الفصل الثالث

الناحية العقلية والعلمية

نستطيع أن نقول بصفة عامة: إن هذا العصر كان زاخرًا بالعلم والعلماء، وبالإنتاج الكثير الضخم في جميع العلوم الإسلامية أمهاتها وفروعها، وقد بقي لنا حتى اليوم جمهرة المؤلفات في هذه الناحية باختلاف أنواعها وضروبها، فنحن نفيد منها أجلَّ الفوائد؛ إذ تعتبر من مراجعنا الأصلية الأولى، سواء في التفسير والحديث والفقه، أو في اللغة العربية وعلومها، أو في التاريخ وما يتصل به، أو في غير ذلك كله من العلوم الإسلامية المختلفة.

ولكل عصر مميزاته التي يتميز بها عن غيره من العصور وملامحه وسماته التي يعرف بها، ومعالمه التي تمكِّن الباحث من فهمه وتقديره. ولهذا، ينبغي أن نتكلم عن كل ذلك كلمة موجزة؛ ليكون من مجموع هذه الكلمات ما يجلِّي هذا العصر الحافل من الناحية الفكرية والثقافية.

ملامح وسمات

ليس لنا أن نقدر أن التجديد والابتكار الفكري كان طابع هذا العصر أو من سماته بوجه عام، بل كانت الظاهرة التي تسوده هي العكوف على ما وصل أهله من تراث العرب والمسلمين السابقين، وهو تراث قيِّم مجيد بلا ريب، وكان عملهم فيه هو الانكباب عليه لفهمه والإفادة منه، ثم الزيادة عليه ما وسعهم الجهد، دون خروج عن الروح الذي كان يسري فيه، وهو التقيد بالأفكار والآراء التي وصلت إليهم عن الفقهاء والمتكلمين ونحوهم من رجال الدين.

وكان من ذلك جمودهم على المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة يوجبون تقليد واحد منها، وكانوا في هذا متأثرين بالفقهاء السابقين الذين حكموا بسدِّ باب الاجتهاد في القرن الرابع، وقد استمر ذلك فيما بعد، وربما ما يزال ذلك حتى اليوم!

وفي هذا يقول ابن خلدون: «ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرَس المقلدون لمن سواهم، وسدَّ الناس باب الخلاف وطرقه … وردُّوا الناس إلى تقليد هؤلاء … ولم يبقَ إلا نقل مذاهبهم، وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال مسندها بالرواية. لا محصول اليوم للفقه غير هذا، ومدعي الاجتهاد في هذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأربعة.»١

•••

وكما جمد الفقهاء على هذه المذاهب الأربعة يتناولون المؤلفات فيها بالشرح حينًا والاختصار حينًا آخر، جمدت جمهرتهم وجمهرة رجال علم الكلام على مذهب الأشاعرة أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري، وهذا الإمام يعتبر في آرائه وسطًا بين السلف وبين المعتزلة على ما هو معروف. وقد استمر هذا التقليد في العقائد الدينية إلى ما بعد ذلك العصر، بل إلى هذه الأيام في أكثر الأمصار الإسلامية، أو فيها كلها تقريبًا ما عدا بلاد المملكة العربية السعودية.

وبالرجوع إلى المقريزي المؤرخ الثقة، نجده يتكلم عن الحال في عقائد أهل الإسلام إلى أن انتشر مذهب الأشاعرة، ثم يشرح حقيقة مذهب الأشعري، ويذكر كيف نصره بشدة السلطان صلاح الدين الأيوبي وأولاده الملوك من بعده في مصر والشام، ثم في أيام مواليهم الملوك الأتراك الذين عاش في عهدهم ابن تيمية.

وفي آخر البحث يقول: «فهذه جملة من أصول عقيدته (أي عقيدة أبي الحسن الأشعري) التي عليها الآن (توفي المقريزي سنة ٨٤٥) جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه!»٢

•••

وكان من سمات هذا العصر أيضًا قوة أمر التصوف واشتداد نفوذ رجاله على العامة من الناس ومن إليهم، بل على بعض الفقهاء والسلاطين كذلك. ولعل هذا كان من عوامل ضعف الحركة العلمية؛ فإن العلم يعتمد على العقل والفكر، على حين يعود التصوف — إن كان تصوفًا حقًّا — إلى الذوق والوجدان.

وزاد التصوف قوة على قوته، ما أُثر عن الإمام الغزالي من إشادته به حتى جعله الطريق الصحيح الموصل إلى الله تعالى، وذلك في كتابيه المشهورين: «إحياء علوم الدين»، و«المنقذ من الضلال»؛ هذان الكتابان اللذان كان لهما أثر كبير في ذلك العصر وفيما جاء بعده من عصور حتى اليوم.

كما زاد من قوته أيضًا ظهور كثير من رجاله في ذلك العصر حتى صاروا من أقطابه المشاهير، ويكفي أن نشير في مصر وحدها إلى الشيخ أبي العباس أحمد البدوي المتوفى سنة ٦٧٥، والشيخ إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة ٦٧٦. وهذا فضلًا عن المتصوفة ومدَّعي التصوف الذين كانوا منبثين في جوانب العالم الإسلامي، وكان لكل منهم نفوذه على المحيط الخاص به.

•••

ونذكر أخيرًا من ملامح هذا العصر الواضحة، ما كان من عداء ملحوظ للفلسفة والمشتغلين بها تعلُّمًا وتعليمًا، وكان السبب القوي لذلك حملة الغزالي عليها وعلى رجالها حملات أصابتها في الصميم ودعت الفيلسوف ابن رشد للرد عليها والانتصاف لها.٣

وحسبنا هنا أن نشير إلى حادث قتل شهاب الدين السُّهْرَوَرْدِي وهو في ميعة الصبا حتى صار معروفًا في التاريخ بأنه «الشاب المقتول»، وقد كان كما يقول ابن أبي أُصَيبعة: «أوحد في العلوم الحكمية، بارعًا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء جيد الفطرة»، ولكن الفقهاء شنَّعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد، بعد أن كان ناظرهم في حلب فأفحمهم.

إلا أنهم عملوا محاضر بكفره رفعوها إلى السلطان صلاح الدين بدمشق، وطلبوا منه استئصال الشر بقتله حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحلُّ فيه، فكان لهم ما أرادوا، وفعلًا قُتل بأمر السلطان، وكان ذلك بحلب سنة ٥٨٧، عن ستة وثلاثين عامًا.٤

ونجد بعد هذا، فتوى خطيرة تتَّسم بطابع ذلك العصر، وكان لها أثرها البالغ الذي دام قرونًا طويلة، وهي فتوى أبي عمر تقي الدين الشهرزوري المعروف بابن الصلاح المتوفى سنة ٦٤٣، وقد أصدرها إجابة لمن سأله عن حكم الله فيمن يشتغل بكتب ابن سينا وتصانيفه، فقال له: «من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى؛ لأن ابن سينا لم يكن من العلماء، بل كان شيطانًا من شياطين الإنس!»

وسئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليمًا وتعلُّمًا، فقال من كلام طويل: «الفلسفة أسُّ السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة … ومن تلبَّس بها تعليمًا وتعلمًا قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان …»

إلى أن يقول: «فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم … ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام، لتخمد نارهم وتمَّحي آثارهم …» إلى آخر ما قال.

ونجد شبيهًا لهذا الرأي في الفلسفة والحكم عليها، في رأي الإمام الذهبي في القرن الثامن، وهذا إذ يقول: «إن الفلسفة الإلهية ما ينظر فيها من يرجى فلاحه، ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه، فإن هذا العلم في شق، وما جاءت به الرسل في شق. وما دواء هذه العلوم وعلمائها القائمين بها علمًا وعملًا إلا التحريق والإعدام من الوجود؛ إذ الدين كان كاملًا حتى عُرِّبت هذه الكتب ونظر فيها المسلمون، فلو أعدمت لكان فتحًا مبينًا.»٥ يا لله، ما أشد هذا التعصب!

ونختم بذكر ابن خلدون في الفلسفة وكتبها والنظر فيها، وذلك إذ يعقد فصلًا لإبطال الفلسفة وفساد أمر منتحليها، فيقول فيه: «إن هذا العلم كما رأيته غير وافٍ بمقاصدهم التي حوَّموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها.»

ثم يقول عن علومها الطبيعية وما يستعمله أصحابه من البراهين: «فليكن الناظر فيها متحرزًا جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبَّن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها.»٦

ونحن نعتقد أن ما ذهب إليه مؤسس علم الاجتماع من رأي، وما انتهى إليه من حكم، وما قدمه لنا من إرشاد وتوجيه، هو الحق كل الحق، وهو الذي يليق بالعلماء الباحثين غير المتعصبين.

•••

هذا، وقد كان لما أجملناه من سمات هذا العصر وملامحه، أثر قوي في الشيخ ابن تيمية؛ فقد كان حربًا على الجامدين والمقلدين بغير علم من الفقهاء، وعلى الجامدين على مذهب الأشاعرة في علم الكلام، وعلى المتصوفة والتصوف الذي دخله الكثير من مقالات غير المسلمين وآرائهم.

كما كان لذلك شديد الثورة على الفلسفة ورجالها الذين اعتنقوا كثيرًا من نظريات الفلاسفة اليونان وأمثالهم بغير برهان صحيح.

وكل ذلك سنعرفه في الفصل الخاص بحياته ونشاطه بعد حين.

مراكز العلم في هذا العصر

كانت مصر والشام منذ قديم الزمان من مراكز العلم الكبيرة في العالم الإسلامي، ثم زاد خطرهما وأهميتهما في هذه الناحية بعد زوال الخلافة من بغداد سنة ٦٥٦، وقيامها بعد ذلك في القاهرة، فقد كان هذا سببًا طبيعيًّا لهجرة جمهرة العلماء — أو فرارهم — من بغداد إليها وإلى دمشق، أو إلى غيرهما من مدائن مصر والشام، واستقرارهم فيها، واتخاذها أوطانًا لهم تكون مجال نشاطهم الفكري وإنتاجهم العلمي في ضروبه العديدة المختلفة.

إنه بعد هذا الحادث الجلل، نرى انتقال مراكز العلم التي كانت في بغداد والرَّيِّ وبخارى ونيسابور، وغيرها من مدن العراق وغيره من ولايات الدولة العربية الإسلامية أيام العباسيين إلى القاهرة والإسكندرية والفيوم وأسيوط ودمشق وحلب وحمص وحماة، وإلى غيرها من مدن مصر والشام.

ومن ثم نجد في هذا العصر وما تلاه هذه النسب التي يعرف بها العلماء: القاهري، الإسكندري، الفيومي، السيوطي، الدمشقي، الحلبي، الحموي، ونحوها. كما نجد كثيرًا من العلماء يقال في تعريف الواحد منهم: نزيل دمشق، أو نزيل حلب، أو نزيل حماة، أو نزيل القاهرة، أو نزيل الإسكندرية … وهكذا.

وكان المركز من هذه المراكز له جامعه الذي يفد إليه الكثيرون من طلاب العلم ورجاله، ومكتبته الضخمة التي تضم عيون التراث الإسلامي المجيد، فيتزود الراغبون في المعارف والعلوم — من الجوامع والمكتبات الملحقة بها — ما يفيدهم في دينهم ودنياهم، ويعلون بذلك صروح العلم التي بناها العلماء السابقون.

والجامع الأزهر هو بلا ريب قمة هذه الجوامع، وأهم موطن للعلم والمعرفة منذ قديم الزمان؛ فقد أنشأه الفاطميون في النصف الثاني من القرن الرابع، ووقفوا عليه من الأملاك الدارَّة ما يضمن له الخلود على الزمن، وما يهيئ المعيشة الطيبة لقاصديه من شتَّى البلاد والجهات، وما ييسر لهم سبيل الدرس والبحث من الكتب والمراجع العلمية العديدة.

وإذا تركنا جوامع القاهرة التي كانت تعتبر بحق مواطن العلم والبحث والدرس، نجد في هذه الناحية جامع العطارين بالإسكندرية الذي أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة ٤٧٧، كما يذكر أبو المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة». وكان هذا الجامع ينبوعًا من ينابيع العلم والثقافة طوال عصر الحروب الصليبية وبعده، كما كان حافلًا دائمًا في تلك الأيام بطلاب العلم وشيوخه الذين يقومون بالتدريس فيه.

ونجد في الشام جامعه المعدود في طليعة معاهد العلم فيها، والذي درَّس فيه طائفة من أعيان العلماء الذين لا زلنا نتدارس آثارهم في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والنحو، وغير ذلك من علوم الدين واللغة العربية.

ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ، الحافظان الكبيران: ابن عساكر، وعبد الغني المقدسي، وتوفي الأول عام ٥٧١، والثاني عام ٦٠٠، وكلاهما من رجال الحديث وعلومه المشاهير.

ومن العلماء الكبار الذين درسوا في هذا الجامع أيضًا، الإمام علم الدين السخاوي المتوفى سنة ٦٤٣، وفيه يقول ابن خلكان — وكان معاصرًا له ورآه: «كان قد اشتغل بالقاهرة على الشيخ أبي محمد القاسم الشاطبي، وأتقن عليه علم القراءات والنحو واللغة … ثم انتقل إلى مدينة دمشق، وتقدم بها على علماء فنونه …»٧
كما كان من أولئك العلماء، رجلان عظيمان لا تزال تدرس آثارهما بالأزهر حتى اليوم؛ الأول هو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب، صاحب المؤلفات المعروفة في الفقه وأصوله، والنحو وغيرهما من العلوم. وقد توفي عام ٦٤٦، ويقول عنه ابن خلكان: «انتقل إلى دمشق ودرَّس بجامعها في زاوية المالكية، وأكبَّ الخلق على الاشتغال عليه، والتزم لهم الدروس، وتبحَّر في الفنون …» إلى آخر ما قال.٨

والثاني هو الإمام محمد بن مالك الطائي الجياني (نسبة إلى جَيَّان؛ بلد من بلاد الأندلس) نزيل دمشق، كان حجة العرب في علوم اللغة والنحو والصرف. وفيه يقول ابن العماد: «وأما اللغة، فكان إليه المنتهى في الإكثار من نقل غريبها والاطلاع على وحشِيِّها، وأما النحو والتصريف فكان فيه بحرًا لا يجارى وحبرًا لا يبارى …»

•••

تلك إشارات عابرة إلى المراكز الأولى للعلم والفكر في مصر والشام في ذلك العصر، بل وفي كل عصر وبلد من بلاد الإسلام الأخرى، ثم ظهرت بعد ذلك مراكز أخرى للحياة العقلية والفكرية، وهي المدارس والمكتبات العامة، وهذا ما نعرض له الآن بإيجاز:

لم تعرف المدارس في البلاد الإسلامية زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بل لم تعرف حتى جاء القرن الخامس الهجري. ويقول المؤرخ المقريزي: «إن أول من حُفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها المدرسة البيهقية.

ثم كان أشهر ما بُني في القديم المدرسة النظامية ببغداد؛ لأنها أول مدرسة قُرِّر بها للفقهاء معاليم، وتنسب إلى أبي علي الحسين الطوسي نظام الملك وزير ملك شاه أبي أرسلان السلجوقي، وتم بناؤها عام ٤٥٩، ودرَّس بها أبو إسحاق الشيرازي، وأبو حامد الغزالي، وغيرهما من الأعلام.

ثم اقتدى بنظام الملك الناس من حينئذٍ، في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر، وبلاد الجزيرة وديار بكر.

ولما كان عهد صلاح الدين الأيوبي، أبطل مذهب الشيعة من مصر وأقام بها مذهب الشافعي ومذهب مالك، واقتدى بالملك نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمصر.»

وبعد هذا يقول المؤرخ نفسه أيضًا: «ثم اقتدى بالسلطان صلاح الدين في بناء المدارس بالقاهرة ومصر وغيرهما من أعمال مصر، وبالبلاد الشامية والجزيرة، أولاده وأمراؤه، ثم حذا حذوهم مَن مَلك مصر بعدهم من ملوك الترك وأمرائهم وأتباعهم.»٩

وقد ذكر المؤرخون لهذا العصر، وبخاصة المقريزي في كتابيه العظيمين: «الخطط»، و«السلوك»، هذه المدارس، التي كان بعضها يبنى لأصحاب مذهب بعينه من المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، وبعضها كان يبنى لأصحاب أكثر من مذهب، وبعضها الآخر لأصحاب المذاهب الأربعة كلها.

وكان يوقف على كل منها ما يضمن لها البقاء ويهيئ لطلابها وشيوخها سبيل المعيشة الراضية، ويلحق بها مكتبة تعينهم على البحث والدرس والتزود من مختلف العلوم بخير زاد، وما على الراغب في معرفة أهمية هذه الضروب من مراكز العلم والمعرفة إلا أن يرجع إلى كتب التاريخ التي عنيت بهذا العصر.

فقد بنى السلطان صلاح الدين بالقاهرة المدرسة السيوفية للأحناف، ووقف عليها ما ينفق منه على من يقوم بالتدريس فيها وعلى الطلبة وعلى قدر طبقاتهم.

وبنى القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني المدرسة الفاضلية سنة ٥٨٠، وجعلها لطائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية، ووقف بها — كما يقول المقريزي — جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم يقال إنها كانت مائة ألف مجلد.١٠
وكان بالقاهرة أيضًا المدرسة الصالحية التي بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعلها لفقهاء المذاهب الأربعة؛ إذ رتب لكل أصحاب مذهب درسًا فيها في سنة ٦٤١، وهو أول من عمل بديار مصر دروسًا أربعة في مكان كما يقول المقريزي.١١

ويذكر المقريزي بعد ذلك المدرسة المنصورية التي بناها هي والقبة التي تجاهها الملك المنصور قلاوون الألفي سنة ٦٨٤، ورتب بها دروسًا أربعة لأصحاب المذاهب الأربعة المعروفة، ودرسًا للطب، كما جعل بالقبة درسًا للحديث ودرسًا للتفسير، وكانت هذه التداريس لا يعمل فيها إلا أجلُّ الفقهاء المعتبرين.

ويذكر المقريزي أنه كان بهذه القبة خزانة جليلة كان فيها عدة أحمال من الكتب في أنواع العلوم، مما وقفه الملك المنصور وغيره، وقد ذهب معظم هذه الكتب وتفرق في أيدي الناس.١٢

وذكر هذا المؤرخ بعد ذلك المدرسة الناصرية التي كمُل بناؤها سنة ٧٠٣، وكان هذا بأمر الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكانت لأصحاب المذاهب الأربعة، يقوم بتدريس كل مذهب فقيه من أجلِّ فقهائه، كما كان لطلابها معاليم تجري عليهم.

وأخيرًا، نذكر من مدارس القاهرة المدرسة المحمودية التي أنشأها الأمير محمود بن علي الأستادار سنة ٧٩٧، وكانت خارج باب زويلة كما يذكر المقريزي في خططه، كما يقول: «وعمل بها خزانة كتب لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها … وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كل فن، وهذه المدرسة من أحسن المدارس في مصر.»١٣

•••

وإذا تركنا مصر إلى بلاد الشام، نجد الأمر مثل ذلك أو قريبًا منه في هذه الناحية، ولا عجب أن يكون هذا؛ فقد كان هذان القطران الشقيقان بلدًا واحدًا في ذلك العصر، وقد صار في هذه الأيام التي نعيش فيها بلدًا واحدًا كما كانا من قبل بفضل الله تعالى.

وكان الفضل الكبير في هذا العصر، في إنشاء هذه المدارس، أو المراكز العلمية الهامة، للسلطان صلاح الدين،١٤ ولأبنائه الملوك من بعده، ثم للأمراء ومن إليهم من ذوي الجاه والفضل، ثم تتابع الأمر أيام دولة المماليك الذين عاش في أيامهم ابن تيمية.
والباحث في الكتب التي أشرنا إليها آنفًا، وفي أمثالها من المراجع التي أرَّخت لمصر والشام في القرن السادس والسابع وما بعدهما، يتبين أن مدائن الشام كانت زاخرة بالمدارس والمعاهد العلمية التي كانت مثابة للطلاب والشيوخ، وأنه تخرج ودرَّس فيها كثيرٌ لا يحصون من الفقهاء والعلماء الذين برزوا في فنون العلم وفروعه العديدة المختلفة، حتى الطب والهندسة وما إليهما.١٥

ففي دمشق وحدها وجد في القرنين السادس والسابع نحو تسعين مدرسة للفقه بمذاهبه المختلفة، وللتفسير والحديث وغيرهما من العلوم الدينية الإسلامية وعلوم اللغة العربية، وكان منها أربع للطب وحده؛ إذ كان يدرس نظريًّا في المدارس وعمليًّا في المارستانات أو المستشفيات بلغتنا الحالية.

وكان لمدينة حلب حظها الموفور من هذه المدارس، فهي ثاني المراكز العلمية في الشام بعد دمشق، كما كانت مثابة للعلماء وإليها يرحلون. وكذلك كان الحال في القدس وحماة وحرَّان وحمص، وغيرها جميعًا من بلاد الشام، ففي كل هذه المدن والبلاد كانت مدارس عديدة زاهرة تعج بالعلم وطلابه وشيوخه.

هذه العلوم وأثرها

كانت مصر والشام في العصر الذي عاش فيه ابن تيمية؛ أي في القرنين السابع والثامن (وكل منهما يعتبر إلى حد كبير امتدادًا للقرن السابق له)، يموجان موجًا بالعلم على مختلف فروعه، وبالثقافة بمتنوع ألوانها، وكان طريق العلم والمعرفة ممهدًا لسالكيه.

كان يُدرَّس في هذه المؤسسات العلمية التي ملأت البلاد: علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والسنة النبوية، والفقه بمذاهبه المعروفة، والنحو والصرف، وسائر علوم اللغة العربية، والتاريخ، وتاريخ الرجال وطبقاتهم …

وبجانب هذه العلوم الإسلامية المعروفة، كان يوجد مكان ملحوظ لعلوم أخرى من علوم الحياة؛ مثل: الفلسفة، والهيئة أو الفلك، والهندسة، والرياضيات، والطب وما يتصل به، إلى غير ذلك كله مما عرفه العرب والمسلمون من علوم وفنون عديدة مختلفة.

وكان الطب يدرس في تلكم الأيام على ما ينبغي؛ أي من الناحية النظرية والعملية، فقد كان في القاهرة ودمشق وحلب مدارس للطب خاصة، كما كان هذا العلم يدرس في مدارس أخرى بجانب غيره من العلوم، وكانت المارستانات موطن الدراسة العلمية لهذا العلم.

ومن أجل ذلك كله، نستطيع أن نقرر بأن هذا العصر كان عصرًا مجيدًا من ناحية الثروة العلمية التي جمعت فيه في علوم الدين واللغة والتاريخ وعلوم الحياة أيضًا، حتى إنه ليعتبر بحق عصر المؤلفات المطولة والموسوعات الجامعة في علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وطبقات الرجال، وغيرها من العلوم الإسلامية المختلفة.

ولكنه لم يكن فيه من أصالة الفكر والتجديد والابتكار في الآراء، حظ كبير يتميز به ويتناسب ولو إلى حد ما مع كثرة ما جُمع فيه من معارف وعلوم، اللهم إلا ما كان لدى نفر قليل على رأسهم الشيخ ابن تيمية كما سنعرف بعد حين.

هذا، وقد كان لإنشاء المدارس آثار طيبة جدًّا من نواحٍ كثيرة، ولكن — في رأينا — كان لها أثر آخر غير محمود نكتفي هنا بالإشارة إليه؛ ونعني به أنها أذكت روح التعصب بين الفقهاء والعلماء، وهذا ما أدى إلى تباغضهم وتحاسدهم أحيانًا كثيرة.

فقد كانت المدرسة تُخصَّص أحيانًا لعلم واحد كالحديث، أو لمذهب واحد من المذاهب الفقهية، وهكذا، فكان كل فريق بما لديهم فرحين وعليه مستمسكين وله ينصرون، غير مبالين ولا طالبين في حالات كثيرة للحق في ذاته، وغير ملتفتين إلى أن العلم وطلبَه يقضي بالتعاون والتناصر عليه متى ظهر في أي جانب ومهما كان قائله.

ولهذه العصبية التي قد تؤدي إلى الخلاف والجدل بغير حق، عرق قديم في العالم الإسلامي كما في سائر العالم كله بين أصحاب المقالات والمذاهب المختلفة؛ نعرف ذلك بين أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من مذاهب الشيعة وابن حزم، ونعرفها بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من رجال الفرق الإسلامية، ونعرفها بين أهل السنة وأهل الرأي، ونعرفها بين الفلاسفة والمتصوفة، وبين غيرهم من رجال الفقه وعلم الكلام.

كما نعرفها أخيرًا بين الشيخ ابن تيمية وبين من عاصره من الفقهاء والمتصوفة والفلاسفة وغيرهم من رجال المذاهب والفرق في العقائد الدينية.

وقد أدت هذه العصبية التي بلغت أحيانًا حدًّا ممقوتًا، إلى جدل عنيف؛ بل إلى معارك شديدة، وكان من آثار ذلك طمس الحق وضياع معالمه، وبخاصة بسبب ما كان يذكيها ويزيد في أوارها من اختلاف مناهج التفكير، والاعتماد على النقل عند فريق مهما يؤد إليه، أو الاعتماد على العقل والمنطق مهما تكن نتائجه عند فريق آخر؛ ولله في خلقه شئون! يؤتي الحكمة في القول والعمل لمن يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

•••

ومهما يكن من أمر، فقد ظهر ابن تيمية في هذا الوسط الزاخر بالمعرفة والعلم من قديم الزمن وحديثه حتى الأيام التي عاش فيها، وأفاد من ذلك أكثر بكثير جدًّا مما أفاد معاصروه، وساعده على هذا الهبات الكبيرة الجليلة التي منحها الله له: نفس طُلَعة، وقلب مشغوف بحب المعرفة والعلم، وعقل نافذ لما فات غيره، وحافظة لا تُضيِّع، وذاكرة قوية لا تَنسى.

ولم تكن هذه المناهل العلمية الدافقة هي كل ما أفاد منه الشيخ، بل كان من الطبيعي أن يستفيد أيضًا من كبار الشيوخ الذين عاصروه أو سبقوه بقليل من الزمان، أمثال الحافظ ابن عساكر وابن الأثير في التاريخ، كما أفاد من ابن قدامة، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، ومحيي الدين النووي، وابن دقيق العيد، في الفقه وأصوله والتفسير والحديث واللغة وغيرها من العلوم الإسلامية.١٦

وبعد، فقد جلينا فيما نعتقد عصر ابن تيمية من نواحيه المختلفة كلها، ومن أجل هذا ننتقل إلى الشيخ نفسه لنعرف حياته، وما كان فيها من صراع وكفاح وجهاد، انتهى به إلى أن صار حقًّا من الخالدين.

١  «المقدمة»، ص٣٥٥.
٢  «خطط المقريزي»، ج٢: ٣٥٨، ٣٦٠.
٣  راجع تفصيل القول في هذا، في المشرق والمغرب من العالم الإسلامي في كتابنا «بين الدين والفلسفة» في مواضع عديدة فيه.
٤  «طبقات الأطباء»، ج٢: ١٦٧. وراجع أيضًا «شذرات الذهب»، ج٤: ٢٩٠ وما بعدها.
٥  «فتاوى ابن الصلاح»، نشر منير الدمشقي بالقاهرة سنة ١٣٤٨ﻫ، ص٣٤-٣٥.
٦  «المقدمة»، ص٤٣٢-٤٣٣.
٧  «وفيات الأعيان»، ج١: ٤٩١.
٨  «وفيات الأعيان»، ج١: ٤٤٥-٤٤٦.
٩  «خطط المقريزي»، ج٢: ٣٦٣.
١٠  «خطط المقريزي» ج٢، ص٣٦٦.
١١  «الخطط»، ج٢: ٣٧٤.
١٢  المرجع نفسه ص٣٨٠.
١٣  «الخطط»، ج٢: ٣٩٥. هذا، ونترك جانبًا المدارس التي كانت بالإسكندرية والأقاليم الأخرى، مثل الفيوم وأسيوط وغيرهما من مدن الصعيد حتى أسوان.
١٤  وقد كان مقتديًا في هذا بمحمود نور الدين زنكي الذي كان له الفضل الأول في إنشاء المدارس بالشام.
١٥  راجع في ذلك كتاب: «الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية في مصر والشام»، للدكتور أحمد أحمد بدوي، ص٦٠ وما بعدها، وهو بحث مؤيد بالمراجع الأصيلة.
١٦  وفيات هؤلاء الأعلام هي على التوالي: ٥٧١، ٦٢٠، ٦٢٠، ٦٤٣، ٦٦٠، ٦٧٦، ٧٠٢ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤