أسرته ونشأته ودراساته ومكانته العلمية
أسرته
نبت ابن تيمية من أسرة ثابتة الدعائم قوية الأركان، فهي كدوحة سامقة وارفة الظلال، أو كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، فكانت هي وهو كما يقول الشاعر العربي:
وفي الحق، إنه سليل أسرة كريمة اشتغل أبناؤها بالعلم، وكلهم عرف به وبرز فيه، فعني تاريخ الفقه والعلم بهم، وخلد أسماءهم والكثير من آثارهم.
ويذكر الذهبي في تاريخه أنه قرأ المذهب الحنبلي على أبيه حتى أتقنه، ودرَّس وأفتى وصنف، وكان إمامًا محققًا كثير الفنون، ديِّنًا متواضعًا حسن الأخلاق، كما كان جوادًا من حسنات العصر، وكان من أنجم الهدى، وإنما اختفى من نور القمر وضوء الشمس؛ يشير بذلك إلى أبيه وابنه.
ذلك أبوه، وأما جده فهو شيخ الإسلام مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، الفقيه الحنبلي، الإمام المقرئ المحدث المفسر الأصولي النحوي، وأحد الحفاظ الأعلام.
ولد بحران سنة ٥٩٠ تقريبًا، وحفظ القرآن الكريم بها، وسمع من عمه الخطيب فخر الدين وغيره، ورحل في سبيل طلب العلم إلى بغداد سنة ٦٠٣، وأقام بها ست سنوات يشتغل بأنواع العلوم، ثم عاد إليها (بعد أن كان قد رجع إلى حران) فازداد فقهًا وعلمًا.
ويذكر الذهبي عن ابن تيمية الأشهر؛ أي الحفيد موضوع هذه الدراسة، أنه قال: «كان جدنا عجبًا في حفظ الأحاديث وسردها، وحفظ مذاهب الناس بلا كلفة.» وينقل عنه أيضًا أن الشيخ جمال الدين بن مالك قال: «ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين الحديد لداود!»
وإذا تركنا أباه وجدَّه نجد آخرين كثيرين مشهورين من أعضاء هذه الأسرة الكبيرة من الرجال والنساء، لكل منهم مقامه في العلم في زمنه، ولا نرى التعرض لذكرهم، فأمرهم معروف في التاريخ، فليرجع إلى كتب تاريخ الرجال والطبقات من يريد معرفة ما كان لهم من كبير المنزلة وعظم الأثر.
نشأته ودراساته
أكد العلم الحديث ما عرفه القدامى من العرب من أن الوراثة والبيئة هما العاملان اللذان لهما أكبر الأثر على ما يكون عليه الإنسان في نشأته وتربيته ومستقبله، وأنه بالوراثة تنتقل الاستعدادات الخلقية والعقلية من جيل إلى جيل، وأن البيئة هي التي تمهد لظهور هذه الاستعدادات فعلًا.
وقد جمع الله لابن تيمية كل العوامل التي جعلت منه رجلًا عظيمًا فريدًا في عصره في الفقه وسائر العلوم الإسلامية: من وراثة طيبة قوية، وبيئة صالحة تزخر بالعلم وتدفع إليه دفعًا، عقل واع ألمعي، وحافظة ذاكرة لا تنسى ما وعته، وشجاعة تستهين بالأخطار في سبيل الحق، وإرادة لا تقف أمامها العقبات، وغير ذلك كله من أسباب العبقرية والنجاح والنبوغ والخلود على الأيام، وصدق العليم الحكيم إذ يقول: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
وُلد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في عاشر ربيع الأول سنة ٦٦١ بحران، وأنبته الله نباتًا حسنًا، فعاش بها بضع سنين في كنف أبيه وتحت رعايته، ثم انتقل أبوه به وبأخويه إلى دمشق سنة ٦٦٧ عند قدوم التتار إلى الشام، وكاد هذا البلاء الزاحف يدركهم في سيرهم لولا أن مَنَّ الله عليهم بالسلامة والنجاة، وكان هذا لخير الإسلام والعلم والمسلمين.
وفي دمشق، إحدى مدائن العلوم الكبيرة في ذلك الزمان، نشأ أحمد وترعرع، ثم درس ونضج، حتى بلغ أشده وأتاه الله العلم والحكمة، وصار أحد الأئمة الأعلام، ومن كبار شيوخ الإسلام الذين خُلدوا على الزمن بفضل ما قاموا به من جلائل الأعمال وما خلفوه لنا من عظيم الآثار.
ولا عجب أن ينبغ الفتى أحمد بن عبد الحليم، فقد وفر العليم الحكيم له كل عوامل الفَوْق والنبوغ ومؤهلاته: وراثة طيبة عميقة الجذور، بعيدة الأصول، سامقة الفروع، وبيئة علمية أوفت على الغاية، وقوًى عقلية وذهنية بلغت حد العجب والإعجاب بها حتى صار فريد عصره.
استقرت الأسرة إذن بدمشق الفيحاء، وفي كتَّاب من كتاتيبها حفظ ابن تيمية كتاب الله وهو حدث ولم ينسَ شيئًا منه حتى قضى نحبه؛ إذ كان سريع الحفظ جدًّا بطيء النسيان، حتى ليقال إنه لم يحفظ شيئًا من قرآن أو حديث أو علم ثم نسيه، شهد له بذلك تلاميذه ومعاصروه، ومنهم من كانوا من خصومه المعروفين.
ثم أخذ في الدرس وطلب العلم، وعاش متبتلًا له طول حياته حتى بلغ منه الغاية، وبزَّ معاصريه وشآهم وجاوز أقدارهم جميعًا؛ كل ذلك في عفة وتدين ومروءة وأخلاق فاضلة مرضية تحدث بها الجميع، وقول للحق في قوة حتى لا يخاف في الله لومة لائم.
وكان يحضر المحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيَّرون منه، وأفتى وله أقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف. مات والده وله إحدى وعشرون سنة، وبعُد صيته في العالم فطبَّق ذكره الآفاق، وأخذ في تفسير القرآن أيام الجمع في المسجد من حفظه، لا يتوقف ولا يتلعثم.
وكان للشيخ خبرة تامة بالرجال رواة الحديث، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال إن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي!
«كان إذا سئل عن فن من الفنون ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في سائر مذاهبهم منه ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك!
ولا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم — سواء كان من علوم الشرع أو غيرها — إلا فاق فيه أهله والمنسوب إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين.»
ولم يكتفِ ابن الزملكاني بهذا، بل كتب على بعض تصانيف الشيخ هذه الأبيات، وهي كما ترى ناطقة بمبلغ ما وصل إليه ابن تيمية من العلم والفضل:
ولا ندري مع هذا الثناء والتقديم العظيم كيف يصدُق ما ذكره ابن كثير من أن ابن الزملكاني كانت نفسه خبيثة، وأنه كان يروم أذى ابن تيمية! ولعل الحق أنه قدره حق قدره وأثنى عليه بصفة عامة، وهذا لا يمنع من خلافه له في بعض الآراء الفقهية ورده عليها ردًّا عنيفًا، وبخاصة أنهما كانا متعاصرين ومن كبار العلماء، فقد توفي ابن الزملكاني سنة ٧٢٧.
هذا، وبالرجوع إلى الذين ترجموا له من معاصريه ومن جاءوا بعده؛ مثل ابن الوردي في تاريخه، والحافظ شمس الدين الذهبي في كتبه العديدة، وابن الألوسي في «جلاء العينين»، وابن رجب في طبقاته، وصلاح الدين بن شاكر الكتبي في «فوات الوفيات»، وابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب»، نقول: إنه بالرجوع إلى هؤلاء ونحوهم من أثبات المؤرخين، نعلم أن ابن تيمية بذل غاية الجهد لطلب العلم من أبوابه، وتنوعت دراساته حتى شملت علوم عصره كلها، وأنه بلغ الغاية وصار إمامًا في الكثير منها.
ولا نرى الإطالة في هذا، فحسبنا ما ذكرناه سابقًا عن نشأته ودراساته، ومن يريد التفصيل فما عليه إلا أن يرجع إلى المراجع التي ذكرناها، ففيها الخبر اليقين عن العلوم التي حصَّلها وبرَّز فيها جميعًا.
مكانته العلمية والدينية
بلغ من نبوغ ابن تيمية أنه تأهل للتدريس والفتوى وهو في صدر شبابه قبل أن يتم العشرين من عمره، ثم قام بوظائف أبيه العلمية بعد وفاته وله حينئذٍ عشرون سنة أو تزيد قليلًا.
سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرَّج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصَّل ما لم يحصِّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه … واستنبط منه أشياء لم يُسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوًّا إلى أصوله وصحابته …
وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقول بما دليله عنده.
وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتدليلًا واختلافًا، ونظر في العقليات (نعتقد أنه يريد بصفة خاصة الفلسفة وعلومها)، وعرف آراء المتكلمين وردَّ عليهم ونبَّه على خطئهم وحذَّر منهم.
ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نشر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه وهدى به رجالًا من أهل الملل والنحل.
وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا وعلى طاعته، وأحيا به الله الشام بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم …
ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبِّه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.»
ويذكره الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، أحد الحفاظ المعروفين، فيقول في كلام طويل: «كاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالنحل والملل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته.
وذكره الشيخ عماد الدين الواسطي، وقد توفي قبله، فقال بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: «فوالله، ثم والله، ثم والله، لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علمًا وعملًا، وحالًا وخلقًا، واتباعًا، وكرمًا وحلمًا، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته. أصدق الناس عقدًا، وأصحُّهم علمًا وحزمًا، وأنفذُهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتِّباعًا لنبيه محمد ﷺ …»
وأثنى عليه الذهبي وخَلْق بثناء حميد، منهم الشيخ عماد الدين الواسطي، والعلامة تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، و(كمال الدين) بن الزملكاني، وأبو الفتح (لعله يريد: ابن سيد الناس)، وابن دقيق العيد.
وحسبه من الثناء الجميل قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل، أبي الحجاج المِزِّي الحافظ الجليل: «ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه.»
هكذا كان الشيخ العظيم فذًّا في عصره، وإمامًا يقتدى به في حياته وبعد مماته، ونجمًا متألقًا لم يعتره أفول منذ وُلد حتى اليوم، لم يُر في عصره مثله ولم ير هو أحدًا مثل نفسه كما قيل عنه بحق من بعض من ترجموا له، وكان وما يزال بحرًا زخَّارًا بالعلم ارتوى منه معاصروه، ويرتوي الناس منه في كل جيل وزمان ومكان.