الناحية العقلية والعلمية
نستطيع أن نقول بصفة عامة: إن هذا العصر كان زاخرًا بالعلم والعلماء، وبالإنتاج الكثير الضخم في جميع العلوم الإسلامية أمهاتها وفروعها، وقد بقي لنا حتى اليوم جمهرة المؤلفات في هذه الناحية باختلاف أنواعها وضروبها، فنحن نفيد منها أجلَّ الفوائد؛ إذ تعتبر من مراجعنا الأصلية الأولى، سواء في التفسير والحديث والفقه، أو في اللغة العربية وعلومها، أو في التاريخ وما يتصل به، أو في غير ذلك كله من العلوم الإسلامية المختلفة.
ولكل عصر مميزاته التي يتميز بها عن غيره من العصور وملامحه وسماته التي يعرف بها، ومعالمه التي تمكِّن الباحث من فهمه وتقديره. ولهذا، ينبغي أن نتكلم عن كل ذلك كلمة موجزة؛ ليكون من مجموع هذه الكلمات ما يجلِّي هذا العصر الحافل من الناحية الفكرية والثقافية.
ملامح وسمات
ليس لنا أن نقدر أن التجديد والابتكار الفكري كان طابع هذا العصر أو من سماته بوجه عام، بل كانت الظاهرة التي تسوده هي العكوف على ما وصل أهله من تراث العرب والمسلمين السابقين، وهو تراث قيِّم مجيد بلا ريب، وكان عملهم فيه هو الانكباب عليه لفهمه والإفادة منه، ثم الزيادة عليه ما وسعهم الجهد، دون خروج عن الروح الذي كان يسري فيه، وهو التقيد بالأفكار والآراء التي وصلت إليهم عن الفقهاء والمتكلمين ونحوهم من رجال الدين.
وكان من ذلك جمودهم على المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة يوجبون تقليد واحد منها، وكانوا في هذا متأثرين بالفقهاء السابقين الذين حكموا بسدِّ باب الاجتهاد في القرن الرابع، وقد استمر ذلك فيما بعد، وربما ما يزال ذلك حتى اليوم!
•••
وكما جمد الفقهاء على هذه المذاهب الأربعة يتناولون المؤلفات فيها بالشرح حينًا والاختصار حينًا آخر، جمدت جمهرتهم وجمهرة رجال علم الكلام على مذهب الأشاعرة أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري، وهذا الإمام يعتبر في آرائه وسطًا بين السلف وبين المعتزلة على ما هو معروف. وقد استمر هذا التقليد في العقائد الدينية إلى ما بعد ذلك العصر، بل إلى هذه الأيام في أكثر الأمصار الإسلامية، أو فيها كلها تقريبًا ما عدا بلاد المملكة العربية السعودية.
وبالرجوع إلى المقريزي المؤرخ الثقة، نجده يتكلم عن الحال في عقائد أهل الإسلام إلى أن انتشر مذهب الأشاعرة، ثم يشرح حقيقة مذهب الأشعري، ويذكر كيف نصره بشدة السلطان صلاح الدين الأيوبي وأولاده الملوك من بعده في مصر والشام، ثم في أيام مواليهم الملوك الأتراك الذين عاش في عهدهم ابن تيمية.
•••
وكان من سمات هذا العصر أيضًا قوة أمر التصوف واشتداد نفوذ رجاله على العامة من الناس ومن إليهم، بل على بعض الفقهاء والسلاطين كذلك. ولعل هذا كان من عوامل ضعف الحركة العلمية؛ فإن العلم يعتمد على العقل والفكر، على حين يعود التصوف — إن كان تصوفًا حقًّا — إلى الذوق والوجدان.
وزاد التصوف قوة على قوته، ما أُثر عن الإمام الغزالي من إشادته به حتى جعله الطريق الصحيح الموصل إلى الله تعالى، وذلك في كتابيه المشهورين: «إحياء علوم الدين»، و«المنقذ من الضلال»؛ هذان الكتابان اللذان كان لهما أثر كبير في ذلك العصر وفيما جاء بعده من عصور حتى اليوم.
كما زاد من قوته أيضًا ظهور كثير من رجاله في ذلك العصر حتى صاروا من أقطابه المشاهير، ويكفي أن نشير في مصر وحدها إلى الشيخ أبي العباس أحمد البدوي المتوفى سنة ٦٧٥، والشيخ إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة ٦٧٦. وهذا فضلًا عن المتصوفة ومدَّعي التصوف الذين كانوا منبثين في جوانب العالم الإسلامي، وكان لكل منهم نفوذه على المحيط الخاص به.
•••
وحسبنا هنا أن نشير إلى حادث قتل شهاب الدين السُّهْرَوَرْدِي وهو في ميعة الصبا حتى صار معروفًا في التاريخ بأنه «الشاب المقتول»، وقد كان كما يقول ابن أبي أُصَيبعة: «أوحد في العلوم الحكمية، بارعًا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء جيد الفطرة»، ولكن الفقهاء شنَّعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد، بعد أن كان ناظرهم في حلب فأفحمهم.
ونجد بعد هذا، فتوى خطيرة تتَّسم بطابع ذلك العصر، وكان لها أثرها البالغ الذي دام قرونًا طويلة، وهي فتوى أبي عمر تقي الدين الشهرزوري المعروف بابن الصلاح المتوفى سنة ٦٤٣، وقد أصدرها إجابة لمن سأله عن حكم الله فيمن يشتغل بكتب ابن سينا وتصانيفه، فقال له: «من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى؛ لأن ابن سينا لم يكن من العلماء، بل كان شيطانًا من شياطين الإنس!»
وسئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليمًا وتعلُّمًا، فقال من كلام طويل: «الفلسفة أسُّ السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة … ومن تلبَّس بها تعليمًا وتعلمًا قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان …»
إلى أن يقول: «فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم … ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام، لتخمد نارهم وتمَّحي آثارهم …» إلى آخر ما قال.
ونختم بذكر ابن خلدون في الفلسفة وكتبها والنظر فيها، وذلك إذ يعقد فصلًا لإبطال الفلسفة وفساد أمر منتحليها، فيقول فيه: «إن هذا العلم كما رأيته غير وافٍ بمقاصدهم التي حوَّموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها.»
ونحن نعتقد أن ما ذهب إليه مؤسس علم الاجتماع من رأي، وما انتهى إليه من حكم، وما قدمه لنا من إرشاد وتوجيه، هو الحق كل الحق، وهو الذي يليق بالعلماء الباحثين غير المتعصبين.
•••
هذا، وقد كان لما أجملناه من سمات هذا العصر وملامحه، أثر قوي في الشيخ ابن تيمية؛ فقد كان حربًا على الجامدين والمقلدين بغير علم من الفقهاء، وعلى الجامدين على مذهب الأشاعرة في علم الكلام، وعلى المتصوفة والتصوف الذي دخله الكثير من مقالات غير المسلمين وآرائهم.
كما كان لذلك شديد الثورة على الفلسفة ورجالها الذين اعتنقوا كثيرًا من نظريات الفلاسفة اليونان وأمثالهم بغير برهان صحيح.
وكل ذلك سنعرفه في الفصل الخاص بحياته ونشاطه بعد حين.
مراكز العلم في هذا العصر
كانت مصر والشام منذ قديم الزمان من مراكز العلم الكبيرة في العالم الإسلامي، ثم زاد خطرهما وأهميتهما في هذه الناحية بعد زوال الخلافة من بغداد سنة ٦٥٦، وقيامها بعد ذلك في القاهرة، فقد كان هذا سببًا طبيعيًّا لهجرة جمهرة العلماء — أو فرارهم — من بغداد إليها وإلى دمشق، أو إلى غيرهما من مدائن مصر والشام، واستقرارهم فيها، واتخاذها أوطانًا لهم تكون مجال نشاطهم الفكري وإنتاجهم العلمي في ضروبه العديدة المختلفة.
إنه بعد هذا الحادث الجلل، نرى انتقال مراكز العلم التي كانت في بغداد والرَّيِّ وبخارى ونيسابور، وغيرها من مدن العراق وغيره من ولايات الدولة العربية الإسلامية أيام العباسيين إلى القاهرة والإسكندرية والفيوم وأسيوط ودمشق وحلب وحمص وحماة، وإلى غيرها من مدن مصر والشام.
ومن ثم نجد في هذا العصر وما تلاه هذه النسب التي يعرف بها العلماء: القاهري، الإسكندري، الفيومي، السيوطي، الدمشقي، الحلبي، الحموي، ونحوها. كما نجد كثيرًا من العلماء يقال في تعريف الواحد منهم: نزيل دمشق، أو نزيل حلب، أو نزيل حماة، أو نزيل القاهرة، أو نزيل الإسكندرية … وهكذا.
وكان المركز من هذه المراكز له جامعه الذي يفد إليه الكثيرون من طلاب العلم ورجاله، ومكتبته الضخمة التي تضم عيون التراث الإسلامي المجيد، فيتزود الراغبون في المعارف والعلوم — من الجوامع والمكتبات الملحقة بها — ما يفيدهم في دينهم ودنياهم، ويعلون بذلك صروح العلم التي بناها العلماء السابقون.
والجامع الأزهر هو بلا ريب قمة هذه الجوامع، وأهم موطن للعلم والمعرفة منذ قديم الزمان؛ فقد أنشأه الفاطميون في النصف الثاني من القرن الرابع، ووقفوا عليه من الأملاك الدارَّة ما يضمن له الخلود على الزمن، وما يهيئ المعيشة الطيبة لقاصديه من شتَّى البلاد والجهات، وما ييسر لهم سبيل الدرس والبحث من الكتب والمراجع العلمية العديدة.
وإذا تركنا جوامع القاهرة التي كانت تعتبر بحق مواطن العلم والبحث والدرس، نجد في هذه الناحية جامع العطارين بالإسكندرية الذي أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة ٤٧٧، كما يذكر أبو المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة». وكان هذا الجامع ينبوعًا من ينابيع العلم والثقافة طوال عصر الحروب الصليبية وبعده، كما كان حافلًا دائمًا في تلك الأيام بطلاب العلم وشيوخه الذين يقومون بالتدريس فيه.
ونجد في الشام جامعه المعدود في طليعة معاهد العلم فيها، والذي درَّس فيه طائفة من أعيان العلماء الذين لا زلنا نتدارس آثارهم في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والنحو، وغير ذلك من علوم الدين واللغة العربية.
ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ، الحافظان الكبيران: ابن عساكر، وعبد الغني المقدسي، وتوفي الأول عام ٥٧١، والثاني عام ٦٠٠، وكلاهما من رجال الحديث وعلومه المشاهير.
والثاني هو الإمام محمد بن مالك الطائي الجياني (نسبة إلى جَيَّان؛ بلد من بلاد الأندلس) نزيل دمشق، كان حجة العرب في علوم اللغة والنحو والصرف. وفيه يقول ابن العماد: «وأما اللغة، فكان إليه المنتهى في الإكثار من نقل غريبها والاطلاع على وحشِيِّها، وأما النحو والتصريف فكان فيه بحرًا لا يجارى وحبرًا لا يبارى …»
•••
تلك إشارات عابرة إلى المراكز الأولى للعلم والفكر في مصر والشام في ذلك العصر، بل وفي كل عصر وبلد من بلاد الإسلام الأخرى، ثم ظهرت بعد ذلك مراكز أخرى للحياة العقلية والفكرية، وهي المدارس والمكتبات العامة، وهذا ما نعرض له الآن بإيجاز:
لم تعرف المدارس في البلاد الإسلامية زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بل لم تعرف حتى جاء القرن الخامس الهجري. ويقول المؤرخ المقريزي: «إن أول من حُفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها المدرسة البيهقية.
ثم كان أشهر ما بُني في القديم المدرسة النظامية ببغداد؛ لأنها أول مدرسة قُرِّر بها للفقهاء معاليم، وتنسب إلى أبي علي الحسين الطوسي نظام الملك وزير ملك شاه أبي أرسلان السلجوقي، وتم بناؤها عام ٤٥٩، ودرَّس بها أبو إسحاق الشيرازي، وأبو حامد الغزالي، وغيرهما من الأعلام.
ثم اقتدى بنظام الملك الناس من حينئذٍ، في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر، وبلاد الجزيرة وديار بكر.
ولما كان عهد صلاح الدين الأيوبي، أبطل مذهب الشيعة من مصر وأقام بها مذهب الشافعي ومذهب مالك، واقتدى بالملك نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمصر.»
وقد ذكر المؤرخون لهذا العصر، وبخاصة المقريزي في كتابيه العظيمين: «الخطط»، و«السلوك»، هذه المدارس، التي كان بعضها يبنى لأصحاب مذهب بعينه من المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، وبعضها كان يبنى لأصحاب أكثر من مذهب، وبعضها الآخر لأصحاب المذاهب الأربعة كلها.
وكان يوقف على كل منها ما يضمن لها البقاء ويهيئ لطلابها وشيوخها سبيل المعيشة الراضية، ويلحق بها مكتبة تعينهم على البحث والدرس والتزود من مختلف العلوم بخير زاد، وما على الراغب في معرفة أهمية هذه الضروب من مراكز العلم والمعرفة إلا أن يرجع إلى كتب التاريخ التي عنيت بهذا العصر.
فقد بنى السلطان صلاح الدين بالقاهرة المدرسة السيوفية للأحناف، ووقف عليها ما ينفق منه على من يقوم بالتدريس فيها وعلى الطلبة وعلى قدر طبقاتهم.
ويذكر المقريزي بعد ذلك المدرسة المنصورية التي بناها هي والقبة التي تجاهها الملك المنصور قلاوون الألفي سنة ٦٨٤، ورتب بها دروسًا أربعة لأصحاب المذاهب الأربعة المعروفة، ودرسًا للطب، كما جعل بالقبة درسًا للحديث ودرسًا للتفسير، وكانت هذه التداريس لا يعمل فيها إلا أجلُّ الفقهاء المعتبرين.
وذكر هذا المؤرخ بعد ذلك المدرسة الناصرية التي كمُل بناؤها سنة ٧٠٣، وكان هذا بأمر الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكانت لأصحاب المذاهب الأربعة، يقوم بتدريس كل مذهب فقيه من أجلِّ فقهائه، كما كان لطلابها معاليم تجري عليهم.
•••
وإذا تركنا مصر إلى بلاد الشام، نجد الأمر مثل ذلك أو قريبًا منه في هذه الناحية، ولا عجب أن يكون هذا؛ فقد كان هذان القطران الشقيقان بلدًا واحدًا في ذلك العصر، وقد صار في هذه الأيام التي نعيش فيها بلدًا واحدًا كما كانا من قبل بفضل الله تعالى.
ففي دمشق وحدها وجد في القرنين السادس والسابع نحو تسعين مدرسة للفقه بمذاهبه المختلفة، وللتفسير والحديث وغيرهما من العلوم الدينية الإسلامية وعلوم اللغة العربية، وكان منها أربع للطب وحده؛ إذ كان يدرس نظريًّا في المدارس وعمليًّا في المارستانات أو المستشفيات بلغتنا الحالية.
وكان لمدينة حلب حظها الموفور من هذه المدارس، فهي ثاني المراكز العلمية في الشام بعد دمشق، كما كانت مثابة للعلماء وإليها يرحلون. وكذلك كان الحال في القدس وحماة وحرَّان وحمص، وغيرها جميعًا من بلاد الشام، ففي كل هذه المدن والبلاد كانت مدارس عديدة زاهرة تعج بالعلم وطلابه وشيوخه.
هذه العلوم وأثرها
كانت مصر والشام في العصر الذي عاش فيه ابن تيمية؛ أي في القرنين السابع والثامن (وكل منهما يعتبر إلى حد كبير امتدادًا للقرن السابق له)، يموجان موجًا بالعلم على مختلف فروعه، وبالثقافة بمتنوع ألوانها، وكان طريق العلم والمعرفة ممهدًا لسالكيه.
كان يُدرَّس في هذه المؤسسات العلمية التي ملأت البلاد: علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والسنة النبوية، والفقه بمذاهبه المعروفة، والنحو والصرف، وسائر علوم اللغة العربية، والتاريخ، وتاريخ الرجال وطبقاتهم …
وبجانب هذه العلوم الإسلامية المعروفة، كان يوجد مكان ملحوظ لعلوم أخرى من علوم الحياة؛ مثل: الفلسفة، والهيئة أو الفلك، والهندسة، والرياضيات، والطب وما يتصل به، إلى غير ذلك كله مما عرفه العرب والمسلمون من علوم وفنون عديدة مختلفة.
وكان الطب يدرس في تلكم الأيام على ما ينبغي؛ أي من الناحية النظرية والعملية، فقد كان في القاهرة ودمشق وحلب مدارس للطب خاصة، كما كان هذا العلم يدرس في مدارس أخرى بجانب غيره من العلوم، وكانت المارستانات موطن الدراسة العلمية لهذا العلم.
ومن أجل ذلك كله، نستطيع أن نقرر بأن هذا العصر كان عصرًا مجيدًا من ناحية الثروة العلمية التي جمعت فيه في علوم الدين واللغة والتاريخ وعلوم الحياة أيضًا، حتى إنه ليعتبر بحق عصر المؤلفات المطولة والموسوعات الجامعة في علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وطبقات الرجال، وغيرها من العلوم الإسلامية المختلفة.
ولكنه لم يكن فيه من أصالة الفكر والتجديد والابتكار في الآراء، حظ كبير يتميز به ويتناسب ولو إلى حد ما مع كثرة ما جُمع فيه من معارف وعلوم، اللهم إلا ما كان لدى نفر قليل على رأسهم الشيخ ابن تيمية كما سنعرف بعد حين.
هذا، وقد كان لإنشاء المدارس آثار طيبة جدًّا من نواحٍ كثيرة، ولكن — في رأينا — كان لها أثر آخر غير محمود نكتفي هنا بالإشارة إليه؛ ونعني به أنها أذكت روح التعصب بين الفقهاء والعلماء، وهذا ما أدى إلى تباغضهم وتحاسدهم أحيانًا كثيرة.
فقد كانت المدرسة تُخصَّص أحيانًا لعلم واحد كالحديث، أو لمذهب واحد من المذاهب الفقهية، وهكذا، فكان كل فريق بما لديهم فرحين وعليه مستمسكين وله ينصرون، غير مبالين ولا طالبين في حالات كثيرة للحق في ذاته، وغير ملتفتين إلى أن العلم وطلبَه يقضي بالتعاون والتناصر عليه متى ظهر في أي جانب ومهما كان قائله.
ولهذه العصبية التي قد تؤدي إلى الخلاف والجدل بغير حق، عرق قديم في العالم الإسلامي كما في سائر العالم كله بين أصحاب المقالات والمذاهب المختلفة؛ نعرف ذلك بين أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من مذاهب الشيعة وابن حزم، ونعرفها بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من رجال الفرق الإسلامية، ونعرفها بين أهل السنة وأهل الرأي، ونعرفها بين الفلاسفة والمتصوفة، وبين غيرهم من رجال الفقه وعلم الكلام.
كما نعرفها أخيرًا بين الشيخ ابن تيمية وبين من عاصره من الفقهاء والمتصوفة والفلاسفة وغيرهم من رجال المذاهب والفرق في العقائد الدينية.
وقد أدت هذه العصبية التي بلغت أحيانًا حدًّا ممقوتًا، إلى جدل عنيف؛ بل إلى معارك شديدة، وكان من آثار ذلك طمس الحق وضياع معالمه، وبخاصة بسبب ما كان يذكيها ويزيد في أوارها من اختلاف مناهج التفكير، والاعتماد على النقل عند فريق مهما يؤد إليه، أو الاعتماد على العقل والمنطق مهما تكن نتائجه عند فريق آخر؛ ولله في خلقه شئون! يؤتي الحكمة في القول والعمل لمن يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
•••
ومهما يكن من أمر، فقد ظهر ابن تيمية في هذا الوسط الزاخر بالمعرفة والعلم من قديم الزمن وحديثه حتى الأيام التي عاش فيها، وأفاد من ذلك أكثر بكثير جدًّا مما أفاد معاصروه، وساعده على هذا الهبات الكبيرة الجليلة التي منحها الله له: نفس طُلَعة، وقلب مشغوف بحب المعرفة والعلم، وعقل نافذ لما فات غيره، وحافظة لا تُضيِّع، وذاكرة قوية لا تَنسى.
وبعد، فقد جلينا فيما نعتقد عصر ابن تيمية من نواحيه المختلفة كلها، ومن أجل هذا ننتقل إلى الشيخ نفسه لنعرف حياته، وما كان فيها من صراع وكفاح وجهاد، انتهى به إلى أن صار حقًّا من الخالدين.