال للسائق: إن خلاصك موقوفٌ على إخلاصك، وإلا فالسجن يكون نصيبك؛ لأنك اشتركت مع هؤلاء الأشقياء باختطاف امرأة، وربما بقتلها.

وصاح السائق صيحة رعبٍ قائلًا: أقسم لك يا سيدي أني كنت أحسبُ الأمرَ أمرَ غرامٍ.

وقد تبين لروكامبول الصدق من مخائله وقال: سر بي الآن إلى رومانفيل وهناك أنظر في أمرك.

وسار السائق في نفس الطريق التي سار بها ليلة أمس، حتى وصل إلى المكان الذي وقف فيه تلك الليلة ووقف قائلًا: هنا أوقفوني يا سيدي، وساروا بالمرأة.

ونزل روكامبول ورأى أثر أقدامهم جميعهم فعلم أن هذه الطريق مؤدية إلى الآبار، وقال في نفسه: إما أن يكونوا قد قتلوها، وإما أن يكونوا سجنوها في إحدى تلك الآبار، فإذا كان الأول فقد أتيت بعد الأوان، وإذا كان الثاني فلا يزال الوقت فسيحًا لإنقاذها، وفي كل حال فإني لا أستطيع الدخول إلى هذا الشارع بهذه الملابس فصبرًا إلى المساء.

ثم عاد إلى المركبة وقال للسائق: عد بي إلى باريس.

فقال له السائق بصوتٍ يضطرب، إلى أين تريد أن أسير بك يا سيدي؟

قال: إلى إدارة البوليس، وقد رأى روكامبول ما أصابه من الرعب، فقال له: لا أنكر أنك اشتركت بالخيانة ولكني واثق أنك اشتركت بها دون أن تعلم.

فرجا السائق بعض الخير وقال: أقسم لك يا سيدي أني بريء.

– ذلك أكيدٌ عندي، ولكن قد نحتاج إلى النظر في أمرك، فماذا تدعى؟ وأين تقيم؟

– أدعى إمبرواز جيرود، وأقيم في شارع نقطة الذهب نمرة ٣.

فأخذ روكامبول دفتره من جيبه وكتب ما قاله، ثم قال له: سر بي إلى الشارع الذي لقيتك فيه وسوف نرى في أمرك.

فتنهد السائق تنهد الراحة وسار به إلى قرب منزل السير نيفلي، فخرج روكامبول من العربة وقال له: انتظرني، ثم دخل إلى المنزل فرأى ميلون لا يزال فيه، فأخبره بجميع ما اتفق له.

– ميلون: إذن يجب أن نذهب إلى الآبار في الحال.

– كلا ليس الآن؛ فإن الأشقياء إذا كانوا قتلوا فاندا فلا فائدة من أبحاثنا، وإذا كانوا سجنوها فلا ينفع البحث عنها إلا في الظلام؛ حيث نختلط مع أولئك اللصوص الذين يبيتون في تلك الآبار.

– لقد أصبت، فماذا يجب أن أصنع إلى المساء؟

– يجب أن تبقى هنا؛ فإن تيميلون لم يختطف فاندا من هذا المنزل إلا وله مأرب فيه، فلا بد له من العودة إليه.

ثم تركه وعاد إلى السائق وقال له: اذهب الآن في شأنك، ولكني أشير عليك أن تدعي أنك مريض، فترجع المركبة إلى الإصطبل وتذهب إلى منزلك فتقيم فيه.

السائق ببساطة: لماذا؟!

– لأننا قد نحتاج إليك بصفة شاهد، وكان يخلق بي أن أرسلك إلى السجن غير أني أشفقت عليك؛ لاعتقادي أنك بريء، ثم أشير عليك بأمرٍ آخر؛ وهو أن الصدفة قد تجمعك بأحد أولئك اللصوص، فاحذر أن تخبرهم بشيءٍ مما جرى، واعلم أنه يوجد من يراقبك.

فبكى السائق لسروره بالنجاة وانطلق داعيًا لروكامبول وهو يحسبه من كبار رجال البوليس.

٣٤

وفي المساء اجتمع ميلون وروكامبول فلبسا ملابس قديمةٍ وتنكرا وذهبا إلى الشارع الأميريكي، فدخلا إلى إحدى خماراته وطلبا كأسين من الشراب وجعلا يراقبان زبائن تلك الخمارة وهم خليطٌ من اللصوص والمتشردين.

وفيما هما على ذلك دخلت امرأة وهي تبكي وتستنجد بأولئك اللصوص وتقول: لقد أوشك أن يقتلني هذا الخائن ولم أجد بين الرفاق من يدافع عني، فلو لم أهرب لأجهز علي.

وقال لها أحد الحاضرين: من هذا؟!

– هو ليون الذي كان يتفانى في غرامي، ورغب عني بحب زبلي الفتاة التي تقيم في شارع فيرابو.

وانتبه روكامبول انتباهًا عظيمًا عند ذكر اسم فيرابو، وعادت المرأة إلى حديثها وقالت: أتعلمون كيف أصبت بهذه الخيانة … إن هذه الفتاة التي تدعى زبلي جاءت إلى الشارع الأميريكي منذ أسبوع؛ لأن صاحب الخمارة في شارع فيرابو طردها من منزله، وجعلت تقص علينا القصص وتروي لنا حديث غلامٍ يدعى مرميس.

وكان بين الحاضرين باتير، فأراد أن يعرف أين يقيم مرميس فأبت أن تخبره، وحاول ضربها، ولكن صاحب الخمارة تداخل وعرف العنوان، ولا أعلم كيف أني أشفقت على هذه الفتاة وتوليت حمايتها وصحبتها إلى البئر التي أقيم فيه، وفي اليوم التالي جاء ليون وأخبرنا أن البوليس عازمٌ على كبس الشارع؛ فهربنا وأخذت زبلي، ولم يمضِ ٣ أيام حتى ملكت قلبه فطردني وحلت هذه الغادة مكاني.

وفي هذه الليلة هاجني الحقد إلى الانتقام منها فما زلت أبحث عنها حتى عثرت بها في خمارةٍ قرب بئر الشيطان، ولكن ليون كان معها، وبدلًا من أن أنتقم منها انتقمت مني؛ فإن هذا الخائن انهال علي بالضرب الأليم، حتى أوشكت أن أموت ولم أجد من يحميني.

ولما وصلت بحكايتها إلى هذا الحد أظهر روكامبول أنه تحمس لحديثها ودنا منها قائلًا: أنا أنتقم لك من هذا الرجل، لقد راق لي جمالك.

ونظرت إليه الفتاة نظرة المنتقد وقالت: وأنت تروق لي أيضًا؛ لأنك جميل!

– نعم وقويٌّ أيضًا …

– إذن أحبك بشرط أن تنتقم لي من ليون.

– بل أسحقه سحقًا ولا يعود بعدها إلى الخيانة.

والتف اللصوص حول روكامبول ولم يكونوا قد رأوه من قبل، وجعلوا يسألونه: من هو؟ ومن أين أتى؟ فأجابهم: أنا منكم وقد أتيت من أميريكا (أي من السجن حسب اصطلاحهم).

ثم نظر إلى الفتاة قائلًا لها: أتريدين أن تذهبي معي الآن للبحث عن هذا الرجل؟

– أتنتقم لي منه أمامي؟

– بلا ريب، بل أنتقم لك من كل من يحاول الانتصار له.

ثم تأبط ذراعها وخرج بها وتبعهما ميلون، وقال لها وهما على الطريق: إني سأنتقم لي ولك على السواء فإنك أنت حاقدة على باتير.

– لا أظن أنك تجده في المحل الذي نحن ذاهبون إليه!

– لماذا؟!

– لأنه منذ عدة أيام لم نره فيه …

– لا بأس وسنرى.

وسارت بهما الفتاة حتى بلغت إلى المكان الذي وقفت فيه المركبة، ورأى روكامبول آثار أقدام تيميلون، فارتعش لا سيما حين رأى الفتاة تسير في الجهة التي سار فيها تيميلون.

وما زالوا يسيرون حتى انتهوا إلى الخمارة المحيطة ببئر الشيطان، ومروا عدة مراتٍ بهذه البئر المسجونة فيها فاندا دون أن يفطنوا لها؛ إذ لم يكن أحد يعرف مدخلها.

وقد ذهبوا إلى كل تلك الخمارات فلم يجدوا ليون ولا زبلي، حتى أضنكهم المسير وانتهوا قرب الفجر إلى خمارةٍ فدخلوا إليها، وكانت الفتاة قد مسها الجوع، فجعلت تأكل وتفرط في شرب الخمر حتى دب النعاس في أجفانها وأطبقت عيناها، وقام روكامبول وتبعه ميلون ودفعا ثمن الأكل والشرب، وخرجا من تلك الخمارة والمرأة نائمة فيها، ولم تنتبه إليهما.

وعاد الاثنان إلى منزل روكامبول فغيرا ملابسهما ثم ذهبا إلى منزل السير نيفلي، وعلما من الخدم أنه لم يحضر أحد إلى المنزل، فعاد روكامبول إلى منزله وأرسل ميلون إلى بيت الخمار؛ حيث تقيم جيبسي، فأخبره الخمار أن فتاةً تدعى زبلي جاءت إلى البيت وطلبت أن ترى مرميس وطردتها؛ لعدم ثقتي بها، وعاد ميلون إلى روكامبول وأخبره بما كان، فأمره أن يعود إلى الخمارة وأن ينتظر فيها عودة زبلي، وإذا عادت وعلم منها ما تريد يرجع إليه ويخبره، فامتثل ميلون ومضى.

وأقام روكامبول ينتظر في منزله وكان يثق ثقةً تامة بذكاء فاندا ويقول في نفسه: إنها إذا كانت سجينة فلا تعدم وسيلة لإخباري.

ومضى النهار ولم يعد ميلون واستدل من ذلك أن زبلي لم تعد إلى بيت الخمار قبل الليل.

ولما أوشك روكامبول أن ييأس سمع صوت مجادلة في صحن الدار؛ وذلك أن امرأةً كانت تريد أن تدخل إلى روكامبول والخادم يمنعها، فأسرع روكامبول ليعلم سبب هذا الخصام، ورأى فيليبيت بملابس المتسولات تحمل بيدها تلك الورقة التي كتبت عليها فاندا إلى روكامبول تخبره أنها سجينة بأمر تيميلون وتدعوه إلى أن يتبع حاملة الرسالة؛ كي ترشده إلى مكانها.

ففرح روكامبول وجعل يتأهب للمسير مع فيليبيت.

٣٥

ولنعد الآن إلى تيميلون؛ ذلك أننا تركناه مع فيليبيت، وقد أخذ منها الورقة التي كتبتها إلى روكامبول فقرأها ثم ردها إلى العجوز.

وكان قبل ذلك غادر السير نيفلي بعد أن أوصاه بالحذر الشديد وذهب لمقابلة باتير فلقيه ينتظره في عطفة الشارع وسأله: ماذا صنعت بالبرميل والفتيل؟

هيأت كل شيء ووضعت كل المعدات في البئر.

فنظر تيميلون في ساعته وقال: نحن في الساعة التاسعة الآن بحيث نستطيع أن نرى فيليبيت قبل ذهابها.

ثم ذهب الاثنان فأقام باتير عند البئر المسجونة فيه فاندا، وذهب تيميلون إلى البئر التي كانت فيه العجوز، فلقيها تتأهب للرحيل.

ولم تكن العجوز تعلم شيئًا من مقاصد تيميلون، كما أنها لم تكن تعرف شيئًا عن الماجور أفاتار، ولما أطلعته على رسالة فاندا سر بها وقال: أرى أن التوفيق يخدمنا كما نريد.

– كيف ذلك؟! وماذا يجب أن أصنع؟!

– تذهبين بهذه الرسالة إلى صاحبها وأنت تعرفين عنوانه.

– أتظن أنه يعطيني المائة دينار؟

– بلا ريب وسوف نقتسمها.

– أقسم بالله إذا وصل هذا المبلغ إلى جيبي لأقضين بقية العمر بين الخمر والقناني فأصل السكرة بالسكرة ولا أستفيق ما حييت.

وضحك تيميلون وقال: ستنالين ما تطمعين به على شرطين؛ أحدهما: أن لا تسكري سلفًا، والثاني: أن تطيعيني في كل ما أريد.

– سأكون لك أطوع من بنانك فقل ما تشاء.

وأخذ تيميلون بيدها وقال لها: لقد بت عدة لياليَ في هذه البئر دون أن تعلمي شيئًا من أسرارها، فاعلمي أن هذا الثقب الذي كلمتِ منه المرأة السجينة منحوت من الصخر الأصم لا يمكن توسيعه إلا بآلاتٍ ضخمة تستلزم وقتًا طويلًا، وفوق ذلك فهو لا ينفذ إلى البئر، بل إلى الدهليز، إلا أنه يوجد في طرف هذه البئر التي تقيمين فيها منفذ آخر ينفذ إلى البئر التي فيه السجينة من دون أن يعترضه الدهليز، وهذا الثقب ضيق كالثقب الأول، إلا أنه منحوت من الحجارة الطرية المبنية وكل من كان معه مطرقة يستطيع توسيعه بأقرب وقت، وإذا كان لديه حبل أدلاه إلى البئر وبلغ ما يريد.

– أين هو هذا المنفذ؛ فإني لا أراه؟

– هو في طرف البئر مغطى بالأدغال، وإذا وصلت إلى هذا الرجل الذي أرسلتك إليه السجينة تخبرينه أنه يجب أن يحضر معه حبلًا ومطرقة، إنما اجتهدي أن تقبضي منه المال مقدمًا …

– لماذا؟!

– لأني لا أعلم ما يتفق، وقد يهوي إلى البئر عند نزوله إليها.

فابتسمت وقالت: أظن أني فهمت قصدك.

– لا شك عندي بذكائك وإذا فقدت جزاءه لا تفقدين جزائي، إنما احذري هذا الرجل كل الحذر.

– وأنا أنفقت نصف عمري في السجون.

ثم افترقا فذهبت العجوز إلى روكامبول وذهب تيميلون إلى باتير، ولقيه ينتظره عند فم البئر وقال له: لننزل إلى البئر؛ فإني أحب أن أرى المهمات التي أحضرتها.

ثم نزل الاثنان فأنار باتير مصباحًا وجعل تيميلون يفحص برميل البارود والفتيل، فأدخل الفتيل بالبرميل ووضع البرميل عند باب القبو ثم قال: إن هذا البارود يكفي لنسف البئر وما يجاورها.

– ألعلك أعددته لروكامبول؟

– بلا ريب، أما هو جدير بهذه الميتة؟!

وبرقت أسرة باتير بأشعة الفرح وأجاب: بورك فيك؛ لأن هذا الانتقام لا يخطر في بال أحدٍ من البشر.

– أما الآن فلم يبق علينا إلا أمر واحد.

– ما هو؟

– أن نضع أيدينا في جيوبنا وننتظر.

– ننتظر من؟

– ننتظر أن يقع الطير في الشرك.

– إني فهمت ما ستفعله بالتقريب ولكني لم أعرف طريقة الوصول إلى قصدك …

– صبرًا وسترى كل شيء؛ فإن روكامبول لا يستطيع النجاة إلا إذا كان من الأبالسة …

ثم قال لباتير: لا تَفُهْ بحرف ولا تكلمني إلا إذا كلمتك.

أما فيليبيت؛ فإنها كانت وصلت إلى روكامبول وأعطته رسالة فاندا كما قدمناه، ونظر روكامبول إلى هذه العجوز، وعرف لأول وهلة أنها من أولئك النساء اللواتي نزلن إلى أقصى درجات المجتمع الإنساني، ولكنه أمعن في الرسالة وعلم أن الخط خط فاندا، ولم يكترث بالرسول، ثم إنه أيقن أن فاندا في قبضة تيميلون، وإذا تمكنت من إغراء من يحمل رسالتها؛ فإن هذا الرسول لا يمكن إلا أن يكون من أتباع تيميلون.

أما هذه العجوز فقد كانت متوقدة الذهن شديدة الدهاء حين لا تكون سكرى! وكأنما علمت ما يجول في خاطر روكامبول، فقالت له بلهجةٍ تبين منها الصدق: إني خاطرت يا سيدي خطرًا عظيمًا في سبيل الوصول إليك؛ إذ لو علموا بخيانتي لقتلوني دون شك، ولكن السيدة التي أرسلتني إليك قالت لي: إنك كريم وإنك تمنحني مائتي دينار.

– اطمئني، ستنالين هذا المال …

وذكرت العجوز وصية تيميلون وقالت له: إني أؤثر يا سيدي أن أقبضه في العاجل …

– كلا، إني لا أدفع لك شيئًا قبل إنقاذ السيدة التي أرسلتك.

فسكتت العجوز، لكن روكامبول علم من سكوتها أنها لا ترشده إلى مكان فاندا إلا إذا رأت المال، فقال لها: اتبعيني.

ثم تقدمها إلى غرفته وفتح درجًا كان فيه كثير من الأوراق المالية فأراها إياها وقال: أتعرفين قيمة هذه الأوراق؟

فهزت العجوز رأسها وقالت: لقد جمعت كثيرًا منها في أيام صباي.

وأخذ روكامبول ٤ أوراق تبلغ قيمتها ٢٠٠ دينار ثم أقفل الدرج قائلًا لها: متى أوصلتني إلى مكان الأسيرة أعطيتك هذه الأوراق.

ورأت العجوز من صحة عزمه أن كل جدالٍ لا يفيد، فقالت له: لقد رضيت، فهلم بنا …

– إلى أين نمضي؟

– إلى جوار الشارع الأميريكي؛ فقد حبسوا السيدة في بئرٍ لا يهتدي إليها أحد، وليس هذا كل الذي أريد أن أقوله لك؛ إذ يجب التأهب لإنقاذها ولو كنت في عهد الشباب لما احتجت إليك؛ وذلك لأن لهذه البئر ثقبًا ضيقًا يقتضي لتوسيعه مطرقة ويد قوية ويقتضي لإنقاذها حبل طويل.

– سنأخذ ما نحتاج إليه على الطريق، ثم دخل إلى غرفةٍ أخرى فوضع في جيبه مسدسين وتسلح بخنجر وعاد فخرج وإياها، وركبا مركبة فأمر السائق أن يسير بهما إلى شارع فيرابو.

ولما وصل إلى الخمارة ترك العجوز في المركبة ودخل فلقي ميلون ومورت وامرأة عرف روكامبول أنها مرتون، وهي تلك المرأة التي كانت مع أنطوانيت في سجن سانت لازار وكان معها كلبها وهو نائم تحت الطاولة، فأسرع الجميع لاستقباله، وقال روكامبول لمرتون: ماذا تصنعين هنا؟

– أرسلتني فتاة تدعى زبلي؛ كي أحذر مرميس من باتير؛ فإنه يريد به شرًّا.

– لقد عرفت جميع ذلك.

ودنا منه ميلون وقال: أعرفت شيئًا عن فاندا؟

– نعم، ثم نادى روكامبول الخمار وقال له: أحضر حبلًا متينًا طويلًا ومطرقة حالًا.

– أين تذهب أيها الرئيس؟

– لإنقاذ فاندا.

– إذن أتيت لتأمرنا أن نصحبك؟

– كلا، إذ يجب أن تبقوا هنا؛ فإن تيميلون وباتير لا بد أنهما يرودان حول المنزل ويجب الحرص على جيبسي.

فقال له ميلون: ألا يكفي أيها الرئيس مورت والخمار ومرميس ومرتون لحراستها؟ فدعني أصحبك في هذه المرة فإني خائفٌ عليك.

فأراه روكامبول المسدس والخنجر وقال: متى كان هذا السلاح معي فلا خوف علي وإنما الخوف على جيبسي، فاحرصوا عليها ولا تغفلوا طرفة عينٍ عنها.

– إنما قل لي: إلى أين أنت ذاهب؟

– إلى الآبار المجاورة للشارع الأميريكي.

وعند ذلك جاءه الخمار بالمطرقة والحبل فأخذهما وذهب إلى المركبة؛ حيث كانت تنتظره العجوز، فصعد إليها وقال للسائق: سر بنا الآن إلى الشارع الأميريكي.

٣٦

أما فيليبيت فإنها قلقت حين رأت روكامبول عطف على شارع فيرابو ودخل إلى الخمارة، ولكن ما لبثت أن رأته عاد وحده حتى اطمأنت وقالت في نفسها: ماذا يهمني أن أعلم ما فعل في هذه الخمارة، المهم عندي أن أنال الجزاء من هذا الرجل أو من تيميلون.

وسارت بهما المركبة فجعل روكامبول يسألها أسئلةً مختلفة فحكت له ببساطة تاريخ حياتها، وذكرت له كيف أنها سمعت سعال فاندا من الدهليز وهي في البئر وكيف أنها رأتها من الثقب، ثم إنها وصفت له البئر والدهليز والثقب وصفًا دقيقًا وقالت: إني سمعت حكاية السجينة من فمها فعلمت أنه لا يقدم على هذه الأعمال إلا تيميلون.

– أتعرفين إذن هذا الرجل؟

– نعم، وقد اشتغلت معه فيما مضى من زماني إلى أن بات يخدم البوليس، فانفصلت عنه وقد اتفقت مع السيدة السجينة على أن تعطيني مائتي دينار؛ فأنا أرجو أن أعيش بهذا المال بقية أيامي.

ولما وصلت المركبة إلى الشارع الأميريكي أوقفها روكامبول فصرف سائقها وقال للعجوز: اتبعيني فإني أعرف الطريق إلى بئر الشيطان ولكني لا أعرف مدخلها. فسارت في أثره حتى وصل إلى البئر الذي كان مختبئًا فيها تيميلون وباتير.

وعند ذلك تقدمته العجوز وقالت: قد وصلنا فاتبعني، فتبعها روكامبول دون أن يخطر له وجود اللصين في البئر، ولو كان معه كلب مرتون لعلم بأمرهما، ولكن الكلاب امتازت عن الإنسان بحاسة الشم.

وعطفت العجوز عطفةً فوصلت إلى بئرها ونزلت إليه فنزل روكامبول في أثرها ودنا من الثقب، فنادى فاندا فأجابته بصيحة فرح لا تدرك وصفها الأقلام.

وأمر روكامبول العجوز أن تشعل شيئًا من الأخشاب والأعشاب اليابسة ففعلت ورأى بنورها أن توسيع الثقب محال.

فقالت له فاندا: إني لم أدخل من هنا كما ترى، ثم وصفت له البئر وبابه الخشبي والدهليز الذي هي فيه.

فقال لها روكامبول: إذن سأعود إلى باب البئر فأكسره.

قالت العجوز: إن الباب متين ولا تكفي هذه المطرقة التي معك لكسره، غير أني أجد طريقةً أسهل وأقرب من كسر الباب.

– ما هي؟

– إنه يوجد في طرف هذه البئر ثقبٌ آخر ينفذ رأسًا إلى البئر ولا يعترضه هذا الدهليز، وهو من الحجارة اللينة بحيث يمكنك توسيعه بمطرقتك في أقرب حين، ولديك حبل طويل تبلغ به بعد ذلك مرادك.

– لقد أصبت، فأين هو هذا الثقب؟

فكشفت العجوز عنه الأدغال، فرأى أنها مصيبة فيما قالت.

فقال لفاندا: ارجعي إلى البئر فسأعمل برأي العجوز.

– أسرِع؛ فإن قواي قد تلاشت من السهر والجوع، ثم جعلت تزحف في الدهليز حتى وصلت إلى الجدار، فنزلت متمسكةً بثقوبه كما صعدت، ولم تكد تبلغ الأرض حتى سمعت صوت سقوط حجارة ضخمة، فعلمت أن روكامبول قد وسع الثقب لا سيما وقد رأت كوة عظيمة قد فتحت في سقف البئر.

وكان روكامبول قد استعان بالمطرقة فبلغ ما أراده من توسيع الثقب وأيقن من صدق العجوز، فنادى فاندا من الثقب؛ كي يعلم إذا كانت قد وصلت إليه، فأجابته.

فقال لها: سأنزل إليك فإنك لا تستطيعين الصعود على الحبل.

ثم أخذ روكامبول ذلك الحبل الطويل المتين الذي أحضره معه وربط طرفه بصخرٍ ضخم، وشد وثاقه، وأيقن من متانته وأمسك الحبل وجعل ينزل إلى البئر.

وكان يجب على العجوز أن تطلب إليه في هذه الساعة ما وعدها به من المال، إلا أنها خشيت أن يفطن إلى الحيلة.

وعند ذلك سمعت العجوز وقع أقدام في البئر، فالتفتت ورأت تيميلون مشهرًا بيده خنجرًا، وقد أسرع إلى الحبل المشدود بالصخر فقطعه، وسمع على الفور صوت سقوط روكامبول على الأرض، وصيحةً صعدت إليه من أعماق تلك البئر.

وكان هذا الصوت صوت ذعر؛ فإن المرء مهما بلغ من بسالته وجراءته لا يسعه إلا الانذعار حين يحدث ما حدث لروكامبول.

وقد أجاب صوتَه صوتٌ آخر وهو صوت فاندا؛ فإن ذعرها كان أشد من ذعره، وأسرعت إليه وقالت له: رباه! ماذا أصابك؟! ألعلك جرحت؟!

– لا أظن، ولكني طائش الفكر ضائع الرشد.

ثم جعل في ذلك الظلام الدامس يحرك أعضاءه كي يعلم إذا كانت كسرت ساقه أو رض جسمه، ثم مشى بضع خطوات فأيقن أنه سليم؛ لأن أرض القبو كانت رطبة فلم يؤثر عليه هذا السقوط.

وعانقته فاندا وهي تقول: لقد اجتمعنا أخيرًا.

– نعم، لكني أسيرٌ مثلك وقد نصبوا لي فخًّا وسقطت فيه كالأبله.

ثم ضحك ضحك المحتقر نفسه قائلًا: إنه لا يزال يوجد على بلاهتي من يثق بي.

وإن من كان مثل روكامبول يعلم في الحال أن انقطاع الحبل لم يكن من قبيل الصدفة بل كان خديعةً مدبرة من قبل، فقال: لقد خدعونا ولم نفطن لهم، ويجب علينا أن ننظر في وجوه النجاة.

وكان يحمل دائمًا في جيبه علبةً من الكبريت الشمعي، فأخرجها من جيبه وأنار عودًا من عيدانها، وجعل يفحص المكان الذي هو فيه فرأى فوق رأسه في سطح البئر منفذًا كبيرًا وهو المنفذ الذي فتحه بيده كأنما هو قد حفر قبره بيده، وعلم لأول وهلة أن الصعود محال؛ لأن المنفذ كان في وسط السقف.

ثم أدار نظره ورأى باب البئر الخشبي الذي دخلت منه فاندا، ولكن روكامبول ارتكب كل الأغلاط في تلك الليلة؛ فإنه ترك المطرقة قرب الصخر الذي ربط فيه الحبل، ولم يبق له رجاء لكسر الباب سوى تلك الصخور التي سقطت من القبة، وأعطى علبة الشمع لفاندا وقال لها: أنيري لي؛ كي أرى.

ثم أخذ حجرًا ضخمًا من الحجارة الثلاثة التي سقطت في البئر وصدم به الباب الخشبي صدمةً هائلة وهو يرجو أن يكسره، لكنه رأى أن الحجر نفسه قد تحطم وانحل إلى تراب؛ لشدة الصدمة، ولمتانة الباب، وعلم أن الحجر رملي لا فائدة منه، وصدم الباب بالحجر الثاني وأصابه ما أصاب الأول.

وعند ذلك وضعت فاندا يدها فوق كتفه وأطفأت الشمعة وقالت له: اصغ، ألا تسمع؟!

– ماذا؟

– حركة وراء الباب …

فأصغى روكامبول فسمع صوتًا يشبه صوت المنشار في الخشب، فقال لفاندا: قفي ورائي ولا تبدي حركةً …

وكان صوت المنشار يتزايد، ثم رأى نورًا يضيء من وراء الباب، ثم رأى منشارًا يفتح كوة في باب البئر، ودنا روكامبول من فاندا وقال: من يعلم؛ فقد يكون ميلون قادمًا لإنقاذنا، فلم تجبه فاندا بشيء.

وكان كلما بلغ المنشار من الباب يزداد النور ظهورًا، إلى أن فرغت تلك اليد من النشر وسقطت قطعة الخشب المنشور، ففتح منفذ من الباب مستدير بقدر حجم الصحن، وسطع النور في البئر على وجهي روكامبول وفاندا، وسمع روكامبول في الوقت نفسه صوتًا يقول بلهجة الساخر: أي روكامبول، إن هذا آخر ما يكون بيننا، وقد أتيح لي النصر عليك.

وعرف روكامبول للحال أن الصوت صوت تيميلون فأجابه: كلا، إن وقت نصرك لم يحن بعد، ثم أطلق غدارة من الثقب.

ودوى صوته دويًّا شديدًا جعل يتجاوبه الصدى نحو عشر ثوانٍ، ثم انقطع الصوت وعادت السكينة إلى البئر، وانطفأ المصباح الذي كان مع تيميلون، فحسب روكامبول أنه قتل.

إلا أن مدة هذا الرجاء لم تطُل؛ إذ سمع قهقهة تيميلون، يضحك ضحك الساخر فتسلح روكامبول بالغدارة الثانية.

وكان تيميلون قد أحنى رأسه حين خرجت رصاصة روكامبول بحيث أخطأه فقال: إنك كنت تصيب المرمى في غير هذا العهد، أما الآن؛ فإن يدك ترتجف؛ لدنو ساعتك.

فأطلق روكامبول عليه غدارته الثانية قائلًا: خسئت أيها الشقي؛ لأن ساعتي لا تزال بعيدة.

وعند ذلك سمع أن تيميلون قد صاح صيحة ألمٍ قائلًا: لقد أصبت.

فانقض روكامبول على الباب وأمسك بالنافذة التي فتحت فيه، وجعل يهزه هزًّا عنيفًا فلم ينل منه غاية لفرط متانته.

وسمع تيميلون يقول أيضًا: لقد أصبت حقيقةً ولكني سأنتقم يا روكامبول؛ فإن ساعتك قد دنت.

ثم سمع صوتًا آخر قائلًا: بل سننتقم كلانا.

فعلم أنه صوت باتير، وجعل يهز الباب هزًّا عنيفًا دون فائدة قائلًا: لم تحِن الساعة بعد أيها الخاسر.

وكانت فاندا واقفة وراءه ولم تعلم كيف يريد أن ينتقم تيميلون، ولكن قلبها كان ينذرها بانتقامٍ هائل.

فقال تيميلون: أي روكامبول، إنك لم يخطر لك في بالٍ أني أعود، لكنك أخطأت؛ فإن ابنتي ماتت ولم أعد أخشاك، فاقتفيت أثرك واتبعت خطواتك وأحبطت مساعيك؛ وذلك أنك أردت أن تتخلص من السير جمس؛ حذرًا على جيبسي، ولكني أنقذت السير جمس وهو سيقتل جيبسي … إني أريد أن تعرف كل هذه الأمور قبل أن تموت؛ لأنك ستموت … نعم أيها العزيز، إنك ستموت أفظعَ موتٍ.

وكان صوته يدل على تألمه وأن جرحه كان بالغًا، فأخذ روكامبول علبة الكبريت الشمعي من فاندا ورأى من الثقب باتير وتيميلون ووراءهما جسم لم ينتبه إليه، وكان باتير يعين تيميلون على الوقوف وكلما وقف عاد إلى السقوط وصاح متألمًا؛ فإن رصاصة روكامبول اخترقت فخذه.

ورأى تيميلون أن روكامبول ينظر إليه فصرخ: لا تفرح لشقائي فإنك ستموت شر موت، ثم زحف قليلًا إلى الجهة اليمنى بحيث ظهر برميل البارود لروكامبول، وأدرك قصد تيميلون الهائل، وصاح صيحة رعبٍ وانذعار.

أما تيميلون فإنه قال لباتير: أشعل الفتيل الآن واحملني وهلم بنا للخروج من هذه البئر، فنفذ باتير الأمر.

وكان تيميلون يتألم تألمًا شديدًا قائلًا لباتير: لنسرع بالرحيل كي لا يضجر هذا العزيز روكامبول، ووضع باتير الفتيل في البرميل وذهب إلى طرفه الآخر وأشعله، وكان هذا الفتيل يبلغ طوله نحو خمسة أمتار بحيث يقتضي له نصف ساعة لتبلغ ناره للبرميل.

وبعد أن أشعل الفتيل حمل تيميلون على كتفيه وخرج به، والاثنان يودعان روكامبول بأفظع عبارات التهكم …

وظل روكامبول ناظرًا إليهما حتى تواريا عن أبصاره والفتيل يشتعل ببطء.

وبعد عدة ثوانٍ سمع روكامبول صيحةً كبيرة من تيميلون تلاها شتمٌ قبيح، وأصغى مع فاندا فسمعا تيميلون يقول: تبًّا لك من خائن.

ورد باتير: ليس لدي حبل، ولا أستطيع أن أصعد بك إلى سطح البئر، وليس الذنب ذنبي إذا كنت ثقيلَ الجثة مكسورَ الساق.

– إذن أتتركني هنا؟

– ذلك لا بد منه.

وكان صوته يدل على أنه بات خارج البئر، فصرخ تيميلون: تبًّا لك من خائن سافل، ثم انقطعت الأصوات.

وسرى إلى نفس روكامبول بعض الرجاء قائلًا: لا بد له من إطفاء الفتيل؛ كي لا يموت معنا، إلا أن هذا الرجاء لم يلبث طويلًا؛ لأنه شاهد تيميلون يزحف زحف الأفاعي حتى وصل إلى البرميل فنام بقربه قائلًا بلهجةٍ وحشية تدل على الانتقام: إذن لنمت جميعنا.

وكان الفتيل لا يزال يشتعل، فأيقن من صدق عزمه، فضم فاندا إلى صدره وتمتم: يجب أن نموت.

٣٧

بينما كان الفتيل يشتعل، وبينما روكامبول وفاندا وتيميلون ينتظرون تلك الساعة الهائلة حين يصل إلى البارود ويحدث ذلك الانفجار، كانت حوادثُ أخرى تجري في خمارة فيرابو.

وقد علمنا أن روكامبول لم يشأ أن يصحب معه ميلون، وأمره أن يتولى مع أفراد العصابة حراسة جيبسي، فلما خلا ميلون بأصحابه أخبرهم بأمر الرئيس قائلًا لهم: إن قلبه ينذره بحدوث مكروه.

وفيما هم يتحدثون في الخمارة رأوا مرميس دخل إليهم وهو حافي القدمين وبملابس النوم، ووضع إصبعه في فمه؛ إشارة إلى وجوب الصمت!

فأيقنوا أن الأمر خطير، وسأله ميلون عما جرى، فقال له: لقد عبثوا بنا وبالرئيس أيضًا ونحن غافلون كالأطفال، ثم التفت إلى الخمار وسأله: ألم تضعوا الإنكليزي في البئر؟!

– نعم.

– ولكنه نجا …

فذعر الحاضرون وقالوا: كيف ذلك؟! وبأية طريقة؛ فإن الباب لا يزال مقفلًا؟!

– لا أعلم ولكننا لا نزال قادرين على أسره لحسن الحظ؛ لأنه يقيم بيننا في هذا البيت، وفي غرفة هذا الرجل الذي يدعي أنه شيخ الخدامين، وقد عرفت ذلك في هذه الساعة؛ إذ سمعت جيبسي تصيح وقد أتاها الكابوس، فأسرعت إليها ودخلت إلى غرفتها المظلمة فرأيت نورًا ينفذ من ثقبٍ صغير في الجدار الفاصل بين غرفتها وغرفة شيخ الخدامين، فخطر لي أن أعلم ما يصنع هذا الشيخ في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فصعدت على كرسي ونظرت من الثقب، ورأيت الإنكليزي بعينه جالسًا حول طاولة وعليه علائم التفكير، وإذا كنتم في ريبةٍ مما أقوله فاخلعوا نعالكم واصعدوا إلى الغرفة تروا ما رأيت.

وصعدوا جميعهم إلى الغرفة وجعل كل واحدٍ منهم ينظر من الثقب فيرى السير جمس ويرجع منذعرًا.

ولما تحققوا مما قاله مرميس خرجوا من تلك الغرفة؛ كي لا يسمع السير جمس حديثهم، وجعلوا يتشاورون فقال ميلون: ماذا يجب أن نصنع؟

فأجابه مرميس: إن الأمر بسيط.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن الرئيس لم يسجنه في البئر إلا بغية إبعاده مؤقتًا، فتعالوا معي وأنا أقضي هذه المهمة.

ثم مشى إلى الباب فأوقفه الخمار قائلًا: إني لا آمن دهاء الإنكليز، وهذا الرجل قد يكون مسلحًا، فاصبروا إلى أن أحضر مطرقتي؛ فإنها تقتل بضربةٍ واحدة.

ونزل الخمار إلى خمارته ووقف ميلون ومرميس عند باب الغرفة، ولما عاد الخمار بمطرقته قرع مرميس الباب فسمع صوت اهتزاز كرسي مما يدل على أن جمس وقف بعنف، وصبر مرميس هنيهةً ثم قرع الباب ثانيةً، ولم يفتح، فأوعز إلى ميلون بكسر الباب فصدمه بكتفه صدمةً قوية فانفتح ودخل الثلاثة، فرأوا السير نيفلي واقفًا وعليه علائم الذعر والرعب؛ إذ عرف مرميس وميلون.

وعند ذلك أشار مرميس إشارةً إلى ميلون فانقض على الرجل وضغط على عنقه حتى أوشك أن يخنقه، وأسرع الخمار بمطرقته ورفعها فوق رأسه وهو يقول: إذا فهْت بكلمة فأنت من الهالكين.

وأشار السير نيفلي بيده إلى أنه يطيع، فقال مرميس: دعه إذن يا ميلون فإننا سنتحدث قليلًا، وأقفل الباب، لكن مرتون دخلت مع كلبها قبل أن يقفله وقالت: وأنا أريد أن أكون معكم.

ثم دنا مرميس من السير نيفلي قائلًا: لا حاجة بنا أيها الميلورد أن نسألك عن اسمك فإننا نعرف أنك تدعى السير نيفلي زعيم الخناقين في لندرا، لكننا نريد أن نعلم كيف أصبحت هنا وقد دفناك في القبو منذ يومين؟!

– إن معرفة ذلك بسيط؛ فإن أصحابي أنقذوني.

– هذا لا يخفى علينا، ولكننا نريد أن نعرف من هم هؤلاء الأصحاب، فإذا بحت لنا بأسمائهم أبقينا عليك حتى يعود الرئيس فإنه لم يصدر إلينا أمر بشأنك، ولكنك إذا أصررت على الكتمان قتلناك ولا ينكر علينا الرئيس هذا القتل.

فاصفر وجه نيفلي ولكنه أصر على الكتمان قائلًا: افعلوا بي ما شئتم؛ فإني لا أعرف الذين أنقذوني.

فرد مرميس: احذر؛ فإن وقتنا أقصر من تضييعه في المخابرات.

وقال ميلون: الأمر واضح؛ فإنه لم يوجد في غرفة المستأجر الجديد إلا لأن هذا المستأجر أراده فيها.

فابتسم السير نيفلي وقال: ربما!

ولم يصدق الخمار هذا القول فسألهم: كيف يستطيع مثل هذا الشيخ عمل مثل هذه الفعال؟!

ورد ميلون: لم يبق عندي أن هذا الشيخ شريك الإنكليزي وأنه عبث بنا كلنا.

فنظر مرميس إلى السير نيفلي وقال له: قل لنا اسم هذا الشيخ.

فهز كتفيه قائلًا: لا أعلم.

– احذر من العناد وإلا قتلتك.

فاعترض ميلون قائلًا: كلا إن الرئيس لم يأمرنا بقتله.

– ولكن الرئيس قد يكون معرضًا لأشد الأخطار في هذه الساعة!

وبرقت عينا السير نيفلي بأشعة الفرح، وعوى كلب مرتون وقد عض ثوبًا لتيميلون فقالت: لا شك أن هذا الثوبَ ثوبُ عدوٍّ.

وخطر لميلون خاطر، فسأل الخمار أن يصف لهم هذا الشيخ، ولما أتم الخمار وصف شيخ الخدامين صرخ ميلون: إنه قد يكون تيميلون!

وعند ذكر هذا الاسم نظر مرميس فجأةً إلى السير نيفلي فرأى أنه قد بدرت منه حركة استدل منها على أنه حقيقةً تيميلون، وجعل الكلب ينبح نباحًا شديدًا فقال مرميس: إني أشترك مع ميلون بظنه، بل أثق أن هذا الشيخ هو تيميلون بعينه، وأن الرئيس يحدق به خطرٌ شديد، فإذا لم يقل لنا هذا السير أين هو تيميلون قتلناه.

إلا أنه أنكر فقالت مرتون: لا حاجة إلى ذلك فقد قال الرئيس لميلون: إنه ذاهب إلى الآبار الكائنة وراء الشارع الأميريكي، وأنا أعرف طرق هذه الآبار وكلبي يقتفي أثر تيميلون.

– إذن شدوا وثاقه، ولتأخذ مرتون ثوب تيميلون فإنه يعين الكلب على اقتفاء أثره.

وقد عادت إلى مرميس تلك السيادة التي كانت له على العصابة في لندرا، وأمر بإنزال السير نيفلي إلى القبو، ووضعوه في برميلٍ فارغ وهو موثوق اليدين والرجلين، وأمر شانوان بالوقوف بسلاحه أمام البرميل حتى يعودوا، ثم أمر الخمار بالوقوف أيضًا على باب غرفة جيبسي فلا يفارقه لحظة، وبعد ذلك أخذ مسدسًا وخنجرًا وكذلك ميلون وخرجا تصحبهما مرتون وكلبها فركبوا مركبةً إلى الشارع الأميريكي.

ولما وصلوا إليه أطلقوا سراح المركبة وأخرجت مرتون ثوب تيميلون وأظهرته للكلب ثم قالت: ابحث عن تيميلون.

ونبح الكلب أمامهم نباحًا شديدًا، وانطلق أمامهم إلى جهة الآبار في الطريق التي سلكها تيميلون وروكامبول والثلاثة يتبعونه وهم واثقون من فوزه؛ لأنه كان يشم التراب حينًا ثم يندفع بالسير بعد أن ينبح مما يدل على أنه عرف الأثر.

وظل هذا دأبه نحو ساعة، وهو يسير بهم من بئرٍ إلى بئر حتى انتهى إلى تلك الحديقة المسورة ودخل إليها، فوقف عند فم البئر المسجونة فيه فاندا فجعل ينبح نباحًا شديدًا، فدخلوا جميعهم إلى الحديقة وسمع مرميس أصواتًا مختلفة كأنها خارجة من جوف الأرض، فوقف مع رفيقيه على مسافة بضع خطواتٍ من فم البئر قائلًا لهما: اصبرا لنرى ما يكون من الكلب.

وفي الحال رأوا رجلًا خرج من فم البئر فلم يعترضه الكلب، بل إنه دنا من البئر وجعل ينبح، أما الرجل فإنه حين صعد من البئر جعل يعدو كمن يحاول الفرار، ولكن ميلون هجم عليه وقبض على عنقه، فأسرع إليه مرميس ولم يكد ينظر إليه حتى عرف أنه باتير زعيمه القديم.

وحاول باتير التخلص من ميلون قائلًا له: دعني.

لكن ميلون صرعه إلى الأرض وركع على صدره وسأله: إذا أردت الحياة فقل لي: أين روكامبول.

فلم يجب فوضع خنجره على عنقه ووخزه به وهو يقول: قل في الحال أو أغمدت في عنقك الخنجر.

– لا أعلم أين هو.

– كذبت أيها السافل، ثم وخذه في عنقه ثم تابع: قل أو أقتلك.

فصاح باتير صيحة ألمٍ وقال: إنه سيهلك وأنت أيضًا تهلك مثله إذا لم تدعني أهرب وتهرب معي.

فنظر إليه ميلون نظرًا طائشًا وصاح به: أوضح ما قلته!

– بعد خمس دقائق ينفجر البارود ونهلك جميعنا.

فذعر ميلون حتى إنه رفع رجله من فوق صدره دون أن ينتبه فنهض باتير وحاول أن يهرب، إلا أن ميلون قبض عليه بيدٍ من حديد فجعل باتير يصيح قائلًا: دعني أفر أو يقضى علينا جميعًا، وكان يتكلم وأسنانه تصطك من الخوف.

ولما رأى أن ميلون لا يتركه أجاب: إن روكامبول وتيميلون في هذا البئر ويوجد فيها تحت أقدامنا برميل من البارود فيه فتيل يشتعل وسينسف كل ما في هذا المكان.

ولم يكن مرميس قد فاه بكلمةٍ إلى الآن، فلما سمع حديث باتير صاح صيحةً منكرة وأسرع إلى البئر فألقى نفسه فيها وكان الكلب قد سبقه منذ حين.

أما ميلون؛ فإن عينيه جحظتا من الغضب فقال لباتير: إنك لا تسمع صوت هذا الانفجار أيها الشقي، ثم أغمد خنجره في صدره فهوى إلى الأرض يتخبط بدمائه.

ومع ذلك فقد كان ذلك الفتيل الهائل مستمرًّا في اشتعاله وكان تيميلون مضطجعًا بجانب البرميل ينتظر الموت بسكينة، وجعل روكامبول يهز الباب هزًّا عنيفًا دون أن يتمكن من كسره حتى سئمت نفسه وأوشك أن يجن من يأسه، فإنه كان يريد الموت لنفسه، غير أنه كان يريد إنقاذ فاندا، فنادى تيميلون من كوة الباب وقال له: أنا أعلم أنك تريد موتي ولا أسألك العفو عني، ولكن أيروق لك أن تدع هذه المرأة تموت؟

ولم يجبه بشيء، وعاد روكامبول إلى الحديث وهو ينظر نظرات الاضطراب إلى دنو النار من البرميل وقال لتيميلون: إني أقسم لك أن أغمد هذا الخنجر في قلبي إذا كنت تنزع هذا الفتيل.

فضحك تيميلون وأجاب: إنك خلقت حسن الطالع؛ فقد تخطئ يدك قلبك.

– إنك لا تطفئ النار إلا متى وثقت من موتي؟!

وكان يقول له هذا القول بلهجة المتوسل، فأكبت فاندا على عنقه وقالت: كلا، بل أموت معك.

وعاد روكامبول إلى استعطاف تيميلون: لا أنكر أنك تكرهني كرهًا لا ألومك فيه على قتلي، ولكن أيخلق بك أن تغمس يدك في جريمة قتل امرأة؟!

فأجابه تيميلون بلهجة المتهكم: ألعلك أشفقت على ابنتي حين أخفتها من الموت فأمتها من الخوف؟

فأطرق روكامبول برأسه هنيهةً ثم استل خنجره قائلًا: إني سأقتل نفسي ومتى رأيتني قتيلًا؛ فقد تشفق عليها وعلى نفسك.

غير أن فاندا انقضت على يده واختطفت منه الخنجر وقذفته من ثقب الباب فوقع بعيدًا عن تيميلون وقالت: إن الموت معك أحب إلي من الحياة.

فأَنَّ روكامبول أنينًا مزعجًا وجعل تيميلون ينظر إلى النار تدنو تباعًا إلى البرميل، وعند ذلك عانقت فاندا روكامبول فجأة وقالت: أتسمع؟

– ماذا؟!

– نباح كلب فوق سطح البئر التي نحن فيها.

وكان هذا الكلب كلب مرتون؛ فإنه بعد أن أزال الأدغال عن فم البئر شم رائحة تيميلون فنبح هذا النباح ثم قالت: إن قلبي يحدثني بأنهم قادمون لإنقاذنا …

– من تظنين هذا القادم؟

– لا أعلم، ولكني لا أزال أرجو.

ثم نبح الكلب نباحًا ثانيًا ولكن نباحه كان بعيد المدى، فنظر روكامبول إلى الفتيل وقال: أملٌ باطل. ولكنه ما لبث أن قال هذا القول حتى رأى على نور الفتيل الضعيف شبحًا أسود انقض فجأة انقضاض الصاعقة على تيميلون.

فقالت فاندا: هو ذا كلب مرتون فقد عرفته.

فقال روكامبول وقد رآه انقض على تيميلون: ولكنه لا يعرف كيف يطفئ الفتيل، وا أسفاه!

أما الكلب فإنه نشب أظافره في عنق تيميلون فجرى بينهما عراك هائل، وحاول تيميلون أن يأخذ الخنجر الذي ألقته فاندا فلم يهتد إليه فجعل يدافع عن نفسه بيده، ولكن الكلب كان ينهكه أيضًا فإذا نجا تيميلون منه هنيهةً عاد إلى الوثوب عليه وإرهاقه بالعض، فكان روكامبول يرجو أن يقع حين وثوبه على الفتيل فينزعه من البرميل ولكنه كان محكم الوضع.

أما تيميلون فقد جاهد في وقاية نفسه من الكلب فلم يفلح ولم يمر به هنيهةً حتى تغلب عليه الكلب وانقطع صوت تيميلون؛ فإن الكلب خنقه، فقال روكامبول: إننا نموت وقد انتُقم لنا على الأقل.

وكان الفتيل قد قرب من البرميل فلم يبق بين النار وبينه غير قيد إصبعين، فقال روكامبول: لقد انقطع كل رجاء، وركع وجعل يصلي إلى الله ملتمسًا الصفح عن ذنوبه.

وركعت فاندا أمامه وقالت: أحبك، فإذا لم نلتقِ في الحياة التقينا بعد الموت، وعزائي أني أموت بين يديك.

ولم يبقَ غير مقدار دقيقة واحدة لاشتعال البارود.

وعند ذلك سمع الاثنان صوت جسم هبط إلى أرض البئر، وصوت رجل يقول: لقد زال الخطر.

وكان هذا الرجل مرميس؛ فإنه أسرع إلى الفتيل فانتزعه من البرميل.

وعند ذلك شعر روكامبول أن فاندا أغشي عليها بين يديه فقال: إن الله لم يأذن لي أن أموت، فلا شك أنه لم يصفح عني بعد.

٣٨

بعد يومين من هذه الحوادث التي رأيناها؛ أي بعد أربعة أيام من اختطاف فاندا من منزلها، جعل خدم هذا المنزل يتشاورون فيما يفعلونه حينما قنطوا من عودة السير جمس وفاندا، فاقترح أحدهم إبلاغ البوليس، وقال آخر: بل السكوت أولى؛ فإن أسيادنا قد يعودون وربما ساءتهم معرفة البوليس بأحوالهم. وطال الجدال بينهم حتى ارتأى أحدهم سرقة ما خف وغلا من المنزل وتركه وشأنه إلى أن يعود أصحابه، فلقي هذا الفكر استحسانًا من الجميع وعولوا على إنفاذه.

وفيما هم يتناقشون في أي الحاجات يسرقون ويعدونها ويتفقون على اقتسامها؛ إذ طرق الباب فاضطربوا جميعهم وأسرع أحدهم إلى الباب وفتحه، فدخلت فاندا وعليها علائم عدم الاكتراث كأنها برحت المنزل منذ ساعة، حتى إنها لم تسأل الخدم إذا كان أحد قد جاء في غيابها؛ فنقض رجوعها خطة هؤلاء الخدم؛ لأنها سواء كانت خليلة السير جمس أو حليلته؛ فإنها كانت السيدة الآمرة في البيت، ولا يسع الخدم إلا الامتثال لها، فدخلت توًّا إلى غرفتها ونادت الخادمة فأمرتها أن تعينها على خلع ملابسها.

وبعد ذلك بساعة وقفت مركبة عند باب المنزل وخرج منها روكامبول فدخل وعرف الخدم أنه صديق السير جمس، وكانت علائم السكينة بادية عليه مثل فاندا كأنهما لم يلقيا شيئًا من الأخطار منذ يومين.

أما روكامبول فإنه دخل إلى الدار دخول صاحبه، ولم يسأل هذه المرة عن السير جمس بل قال للخادمة: هل السيدة في قاعة الاستقبال أو في غرفتها؟

– بل في غرفتها.

فذهب توًّا إليها فقبَّل يدها وجلس بقربها.

وخلا الخدم بعد ذلك إلى بعضهم وكلهم مستغربون مما رأوه، فاتفق رأيهم على أن السيدة كانت خليلة الإنكليزي فاستبدلته بالفرنسي وقرروا أن لا بد من الطاعة وحمد الله؛ لعدم تسرعهم بنهب المنزل.

أما روكامبول فإنه خلا بفاندا ودار بينهم الحديث الآتي فقالت فاندا: لا أزال أيها الرئيس أحسب نفسي حالمة؛ لفرط ما مر بنا من الغرائب في هذه الأيام.

– الحق أننا نجونا من خطرٍ لم أجد أشد منه فيما مضى من عجائب حياتي، ولولا أن أدركَنا مرميسُ لكنا من الهالكين.

– الحمد لله فقد صفا لنا الجو ولم نعد نخشى تيميلون ولا باتير.

– إن تيميلون قد مات، وباتير أصيب بجرح بالغ، وهو إما أن يلقى حتفه كما يقول الطبيب، وإما أن يعيش معتوهًا، وفي الحالين لا يخشى أن يبوح بأسرارنا.

– ألا تقول لي الآن، أيها الرئيس، لماذا أردت أن أعود إلى هذا المنزل؟

– لأن المنزل لك وعقد شرائه مسجل باسمك.

– والسير نيفلي ماذا نصنع به؟

– يقيم معك في هذا المنزل.

فانذهلت فاندا وقالت: كيف ذلك؟! أما عزمت على أن تبقيه في قبو الخمارة؟!

– كلا، بل يقيم معك، ويكون في أسرك بحراسة ميلون.

– والخدم؟

– نطلق سراحهم بعد أن نعطيهم راتب شهر على سبيل المكافأة، ونستبدلهم عند ذلك بنويل ومورت وشانوان وميلون ومرتون ومرميس وجيبسي، فيكون جميع من في المنزل أعوانًا لنا، بل يكون لنا جيش نجعل مركزه العام في هذا الشارع.

فلم تفهم فاندا المراد من كل هذا وقالت له: وبعد ذلك؟

– كيف تسألينني هذا السؤال؟ ألا تعلمين أن مشروعنا لم يتم شيء منه بعد؟! وهل قبضنا على ملايين جيبسي؟!

– أصبت، ولكن كيف السبيل إلى هذه الأموال؟!

– إنه سر من أسراري لا أستطيع أن أبوح به الآن.

٣٩

ولنعد الآن إلى السير نيفلي، لقد تركناه مقيدًا في البرميل بحراسة أحد أفراد العصابة، فلما عاد مرميس وميلون إلى الخمارة أخبر مرميس الخمار وحارس نيفلي جميع ما اتفق لهم، وكان السير يسمع الحديث فيئس يأسًا شديدًا حين علم أن تيميلون قد مات وهو المعين الوحيد الذي كان يعتمد عليه في إنقاذه من روكامبول.

وبعد أن فرغ مرميس من حكايته قال: إن الرئيس لا يحضر إلى هنا ولكنه يأمر أن يُنقل هذا الإنكليزي إلى القبو، إلى أن يصدر بشأنه أمر جديد.

فامتثلوا لأمر الرئيس وأخرجوه من البرميل إلى القبو، وأقام فيه ثلاثة أيام لم يرَ في خلالها غير ميلون؛ إذ كان يأتيه مرتين في اليوم، فيحل وثاقه ويقدم له الطعام إلى أن يفرغ من الأكل فيشد وثاقه كما كانوا يفعلون بفاندا.

وبقي على ذلك ثلاثة أيام، وفي الليلة الرابعة جاء ميلون ومرميس ونويل فأخرجوه من القبو ووضعوه في صندوقٍ كبير معد لنقل البضائع، بعد أن شدوا وثاقه ووضعوا الكمامة في فمه، ثم حملوه على مركبة نقل إلى المنزل الذي تقيم فيه فاندا، وهناك أدخلوا الصندوق إلى المنزل ثم فتحوه وأخرجوه منه، فوجد نفسه أمام روكامبول.

فقال له روكامبول: أسالك العفو يا حضرة الميلورد؛ لأن رجالي قد تعودوا الغلظة.

ثم أشار إلى ميلون ففك قيوده وخرج وبقي روكامبول وحده مع السير نيفلي فسأله: أتريد أن نتحدث الآن؟

– ليكن ما تريد، فلا أحَب إلي من هذا.

– لكن لا بد لك قبل ذلك من أن تأكل؛ لأنك جائع دون شك، وكذلك لا بد لك من تغيير ملابسك، وهذه غرفتك لا تزال على ما كانت عليه فادخل إليها.

فشكره السير ودخل إلى تلك الغرفة فأقفل بابها، وكأنما قد جال في فكره خاطر الفرار، فأحكم إقفال الباب من الداخل ووضع المزلاج بحيث لا يمكن فتح الباب من الخارج إلا بعد كسره، ثم أسرع إلى النافذة وفي نيته أن يثب منها إلى الحديقة، لكنه تراجع مبهوتًا؛ إذ وجد أن قضبان الحديد قد وضعت فيها؛ خلافًا لما كانت عليه من قبل، فعلم أنهم حسبوا لفراره حسابًا وجعل يفكر في وسيلةٍ أخرى.

وكان من عادته أن يضع مفتاح الخزانة التي يضع فيها ملابسه تحت آنيةٍ من الخزف على المغسلة، فرفع الآنية ووجد المفتاح فقال في نفسه: لا شك أن الخزانة لم تفتح؛ لأن المفتاح لا يزال في موضعه.

ثم فتح الخزانة وغيَّر ملابسه المتسخة بملابسَ نظيفةٍ، وأخرج منها مسدسًا وضعه في جيبه بعد أن تيقن أن رصاصاته لا تزال فيه، ولما رأى أن لا سبيل إلى فراره من هذه الغرفة اعتمد على مسدسه، وخرج إلى روكامبول فوجده جالسًا حول المائدة وميلون يضع عليها الطعام، فجلس بإزائه وانصرف ميلون فجعل روكامبول والسير نيفلي يأكلان.

وبعد أن أكلا بعد الطعام وشربا زجاجة من الخمر قال له روكامبول: اسمح لي يا حضرة الميلورد أن أبسط لك الحالة؛ كي تفهم ما أريد، فإنك في لندرا زعيم الخناقين.

– نعم، ولا أزال مُقَلَّدًا هذا المنصب.

– بورك لك فيه، لكن يظهر أن الخناقين لم يكترثوا لفقد زعيمهم، ثم إني نزعت جيبسي من قبضة السير جورج، فعزلته أنت من منصبه؛ لأنه لم يحسن توليه.

– هذا أكيد.

– أما السير جورج فإنه برح لندرا دون أن تعلم، وكنت أقل منه كفاءة لهذا المنصب؛ لأنك سقطت في الفخ الذي نصب لك، ووثقت من كره فاندا لي وتدلهت في حبها فعميت عن الرشد، وتبعتها إلى باريس وهنا بدأت حوادثك المكدرة.

فأجابه بجفاء: وبعد ذلك؟

– أسألك الصبر يا سيدي؛ إذ لا بد لي من إتمام أقوالي؛ كي أصل إلى ما أريد؛ لأن الأقدار دفعت إليك في باريس مساعدًا علمت دون شك كيف كانت عقباه، فأصبحت وحدك لا نصير لك غير أولئك الخناقين الذين لا يحضرون لنجدتك، وبالتالي فإنك ستكون أسيري إلى آخر العمر، إلا إذا خطر لي أن أقتلك وأريحك من الأسر الطويل.

أما وقد أظهرتُ لك حالتك فاسمح لي أن أعرض عليك شروطي علَّها توافقك، واعلم أن السير جورج كان شديد التعصب يحسب أن روح أبيه كامنة في جسم سمكة حمراء؛ فكان يخدم الإلهة كالي؛ لأنه كان يعبدها، أما أنت فإنك أوفر منه عقلًا وأكثر دهاءً وأنت تخدم هذه الإلهة بالظاهر، وأما في الحقيقة فإنك تخدم أغراضًا سياسية تحجبها بحجاب الدين، وإنك لم تحاول خنق جيبسي وإحراقها؛ لأنها لم تكن عذراء كما كانت تقضي به عليها أحكام الإلهة كالي، بل لأن لهذه الفتاة النورية ثروةً عظيمةً تريدون اختلاسها.

فاضطرب السير نيفلي وقال: أتعرف أيضًا هذا السر؟!

– هذه هي الثروة التي سرقتها مس ألن بالاتفاق مع عشيقها علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند على أن تقتسم بين الاثنين، أما مس ألن فقد ظفرت بها وستكون في قبضتي حينما أريد.

– أحق ما تقول؟!

– دون شك! ألا تذكر ذلك القصر الذي بت فيه ليلة مع فاندا في بيكارديا، إن هذا القصر كان لمس ألن وأنت لا تدري، وقد باتت فاندا في إحدى غرفها؛ حيث جاءها الخيال بب خادم أبيها، فكلم فاندا وهو يحسب أنه يكلم مس ألن وعدَّد لها جميع ذنوبها، أعلمت الآن كيف اطلعت على هذا السر؟!

فاصفر وجه السير نيفلي وقال له: ماذا تريد بهذا الكلام؟

– أريد بها أني سأُكره مس ألن على رد الثروة بواسطة ابنها وأريد منك أن لا تعارض في شيء، ثم إني توليت بحمايتي جيبسي النورية وناديا ابنة الجنرال الروسي وأحب أن أتفق معك.

– قل شروطك.

– هي أن يرجع الخناقون عن مطاردة الفتاتين، وفي مقابل ذلك أطلق سراحك فتعود إلى إنكلترا، وأقسم أني لا أتداخل بعد ذلك في شئونك.

وكان السير نيفلي يسمع كلام روكامبول وهو غائص في لجج التفكير فقطع روكامبول تصوره وقال له: لا تؤاخذني يا سيدي إذا ألححت عليك؛ إذ لا بد لي من معرفة حقيقة عزمك في القريب العاجل.

فأجابه السير نيفلي: لا حاجة إلى الانتظار؛ لأنك ستعلم حقيقة أفكاري في الحال وهي رفض شروطك لسببين؛ أحدهما: أني لا أستطيع عصيان علي رمجاه، والآخر: لأني وطنت النفس على الخروج من هنا.

فقال له بلهجة الهازئ: لكن خروجك من هنا لا يكون من النافذة فيما أظن.

– كلا إني أعلم أنك طوقت جميع النوافذ بالحديد، لكني لا أجد ما يمنعني عن الخروج من الباب.

ثم وقف فجأةً وقد توقدت عيناه كالجمر وأخرج المسدس من جيبه، فوثب روكامبول مسرعًا إلى الباب، فقال له السير نيفلي: افتح هذا الباب أو أطلق النار عليك.

فظهرت عند ذلك علائم الخوف على روكامبول وصاح مستغيثًا بميلون، فقال له السير نيفلي: إنه يصل إليك لكن بعد أن تموت.

ثم أطلق المسدس فلم تخرج رصاصته ولم يسمع غير صوت الكبسول، فأطلق طلقًا ثانيًا ثم ثالثًا، فكان نصيبهما نصيب الأول، وعند ذلك سمع السير نيفلي قهقهة روكامبول، فعلم أنه قد عبث به وسقط المسدس من يده، وكان روكامبول قد صنع بمسدس السير جمس كما فعل به زامبا من قبل في رواية «الغادة الإسبانية».

وبعد أن ضحك روكامبول ضحكًا طويلًا نادى ميلون فلما جاءه قال له: أرى أنه صار ينبغي أن نتخلص من هذا الرجل.

فأيقن نيفلي هذه المرة أنه بات من الهالكين.

٤٠

ولنعد إلى لوسيان ابن ميلادي الجريح، فنقول: إنه عرف أمه فكانت معرفته بها داعيةً إلى التعجيل في شفائه، فلما دخل في دور النقاهة تقرر أن يتزوج خطيبته ماري برتود بعد أسبوعين، وكان سروره عظيمًا في البدء ثم انقلبت مظاهر هذا الفرح إلى مظاهر السويداء؛ وذلك لأنه أراد أن يعرف أباه كما عرف أمه فقالت له أمه: اكتفي بأنك علمت أمك واعلم أنه يستحيل علي الآن أن أصرح لك باسمي وباسم أبيك.

– أهو حي على الأقل؟!

– نعم، ولكني أخشى أنك لا تراه في الحياة.

فأطرق لوسيان برأسه وانقطع عن سؤالها.

وكان فرانز كثير التردد عليه وكلما زارته أمه صحبها إليه، فاتفق مرة أنه باغته وهو ينظر إليها نظرة لا تدل على أنها نظرة خادم أو عشيق، فلما خلا بأمه قال لها: لقد عرفت أبي؛ وهو الماجور هوف.

– أقسم لك يا بني إنك منخدع.

فعلم لوسيان أن فرانز عشيق أمه، وزاد بلباله منذ ذلك اليوم.

أما ميلادي فقد كانت تتنازعها عوامل كثيرة، فبينما هي فَرِحَةٌ بلقاء ولدها؛ إذ تنكمش ويضيق صدرها كأنما قلبها كان ينذرها بمصابٍ أليم، فكانت هذه الظواهر كلها تزيد في هواجس لوسيان.

وبينما كانت يومًا عند ولدها؛ إذ دخل الماجور أفاتار عائدًا فحياها أمام ولدها تحيةً لا تدل على أن بينهما شيئًا من العلائق، وأقام هنيهة ثم انصرف بعد أن قال لميلادي سرًّا: إني أنتظرك قرب الباب الخارجي.

وأقامت ميلادي عند ولدها مدة وجيزة، ثم ودعته وخرجت إلى الشارع، فوجدت روكامبول ينتظرها في مركبة فصعدت إلى جانبه وأمر السائق أن يسير إلى المنزل الذي تقيم فيه فاندا.

وكانت ميلادي لم ترَ روكامبول منذ ٤ أيام وهي معتقدة كل الاعتقاد أنه وكيل علي رمجاه فقال لها: لقد طال غيابي عنك يا سيدتي لكني كنت في لندرا وأنا قادم منها الآن.

فاضطربت ميلادي ولم تجسر أن تسأله إذا كان لقي علي رمجاه.

وظلت المركبة سائرة حتى وصلت إلى المنزل، فترجل روكامبول وساعدها على النزول، ثم دخل الاثنان إلى قاعة الاجتماع فجلس كل منهما بإزاء الآخر، ودار بينهما الحديث الآتي، فابتدأ روكامبول: قلت لك يا سيدتي: إني قادم من لندرا.

– ألعلك رأيته فيها؟

– من هو؟

– علي.

– كلا، لكنه سيكون في باريس قبل ٨ أيام.

ورأى روكامبول أن وجهها قد اصفر، حتى باتت شبيهة بالأموات، فقال لها: اسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك عما جرى في لندرا؛ كي تعلمي ماذا أريد منك.

– تكلم.

– لقد تغيرت الوزارة في لندرا يا سيدتي، فتعين لوزارة البحرية والمستعمرات رجل ملء قلبه الحزم والثبات والبسالة، فاتفق مع حكمدار الهند وهو لا يقل حزمًا عنه على إبادة هذه الجمعية السرية التي يدعونها جمعية الخناقين وهي هذه الجمعية الهائلة التي يوجد بين أعضائها كثيرون من أشراف الإنكليز أنفسهم.

فقالت له ميلادي بلهجة الهازئ: إذن قد قضوا عليها بالإبادة!

– نعم يا سيدتي، وقد صرح الوزير أنه سيضطر إلى محاكمة كثير من النبلاء؛ لأن أسرار هذه الجمعية التي يتولى رئاستها علي رمجاه قد انفضحت.

– من الذي فضحها؟!

– هو رجل عرف تاريخ حياة علي رمجاه وماضي مس ألن بركنس.

فأظهرت ميلادي علائم القلق غير أن روكامبول اندفع في حديثه قائلًا: وإن هذا الرجل عرف أيضًا السبب الذي وشمت من أجله بنات بعض نبلاء الإنكليز بإشارتٍ سرية وكرست للإلهة كالي.

– أحق أن هذا الرجل يعرف كل هذه الأسرار؟!

– نعم، وقد باح بها للوزير، فوعد الوزير بمعاقبة الآثمين.

– إن ذلك صعب لعدة أسباب؛ أحدها: أن هذه الجمعية متسعة متشعبة في جميع الأقطار.

– هو ما تقولين، وليس لها على امتدادها وتشعبها غير رئيسٍ واحد وهو علي رمجاه.

– ثم إن علي رمجاه لا يقيم في لندرا.

– نعم، لكنه سوف يحضر إلى باريس.

– وماذا يستطيع البوليس الإنكليزي أن يصنع في هذه العاصمة الفرنسية؟

– لا يستطيع أن يصنع شيئًا، لكن الرجل الذي باح بأسرار الجمعية للوزير الإنكليزي تعهد له أن يسلمه علي رمجاه.

– دون إذن حكومة فرنسا؟!

– دون شك حتى إن البوليس الفرنسي نفسه لم يعلم أن علي رمجاه جاء إلى باريس.

– هذا الرجل قد تطرف بوعده ولا أظنه يلاقي غير الفشل.

فتبسم روكامبول قائلًا: إنه لم يقتصر في وعده على هذا الحد بل إنه وعد أيضًا بتسليم مس ألن.

فاضطربت ميلادي وقالت: كيف ذلك؟! أيسلمني أنا؟!

– نعم يا سيدتي؛ إن لديه أوراقًا تثبت أن مس ألن قد قتلت أباها الكومندور بالاشتراك مع علي وخادم كان يدعى فرانز.

– هذا مستحيل؛ إذ لا سبيل إلى الإثبات.

– إنك مخطئة؛ لأن لديه برهانًا عظيمًا، وهو مذكرة كتبها المسيو بب وكيل مس ألن فوصلت إلى هذا الرجل وفيها كل ما يحتاج إليه من البراهين القاطعة.

فلم تكترث ميلادي لهذه البراهين وقالت له: أظن أن لك سلطة علي رمجاه فتستطيع تلافي هذا الخطر.

– إنك مخطئة يا ميلادي؛ لأن الرجل الذي سيسلم علي ومس ألن وفرانز وزعماء الخناقين هذا الرجل يا ميلادي هو أنا.

فصاحت ميلادي صيحة منكرة ونظرت إلى روكامبول نظرة ملؤها الرعب كأنما هوة عميقة هائلة قد انفتحت بينها وبين روكامبول.

ثم خطر لها أن هذا الرجل هو حقيقة وكيل علي رمجاه لكنه يحاول تجربتها فبقي لها شيء من الأمل.

غير أن روكامبول ضرب على هذا الرجاء وأضاف: لقد كان لك يا سيدتي أخت تدعى مس أنا.

فاضطربت ميلادي وأجابت: أتعرف هذا أيضًا؟!

– نعم، وأنك خنقتيها.

– لست أنا التي خنقتها، بل علي.

– إنك وعلي واحد، أليس كذلك؟!

فأطرقت برأسها ولم تجب، أما روكامبول فعاد إلى حديثه قائلًا: وإن أختك ماتت عن فتاةٍ تدعى جيبسي، ولهذه الفتاة الحق بإرث أموال أمها التي اختلستموها.

فوقفت ميلادي، وقد اتقدت عيناها بنار الغضب وقالت: كلا هذه الثروة لولدي.

فضحك روكامبول قائلًا: أواثقةٌ أنت مما تقولين؟!

– قلت لك: إنها لولدي؛ لأني اشتريتها بحياةٍ ملؤها الجرائم واليأس.

– إني كنت أنتظر منك هذا الإقرار.

– وأنا لا أفهم ما تقول؛ لأني لا أستطيع حل الألغاز!

– إذن اصغي إليَّ؛ إني موضحٌ لك ما خفي عنك، اعلمي أن ابنك شريف جميل باسل، وهو لا يغمس يده بهذه الثروة المدنسة، وإذا قيل لابنك لوسيان: إن هذه النقود التي ستنفقها على زواجك وهذه الهدايا التي ترسلها إلى عروسك وهذا البذخ الذي تعده لها ولك وجميع هذه الأموال قد وصلت إليك من الجريمة، فماذا تظنين أنه يجيب؟!

ورأى روكامبول أنها أنَّت أنينًا مزعجًا وأخفت رأسها بين يديها فقال لها: اصغي إلي؛ إن الموقف خطير، وإني أحب الاتفاق معك.

فنظرت إليه وقالت: على ماذا تريد الاتفاق؟

– إني أعرف كل تاريخك، ولدي ما أحتاج إليه من البراهين لإثبات جرائمك، ولا أسهل علي من تسليمك إلى الحكومة الإنكليزية، غير أني لا أفعل هذا إلا حين أقنط من الاتفاق معك.

فقالت له بلهجة المتهكم: أراك يا سيدي كثير الإشفاق فهل تريد أن تخبرني سبب هذه الرحمة؟!

– نعم، والسبب هو ابنك ولو لم تكوني أم لوسيان لما وجدت في قلبي ذرة من الرحمة.

– إذن لا تسلمني إلى الحكومة.

ثم نظرت نظرةً سريعة إلى ما حولها، كأنها قد خطر لها خاطر الفرار، فابتسم روكامبول وقال: اطمئني يا سيدتي فليس في نيتي أن أحبسك عندي، لكنك تخطئين كل الخطأ إذا خرجت من هنا قبل أن نتفق الاتفاق النهائي.

– قل: ماذا تريد مني؟

– إنك شديدة الجرأة والدهاء وإذا وقفت أمام المحاكم فقد تنكرين كل ما يتهمونك به كل الإنكار، نعم إن القضاة لا يكترثون لإنكارك ويحكمون عليك لكن ابنك قد يبرئك؛ لما يسمعه من شدة إنكارك وهذا ما أريده، بل أريد أن يكون لك قاضيًا واحدًا وهو ابنك.

فارتعشت ميلادي وقالت: كلا، إنك لا تبلغ بقسوتك هذا الحد.

– بل أعمل أعظم من ذلك إذا لم ترجعي الثروة المسروقة.

– أأجرد ابني وأجعله من الفقراء؟

– ذلك لا بد منه.

– بل ذلك لا يكون ما دام بي عرقٌ ينبض.

– اصغي إلي أيتها السيدة، إن أباك الكومندور بركنس قد مات عن ثروة عظيمة، وقد أوصى بهذه الثروة كلها لأختك مس أنا فأصبحت كلها بيديك.

– إن ما تقوله قد يكون أكيدًا غير أنه يوجد ما تجهله!

– ما هو؟!

– هو أني خبأت هذه الثروة في موضعٍ لا يمكن أن تهتدي إليه الحكومة ولا أنت ولا علي رمجاه الذي لم يقبض إلى الآن غير نصف إيراد تلك الثروة الطائلة.

– لا أنكر أني لا أعلم موضع الثروة؛ ولأجل ذلك رأيت أن أستخدم الطريقة الوحيدة التي تحملك على الإقرار.

فتظاهرت بنفاذ الصبر وقالت: تريد أن تخبرني أن هذه الطريقة هي ولدي؟

– نعم، إذ لا أجد أفضل منها؛ لأن ابنك متى علم جميع جرائمك ينتحر دون شك ويؤثر الموت على العار.

فصاحت ميلادي صيحة تبين منها ضعفها، غير أن مظاهر هذا الضعف تبدلت في الحال، وقالت: ومن يضمن لك أن ابني يصدق ما تقول؟

فتنهد روكامبول وقال: إن إقناعه منوطٌ بي، والآن انظري يا سيدتي إلى الليل؛ فقد أخذ يبسط جناحيه، ولا أحب أن يخطر لك أني ناصب لك فخًّا؛ لأن أمثالنا يتحاربون وجهًا لوجه ولا يستعملون الغدر ويستخدمون أفضل ما لديهم من الأسلحة.

– لقد عرفت سلاحك فاعلم أني لا أخشاك.

– وأنا محضتك خالص النصح وأمهلك إلى الغد.

– وإذا أبيت غدًا إجابة سؤالك؟

– يعلم ابنك كل شيء ولا تقع التبعة إلا عليك.

– إذن إلى الغد.

ثم وقفت تحاول الذهاب فنادى روكامبول ميلون قائلًا له: أحضر مركبة للسيدة.

وبعد ربع ساعة كانت ميلادي سائرة إلى الفندق وقلبها ملؤه الحقد واليأس، ولكنها كانت مصممة على أن لا ترجع فلسًا من تلك الثروة المخصصة لابنها.

ولما ذهبت دخلت فاندا إلى غرفة روكامبول وقالت له: إني لم أفهم شيئًا أيها الرئيس مما فعلت.

أجابها: إن ساعة العنف والإكراه لم تحن بعد؛ لأن ميلادي شديدة العناد والكبرياء، فهي قد تصعد من تلقاء نفسها إلى درجات المشنقة ولا تخبرنا بمكان ملايين النورية، ونحن نحتاج الآن إلى رد هذه الملايين.

٤١

في الوقت نفسه الذي خرجت فيه ميلادي من عند روكامبول إلى الفندق الذي كانت تقيم فيه في شارع أماريسان، كان قطار باريس قد وقف في المحطة فنزل منه رجل نحاسي اللون أسود العينين والشعر غير أن الشيب كان قد وخط بعض شعره، فكان يظهر في رأسه شبه النجوم وله أسنان ناصعة البياض ولحظ براق.

وكان يصحبه رجلان لهما ذات لونه النحاسي وهما حسنا الملابس، على أنهما لم يكونا غير خادميه.

وكان الرجل قادمًا من الأستانة إلى باريس بطريق البر، فاجتاز الدانوب وفيينا وألمانيا وهو مسافر بجواز تركي كتب فيه اسمه رستق باشا.

وكان أحد هذين الرجلين اللذين يصحبانه يشغل عنده وظيفة ترجمان، فلما نزلوا من القطار، أحضر مركبة وأمر بنقل الأمتعة إليها، ثم أمر السائق أن يسير بهم إلى الجران أوتيل، وهو الفندق الذي تقيم فيه ميلادي وفرانز.

وبعد هنيهة وصلت المركبة إلى الفندق فخرج منها رستق باشا وأمر أن يعدوا له أفضل مكانٍ في الفندق ولم يكن يتكلم إلا بواسطة الترجمان؛ إذ كان يظهر أنه لا يعرف كلمة من اللغة الفرنسية.

وبينما كان خدام الفندق ينقلون أمتعته وخادماه منشغلان بإعداد الغرف التي عينت له جعل رستق باشا، أو هذا الهندي الذي يدعي أنه من الأتراك، يتنزه ذهابًا وإيابًا على رصيف الشارع.

وكان على ادعائه أنه من الأتراك لابسًا ملابس الأوروبيين فلم ينتبه أحد إليه ولم يزعجه المارة بشيء.

وبعد حين جاء الخادم وأخبره أن الغرف قد تهيأت فأشار له أن ينصرف، وبقي يتنزه على الرصيف وينظر إلى المركبات التي تدخل كل حين إلى هذا الفندق الكبير.

وفيما هو على ذلك؛ إذ رأى مركبة قد دخلت إلى الفندق ورأى فيها امرأة صفراء الوجه تدل هيئتها على أنها في اضطرابٍ شديد، فارتعش حين رآها وقال باللغة الإنكليزية: هذه هي مس ألن.

وعند ذلك أسرع ووقف وراء المركبة بحيث لا تراه حين خروجه، أما ميلادي، وكانت هي نفسها عائدة من عند روكامبول، فإنها لما خرجت من المركبة، أسرع إليها أحد خدام الفندق فقالت له: هل عاد الماجور هوف؟

– كلا يا سيدتي؛ إنه لم يعد بعد.

وكانت ميلادي شديدة الاضطراب، وعلائم القلق والحيرة بادية على وجهها؛ بحيث إنها لم تنظر إلى أحد من الذين كانوا حولها، ولم تر ذلك الغريب الذي كان واقفًا وراء المركبة وعيناه تتقدان؛ فإنه لم يكد يسمع اسم الماجور هوف يخرج من شفتيها، حتى اضطرب واصفر وجهه اصفرارًا شديدًا.

أما ميلادي فإنها صعدت والخادم أمامها إلى غرفتها وخلت إلى نفسها.

وقد كانت أظهرت شيئًا من الجلَد أمام روكامبول، غير أنها حين أتت وحدها فكرت في أمورها فعلمت أنها شديدة التعقيد؛ لا تحل إلا بارتكاب الجرائم الهائلة أو بالتخلي عن المال.

ثم افتكرت أن ولدها إذا عرف آثامها أنكرها واحتقرها وأنف من مالها، بل ربما أفضى به اليأس إلى الانتحار، كما قال لها روكامبول، فهاجتها عواطف الحنو وأوشكت أن تجن من اليأس.

ولكنها عادت إلى التفكير بهذه الثروة التي لم تنلها إلا بعد إهراق الدماء، وأنها أودعتها في مكانٍ خفي لا يمكن أن تنالها يد مغتصب، فعز عليها تسليمها، لا سيما وقد عودت ولدها عيشة البذخ والترف وقالت له حين عرفته: إنك أغنى غني في فرنسا. فكيف تستطيع أن تقول له الآن: إنك أفقر فقير؟!

وقد علمت من محادثتها مع روكامبول أنه خصمٌ شديد عنيد لا يسلم من يخوض معه في مجال الأخطار، فإذا لم يسرع خصمه بالتأهب كان من الخاسرين لا محالة.

ولم يكن لديها غير رجل واحد يستطيع أن يخدمها في مثل هذه المهمات؛ وهو فرانز، فأسرعت إلى الاجتماع به ولكنها وجدت أنه لم يعد بعد إلى الفندق كما تقدم.

أما فرانز أو الماجور هوف فإنه كان يقيم معظم الليل في النادي مع اللاعبين ولا يعود إلا بعد انتصاف الليل.

وكان جميع من في الفندق يعلمون اتصال فرانز وميلادي، ونادت ميلادي الخادم الذي لقيته حين وصولها وأمرته أن لا ينام قبل عودة الماجور هوف، وأن يخبره حين عودته أنها بانتظاره.

وانصرف الخادم وفتحت ميلادي نافذة غرفتها ووقفت تستنشق الهواء البارد؛ إخمادًا لثورة غضبها المتوقد في فؤادها.

ولبثت على هذه الحالة نحو ساعة وهي تفكر في طريقة تعينها على الفرار من روكامبول وإنقاذ ولدها منه وأمنها مطاردته، فلم تجد لذلك وسيلةً.

وفيما هي على ذلك سمعت وقع أقدام في الرواق المتصل بغرفتها فقالت في نفسها: هو ذا فرانز قد عاد، ثم سمعت بابها يطرق فأذنت للطارق بالدخول.

وعند ذلك فتح الباب ودخل منه رجل لم تكد تراه ميلادي حتى ذعرت ذعرًا شديدًا، وكاد يغمى عليها من الخوف.

أما هذا الرجل فلم يكن روكامبول ولا فرانز، بل كان ذلك الرجل الذي انتحل لنفسه اسم رستق باشا، فتقدم من ميلادي ببطء وهو مشبك يديه فوق صدره قائلًا لها: أعرفتيني يا مس ألن؟

فوهت ركبتاها وسقطت على كرسي كانت واقفة بالقرب منه وهي تجيب: علي رمجاه!

فاستل علي خنجرًا؛ لأن هذا الهندي المتنكر كان علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند وأجابها: نعم أنا هو علي رمجاه وقد أتيت لعقاب الخائنين!

٤٢

وكان علي رمجاه ينظر إليها نظرات هائلة ويدنو منها والخنجر مشهر بيده، وهي تنظر إليه مبهوتة وأسنانها تصطك من الخوف.

ثم دنا منها أيضًا وقال: أي مس ألن، أين ضاعت تلك العهود والمواثيق؟! وكيف نكثت بذلك الأيمان …؟ إنك لا تجيبين بحرف ولكني أعرف كل شيء؛ فإن قلبك قد ملكته لسواي وأنت تكرهينني الآن.

فركعت أمامه وقالت: أسألك العفو؟

– لا عفو عندي ولا رحمة وسيكون الموت عقابك وعقاب فرانز، ولكني أريد أن أعرف قبل ذلك: أين ولدي؟

وقد تهدج صوته حين قال ولدي وبدت فيه لهجة الحنان، كأنما هذه اللفظة كانت ماء على جمر غضبه المتوقد.

أما ميلادي فكانت تنظر إليه برعب، لكنها على رعبها كانت تبدو عليها ملامح الإعجاب به؛ لأن شمس الهند المشرقة لم تؤثر على جماله، ولم تحدث تلك الأعوام الطويلة أقلَّ أثرٍ في جبينه، فكان لديها كما نظرته لأول مرة.

وعاد علي إلى القول: أين ولدي؟

وكان الخنجر لا يزال في يده غير أن لهجة حنوه طمأنت ميلادي، فقالت له: إنه في باريس أراه كل يوم وهو يعبد أمه عبادة.

وألقى علي خنجره كأنه يخشى أن تسبقه يده إلى الانتقام وكانت ميلادي لا تزال راكعة فقالت له: لا أنكر أن زلتي عظيمة ولكنني أرجو أن يكون عفوك أعظم، فإنك هجرتني عشرين عامًا لم أرك فيها ولم تكتب لي في خلالها حرفًا، بل كنت تصدر إلي أوامرك الهائلة بواسطة عبيدك! ألم تمنعني كل هذا الدهر أن أرى ولدي؟ ألم أعش هذا العمر معتزلة عن الناس كما يعيش النساك، وأنا أنتظر عودتك دون أن يتحقق هذا الرجاء؟

– لم يكن أمري بيدي وأنت تعلمين المنصب الذي كنت فيه.

– أما أنا فقد كنت وحدي مسترسلة إلى الأحزان تتمثل لي ذنوبي، ويقتلني تقريع الضمير، وليس لدي صديق أئتنس به وأفرج بعشرته همومي، وقد تركت لي في خدمتي رجلًا أنت جعلته شريكًا لي في الجريمة، وهو رجل شقي سافل، غير أنه كان عارفًا بأسرار جرائمي فلزمني لزوم ظلي وتدله بغرامي.

ثم زحفت على رجليها إلى علي رمجاه وقد شعرت أن حب هذا الرجل قد عاد إلى فؤادها، وعادت سلطته القديمة، وهو الرجل الذي أغرت فرانز على قتله، وقالت بلهجة القنوط: نعم، إني كبحت جماح نفسي أعوامًا طويلة، لكن هذا الرجل الصبور تغلب على علي رمجاه في ساعة ضعفت فيها نفسي ونكثت بعهودي وخنت عهدك المقدس، فأنا أستحق أفظع موت فاقتلني كما تشاء، لكني ألتمس منك أن تأذن لي قبل الموت أن أرى ولدي.

فأوقفها علي بيده ونظر إليها نظرًا طويلًا وهي منكسة الطرف وقال لها: إنك لا تزالين جميلة.

وعلمت ميلادي أنها نجت من قبضته.

أما علي فقد تابع بعد سكوتٍ طويل: إني أريد قتل هذا الرجل وسأقتله لا محالة.

فأطرقت ميلادي برأسها إلى الأرض وقد تخلت عن الماجور هوف.

وعاد علي إلى الحديث فقال: إني الآن حر وقد سلمت سلطتي الهائلة التي طالما أقصتني عن أوروبا، فلم أعد أدعى علي رمجاه زعيم الخناقين، بل أنا أدعى الآن رستق باشا، فلا تستطيع حكومة الهند والحكومة الإنكليزية وصولًا إلي، وأنت غنية وأنا غني وقد أتيت للبحث عنك.

– إلى أين تريد أن تذهب بي؟

– إلى البلاد الأميريكية؛ فإن سفينة لي تنتظرني في الهافر.

– وولدنا؟!

– يسافر معنا …

– ولكنه شابٌّ جميل عازم على الزواج …

– إذن تسافر خطيبته معنا …

وبينما كان علي رمجاه يخاطبها كانت تتذكر ما قاله لها الماجور أفاتار والشروط التي عرضها عليها قبل ساعة؛ فأخذت يد علي رمجاه بين يديها وقالت له بصوتٍ مضطرب دل على مبلغ خوفها: أتظن يا علي أنك حر؟!

– دون شك!

– ولكنك منخدع فقد يقبضون علينا ونصبح أسيرين بعد يومين.

– ومن الذي يأسرنا؟!

– تقبض علينا الحكومة الإنكليزية فتحاكمك بصفتك زعيم الخناقين، وتحاكمني أنا لقتلي أبي.

فضحك ضحكًا عاليًا وقال: إنك تعلمين أن الحكومة الإنكليزية عينت جائزة عظيمة منذ أعوامٍ كثيرة لمن يأتيها برأسي، ولا يزال هذا الرأس مركبًا على هذا البدن كما ترين!

– ولكن خطر اليوم غير خطر أمس.

– كيف يكون هذا الخطر؟! وكيف يقبضون علي وأنا مسافر بجواز عثماني وأدعى رستق باشا؟!

– إنك منخدع فليست الحكومة التي تقبض عليك بل الماجور أفاتار.

ثم قصت عليه جميع ما جرى لها مع روكامبول، ولما أتمت حديثها ضحك علي رمجاه قائلًا: أيوجد من يجسر على التعرض لي؟! إذن سأسحقه سحق الزجاج!

– وهو يسحقك.

وغضب علي ولكنه ما لبث أن عاد إلى السكينة فقال: تقولين: إن هذا الرجل أمهلك ٢٤ ساعة للتفكير؟

– نعم …

– ولكننا سنكون خارج باريس قبل هذه المدة أنا وأنت وولدنا وخطيبته.

وفيما كان علي يتكلم، سمع وقع أقدام في الرواق ثم قرع باب الغرفة؛ فاصفر وجه ميلادي ثم فُتح الباب ودخل منه الماجور هوف؛ أي فرانز، فاضطربت ميلادي اضطرابًا عظيمًا وغطت وجهها بيديها.

٤٣

وقد اضطرب فرانز أيضًا حين دخوله؛ لأنه يعرف نفوذ ذلك الهندي الهائل، أما علي فإنه وثب مسرعًا إلى الباب فأقفله ووقف بينه وبين فرانز؛ حذرًا من فراره.

أما فرانز فإنه نظر نظرة الفاحص إلى ميلادي فأطرقت بنظرها إلى الأرض، وعلم أن الهندي قد عاد إلى تسلطه على قلبها.

ودنا علي رمجاه من فرانز وقال له: أيها العبد الزنيم، إنك تجاسرت على رفع عينيك إلى المرأة التي أحبها فوجب أن تموت.

ثم أسرع إلى الأرض والتقط ذلك الخنجر الذي رماه؛ حذرًا من أن تبتدره الحدة فيطعن به ميلادي.

غير أن فرانز لم يكن هيابًا وقد دبت الحماسة إلى قلبه بحضور ميلادي، وكان هو أيضًا ضخم الجثة عريض المنكبين شديد العضلات كعلي، فاستل خنجره وقال لعلي: إنك مخطئ، فما أنا بعبد، وما أنا بخادم.

فقال علي بلهجة المحتقر: إذن أنت ماذا؟!

– أنا رجل رفعتني ميلادي إليها وساوى الحب بيني وبينها في كل مقام.

فلم يجبه علي، ولكنه التفت إلى ميلادي وسألها: أتسمعين ما يقوله هذا الرجل؟!

وأطرقت ميلادي بعينيها دون أن تجيب، فقال لها علي: إن هذا الرجل يفتخر بأنك تحبينه فقولي لي: إنه سافل منحط لا يستحق منك نظرة رفق.

وقال لها فرانز: قولي إذن لعلي رمجاه: إن شفتي تقبل شفتيك منذ عشرة أعوام، وإن الحب قد ألف بين قلبينا فكنا نقتسم السراء والضراء وكنا روحًا واحدة في جسمين.

وسكتت ميلادي ولم تجسر على النظر إلى واحدٍ من هذين الرجلين اللذين سيقتتلان من أجلها. أما فرانز فإنه هز الخنجر بيده وقد غضب لصمتها وقال: أرى أن هذا الرجل قد أخافك يا ألن وقد تهددك بسلطته السرية الهائلة، ولكني لا أخشاه، ولا أخشى هذه السلطة.

وكأنما هذه الكلمات قد أذكرت ميلادي ما كانت تعلمه من بأس علي رمجاه ووازنت بين قوة الرجلين ورجحت في تصورها كفة علي، ثم ذكرت أنها ابنة أعظم نبلاء إيكوسيا، وأنها قد انغمست في حب خادم لها، فنظرت إلى فرانز نظرةً ساحقة وقالت له: أيها العبد الزنيم، إنك كاذب، فما أنت إلا من أسفل الخدم وما أحببتك في حياتي، بل أنا أحتقرك.

وصاح فرانز صيحةً منكرة وطاش رأسه واتقدت عيناه ثم انقض بخنجره على ميلادي وقال: إنك ستموتين قبله أيتها الفاجرة الخائنة.

ولكنه قبل أن يتمكن من الوصول إليها وطعنها الطعنة القاتلة سمع صوتًا في الغرفة يشبه الصفير، ثم شعر أن حبلًا قد التف على عنقه وجذبه فسقط على الأرض لا يعي.

وقد أطلق على عنقه هذا الحبل علي رمجاه وهو سلاح الخناقين الهائل، ولما رأى علي أن فرانز سقط على الأرض سقوط الأموات أسرع إلى ميلادي، وهي توشك أن تجن من الرعب، فتأبط ذراعها وقال لها: هلمي بنا إلى ولدنا لنأخذه ونهرب.

•••

ومع ذلك؛ فإن روح فرانز لم تفارق جسمه الذي لا يتحرك ولا يعلم إذا كان مات أو بقي حيًّا بعد أن التف ذلك الحبل الهائل على عنقه، غير أن روحه الخالدة لم تضمحل، ولم تفقد حاسة الحقد والغيرة، فحدثت أعجوبة يستحيل تأويلها، غير أنها لم تكن دون مثيل روى العلماء كثيرًا من هذه الحوادث العجيبة.

ذلك أن روح فرانز اجتازت الفضاء وجعلت تقتفي أثر علي رمجاه وميلادي خطوة خطوة!

ولا يعلم كم أمضت في طوافها واقتفائها أثر هذين العدوين.

وقد مضى الليل وأقبل النهار ودخل الخدم إلى تلك الغرفة التي تركتها ميلادي، فوجدوا الماجور هوف طريحًا في أرضها لا حراك فيه، وأسرعوا إلى إحضار الطبيب، ولما فحصه قال: إنه ميت.

وكان يوجد في الفندق في ذلك الحين رجل روسي جاء لزيارة أحد النازلين في الفندق، ولما ذاع خبر موت الماجور هوف تقاطر جميع من كان في الفندق إلى غرفته وبينهم الروسي، ودنا من فرانز ففحصه وقال للطبيب: أظن يا حضرة الدكتور أنك مخطئ؛ فإنه لم يمت بعد!

واستاء الطبيب وقال له باحتقار: ألعلك يا سيدي من الأطباء؟!

– إني أدعى الماجور أفاتار وأنا طبيب حين تدعوني الصدف إلى ممارسة هذه الصناعة، ثم تركه ودنا من سرير فرانز وقال: إني سأحيي هذا الميت!

٤٤

في هذه الليلة نفسها شعر لوسيان بعد أن ذهبت أمه بحزنٍ شديد تولد عن أسرار مولده الخفية وكتمان أمه عنه حقيقة مولده واسم أبيه.

وكان لوسيان قد نسي هذه المشاغل قبل شهر؛ لانشغال فؤاده بحب خطيبته وكان يرى المستقبل باسمًا له، ولكنه بعد أن لقي أمه أظلم هذا المستقبل في عينيه، وقد حاول تلك الليلة أن ينام فلم يستطع إطباق جفنيه ولم يذق طعم الرقاد، وعادت إليه الحمى كما كانت في أول عهد جرحه.

ودقت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وهو يتقلب على فراشه منكمش الفؤاد، كأنما قلبه كان ينذره بأمرٍ هائل، وفيما هو على ذلك سمع جرس الباب الخارجي يدق فاضطرب قلبه؛ لعلمه أن هذا القادم بعد منتصف الليل لم يحضر إلا لشأنٍ خطير!

وفتح أحد الخدم الباب الخارجي وبعد هنيهة رأى أن باب غرفته قد فتح ودخلت منه أمه، فقال لها: لقد علمت أنك أنت القادمة حين طرقت الباب؛ فإن قلبي كان يحدثني بقدومك لشأنٍ خطير.

– لقد صدق حديث قلبك يا بني؛ فإني ما أتيت في هذه الساعة المتأخرة إلا لتوديعك وداعَ الأبدِ.

وصاح لوسيان وأخذ يدها بيديه فضغط عليها ضغطًا شديدًا وقال: كيف تفارقينني فراق الأبد وأنا لم أكد أعرفك؟ أتريدين لي الموت يا أماه؟

– أريد أن تكون أسعد إنسان في الأرض.

– كيف أكون سعيدًا وأنت تنذرينني بهذا الفراق الأبدي، وأي فرقٍ بينه وبين الموت؟

– إنك ستعيش سعيدًا مع امرأتك فتسلو فراقي، وهذا ما قدر لي يا بني فإني ما أتيتك في مثل هذه الساعة إلا لتوديعك وإخبارك بما أشكل عليك من أمري؛ فإنك لم تعرف سوى أني أمك، حتى إنك تجهل اسمي.

ولقد قلت لك: إنك لن تعرف أباك إلى الأبد، ولكني لا أريد في مثل هذه الساعة الرهيبة ساعة الفراق الأبدي أن أدع في فؤادك أقل أثرٍ للريب بي يدعوك إلى احتقاري.

– أنا أحتقرك يا أماه وأنت عندي أجل النساء وكفى أنك أمي؟

– اصغ إلي يا لوسيان؛ إن أباك حي وهو يحبك كما أحبك، بل هو الآن في باريس.

فوثب لوسيان من فراشه وقال: أيكون أبي في باريس ولا أراه؟!

– لا سبيل إلى أن تراه؛ فإنه سيبرح باريس قبل الفجر فلا يراك ولا تراه إلى الأبد، ولا تعجب لذلك يا بني فإني مسافرة معه قبل الفجر، ولهذا أتيت لتوديعك بعد منتصف الليل، ثم يجب أن تعلم يا بني أن أباك لا يحضر إلى المدينة التي تقيم فيها ولا يراك، وأن أمك لا تفارقك هذا الفراق الذي لا لقاء بعده، إلا وقد حكمت عليهما الأقدار هذه الأحكام الجائرة.

ثم اندفعت في البكاء فكاد لوسيان يجن من إشفاقه وجعل يقبل أمه ويبكي معها، فمسحت ميلادي دموعها وقالت: إن أباك يا لوسيان قد حُكم عليه بالإعدام.

وانذعر لوسيان حتى أوشك أن يسقط على الأرض، ثم عاد إليه رشده وسكينته وقال: أريد أن أعرف الحقيقة مهما كانت ومهما كان وقعها شديدًا علي.

– نعم يا ولدي يحق لك أن تسأل معرفة هذه الحقيقة، فاسمع الآن تعلم كل شيء، إني إنكليزية وأبوك هندي، أما أنا فإني من أشرف أسرات إيكوسيا وأما أبوك فهو أحد أبناء ملوك الهند الذين اغتصب ملكهم الإنكليز.

وتنفس لوسيان الصعداء وقال: إذن، إن أبي لم يكن من المجرمين.

– إن أباك أعظم نبيل، وقد أراد الإنكليز أن يستعبدوه كما استعبدوا سواه فأبت نفسه الكبيرة حمل الضيم، ودافع دفاع اليأس عن عرش أجداده وقاتل قتال المستبسل المستميت وطالما كسر جيش الإنكليز شرَّ انكسار؛ لأنه كان يقود الهند بنفسه إلى أن خانته الأقدار وخسر معركة كبرى وقع فيها أسيرًا بأيدي الإنكليز، وأرسلوه إلى لندرا وقد عرفته وأحببته وأحبني حبًّا يشبه العبادة.

وكان أبي حاكمًا في الهند وقد أقام في تلك البلاد دهرًا طويلًا، وكان يحتقرهم ويكرههم أشد الكره، ولو علم بحبي له لكان قتلني لا محالة.

غير أن كره أبي للهنود لم يمنعني عن حب هذا الفتى، واتفقنا على الزواج وعقد زواجنا بالسر كاهن من الكاثوليك.

فبرقت أَسِرَّةُ لوسيان بأشعة الفرح وقال: إذن إن ولادتي شرعية ولا شك في نسبي.

– هذا لا ريب فيه يا بني؛ لأن أمك لا ترتكب إثمًا غير أنك ابن رجلٍ مضطهد، ولنعد الآن إلى حكاية أبيك، فإنه تمكن من الفرار من لندرا بعد زواجنا على باخرةٍ تجارية فحملته إلى الهند وهناك جمع بقايا جيشه وعاد إلى مقاتلة الإنكليز وقاتلهم ٣٠ عامًا، كان يتراوح في خلالها بين الانتصار والانكسار، فتارةً يدحر أعداءه إلى شاطئ البحار وطورًا يدحرونه فيعتصم في الجبال.

إلى أن قنط الإنكليز منه فجعلوا يرسلون لقتاله الجيش تلو الجيش حتى أفنوا جنوده واضطر إلى مبارحة الهند والكف عن القتال؛ لامحاق جنده.

ولما علمت الحكومة الإنكليزية بفراره عينت جائزة عظيمة لمن يقبض عليه وبثت العيون والأرصاد في كل مكان، فهي تقبض عليه أينما وجدته.

فسألها لوسيان: أيمكن القبض عليه وهو في فرنسا؟

– نعم؛ فإن القبض عليه لا يكون مباشرة؛ لأنه يوجد في باريس عصابة تنتظر قدومه للقبض عليه بالسر.

– أكانوا يعلمون أنه سيحضر إلى باريس؟

– نعم؛ فإنهم كانوا يعلمون أنه له فيها ولد وامرأة …

ففرح لوسيان وقال: إذن سأراه …

– كلا؛ لأنه يسافر في هذه الليلة إلى الهافر وهناك سفينة تنتظره للذهاب به إلى أميريكا حيث يكون آمنًا من الإنكليز؛ ولهذا جئت إليك كي أودعك الوداع الأخير.

– إذن أنت تسافرين؟

– لا بد لي أن أتبع زوجي.

فطوق لوسيان عنق أمه بذراعيه وقال: كيف أبقى هنا وحدي؟ وماذا يمنعني من السفر معك؟

– أنت تسافر معنا إلى أميريكا؟!

– بلا ريب.

– وخطيبتك؟!

– تسافر معنا.

– أتظنها ترضى بالسفر؟!

– إنها ترضى بكل ما أرضاه.

– أتعلم أنه يجب أن نسافر بعد ساعة؟

– لا شيء يحول دون سفري وسفر خطيبتي؛ فإن ساعة تكفينا للتأهب.

وعند ذلك سمعا مركبة وقفت عند باب المنزل، فقالت ميلادي: هو ذا قد جاء؛ ليسير بي، ثم طرق الباب الخارجي ففتح ودخل منه علي رمجاه فاجتاز حديقة المنزل وصعد إليه فقالت له ميلادي: أبشر يا بني فسترى أباك.

وبعد ذلك بخمس دقائق كان هذا القاتل السفاك يضم لوسيان إلى صدره وعلائم الحنو بادية بين عينيه، وكانت ميلادي واقفة بالقرب منهما تنظر نظرات الإعجاب إلى الولد وأبيه، وحسب لوسيان أن أباه من أبطال التاريخ، وأن أمه من ملائكة الطهر! فصاح صيحة فرح وقال: إني أسافر معكما إلى أقصى مكان في المعمور.

فقالا: إذن هلموا بنا؛ فإن الوقت غير فسيح.

وأسرع لوسيان إلى لبس ملابسه وخرجوا جميعهم إلى منزل خطيبته ماري وأخبرها لوسيان بجميع ما اتفق، فوافقت على السفر وخرجت معهم فساروا جميعهم إلى الهافر.

أما ميلادي فكانت في جميع تلك المدة مضطربة أشد الاضطراب؛ لخوفها من روكامبول ولم تكن خائفة من أن يمنعهم عن السفر، بل كان معظم خوفها من أن يرى لوسيان ويقول له: إن هذا الرجل الذي حسبته من أبطال التاريخ هو من أبطال اللصوص، وتلك الأم التي حسبتها من ملائكة السماء هي قاتلة أختها وأبيها، وهي شيطان بصورة إنسان.

•••

ولنعد الآن إلى فرانز، لقد تركناه فاقد الرشد في الجران أوتيل بين طبيب يقول: إنه ميت لا رجاء منه وبين روكامبول الذي كان يثبت أنه من الأحياء.

وقد خرج الطبيب مستاء وبقي روكامبول وكثير من الناس في الغرفة، فقال لهم روكامبول: إني أحتاج أن أكون وحدي مع هذا العليل، فخرج الجميع ولم يبق في الغرفة إلا روكامبول وفرانز.

وأخذ روكامبول مسحوقًا وأذابه في كأس ماء، ثم أجلس فرانز في سريره وفتح فمه وسقاه ذلك المسحوق، وجعل يفرك صدغيه بالخل، ولم تمضِ هنيهة حتى اهتز فرانز في السرير ثم زاد الاهتزاز وجعل يتنهد.

غير أنه لم يستيقظ ولم يفتح عينيه ولكن شفتيه تحركتا، وخرجت منها لفظة ميلادي بصوتٍ ضعيف يشبه الهمس، فأقفل روكامبول باب الغرفة من الداخل وأقبل يصغي إلى كلماته؛ لوثوقه أنه مصاب بالنوم المغناطيسي وسمعه يقول بصوتٍ متقطع دون أن يفتح عينيه: أي ميلادي، إني أعلم أين هربت وإلى أين رحلت، ولكن الأرض مهما اتسعت فلا يمنعني اتساعها عن طوفها والوصول إليك.

ولم يخطئ روكامبول فإنه كان في حالة النائمين ذلك النوم المغناطيسي، وذكر في الحال باكارا وتلك الفتاة اليهودية التي كانت تنومها فتعلم منها أسرار أندريا وروكامبول، فدنا من فرانز ووقف أمامه كما يقف من يحاولون التنويم، وجعل يشير إلى جبهته تلك الإشارات الاصطلاحية ويمد يده من فوقها دون أن يلمسها، وكان فرانز يظهر مقاومة الجواد العاصي على مُرَوِّضِهِ إلى أن ظهرت منه إشارة الخضوع، فوضع عند ذلك روكامبول يده على جبينه وقال له: آمرك أن تنظر.

وأظهر فرانز جهدًا عظيمًا يدل على أنه يمتثل بالرغم عنه ثم قال: أراهما، أرى الاثنين.

فقال روكامبول: من هما؟

– ميلادي.

– حسنًا، ومن الثاني؟

– علي رمجاه؛ فإن الاثنين قد برحا باريس.

فاضطرب روكامبول وقال: متى؟

– هذه الليلة …

– إلى أين ذهبا؟

– إلى البحر.

– ألا ترى سفينة؟

– نعم …

– ما نوعها ولونها؟

– من نوع الإبريق مدهونة بالدهان الأسود.

– ومن ترى فيها؟

– ميلادي.

– ألعلها وحدها؟

– كلا فهي مع علي رمجاه و…

– أيوجد معهما أحد أيضًا؟

– نعم، رجل وامرأة.

– أتعرفهما؟

فسكت فرانز هنيهة ثم قال: نعم عرفتهما؛ فهما لوسيان وخطيبته، وإني أراهما الآن.

– ألعل السفينة متأهبة للسفر؟

– كلا … فإن مراسيها لا تزال في البحر.

– ولماذا لا تسافر؟

– لشدة اضطراب البحر، ولأن من يعهد إليه إخراج السفن من الميناء يأبى الخروج بها؛ حذر الأنواء.

فقال روكامبول في نفسه: هذا كل ما أريد معرفته.

وعند ذلك وضع يديه على جبهة فرانز وقال له: آمرك أن تصحو.

وتنهد فرانز لفوره تنهدًا عميقًا وفتح عينيه فأجال في الغرفة نظرًا حائرًا إلى أن وقع نظره على روكامبول.

– أهذا أنت يا حضرة الماجور؟! وكيف أتيت إلى هنا؟! بل كيف أنا نفسي موجود في هذا المكان؟!

وأجابه روكامبول: اجتهد أيها الصديق أن تتذكر ما جرى لك ليلة أمس وأنا أتمم تذكارك …

وصاح فرانز صيحةً منكرة وقال: نعم ذكرت ذلك الرجل …

ثم توقف عن الكلام فقال له روكامبول: تريد ذلك الرجل الذي أطلق حبل الخناقين على عنقك وخنقك، انهض وانظر في المرآة أثر الخنق في عنقك.

فاصفر وجه فرانز وأجاب: تبًّا له من شقي.

– إن هذا الشقي هو علي رمجاه زعيم الخناقين ووالد لوسيان وعشيق ميلادي الأول.

وذعر فرانز وسأله: كيف تعرف هذا؟

– اسمع أيضًا … إن ميلادي وعلي رمجاه برحا باريس.

– متى برحاها؟! فإني أدركهما ولو ذهبا إلى أقصى المعمور.

– إن إدراكهما سهل؛ لأني أعلم إلى أين ذهبا.

– كيف عرفت ذلك؟! وإلى أين ذهبا؟

– أسألك المعذرة أيها الصديق فإنك أنت الذي قلت كل ذلك؛ لأني نومتك نومًا مغناطيسيًّا.

وبينما فرانز ينظر إلى روكامبول نظرات الانذهال قال له روكامبول: اعلم إنك مدين لي بالحياة؛ فإن أحد الأطباء حكم أنك ميت منذ ربع ساعة ولو لم أعترضه وأتعرض لإحيائك لكانوا دفنوك حيًّا، فأنا قد خدمتك خدمة جليلة، غير أني سأخدمك خدمة أجل من هذه؛ وهي القبض على علي رمجاه وعلى ميلادي التي لم تعد تهواك، فاسمع الآن ما أريده.

ثم خلا به روكامبول نحو ساعة ودار بينهما حديث طويل لم يعلم به أحد.

٤٥

كانت فاندا لا تزال مقيمة في ذلك المنزل الذي سجن فيه السير جمس وأقام معها عصابة روكامبول.

وقد لبثت في هذا المنزل ١٥ يومًا لا تخرج إلا للنزهة في حديقته إلى أن جاءها روكامبول فدخل توًّا إلى غرفتها وقال لها: لقد جئتك بتعليماتي.

– كيف ذلك؟! ألعلك عازم على السفر أيضًا؟!

– نعم …

– إلى أين؟

– لا أعلم الآن، ولكني سأعلم بعد يومين وسأصحب معي في سفري هذا ميلون ومورت ونويل.

– وأنا؟

– تبقين هنا مع مرميس لحراسة جيبسي.

– والإنكليزي ماذا تريد أن تصنع به؟

– سأصحبه معي.

ثم قرع الجرس فأتى ميلون فقال له: تأهب للسفر بعد ساعة.

– أأسافر معك؟

– نعم …

ثم التفت روكامبول إلى فاندا وسألها: كيف حال جيبسي؟

– إنها ستشفى بعد أسبوع ويعود إليها صوابها وهي قد تعلقت بي بعد قدومها إلى هذا المنزل فلا تفارقني لحظة.

– ومرميس؛ ألعله فقد سلطته عليها؟

– كلا لقد وثقت أنها تحبه.

– إذا عاد إليها صوابها فإني أريد أن تتزوج مرميس؛ لأنه أهلٌ لها.

– والملايين؛ ماذا جرى بها؟

– إني مسافر للحصول عليها.

ثم مد يده إلى جيبه وأخرج منها غلافًا ضخمًا مختومًا وأعطاه لفاندا وقال لها: خذي الآن هذا الغلاف وإذا لم أعد بعد ثمانية أيام فافتحيه واعملي بكل ما فيه؛ لأنه يتضمن تعليماتي.

واضطربت فاندا كأنما خشيت أن يصاب روكامبول بمكروه جديد وقالت له: سأطيعك في ما تريد، ولكن كيف لا تعود بعد ثمانية أيام؟!

– إني مسافر إلى الهافر.

– إلى إنكلترا؟

– لا أعلم إلى أين تكون وجهتي إلا بعد أن أبلغ متن السفينة.

وأطرقت فاندا برأسها ولم تلح بالسؤال.

أما السير جمس فإنه كان لا يزال في القبو موثق اليدين والرجلين، وكان ميلون يحضر له الطعام مرتين في اليوم فيحل وثاقه إلى أن يأكل، ثم يعود إلى شده ويدعه في ظلمات القبر.

وقد كان السير جمس استرسل إلى اليأس في بدء أمره وحاول الانتحار مرارًا فلم يفلح، ثم استسلم إلى الأقدار وذهب ما أصابه من اليأس فلم يعد يكترث لما هو فيه.

وأقام في هذا السجن الضيق خمسة عشر يومًا، إلى أن فُتح يومًا باب القبو ورأى ميلون داخلًا إليه، غير أن ميلون لم يكن وحده هذه المرة؛ فقد كان يصحبه رجل لم يلبث السير جمس أن رآه حتى ارتعش؛ إذ عرف أنه فرانز؛ أي الماجور هوف خادم ميلادي الأمين.

أما فرانز فإنه أخذ كيسًا من جيبه مملوءًا من الذهب ودفعه إلى ميلون وقال: خذ جزاء خدمتك، فأخذ ميلون الكيس وتظاهر بالسرور، فأيقن السير جمس أنه أغراه على خيانة روكامبول.

أما ميلون فإنه تركهما وانصرف، فنظر السير نيفلي نظرةَ ابتهاج إلى فرانز وسأله: أنت هنا؟! وكيف أتيت؟!

– أتيت لأنقذك؛ فقد أغريت هذا الخادم الذي نيطت به حراستك وأنت حر الآن.

– وروكامبول؟!

– ليس في المنزل.

– ولكن هذا المنزل غاصٌّ بخدامه.

– إنك مخطئ أيضًا؛ لأنهم قد برحوا المنزل كلهم، ولم يبق فيه أحد، وكل ذلك بفضل ميلون.

ثم فك قيوده وقال له: هلم بنا؛ لأن الوقت ضيق.

– أنخرج من هنا؟!

– نعم ثم نبرح باريس على الأثر وإذا أردت أن تكون حرًّا، فإني أطلب إليك أن تقسم لي يمينًا أن تطيعني مدة ٤٨ ساعة طاعةً لا حد لها مهما كانت أوامري غريبة!

– إني أطيعك وأقسم لك على ذلك مهما كانت أوامرك؛ لأني شديد الظمأ إلى الحرية.

– إذن اتبعني.

فتبعه السير نيفلي وخرج الاثنان خارج المنزل وكانت مركبة تنتظر على الباب ففتح فرانز المركبة وقال للسير نيفلي: ادخل.

– إلى أين نحن ذاهبان؟!

– إلى محطة السكة الغربية؛ حيث نسافر في قطار نصف الليل إلى الهافر.

– وماذا نصنع في الهافر؟!

– نسافر منها إلى إنكلترا.

فاتقدت عينا السير نيفلي بأشعة الحقد وقال: كنت أود أن أنتقم من روكامبول قبل السفر.

– إننا سننتقم هناك؛ لأن روكامبول في إنكلترا.

فلم يخطر للسير نيفلي أن فرانز انفصل عن ميلادي وانضم إلى روكامبول وسافر وهو آمن مطمئن لا تدور الخيانة في باله.

٤٦

كان منظر ميناء الهافر غريبًا في بابه؛ لأن السفن لم تخرج منذ أسبوع من حوضه؛ لكثرة العواصف والأنواء، ولأن هذه السفن لم تجد مرشدًا يجسر أن يخرج بها من الميناء، فكانت الخمارات والفنادق المجاورة للميناء غاصة بالبحارة.

وكانت السفن تراقصها الرياح فوق المياه، فيخشى عليها وهي داخلة الميناء أن تقطع مراسيها؛ لشدة هياج البحر، وندر وجود الناس على الأرصفة؛ لشدة عصف الرياح.

وهناك خمارة تدعى الفتاة المتوحشة، كان فيها نحو ثلاثين رجلًا كانوا ينظرون فيها من خلال الزجاج إلى سفينةٍ هندية تدعى سيوا، وقد استلفتت أنظارهم؛ لجمال رونقها، وجعلوا يتحدثون فيها، وقد افتتح الحديث بحار قديم بينهم أحنت ظهره الأيام، فكان يقول: إن البحر هائج وهذه العواصف لا تهدأ قبل ثمانية أيامٍ على الأقل، ولا يمكن لهذه السفينة الهندية أن تخرج من الميناء.

فقال له أحد البحارة: أرأيت ربانها، فإننا لا نراه يفارقها ولم ينزل مرةً إلى البر؟!

– نعم رأيته في السفينة نفسها، وأما الربان الثاني؛ فقد جاء في صباح اليوم إلى هذه الخمارة؛ لشحن ما تحتاج إليه السفينة من المئونة، ولكنه لم يتجاوز هذه الخمارة وما ذهب مرةً إلى الأسواق؛ لأنهم يحضرون له جميع ما يحتاج إليه في الميناء وهو يتكلم بالإنكليزية والفرنسية وإخاله يتقن جميع اللغات؛ لأني رأيته يكلم الهنود أيضًا.

وكان بين الحضور رجل في أذنيه حلقتين كبيرتين من النحاس، فكان يسأل البحارة أسئلةً مختلفة عن الميناء ومخارجها، فيعلم منهم كل أمورها بالتدقيق.

ولبثوا على ذلك إلى أن غابت الشمس، فتفرقوا جميعهم وذهب كلٌّ في شأنه وبعد ساعة عاد ذلك الرجل الذي كانت في أذنيه الحلقتان وطلب إلى صاحبة الخمارة أن تحضر له العشاء فقالت له: أتريد أن تأكل وحدك، أم تحب أن يكون لك رفيق؟

– بل أود أن يكون لي رفيق؛ فمن هو هذا الرفيق؟

– هو ربان السفينة الهندية الثاني وقد صعد إلى الغرفة العالية.

– إذن سأصعد إليه.

ثم صعد إلى الغرفة فلم يكد يراه الربان حتى حياه تحية المرءوس للرئيس، فأقفل صاحب الحلقة الباب وقال له: كل شيءٍ تهيأ؟

– نعم على ما يرام.

– ألم يعرفوهم؟

– لم يعرفوا أحدًا منهم؛ لأن ميلادي مرت ثلاث مراتٍ بالقرب من فرانز فلم تعرفه.

– ولا ميلون؟

– وكذلك ميلون؛ فقد صبغ وجهه بلونٍ نحاسي وصبغ شعره بلون السواد فلم يعد يُعرف.

– أأنت واثق من بقية البحارة؟

– ثقتي من نفسي.

– إني مسرور منك يا نويل؛ لأنك تبرهن لي عن ذكائك منذ عهدٍ بعيد.

فقال له نويل: لقد أقمت عشرة أعوامٍ، يا حضرة الرئيس، في خدمتك.

– أترى أننا نستطيع السفر غدًا؟

– إن البحر شديد الهياج، ولكن الذي أراه أنه يجب السفر في القريب العاجل.

فقال له روكامبول، وكان متنكرًا بشكل الهنود وواضعًا تلك الحلقة في آذانه: وأنا أيضًا أرتئي رأيك ولا أبالي بالعواصف؛ فقد ألفتها، ولا يعارض علي رمجاه في السفر؛ لأنه لا ينتظر غير المرشد، وسيحصل غدًا على المرشد؛ لأن هذا المرشد هو أنا!

فضحك الاثنان وجعلا يأكلان.

٤٧

كان الظلام مدلهمًّا، والهواء زمهريرًا، والسفن ترقص فوق الأمواج المضطربة فتلتطم بالقوارب، وقد أقفرت الأرصفة من الناس؛ لاشتداد العواصف.

وكان على ظهر تلك السفينة الهندية التي تقدم ذكرها، رجلان واقفان قرب الدفة يتحدثان بصوتٍ منخفض؛ وهما: نويل وميلون.

وكان كلاهما متنكرين أتم التنكر؛ بحيث لو دخلا إلى شارع فيرابو وهما بهذا الزي لما عرفهما أحد.

وكان ميلون يسأل نويل: كيف حدثت هذه العجائب؟! وكيف أصبح هو الربان الثاني لهذه السفينة؟!

فقال له نويل: اصغ إلي؛ إني موضح لك كل شيء.

– إني مصغٍ كل الإصغاء والذي أعلمه أنك سافرت مع الرئيس إلى إنكلترا منذ ٣ أسابيع.

– نعم في اليوم التالي لإنقاذه من البئر.

– هو ما تقول، لكن لماذا سافر إلى لندرا؟!

– إنه ذهب لمقابلة وزير البحرية في المستعمرات فقال له: «إن الحكومة الإنكليزية عينت جائزةً لمن يأتيها بعلي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم فأعطني هذه الجائزة.» ثم أخبره بأمور كثيرة عن الخناقين، ويظهر أن الوزير وثق به ثقةً عظيمة؛ فإنه أعطاه جميع ما طلبه في الحال وعين له كثيرًا من الرجال يمتثلون لأمره فأتينا توًّا من بريتون إلى هنا.

– إني لم أفهم شيئًا بعد؟!

– اصغ إلي فستعلم كل شيء، إنهم أعلموا الرئيس في الوزارة بأمورٍ كثيرة، مثال ذلك: أنهم أخبروه أن سفينة هندية بحارتها من الهنود، يقودها الربان الثاني، ستحضر من الهافر؛ كي يسافر فيها الربان الأول إلى نيويورك.

فسأله ميلون: ألعل الربان الأول هو ذلك الرجل الذي جاء صباح أول أمس؟

– هو بعينه ولكن كما رأيت لم يحضر وحده بل جاء بعائلته التي سترافقه في هذا السفر.

– ولكني لم أعلم بعد كيف اتصلت بهذه السفينة الهندية وصرت ربانها الثاني وصرنا — نحن عصابة روكامبول — بحارتَها؟

– إن الأمر بسيط؛ فقل لي: أتذكر كيرشي والسير جورج ستوي؟

– نعم.

– إن كيرشي أطلع روكامبول على بعض أسرار الخناقين، وأطلعه بقيتها السير جورج ستوي وهو حاقد على السير جمس نيفلي وعلي رمجاه حقدًا لا يشفيه غير القتل.

– إني أعلم كل ذلك.

– فاستعبد روكامبول السير جورج، ولا بد لك أن تعلم أن السير جورج قد عُزل من منصب رئاسة الخناقين في لندرا، لكنه بقي في الظاهر رئيسًا، وبقيت له تلك الأشائر والاصطلاحات السرية الخاصة بالرؤساء، فلما وصلنا إلى لندرا أرسل روكامبول إلى السير جورج تلغرافًا يأمره فيه بالحضور فحضر، وأرسله روكامبول إلى هذه السفينة الهندية التي كانت في مياه لندرا، فعرف الربان الثاني بنفسه فاستقبله بملء الاحترام والخضوع.

ولقد فاتني أن أخبرك بأمرٍ آخر وهو أن علي رمجاه حين برح الهند كتب إلى السير جورج ستوي مصدرًا إليه الأوامر، ولما كان السير جورج قد استبدل بالسير نيفلي أرسلت هذه الأوامر من لندرا إلى السير نيفلي في باريس، غير أنه كان في قبضة روكامبول، فوقعت هذه الأوامر بيد روكامبول وأطلع عليها السير جورج.

أما السير جورج فإنه حين قابل الربان الثاني علم منه أنه لا يعرف علي رمجاه، وكان منصب الرئيس يدعو الربان إلى طاعته في كل شيء، فأمره أن يركب مع ثمانية من بحارة قارب السفينة، فامتثل وركب السير جورج معهم، فتولى هو نفسه قيادة القارب، ولم يكن باقيًا في السفينة غير أربعة من البحارة.

فسار السير جورج بهذا القارب إلى سفينة تجارية إنكليزية، كانت راسية في محلٍّ معتزل فأنزلت السفينة كثيرًا من القوارب الغاصة بالرجال، فأحاطوا بقارب السير جورج وأسروا الربان والبحارة الثمانية وحبسوهم مقيدين في السفينة.

أما السير جورج فإنه بقي في القارب وبقي معه اثنان من بحارة تلك السفينة الإنكليزية وهما مورت وأنت يا ميلون وأنا.

أما السفينة الإنكليزية فقد كانت أرسلتها الحكومة بطلب روكامبول وعادت بالربان والبحارة الهنود إلى الميناء وسلمتهم للحكومة، أما السفينة الهندية فسارت بقيادتي إلى الهافر، ولما وصلنا إلى هنا اخترت من نحتاج إليهم من البحارة من ميناء الهافر وقيدنا البحارة الهنود الأربعة وهم الآن يئنون ويتوجعون في عنبر السفينة.

أعلمت الآن كيف احتال روكامبول على علي رمجاه، وكيف بات هذا الرجل في قبضتنا؟ فإنه هو الذي أوصى عملاءه أن يرسلوا إلى ميناء الهافر سفينة تنتظره فيها، فأرسلوا له هذه السفينة وأخبروه أن اسمها سيوا فنزل إليها وحبس نفسه فيها دون أن يدري.

– متى نسافر؟

– غدًا.

– وروكامبول، أيكون معنا؟

– إنه متنكر بزي المرشد الذي جاء صباح اليوم.

فدهش ميلون وقال: إني لا أرى أقدر منه على التنكر؛ لأني حدقت فيه كل النهار فلم أعرفه!

فوضع نويل إصبعه على فمه وقال له: اسكت؛ هذه ميلادي قادمة.

٤٨

وكانت ميلادي قد صعدت من غرفتها إلى ظهر السفينة، وتبعها علي رمجاه فتأبط ذراعها ووقف وإياها على مسافةٍ بعيدة من ميلون ونويل؛ بحيث يتعذر وصول صوتيهما إليهما، غير أن الهواء كان يهب من جهة ميلادي إلى جهة ميلون ونويل فيحمل إليهما حديثهما، وهذا ما سمعاه:

قالت ميلادي: أتظن يا عليُّ أننا نستطيع السفر؟

– دون شك!

– وهذا البحر؛ ألا ترى أمواجه يبلغ زبدها إلى ظهر السفينة؟!

– إن المرشد الذي جاءنا في الصباح يثبت أننا نستطيع الخروج من الميناء، ومتى خرجنا منها وبلغنا إلى عرض البحر تهدأ الأمواج وتسكن الرياح؛ لأنها في الموانئ أشد منها في عرض البحار.

– آه لو تعلم كم أود السرعة في الفرار!

– ألا تزالين تخافين هذا الرجل؟

– إني أخافه أشد خوف، حتى إن شعري يقف عندما يخطر في بالي وهو ممثلٌ لي في كل مخيل.

– لا تخشين أيتها الحبيبة بأسًا، فلا تمر بضع ساعات حتى نأمن من كل خطر.

فسكتت ميلادي هنيهة ثم قالت: أأنت واثق من الرجلين اللذين تركناهما في باريس؟

– كما أثق بنفسي.

– أتظن أنهما يستطيعان بالتوكيل الذي أخذاه منا أن يقبضا تلك المبالغ الطائلة المودعة في بنك دافيس همفري؟

– دون شك.

– أأنت واثق أيضًا أنهما يحملان هذه الأموال إلينا في نيويورك؟

– ليس لي أقل ريب؛ لأنهما من عبيدي المخلصين.

فنظرت ميلادي إلى السماء وقد بدأت تظهر منها أشعة الفجر فقال لها علي: اطمئني سنبرح الهافر بعد ساعتين.

فظهرت عليها علائم السرور وقالت: سنأمن روكامبول بعد ساعتين، ولو كنت تعلم ما لقيته في هذه الأيام الثلاثة من العناء، لعزيتني لخوفي من هذا الرجل الذي أنقذ جيبسي من المحرقة؛ فقد خيل لي أنه وقف على أثرنا، وكنت كلما رأيت قاربًا يسير في مياه الميناء أحسب أنه قادم فيه.

– ما هذا الجنون؟! أفقدت ثقتك بي إلى هذا الحد؟ أنسيت أني علي رمجاه؟

فسكتت ميلادي ولم تجب؛ لأن قلبها كان ينذرها بمصابٍ أليم، فكانت عرضة لتأثراتٍ هائلة.

واستأنف عليٌّ الحديثَ وقال: إني أخبرت لوسيان أن السفينة ستبحر عند الفجر؛ لأنه يجب أن يكون على ظهرها حين إبحارها؛ كي يودع فرنسا الوداع الأخير.

– إذن سأذهب إليه أنا؛ فقد رأيت نورًا نافذًا من غرفته مما يدل على أنه غير نائم.

ثم تركته ونزلت إلى غرفة لوسيان فوجدته متكئًا على فراشه يتأمل في ماضيه ومستقبله، وفي ذلك الأب الذي بقي عشرين عامًا لا يعرفه، ثم لما عرفه علم أنه محكومٌ عليه بالإعدام، واضطر إلى الفرار معه إلى البلاد الأميريكية.

فلما رأى أمه داخلة إلية قال لها: أَدَنَا وقت السفر يا أماه؟

– نعم، فإننا نبرح الميناء بعد ساعة ولا يزال الوقت فسيحًا لديك إذا أردت الرجوع مع خطيبتك إلى باريس.

– إني أحب باريس؛ لأني ربيت فيها، ولكن الواجب يقضي علي أن أكون مع والدي، وما زالت خطيبتي راضية بالسفر؛ فإني لا آسف لبعدي عن فرنسا ما زلت مع خطيبتي ووالديَّ.

فقبلته قبلاتٍ ملؤها الحنو وقالت: هلم بنا إذن إلى ظهر السفينة؛ فقد بدأوا بنشر قلوعها.

وبعد ذلك بساعة كانت هذه السفينة الهندية تسير في الميناء خارجة إلى عرض البحر بقيادة روكامبول الذي كانوا يحسبونه مرشد الميناء.

وكان روكامبول يصدر الأوامر إلى البحارة بمهارةٍ لا تبقي مجالًا لأقل ريب؛ لأنه من كبار العارفين بفنون البحر! فسارت بهم السفينة وجميع ركابها على ظهرها حتى خرجت من الميناء، فجعلوا ينزلون إلى غرفهم تباعًا فلم يبق غير علي رمجاه، وكان واقفًا ينظر إلى اضطراب الأمواج غير مكترث لأخطارها بعد وثوقه من النجاة من روكامبول؛ إذ لم تخطر له الخيانة في بال؛ لأن جميع البحارة كانوا يشيرون إشارات الخناقين التي تعلموها من روكامبول، ويستحيل أن يخون أعضاء هذه الجمعية رئيسهم الأعظم.

أما ميلادي فإنها كانت لا تزال موجسة خوفًا شديدًا وقلبها يحدثها أنها لم تنجُ بعدُ من أخطار روكامبول.

وبينما كانت في فراشها عرضة لمثل هذه الهواجس والتصورات، سمعت صوتًا يشبه الأنين، فأصغت وعلمت أنه غير صوت الصواري وغير أنين الرياح بل هو أنين إنسان خارج من أعماق السفينة، فاضطربت اضطرابًا شديدًا وهمت بالصعود لإخبار زوجها، ولكنها رأته جاء من نفسه؛ كي يطمئن عليها فأخبرته بما سمعت فذعر علي وأصغى إلى هذا الأنين، فعلم أنه أنين قومٍ من الهنود؛ إذ كانت تصل إلى مسمعه كلمات متقطعة باللغة الهندية؛ لبعد المسافة.

فداخله الشك وقال: كيف حبس هؤلاء الهنود في عنبر السفينة دون أن أعلم؟!

فقالت له ميلادي: تنبه؛ فإن قلبي ما أنذرني بمصابٍ إلا وكان المصاب واقعًا لا محالة.

فعاد علي إلى ظهر السفينة فوجد البحارة في مواضعهم والمرشد؛ أي روكامبول، يصدر الأوامر ونويل؛ أي الربان الثاني، في موضعه عند الدفة فلم ينتبه أحد لصعوده غير روكامبول.

وكان الهواء زمهريرًا، ونويل قد صبغ وجهه ويديه بلون الهنود، فبينما كان علي يراقبه وهو غير منتبه إليه هبت نسمة شديدة كشفت قميصه عن صدره، فظهر لعلي أنه ناصع البياض خلافًا للون وجهه ويديه! فأجفل وقال في نفسه: إن هذا الرجل متنكر وهو من أهل الغرب ولكن كيف يمكن أن يحل محل الربان الثاني المرسل إليَّ من كلكوتا؟!

وقد أيقن أنهم خانوه فأخذ المسدس من جيبه وهمَّ بإطلاقه على نويل لكنه أعاده فجأةً إلى جيبه وقال: الخيانة قد حدثت، وجميع بحارة السفينة تحت إمرة مدبر المكيدة، وقد حبسوا البحارة الهنود دون شك، ولا بد لي قبل كل شيء أن أرى أولئك البحارة الأصليين فأنقذهم من العنبر، وأقف على أسرار المكيدة فأستعين بهم على مقاومة أصحابها.

ثم رجع أدراجه وروكامبول يراقبه دون أن يعلم، فنزل إلى السفينة وذهب إلى العنبر فأصغى لأنين الهنود جليًّا، ورأى الباب مقفلًا فجعل يتمعن الفكرة في وسيلة لفتح الباب.

وفيما هو يبحث عن آلة يتمكن بها من كسر الباب رأى فجأةً رجلًا قد وقف أمامه فصاح صيحة الرعب وتراجع منذعرًا إلى الوراء كأنما رأى ميتًا قد بعث من قبره!

أما هذا الرجل الذي خرج إلى علي رمجاه من بين البراميل المكدسة في العنبر فقد كان الماجور هوف؛ أي فرانز، الذي توهم أنه قتله بحبله وأنه بات من الأموات!

أما علي رمجاه فإنه قبل أن يصل إلى منصب زعيم الخناقين الأعظم كان من عصابة الخناقين، وقد نال شهرة خاصة بإطلاق الحبل على العنق، فما أطلق حبله على عنق رجلٍ إلا قتله لا محالة، فكيف أمكن لفرانز أن يسلم من حبله وقد رآه بعينه صريعًا على الأرض؟! وهب أنه سلم من الحبل، فكيف اتفق وجوده في هذه السفينة؟!

غير أن لأهل الشرق الأقصى اعتقاد بالأرواح لا يتزعزع ولا يزول من نفوسهم مهما استنارت هذه النفوس بالعلم والمعرفة. ولما كان علي موقنًا أن فرانز قد قتل رجع إليه اعتقاده الهندي وأيقن أنها روح فرانز قد ظهرت أمامه فتراجع منذعرًا حتى التصق بالجدار وهو يقول: إلى الوراء أيها الخيال إلى الوراء!

وكان علي متسلحًا بمسدسٍ وخنجر، فلم يخطر له أن يطلق المسدس أو يستل الخنجر؛ لوثوقه أنه أمام روح فرانز والسلاح لا يؤثر بالأرواح.

غير أن اعتقاده ما لبث أن تزعزع حين سمع صفير فرانز، ورأى رجلين قد أسرعا إليه فانقضوا جميعهم على الهندي فجندلوه وجردوه من سلاحه، وكان اللذان أقبلا لنجدة فرانز ميلون ومورت.

وكان ميلون قد ركع فوق صدره وقال له: إني مأمورٌ بقتلك إذا صحت أقلَّ صياحٍ.

وقال فرانز لميلون: ضع ركبتك فوق صدره ولكن لا تطبق فمه؛ لأني أمنعه عن الصياح ولكني لا أمنعه عن الكلام؛ إذ قد يخطر له محادثتي.

فرفع علي عينيه إلى فرانز وقال له: إذن أنت حي ولم يقتلك الحبل؟!

– كلا لم أمت كما تراني.

– ألديك أوامر بشأني؟

– ربما.

– من الذي أصدر إليك هذه الأوامر، ألعله الربان الثاني؟

– كلا، بل هو مرشد السفينة.

فارتعش علي وعلا عند ذلك أنين الأسرى فقال له فرانز: ألعلك تستغرب هذا الأنين؟!

فأجابه علي: قبحت من خائن، لقد علمت كل شيء؛ إنك وأصحابك قد استوليتم على سفينتي؟!

– هي الحقيقة بعينها.

– وهؤلاء الأسرى هم خدامي الهنود الأمناء، ولكن الهنود مشهورون بالصبر ولا بد لهم من كسر الباب والمجيء لنجدتي وإنقاذي.

فقال له فرانز بلهجة الساخر: وعند ذلك تأمر بشنقنا، غير أنه بقي أمر لم تعرفه يا حضرة الرئيس، وهو أن بحارتك الاثني عشر قد أصبحوا أربعة فقط، فإذا تخلصوا من أسرهم لا يستطيعون مقاومتنا.

– تبًّا لكم أيها الأشقياء، ألعلكم ألقيتموهم في البحر؟!

– كلا بل أرسلناهم في سفينة إنكليزية إلى لندرا.

فأنَّ علي أنين القانطين وقال: ويحك أيها الخائن ماذا فعلت؟! ومن هو هذا الرجل الذي تخدمه؟!

– هو نفسه سيخبرك باسمه.

ولم يكد فرانز يتم حديثه، حتى دخل مرشد السفينة، بعد أن عهد بقيادتها إلى نويل، فقال لعلي رمجاه: إذا كنت تريد أن تعرف من أنا، فاعلم أني أُدعى أمام «ميلادي» الماجور أفاتار، وأما أمامك فإني أدعى روكامبول.

ثم أشار إلى ميلون بالنهوض عن علي وأمر عليًّا بالوقوف.

فقال له: إنك أنت وميلادي قد اشتركتما بسرقة ثروة فتاة قد توليت حمايتها فهل تريدان إرجاع هذه الثروة إلى صاحبتها؟

فاتقدت عينا علي بجمر الحقد وأجاب: كلا لا نرجعها ما زال لنا عرق ينبض.

– إذن أضطر إلى عملِ عملًا يكسبني مثل هذه الثروة المختلسة؛ وهو القبض من حكومة الهند الجائزة التي عينتها لمن يقبض على علي رمجاه.

فاصفر وجه علي من الرعب وقد أدرك حرج الموقف، غير أنه لم يجب بحرف فقال روكامبول لعصابته: أحكموا وثاق هذا الرجل وضعوه في السجن مع السير جمس نيفلي.

ثم تركهم وصعد إلى ظهر السفينة، بينما كانوا يقيدون يديه ورجليه بقيود الحديد.

٤٩

لما صعد علي رمجاه إلى ظهر السفينة غادر ميلادي في غرفتها مضطربة الحواس؛ لما سمعته من أنين الأسرى، ولو كان حدث لها هذا منذ عشرين عامًا لما اكترثت له؛ لأن ثقتها بعلي في ذلك العهد كانت فوق كل حد. غير أن عليًّا أصبح كهلًا، وهو وإن كان لم يزل وحشي الأخلاق غير أن الأيام قد أخذت إقدامه وثباته، وقد باغتته ميلادي مرات فرأته يقف ويتردد في كل أمرٍ خطير، فضعفت تلك الثقة به واشتدت مخاوفها.

ومع ذلك لم تبرح غرفتها بل لبثت فيها تنتظر عودة علي، إلى أن مضت ساعة دون أن يعود، فزادت هواجسها وصعدت إلى ظهر السفينة؛ كي تبحث عنه، فرأت جميع البحارة في مواقفهم ما خلا المرشد، وبحثت عن علي فلم تجده، فنزلت إلى غرفته فرأت بابها مفتوحًا، ورأت رجلًا جالسًا فيها أمام مائدة وظهره متجه إلى الباب؛ فما شكت أنه علي ودخلت وأغلقت الباب.

وعند ذلك التفت الرجل فذعرت ميلادي ذعرًا شديدًا وأوشكت أن تسقط على الأرض؛ لأن الرجل الذي رأته كان مرشد السفينة، ولكنه لم يكن أصفر الوجه ولم يكن في أذنه حلقة ولم يكن مسترسل الشعر بل كان بوجه الماجور أفاتار الذي ألقى في قلبها هذا الرعب، فالتفت إليها روكامبول وقال ببرود: إني أنتظرك يا سيدتي منذ حين.

ولما رأى ما كان من انذعارها قدم لها كرسيًّا وقال: اجلسي يا سيدتي واطمئني؛ فإنك في حاجة إلى صفاء الذهن، فلقد نصحتك في باريس خالصَ النصحِ فلم تكترثي لنصحي؛ لأنك توهمت أنك تستطيعين النجاة من قبضتي مع علي رمجاه شريكك في الجريمة، فبرحتما باريس تحت جنح الظلام وصحبتما لوسيان وخطيبته وأباها.

فأطرقت ميلادي برأسها دون أن تجيب وبقيت واقفة، فقال لها روكامبول: اسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك عما جرى بإيجاز؛ كي تعلمي حرج موقفك.

ثم قص عليها ما عرفه القراء من استيلائه على السفينة بمساعي جورج ستوي وإرسال ثلثي بحارتها إلى لندرا، إلى أن علمت أنه هو الآمر الناهي في السفينة وأن بحارتها لا يخالفون له أمرًا، فقال لها: والآن لقد عزمت على الوفاء بوعدي فأسلم علي رمجاه وعامِله السير جمس إلى الحكومة الهندية ومس ألن قاتلة أبيها وأختها إلى الحكومة الإنكليزية لترى رأيها في عقابها.

وكأن ميلادي لم تثق بحديث روكامبول فقالت له: أنت تدعي ما لست قادرًا عليه؛ لأنك لا تعلم من هو علي رمجاه!

فابتسم روكامبول وقال لها: إنك مخطئة يا سيدتي؛ فإن علي رمجاه الذي تعتمدين عليه هو الآن مقيد بقيود الحديد وملقى في عنبر السفينة مع أولئك البحارة الذين كنت تسمعين أنينهم.

فارتعدت ميلادي ثم قالت: كلا إن هذا محال، وإنك من الكذابين.

فنادى روكامبول عند ذلك فرانز وقال له: تعالَ أيها الماجور وأثبت لميلادي أني من الصادقين.

فدخل فرانز، ولما رأته ميلادي أوشكت أن تجن وحاولت الفرار، غير أنها وجدت أن فرانز أقفل الباب من الداخل، فركعت أمامه وقالت له: أسألك الرحمة والعفو.

أما فرانز فإنه ضحك ضحكًا شديدًا وقال لها: لا يحق لي يا سيدتي أن أرحمك وأعفو عنك فليس أمرك في يدي، وما أنا صاحب السلطة في هذا المكان، إنك تخليت عني وانضممت إلى علي رمجاه، فانضميت أنا إلى أعدائك وأصبحت عبدًا لهم لا أخالفهم فيما يأمرون.

فجعلت ميلادي تنظر نظرات الذعر والرعب إلى هذين الرجلين وهي لا تعلم من سيكون القاضي عليها.

وعاد روكامبول إلى الحديث فقال لها: لقد عرضت عليك يا سيدتي طُرق الخلاص والعيش عيشةً سعيدة إذا كان ضميرك يساعدك على هذا العيش فأبيت وتصاممت عن نصائحي.

فعادت إلى ميلادي حميتها وقالت: كيف أقبل وأنت تريد نهب ولدي؟!

– كلا، لا أريد نهبه بل أريد تجريده من ثروةٍ ليست له.

– إن هذا محال ولو قُطعت إربًا، فليس من يعلم هذه الثروة إلا أنا، فلا تصل إليها يد مغتصب.

فانبرى لها فرانز وقال: لقد أخطأت يا ميلادي؛ فإني أعرف موضعها أيضًا.

ارتعشت ميلادي وقالت: أنت؟!

– نعم، فإني عشت معك عشرين عامًا فما فاتني سر من أسرارك، وأنا أعلم الآن أنه إذا عرض على السير جوهن ماك فرسون المقيم في أدنبورج هذه المدالية المعلقة بعنقك يعطي حاملها تلك الثروة المودعة في بنك همبري دافيس وشركاه.

فاضطربت ميلادي اضطرابًا عظيمًا وجعلت تنظر إلى الاثنين نظراتَ نَمِرٍ وقع في فخ، وتقول: ولدي … إنهم يريدون نهب ولدي؟

فقال لها روكامبول: أخفضي صوتك لئلا يسمعك لوسيان.

– وإذا سمع؟!

– نضطر إلى أن نطلعه على الحقيقة.

– ولكنه لا يصدق أقوالك.

– ربما كان ما تظنين ولكنه لا يلبث بعد بضعة أشهر حين يحكم عليكم القضاء بالشنق أمام سجن نوجات أن يصدق ما قلناه.

فاختلجت ميلادي وركعت أمام روكامبول وقالت: إنك يا سيدي لا أثر للرحمة في قلبك.

فأجابها بصوتٍ يتهدج: إنك مخطئة يا ميلادي، ولكنها مهمة يجب عليَّ قضاؤها، فاعلمي الآن أن الوقت ضيق، وقد دنونا من شواطئ إنكلترا، فهل تريدين المقايضة؟!

– ماذا تعني بها؟

– أعني أن أكتم جرائمك وأدع لك حب ولدك وأبقي لك شيئًا من هذه الثروة التي سأرجعها إلى صاحبها.

– أتفعل هذا؟

– ليس لي حق التصرف بهذا المال ولكني أثق أن ابنة أختك توافقني على ما أفعل.

– وبعد ذلك؟

– هذه شروطي: وهي أن تعطيني هذه المدالية المعلقة بعنقك، وعندما نصل إلى إنكلترا تخرجين من السفينة مع ابنك وخطيبته وأبيها وميلون خادمي الأمين، فيأخذ ميلون المدالية ويبقى معك في إنكلترا إلى أن يقبض المال ويعود معك إلى فرنسا؛ حيث تقيمين فيها مع ابنك وهو لا يعلم شيئًا من سابق أعمالك، وعند ذلك يعطيك ميلون من هذه الثروة مليونًا؛ وهو يكفيك للعيش مع ابنك وامرأته عيشة سعة.

فأطرقت ميلادي برأسها إلى الأرض وهي لا تزال مترددة ثم رأت أن لا حيلة لها ولا رجاء بالمقاومة فانتزعت المدالية من عنقها ودفعتها إلى روكامبول وهي تتنهد وتقول: وعلي رمجاه؟

فأخذ روكامبول المدالية وقال: إنك لن ترينه بعد الآن.

– كيف ذلك؟!

– إني سأذهب به إلى كلكوتا وأسلمه إلى حاكم الهند.

ثم التفت إلى فرانز وقال له: أرى أيها الماجور أننا قد دنونا من الشاطئ فاصعد إلى الربان الثاني وقل له ليعد القارب.

فخرج فرانز وقالت ميلادي: لكن كيف تفرق ولدي عن أبيه؟

فابتسم روكامبول وأجاب: سوف ترين، لقد أعددت كل شيء.

فأحنت رأسها وجعلت الدموع تتساقط من عينيها.

وبعد ساعة أنزلوا القارب إلى البحر وأنزلوا فيه جميع أمتعة ميلادي ولوسيان وخطيبته بأمر روكامبول.

وكان روكامبول أمر أن يقدم الشاي للوسيان وخطيبته، فوضع فيه مخدرًا حتى إذا شربه مع خطيبته تخدروا جميعهم وناموا، أما ميلون فإنه لما تم نقل الأمتعة عاد إلى روكامبول قائلًا: لقد تم كل شيء.

– إذن لقد حانت ساعة الفراق.

فتنهد ميلون وسأله: ألعلك تسافر أيها الرئيس سفرًا طويلًا؟

– لا أعلم.

– ولكننا نلتقي بعد ذلك على الأقل؟

– لا أعلم أيضًا، اسمع الآن تعليماتي وخذ هذين الكتابين إلى لندرا، فأعطِ أحدهما إلى مس سيسيليا وهو يتضمن الشكر لها عن مساعدتها لي على مقاومة الخناقين وحسن توصيتها بي لدى وزير البحرية، والثاني للطبيب كرشوف الألماني الشهير.

ثم تصحب ميلادي ولا تفارقها إلا حين سفرها، وبعد ذلك تذهب إلى إيكوسيا ومعك هذه المدالية، فتقبض من الرجل الذي أخبرتك عنه جميع ثروة جيبسي، ثم تعود إلى فرنسا.

– وماذا عسى تستفيد جيبسي من هذه الثروة وهي مجنونة؟

– إني واثق من شفائها، ومتى شفيت فإنها تتزوج مرميس وهو ينفق ريع هذه الثروة في أحسنِ وجوهِ الخيرِ.

فقال له ميلون بصوتٍ يتهدج من الحنو: إن قلبي ينذرني بأنك مفارق أوروبا فراقَ الأبد.

– وأنا أيضًا أعتقد بالأقدار مثلك، وقلبي يحدثني أني لا أموت إلا في باريس، واصغ إلي يا ميلون: إني كنت شر الناس ثم تبت، ولكن الله لا يقبل توبتي إلا إذا كرست ما بقي لي من حياتي لصنع الخير، وقد كنت حسبت بعد حادثة فاسيليكا أن مهمتي قد انقضت فحاولت الراحة بالانتحار، لكني نجوت فكانت تلك الحادثة وحادثة نجاتي من لغم تيميلون أعظم برهان على أن الله لم يرد لي الموت، وأن مقاومتي للخناقين في لندرا وباريس يجب أن أتمها في الهند مقر هذه الطائفة.

فغطى ميلون وجهه بيديه وبكى، ثم التفت إليه وسأله: ألا تصحبني معك أيها الرئيس؟!

– كلا، إذ يجب أن تبقى في أوروبا لتنفيذ أوامري.

ثم دفع إليه غلافًا ضخمًا مختومًا كتب فوقه اسم مرميس وقال له: والآن قد حان الفراق أيها الصديق، فأستودعك الله.

فأخذ ميلون يد روكامبول فقبلها وغسلها بدموعه وهو يقول: قل يا سيدي إلى اللقاء، واسأل الله معي أن نلتقي.

وبعد ذلك ببضع دقائق أنزلوا إلى القارب لوسيان وخطيبته وأباها وهم مخدرون لا يعون على شيء، ثم نزلت في أثرهم ميلادي، فقال لها روكامبول: لقد أمرت ميلون أن يدفع لك مليونًا بعد شهر.

فنظرت إليه نظرة ملؤها العظمة والكبرياء.

فقال لها: لا ينبغي يا سيدتي أن تنظري إلي هذه النظرات، بل يجب أن تحمدي الله الذي أنعم عليك بابنٍ باسلٍ شريف كان السبب في إنقاذك من عقاب الله وعقاب الناس؛ لأن الله لا يعاقب الأم المجرمة؛ كي لا ينسحق قلبَ ولدِها البريء.

فلم تجبه ميلادي بحرف ونزلت إلى القارب، واندفع بهم إلى البر بقيادة ميلون.

أما روكامبول فإنه التفت إلى نويل وقال له: سر بنا الآن في طريق الهند.

٥٠

بعد ذلك بأربعة أشهر كانت جيبسي مع فاندا جالستين على مقعد في حديقة ذلك المنزل الذي أخذته فاندا من السير جمس نيفلي ومعهما رجل هو ذلك الطبيب الألماني، الذي أرسل إليه روكامبول كتابًا إلى لندرا مع ميلون يدعوه فيه إلى معالجة جيبسي.

وكانت فاندا تحادث الطبيب بصوتٍ منخفض لا تسمعه جيبسي فتقول: أتظن يا حضرة الطبيب أن جيبسي قد شُفيت من مرضها؟

– كل الشفاءِ.

– ألا ترى خطرًا عليها بإرجاع الشاب الذي تهواه؟

– بل إن وجوده معها الآن يبعد عنها كل خطرٍ في المستقبل.

فقامت فاندا لفورها ونادت ميلون وقالت له: اذهب في الحال إلى مرميس وقل له يحضر.

وكان الطبيب أمر بإبعاد مرميس عن جيبسي مدة معالجتها، فأقام في منزلٍ خارج المدينة، وقد تغيرت حالته في هذه المدة وتبدلت أخلاقه، فباتت مظاهره وطباعه تدل على الخير بعد أن كان من زمرة اللصوص.

فلما وصل إليه ميلون وأخبره بوجوب عودته إلى جيبسي أوشك أن يُجَنَّ من فرحه، فما صدق أن سمع حديث ميلون حتى غادر المنزل غير مكترث به، فامتطى جواده وأطلقه ينهب الأرض إلى منزل من يحب.

وكانت فاندا تنتظره عند باب الحديقة فلما وصل إليها تَرَجَّلَ، فأخذت فاندا بيده ودخلت به إلى المكان الذي كانت فيه جيبسي.

فلما رأته جيبسي قادمًا من بعيد ارتعشت ثم احمر وجهُها، والطبيب بعيد عنها يراقب، حتى إذا وصل إليها مرميس مدت إليه يدها وقالت: اجلس بجانبي أيها الصديق؛ فلم أعد مجنونة، وأنا الآن أذكر كل ما مضى، فإنك أنت الذي أنقذت النورية المسكينة، وأنت الذي جئت بي إلى فرنسا، وأنت تحرسني مدة جنوني وتسهر عليَّ سهرَ الأخِ على أخته.

ثم جذبته إليها وقبلت جبينه وقالت له بصوتٍ يضطرب: هذا دليل امتناني وعربون حبي لك.

وكان الطبيب وفاندا واقفين على مسافةٍ بعيدة عنهما يراقبانهما، فقال لها الطبيب: إن الخطر قد زال ولكنه قد يعود، إلا إذا أسرعتم بعقد زواج هذين العاشقين؛ فإن جيبسي إذا صارت أمًّا زال عنها كل خطر.

سنسرع جهد الإمكان لا سيما وأن هذه هي إرادة الرئيس.

وقد تنهدت فاندا حين ذكرت روكامبول، فإنها منذ خمسة أشهر أي منذ غادر باريس لم تره ولم يصل إليها شيءٌ من أخباره.

•••

مر على ذلك شهر والعاشقان مقيمان في منزلٍ واحد ولكنهما لم يتزوجا، وعاد الطبيب الألماني إلى محل إقامته في لندرا، وشفيت جيبسي شفاءً تامًّا إلا من غرامها بمرميس، فإنها بلغت بحبها إياه حدَّ الهيام.

على أنها كانت تبدو دائمًا بمظاهر السويداء على ما هي عليه من الغنى والجمال والصبوة والشباب. فلم تكن فاندا ومرميس يعلمان سر هذه الكآبة، وقد سألتها فاندا مرارًا كثيرة، فكانت تندفع في البكاء ولا تجيب بحرف. وكانت حين تباحثها بقرب زواجها بمرميس تتنهد تنهدًا عميقًا وتسكت، فسرت هذه الكآبة إلى مرميس، والحزن أقرب جارٍ لليأس.

وبينما كان مرميس جالسًا يومًا مع فاندا يتحدثان بكآبة جيبسي، قطب مرميس جبينه وقال: لقد عرفت الآن سر هذا الحزن؛ وهو أن جيبسي لا تزال تهوى السير آرثر نويل.

– إنه فكر بعيد عن الصواب؛ فإن جيبسي تحتقر عاشقها القديم، والمرأة لا تحب من تحتقر.

– من يعلم، إن الطباع تختلف؟

– ألم ترها كيف اضطربت حين رأتك، وكيف قبلت جبينك وقالت لك: أحبك؟

– نعم، ولكن هذا الحب قد يكون حُبَّ إخاءٍ وأن قلبها لا يزال يهوى السير آرثر.

– أيمكن أن تهوى هذا الذي أهانها وتخلى عنها في ساعة الخطر؟

فاصفر وجهه وقال بلهجة الواثق: كل شيء ممكن.

وكان اضطراب مرميس يحمل على الإشفاق، ولم يزل لفاندا بعض السيادة عليه فقالت له: إن كل ما نقوله مبني على الظنون، اذهب الليلة إلى منزلك ولا تَبِتْ معنا، وأنا أقسم لك أني سأقف على الحقيقة، وأطلعك عليها صباح غد.

فامتثل مرميس صاغرًا وركب جواده وانصرف.

ولم يكد مرميس يتوارى عن أنظارها حتى ذهبت إلى غرفة جيبسي وطرقت بابها، فأذنت لها جيبسي بالدخول بصوتٍ يضطرب، ولم تكن قد رقدت بعد بل إنها كانت تكتب، فجلست فاندا قربها وأخذت يديها وقالت لها: أتحبين مرميس يا جيبسي؟

فصبغ وجهها بلون الاحمرار وقالت: إن حبي له فوق كل حب، وكل جوارحي تهواه.

– إذا كان ذلك ما تقولين، فما هذا الحزن عند قرب موعد زواجكما؟! وما لورد خديك قد ذبل كأنك مكرهةٌ على الزواج، بل كأنك مقدمة ضحية على هيكله؟!

فنظرت جيبسي إلى فاندا نظرة تشف عن فؤادٍ ملؤه اليأس وقالت: إنك يا سيدتي أحسنت إليَّ إحسانًا عظيمًا وعاملتني بحنو الأمهات منذ عرفتك، فهل تسمحين لي بمثل هذه المعاملة بضع ساعات؟

– ماذا تريدين بهذا القول؟!

– أريد أن أستمهلك إلى صباح غد، فإذا عدت إليَّ غدًا صباحًا تعلمين حقيقة السر الذي أشكل عليك.

وكانت تتكلم هذا الكلام بلهجة القانطين، وقد اتقدت عيناها فجأة فخشيت فاندا أن يعاودها الجنون، ولم تلح بالسؤال، فقامت على أن تعود إليها في الصباح، فعانقتها جيبسي عناقًا طويلًا وضمتها إلى صدرها ضمًّا شديدًا.

وأحست فاندا بدمعتين حارتين سقطتا على عنقها، فخرجت فاندا من غرفتها وهي تخشى أن يكون قد عاد إليها الجنون، وباتت تلك الليلة على أَحَرَّ من الجمر؛ لخوفها عليها حتى إنها جاءت إلى غرفتها مرات لتتفقدها فرأت أنها أطفأت مصباحها ولم تسمع لها حسًّا.

وعند الصباح جاء ميلون إلى فاندا قائلًا لها: لقد شاهدت هذه الليلة جملًا في الحلم، وما شاهدت هذه الرؤيا مرة إلى فجعت بموت محب.

فتركته فاندا وذهبت إلى غرفة جيبسي حسب الاتفاق وطرقت بابها فلم تجب، فوالت القرع ولم يجبها أحد وكان المفتاح في قفله ففتحته ودخلت، فرأت جيبسي في سريرها بملابسها ورأت يديها منبسطتين فوق صدرها فحسبتها نائمة، غير أن ميلون دخل في أثرها ونظر إلى جيبسي وقال: رباه! ماذا أرى؟! إنها ميتة لا رجاء فيها!

٥١

ولم يخطئ ميلون؛ لأن جيبسي كانت ميتة، فأخذت فاندا يدها فوجدتها باردة ولكن آثار السكينة بادية على وجهها، كأنما هي قد ماتت فجأة دون نزع، وكان قرب السرير مائدة رأت فاندا عليها كتابين؛ أحدهما بعنوان فاندا والآخر بعنوان مرميس، وبالقرب من الكتابين خاتم كانت جيبسي تلبسه دائمًا وتقول: إنه وصل إليها من النور الذين ربوها، ولهذا الخاتم وعاء يشبه القبة ويظهر بمظهر الفص، فرأته فاندا مفتوحًا فأيقنت أنه كان فيه سمٌّ زعاف وأن جيبسي شربت هذا السمَّ.

وبينما كان ميلون يعول ويصيح كانت فاندا تفض غلاف الكتاب المعنون باسمها بيدٍ تضطرب وقد اصفر وجهها فقرأت ما يأتي:

أسألك العفو يا سيدتي فما تكتمت عنك إلا لأني لم أجسر أن أبوح لك بمكنونات قلبي.

إني أموت يأسًا وغرامًا، لقد أحببت مرميس هذا الفتى الباسل الذي كنت بالأمس تدعيه خطيبي حبًّا ليس بعده حب، فما تجاسرت على أن أكون امرأته؛ لأني أحببته أصدقَ حبٍّ.

إن جيبسي النورية تستطيع أن تتزوج أي رجلٍ يريد زواجها كيفما اتفق غير أنها ابنة مس أنا، ابنة أعظم نبيلٍ بين الإنكليز، فإذا أرادت أن تتزوج من تحبه وجب عليها أن تكون نقية كالزهرة، طاهرة كالملاك، ولم تكن جيبسي النورية على شيءٍ من هذه الطهارة؛ فإنها كانت ترقص في الحانات، وكانت عشيقة آرثر نويل.

إني إذا تسميت باسم أسرتي عرفني من حضر رقصي، وإذا تزوجت مرميس فقد يراني آرثر نويل، وكلا التذكارين مؤلم شديد فرأيت أن أخلص منهما بالموت.

إني أهب كل ثروتي لمرميس بعد الموت كما وهبته قلبي في الحياة.

وأعتمد عليك يا سيدتي في تبريد لوعته وتخفيف أشجانه وشفائه مما سيصيبه من اليأس؛ فأنت خبيرة بطب القلوب، وهو فتى فقد تشفين فؤاده بتوالي الأيام.

ورجائي أن يتناساني وأن يشغل فؤاده بحب سواي؛ فإنه غني جميل وسيجد فؤادًا للغرام في قلوب الفتيات.

هذه أماني تلك الفتاة المسكينة، التي ستموت بعد هذه السطور، وأسأل الله أن يحقق هذه الأماني، فأستودعك الله يا سيدتي، وداعًا أبديًّا.

وألتمس منك المغفرة وألتمس غفران الله لي، وأختم كتابي معتمدة عليك بتعهد مرميس.

جيبسي

وسقط هذا الكتاب من فاندا ووقفت تتأمل وجه تلك الفتاة النائمة فوق سرير الموت نومَ الطفل في مهده، ثم توجعت لها وقالت: هنيئًا لك فقد عذبت في الحياة واسترحت بالموت.

وقال ميلون: ما زلت أعتقد أنها لم تشفَ بعد حتى صدق ظني.وا أسفاه! إن انتحارها لهذه الأسباب لا يدل على عقلٍ رجيح.

وبينما كان ميلون وفاندا راكعين أمام سريرها يصليان سمعا وقع حوافر جواد وقف عند الباب وعلما أن القادم هو مرميس، فأسرع ميلون إلى الخارج ووقف في طريقه قائلًا له: لا تدخل.

وللمرء ساعات تصدق فيها أحاديث قلبه كل الصدق حتى يصبح كالأنبياء. فصرخ مرميس يقول: إن جيبسي ماتت!

ثم دخل بالرغم عن ميلون إلى غرفة الميتة، فوجدها مسجاة على السرير ووجد فاندا راكعة تصلي.

وإن من اليأس ما تنفد له الدموع، وينحبس به اللسان، وهذا ما أصيب به مرميس؛ فإنه لم يَفُهْ بكلمة ولم يذرف دمعة، بل أخذ الكتاب المعنون باسمه ففضَّه وتلاه.

وقد تضمن هذا الكتاب وداعًا يقطع القلوب، ورجت فيه جيبسي من حبيبها أن يقبل ملايينها، وأن ينفق منها باسمها ما استطاع في سبيل الخير، ثم التمست منه في الختام أن يشغل فؤاده عنها، وأن يعيش سعيدًا.

فلما أتم تلاوة الكتاب أخذ يد جيبسي الباردة فقبَّلها وخرج من غرفتها إلى غرفته دون أن يفوه بكلمة، وأخرج من خزانته مسدسًا وضعه على صدغه بملء البرود وأطلقه، ولكن يدًا شديدة حولت يده عن صدغه، فوقعت رصاصة المسدس في الجدار فاخترقته، وكانت هذه اليد يد فاندا.

فلما رآها مرميس غضب؛ لتعرضها له فقال لها: دعيني أموت؛ لا رجاء لي بعدها في الحياة.

وحاول أن يطلق النار على نفسه أيضًا، غير أن فاندا تمكنت بمساعدة ميلون من تجريده من المسدس وقالت: لا يحق لك الموت؛ لأن الرئيس لا يريد أن تموت.

فاصفر وجه مرميس عند ذكر روكامبول وقال: الرئيس؟! وماذا يريد الرئيس؟!

– إنه ترك لك كتابًا متى تلوتَه تعلم ما يريد.

ثم أعطته كتابًا ضخمًا مختومًا، كُتب على غلافه هذه الكلمات:

إن هذا الكتاب يحتوي على تعليماتي لمرميس، ولا يحق له أن يطلع عليها إلا إذا غبت عامًا كاملًا عن باريس.

٥٢

بعد بضعة أيام من الحوادث المتقدمة، نشرت جريدة الهافر هذا الخبر الآتي:

بينما كانت السفينة ماري وربانها قونديران قادمة من جزيرة الاتحاد إلى الهافر وجدت قرب جزيرة القديسة هيلانة زجاجة مختومة، ففضت ختامها ووجدت فيها الكتب الأربعة الآتية؛ وهي:

كتب هذا الكتاب في السفينة سيوا المسافرة إلى الهند بقيادة الربان أفاتار تحت راية إنكليزية، وقد كشف على مظهر السفينة في الساعة السابعة من مساء ١٤ يوليو سنة ٨١.

إن المطافئ تشتغل منذ ٤٨ ساعة لإطفاء النار الملتهبة في السفينة؛ فقد لعبت في عنبر الزاد ولا تزال تشتعل ببطء.

إن الرياح هادئة والبحر يشبه بسكونه البحيرات، والسفينة لا تستطيع السير؛ لسكون الرياح.

ونحن نبعد الآن خمسًا وأربعين مرحلة عن السنغال، ومنذ أمس وقفت السفينة ولم تعد تسير.

وقد عللنا أنفسنا عند ظهر أمس بشيءٍ من الرجاء؛ فإننا رأينا سفينة تسير في عرض البحر على مسافةٍ بعيدة منا، فأطلقنا مدفعًا؛ إشارة إلى ما نحن فيه من الخطر، ولكنها لم تقف، وسارت تخترق المياه حتى توارت عن أنظارنا.

لا تزال النار تشتعل وستصل بعد أربعٍ وعشرين ساعة إلى مستودع الذخائر فتنسفنا وينتهي الأمر.

•••

في ١٥ يوليو الساعة السادسة صباحًا:

ساد اليأس في السفينة؛ فإن المطافئ لم تفلح وأنهكت قوى البحارة فانقطعوا عن العمل وهم ينتظرون الموت بسكينة.

وعادت الرياح إلى الهبوب، ولكنها هبت متأخرة؛ فإن السفينة لا تجتاز أكثر من ميلين في الساعة وهي تبعد عن الشاطئ ٤٠٠ ميلًا.

الدخان الأسود يخرج من العنبر، وقد قربت النار من مستودع الذخائر، ولا حيلة لنا بعزله، ونحن ننتظر أن تنسف بنا السفينة من حينٍ إلى آخر.

إذا وصلت هذه السطور إلى أوروبا فنرجو من يعثر بها أن ينشرها في الجرائد السيارة؛ فإن اسم أفاتار لا يعرفه غير القليل من الناس، ولكن يوجد في باريس من يهتم له.

•••

في اليوم نفسه، الظهر:

رأينا مركبًا شراعيًّا فأشرنا إليه إشارات الخطر، ولكنه توارى عن أبصارنا دون أن يرانا، فأنزلت إلى البحر القارب الوحيد الذي معنا فلم يسع هذا القارب الصغير غير ستة أشخاص ونحن ١٩ رجلًا في السفينة، فأمرتهم أن يقترعوا دوني على من ينزل في القارب؛ لأن الربان يجب أن يبقى في السفينة إلى آخر ساعاتها، فأصابت القرعة ستة من البحارة، فنزلوا إلى القارب وهم يبتعدون الآن عنا ويبكون، أتراهم يصلون سالمين إلى البر؟ إن الله وحده يعلم.

•••

في اليوم نفسه، الظهر أيضًا:

القارب يبتعد ونحن نشيعه بالنظر، توارى الآن عن أبصارنا فلم نعد نراه، تفقدنا النار بالنظر فعلمنا أنها ستصل إلى مستودع الذخائر بعد ساعة فتنسفنا مع السفينة، ليكن ما يريده الله.

الربان الأول: أفاتار
الربان الثاني: نويل
انتهى تقرير روكامبول الذي كان موجودًا في الزجاجة، وقد أضافت جريدة الهافر على هذا التقرير ما يأتي:

كانوا يتحدثون أمس في قهوة الأميرالية أن السفينة مويت سمعت في الساعة العاشرة من ١٥ يوليو دويًّا شديدًا وهي قريبة من السنغال، فحكم ربانها أن هذا الدويَّ صوتُ انفجارٍ حدث في سفينة دون شك، ولكنه تعذَّر عليه أن يعلم مسافةَ بُعْدِ هذا الانفجارِ عن البرِّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤