الفصل الثاني

جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات

المؤمن الصادق القوي

الإسلام عقيدة وعلم، هو الاعتقاد والإيمان الصادق الذي لا ريب فيه بالله الواحد الأحد، مالك الأمر كله، وله مقاليد السماوات والأرض وما بينهما، وهو مع هذا عمل بما توجبه هذه العقيدة وتدفع إليه من شرائع وأحكام، وتعاليم وأخلاق وآداب.

ومتى صار الإنسان إلى هذه العقيدة فملكت عليه نفسه وقلبه، وأصبح لا يعيش إلا بها ولها؛ كان مؤمنًا صادقًا قويًّا حقًّا، وهان عليه كل أمر بعد ذلك، وعز به الإسلام والمسلمون كما كان شأن الصدر الأول من المسلمين ومن ساروا على طريقهم من بعد.

وفي هؤلاء المؤمنين وأمثالهم يقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ،١ ويقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.٢

والمؤمن القوي هو قضاء الله الغالب وقدَرُه الذي لا يُرد، وهو أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ويكون لهذا أهلًا لتأييد الله ونصرته، وذلك وفاء من الله بوعده؛ إذ يقول: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.

والمؤمن القوي بإيمانه بالله وتوكله حق التوكل عليه وحده، لا تهوله كثرة الأعداء، ولا ينخلع قلبه لمرأى الجموع الزاحفة، فهو يلجأ لله القوي العزيز وليه وناصره، ويندفع للجهاد طالبًا إحدى الحسنيين: الظفر والنصر، أو الاستشهاد في سبيل الله والحق، وحينئذٍ يكون بفضل الله ومشيئته من الذين قال فيهم: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.٣

وبهؤلاء المؤمنين الأقوياء بالله والذين صدقوه ما وعدوه، انتصر الإسلام، وغلبت القلة المؤمنة الكثرةَ المشركة بفضل الله، وانتشر الإسلام شرقًا وغربًا حتى ملأ الأرض، ودالت دولتا الأكاسرة والقياصرة، والله دائمًا مع المؤمنين.

المدافع عن الدين والوطن

وابن تيمية لم يكن على ما عليه الجمهور من علماء الدين هذه الأيام، بل كان مؤمنًا حقًّا بالله، عاملًا بشريعته، متوكلًا حق التوكل عليه، معتزًّا بحوله وقوته، عالمًا بأن الجهاد في سبيل الله والوطن من أفضل القربات إلى الله، وأنه فرض على القادر عليه بنفسه وماله أو بهما كليهما معًا، موقنًا بأن الله لا يضيع أجر المجاهدين والعاملين، وبأنه تعالى فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا.

لم يتردد، إذن، الشيخ ابن تيمية في أن يكون في طليعة المجاهدين للتتار بنفسه، هؤلاء الذين زحفوا على الشام كالطوفان أو السيل العرم، والذين لا تصلهم وشيجة بالعرب أو الإسلام من جنس أو عقيدة، والذين كانوا يرون أنه لن تقف أمة أو دولة أو قوة أمامهم في أي بلد من البلاد في العالم كله.

وهنا يظهر ابن تيمية العالم العامل، المؤمن القوي، المجاهد في سبيل الله وأمته حامية دينه وشريعته ومثُلُه العليا، فتكون له مع هذا العدو الداهم مواقف محمودة من الله والناس، وتكون لهذه المواقف آثارها العظيمة في إذكاء الروح الديني والوطني لدى الملوك والسلاطين وعامة الناس.

وتكون النتيجة أن عرف التتار الهزيمة الساحقة بعد طول انتصارهم، وبذلك كفى الله أخيرًا الإسلام والعرب والمسلمين شرهم إلى الأبد.

مواقف مجيدة

ونحن نذكر هنا بعض هذه المواقف المجيدة، وبهذا يتبين لنا أي رجل كان ابن تيمية في هذه الناحية بعد أن عرفنا سابقًا كيف كان في علمه وفضله ودينه:
  • (١)
    لما زحف التتار على الشام، وتسامع الناس بأنهم يريدون أيضًا قصد مصر، تملك الرعب قلوب الأهلين، واتفق بعض أعيان البلد والشيخ على لقاء ملكهم قازان٤ فذهبوا إليه وتكلم معه ابن تيمية كلامًا شديدًا، وكانت الغاية أخذ الأمان لأهل دمشق ثم إيقاف زحفهم الداهم وإنقاذ العباد والبلاد منهم.
    ويشير بعض المؤرخين إلى هذه المقابلة (كانت سنة ٦٩٩) بقوله: إن شجاعته كانت تضرب بها الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، وقد أقامه الله في نوبة غازان، وقام بأعباء الأمر بنفسه، واجتمع بالملك مرتين، وكان «سيف الدين قيجق المنصوري»٥ يتعجب من إقدامه على المغول (هم التتار).

    قال القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله في ترجمته: جلس الشيخ إلى السلطان غازان؛ حيث تجم الأسود في آجامها، وتسقط القلوب داخل أجسامها … خوفًا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المحتال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال …

    جلس إليه، وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرأ في نحره (كان الحديث طبعًا بواسطة ترجمان)، وطلب منه الدعاء، فرفع يديه ودعا له دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه.٦
  • (٢)
    وفي سنة ٧٠٠ اشتد الخطر على الشام من ذلك العدو الرهيب، فأصبح الناس ما بين هارب أو لا يجد بدًّا من الاستسلام، فخرج الشيخ في مستهل جمادى الأولى — والناس على خطة صعبة من الخوف والفزع — إلى نائب الشام، فثبتهم وقوى جأشهم ووعدهم النصر على الأعداء إن صبروا وأعدوا العدة للقائه، وتلا قوله تعالى: وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وبات عند العسكر.
    ثم لم يجد أولو الأمر والناس ملاذًا إلا إليه، فطلب النائب والأمراء إليه أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان أن يجيء بالجيش لإنقاذ الشام، وهنا في القاهرة قال لهم فيما قال: «إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن»، ثم قال: «لو قُدِّر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم.» وقوَّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام وكان الظفر والنصر.٧
    ويصف ابن رجب هذه السفارة التي نجحت نجاحًا عظيمًا بقوله: وقد سافر الشيخ على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجيء التتر سنة من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: «إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم، فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم»، وتلا عليهم قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ، وقوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا.
    وبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وكان هو القاضي حينئذٍ، فاستحسن ذلك وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام.٨
  • (٣)

    ولم يكتفِ الشيخ بالعمل الدائب على تحريض الناس والسلطان والأمراء في مصر والشام على القتال، بل نراه سنة ٧٠٢ يلقي بنفسه في الميدان، وذلك في واقعة «شقحب» التي جمع فيها التتار جموعهم واستعدوا لها بكل قواهم، وكان بسبب ذلك أن بلغت القلوب الحناجر وزلزل الناس زلزالًا شديدًا.

    في هذه الموقعة شهد ابن تيمية القتال بنفسه، وقاتل فيها هو وجماعة من أصحابه، وكانت في رمضان من العام المذكور، وانتهت بنصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، وقتل فيها من التتار خلق كثير لا يعلم عدتهم إلا الله بحيث لم يسلم منهم إلا القليل. واستقرت القلوب بهذا الفتح العظيم والنصر المبارك الكبير، وأقبل الناس على الشيخ بالتهنئة والدعاء بما يسر الله على يديه من الخير الكثير.

    وذلك — كما يذكر ابن كثير٩ — بأن العسكر الشامي ندبه إلى السير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، ففعل ذلك وجاء هو وإياه إلى المدينة، ثم سأله السلطان أن يقف معه في المعركة، فقال: السُّنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم.

    ثم أخذ يحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم لمنصورون عليهم، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.

    الله أكبر، والعزة له تعالى ولرسوله وللمؤمنين، ما أكبر هذه الثقة بالله التي ملأت قلب ابن تيمية وفاضت على كل من حوله من المجاهدين المقاتلين! إنها ثقة المؤمن الصادق القول في ربه القوي العزيز، فكأنه كان يستشف الغيب من ستار رقيق.

    ولم لا؟ والله لن يخلف وعده، وقد وعد في كتابه العظيم عباده المؤمنين بالنصر؛ إذ قال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ومن أوفى بعهده ووعده من الله!

أثره في هذا الجهاد

نكتفي بهذه المواقف لابن تيمية في جهاد التتار بنفسه، فهذه المواقف كثيرة نستطيع أن نعد منها لا أن نعدها كلها، ونعتقد — ويؤيدنا التاريخ والواقع فيما نعتقد — أن أثر الشيخ العظيم كان كبيرًا وفعالًا في هذه الناحية.

فقد رأينا كيف كانت هزيمة التتار الساحقة، وبخاصة في موقعة «شقحب»؛ نتيجة لسعيه المشكور في جمعه جيش مصر مع جيش الشام في الميدان، ولتحريضه الدائب للسلطان والأمراء والناس جميعًا على الثبات، والثبات للعدو الداهم العظيم البأس والخطر.

ونرى سنة ٦٩٩ التتار يقتربون من دمشق فتزايد فزع الأهلين، وطلب سيف الدين قبجق من نائب القلعة تسليمها لهم فأبى، ثم تكلم معه أعيان البلد في ذلك فأبى أيضًا وصمم على ترك تسليمها إليهم وفيها عين تطرف، ونحن نقول: لماذا وقف نائب القلعة هذا الموقف المجيد؟

ذلك ما يجيب عنه ابن كثير في تاريخه إذ يقول: إن الشيخ تقي الدين أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك: لو لم يبقَ فيها إلى حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت! وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزًا لهم.١٠
وقصارى القول: إن الله «أحيا به الشام، بل والإسلام بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتار والبغي في خيلائهم، فظُنَّت بالله الظنون، وزُلزل المؤمنون، واشرأبَّ النفاق وأبدى صفحته» كما يقول الحافظ الذهبي في ترجمته له في معجم شيوخه.١١

وذلك لأن الله فطر قلوب الناس والملوك والأمراء على طاعته والانقياد له في أغلب الأمر؛ لأن تأثيره عليهم كان قويًّا عظيمًا، فقد كان إيمانه بالله وبما يقول مددًا ضخمًا لقوة تأثيره، كما كان لتكوينه الجسمي والعقلي ما يجعله مهيبًا مسموع الكلمة.

فقد ذكر الذين رأوه ووصفوه أنه كان قوالًا بالحق نهَّاءً عن المنكر، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة، كما كان أبيض شديد سواد الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمتي أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة بين الرجال، جهوري الصوت، فصيح اللسان، مع فرط ذكاء، وسيلان ذهن.

كل هذا، وما إليه من سائر خلاله وصفاته العقلية والخلقية جعل لكلامه ومواقفه التأثير القوي والعاقبة الطيبة، حتى نصر الله به الجيش، وأعز به الإسلام والمسلمين.

كفاحه الظلم

ننتقل بعد ذلك إلى مواقفه المحمودة القوية ضد الظلم والظالمين، وضد البدع والمنكرات وأصحابها والمتشيعين لها، وقد فطره الله تعالى على ما علمنا من الجهر بالحق لا يخاف فيه لومة لائم، كما كان شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الجاد لإزالته.

كان لشيخ الإسلام من الإيمان والشجاعة والتأسي برسول الله وصحابته، ومن الأخلاق الرفيعة القوية، ما يجعله لا ينام على ظلم ولا ينيم الظالم مهما يكن بأسه شديدًا؛ وذلك لما رواه سيدنا أبو بكر أنه سمع الرسول يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.»

كما كان له من ذلك كله ما يجعله لا يرى الوقوف على إنكار المنكر بلسانه، فإن هذا هو أضعف الإيمان كما جاء في الحديث، بل هو يعمل بقوة لإنكاره باللسان ثم باليد إن لزم الأمر.

وهو في هذا يتأسى بالرسول إذ يقول: «لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتنهَوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم.»

والباحث في كتب التاريخ والتراجم يجد الكثير من مواقف ابن تيمية لله في هذه الناحية، ولكننا نكتفي هنا بذكر القليل منها مما يدل دلالة كافية قوية على ما نريد:
  • (١)
    يذكر ابن شاكر الكتبي، على سبيل التمثيل بشجاعته وعمله على رفع الظلم، أن رجلًا من الناس شكا إليه من ظلم نزل به من قطلو بك الكبير، وكان هذا فيه جبروت ويأخذ أموال الناس غصبًا، فدخل عليه الشيخ غير هياب ولا وجِل، وتكلم معه فيما جاء به إليه، فقال له قطلو بك: أنا كنت أريد أن أجيء إليك لأنك عالم زاهد! يعني الاستهزاء به، فقال له الشيخ: موسى كان خيرًا مني، وفرعون كان شرًّا منك، وكان موسى يجيء إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات، ويعرض عليه الإيمان.١٢
  • (٢)

    وفي إبان اشتداد الحال مع التتار، ووجوب التقرب إلى الله بالطاعات والبعد عن المنكرات حتى يكونوا أهلًا لنصره، كان كثير من الناس لا يزالون مصرين على عاداتهم الخبيثة من الاتجار بالخمر وفتح الخمارات، وكان ذلك خليقًا بأن يثير المؤمنين الصادقين وعلى رأسهم الشيخ العظيم ابن تيمية.

    ولهذا يذكر ابن كثير في حوادث سنة ٦٩٩ أنه في السابع عشر من رجب دار الشيخ تقي الدين رحمه الله وأصحابه على الخمارات والخانات، فكسروا أواني الخمور وأراقوها، وعزَّروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك.

    ولعل شدة ابن تيمية في هذه الناحية، وتكرر ذلك منه، قد أثار ضده جماعة من شانئيه، فثار بعضهم وشكوا منه بأنه يقيم الحدود ويعزر الناس على ما يرى. ولكن الأمر سكن بعد أن تكلم هو أيضًا في شكاتهم وبيَّن لهم أنه محق وأنهم مخطئون.١٣
  • (٣)
    وكان من الطبيعي أن يكون للشيخ أنصار يؤازرونه على إزالة المنكرات وقتال المفسدين، عملًا بقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
    ولذلك نرى أنه في شوال سنة ٧٠٠ يخرج ومعه خلق كثير لقتال ناحية جبال الجرد وكسروان بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وضلالهم، لممالأتهم التتار حين كانوا ينتصرون، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إليه معتذرين، فاستتابهم وبين لهم الحق، فحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين.١٤
    ومن المعروف أن الشيخ كان شديد الإنكار للتوسل بغير الله الواحد الأحد، وشديد الإنكار أيضًا لتقديم شيء من شعائر العبادة والتقديس لغيره تعالى؛ ولهذا نراه في شهر رجب سنة ٧٠٤ يروح إلى مسجد التاريخ، ويأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر «قلوط» تزار وينذر الناس لها، فقطعها وأراح الله المسلمين منها ومن الشرك بها كما يقول ابن كثير.١٥

    ويظهر أن ابن تيمية كان وحده رأس القائمين بتغيير المنكر باللسان، وباليد إن وجب الأمر، فإنه في تلك السنة نفسها — على ما يذكر ابن كثير — أُحضر إليه شيخ كان يلبس دلقًا كبيرًا متسعًا جدًّا يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر بحلق شعره وتقليم أظافره وكان ذلك طويلًا جدًّا، وحفَّ شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة.

    وقد فُعل به ذلك كله، ثم استتابه من فاحش القول الذي كان يصدر عنه، ومن أكل ما يغير العقل من الحشيشة، ومن كل ما لا يجوز من سائر المحرمات.

  • (٤)

    وأخيرًا نشير إلى خروج الشيخ الأكبر في أوائل شهر المحرم من سنة ٧٠٥ إلى بلاد الجرد والرفض واليتامنة، وتبعه نائب السلطنة جمال الدين الأفرم بنفسه، فنصرهم الله عليهم، وأبادوا كثيرًا منهم ومن فرقتهم الضالة، ثم عاد نائب السلطنة في صحبة الشيخ إلى دمشق.

    وقد كان لحضور الشيخ هذه الغزوة بنفسه أثر فعال في النصر، وأبان فيها ما هو معروف عنه من العلم والشجاعة، وكان منها خير كثير.١٦

وبعد، إني أكتب هذه الكلمات موقنًا بأن ابن تيمية لم يكن مؤمنًا حقًّا قويًّا فحسب، ولا ذا شخصية عارمة فحسب، ولكنه كان مع ذلك كله يشعر شعورًا بالغ المدى بالمسئولية التي ألقاها الله على عاتقه باعتباره رجلًا مسلمًا عربيًّا، وباعتباره من العلماء بدين الله وشريعته الذين يراهم الناس موضع الأسوة والقدوة.

إن هذا الشعور القوي بما عليه من مسئوليات هو مفتاح شخصيته في رأينا، هذه الشخصية التي جعلته يأتي بالعجب العجاب في زمنه، فصار من الخالدين على مر الزمان.

إن إحساسه بما عليه من مسئولية باعتباره ابنًا من أبناء الإسلام والعروبة، جعله يجاهد بنفسه في حرب التتار لتحرير الوطن الكبير منهم، ودفع شرهم عن الإسلام والمسلمين؛ وبذلك كان فعَّالًا لا واعظًا قوَّالًا فقط كما هو شأن الأكثرية الكاثرة من رجال الدين هذه الأيام!

وإن إحساسه بما فرض الله من مسئوليات — باعتباره عالمًا من علماء الدين، والعلماء ورثة الأنبياء — في بيان الدين والحفاظ عليه، ألقى على كتفيه تبعات ثقالًا قام بها خير قيام على ما رأينا، أو على ما سنرى في فصول البحث القادمة، إن شاء الله تعالى.

١  سورة الحجرات: ١٥.
٢  سورة الأنفال: ٢.
٣  سورة آل عمران: ١٧١ : ١٧٤.
٤  يكتبه بعض المؤرخين هكذا، وبعضهم بالغين بدل القاف.
٥  هو أحد الكبار الذين هربوا وصاروا مع قازان فترة من الزمن حتى قرره في دمشق مع جماعة من المغول، ثم تركه أخيرًا إلى السلطان بمصر، راجع ابن الوردي ج٢ ص٢٤٧.
٦  «تاريخ ابن الوردي» ج٢: ٢٨٧-٢٨٨، وراجع ابن كثير ج١٤: ٧.
٧  «البداية والنهاية»، ج١٤: ١٥.
٨  «الطبقات»، ج٢: ٣٩٥-٣٩٦، وراجع أيضًا «فوات الوفيات»، ج١: ٥١، «شذرات الذهب»، ج٥: ٤٥٥ في حوادث سنة ٧٠٠.
٩  «البداية والنهاية» ج١٤: ٢٥-٢٦.
١٠  «البداية والنهاية»، ج١٤: ٧-٨.
١١  «طبقات ابن رجب»، ج٢: ٣٩٠.
١٢  «فوات الوفيات»، ج١: ٥٣-٥٤.
١٣  «البداية والنهاية» ج١٤: ٢٩ في حوادث سنة ٧٠١.
١٤  نفس المرجع، ص١٢.
١٥  راجع أيضًا «جلاء العينين» ص٦، حيث نقل المؤلف هذا عن ابن كثير.
١٦  ابن كثير، ج١٤: ٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤