الفصل الثالث

خصومه، محنته، ووفاته

رأينا الشيخ ابن تيمية فارسًا مجليًّا في حرب التتار يشرِي نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويقذف بها في المعارك في سبيل الله والوطن والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، حتى كتب الله النصر للعرب والمسلمين.

ورأيناه مع ذلك على رأس الذين يعملون بألسنتهم وأيديهم لإقامة دين الله ونصر سنة رسوله ، فهو يحارب البدع وأصحابها، والظلم ومقترفيه، والمنكر على كافة ضروبه، يحارب ذلك كله بكل سبيل، ولا يألو جهدًا.

والآن نراه فارسًا يصول ويجول في حلبة صراع أخرى مع خصوم أشداء أجمعوا أمرهم على عدائه ومناوأته، صراع لم يخمد أواره وينقشع غباره إلا بوفاته ولحاقه بربه الذي يعلم السر وأخفى.

خصومه

كان خصومه في هذا الصراع المستميت من الفقهاء والمتصوفة، وهو الذي خلقهم بصراحته وجرأته، وبذهابه إلى آراء لم تؤثَر عن الفقهاء السابقين، وإرساله كلمات أحجم عن التصريح بمثلها الأولون والآخرون، ومسَّت بعض ما يعدُّه القوم مقدسات لا يجوز المساس بها، بل ينبغي أن تظل هكذا أبد الآبدين.

وهذه الأسباب التي جلبت على ابن تيمية خصومات كثير من معاصريه من الفقهاء وأصحاب الحديث وغيرهم، قد عرفها وأحسَّها كثير من عارفي الشيخ ومحبيه ومقدِّريه، وفي هذا يقول ابن رجب وهو يتحدث عن الشيخ عماد الدين الواسطي وإجلاله وتعظيمه لابن تيمية: ولكن كان هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشيخ كلامه في بعض الأئمة الكبار الأعيان، وفي أهل التخلِّي والانقطاع (يريد الزهاد والمتصوفة) ونحو ذلك، وكان الشيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلا الخير والانتصار للحق.

وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم كانوا يحبون الشيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغُّل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين كالشافعي وأحمد …

وكذلك كثير من العلماء، من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، كرهوا له التفرُّد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذَّ بها، حتى إن بعض قضاة العدل من أصحابنا (يريد الفقهاء الحنابلة) منعه من الإفتاء ببعض ذلك.١

ثم يذكر ابن رجب بعد هذا، وهو ينقل عن الذهبي بعض ما قاله فيه: «ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتجَّ لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها.

حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يماري، بل يقول الحق المرَّ الذي أدَّاه إليه اجتهاده …

فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية مصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة والاستعانة به، قويُّ التوكل، ثابت الجأش …» إلى آخر ما قال.

ولعل من الحق علينا هنا أن نضيف إلى تلك الأسباب التي خلقت هذه الخصومات، سببًا آخر نحسُّ آثاره في كل عصر، وهو داء الحسد الذي إذا تملك قلب إنسان أفسده وأعمى بصيرته، وجعله لا يبغي لخصمه إلا الشر والأذى؛ ولهذا أمرنا الله أن نتعوذ من الحسد والحاسدين في سورة من قصار المفصل.

ومهما يكن فإن الشيخ العظيم لم يكن يبالي شيئًا من ذلك كله، بل كان يصدع بالحق الذي أداه إليه اجتهاده وإن كان مرًّا، متوقع الأذى، ويقبله راضيًا محتسبًا، وفي هذا يصدق عليه قول الشاعر العربي المؤمن:

ولست أبالي حين أُقتَل مسلما
على أيِّ جنب كان في الله مصرعي

مواقف ومحن

كان ابن تيمية على ما عرفنا بحرًا زاخرًا بالعلوم العديدة المختلفة، وكان في جميع علومه ومباحثه مجتهدًا حر الرأي لا يتقيد إلا بكتاب الله وسنة رسوله ؛ ومن ثم ظهر بآراء شذَّ بها في رأي معاصريه من الفقهاء والعلماء، فوقفوا دونه فيها ونالوه بالأذى من أجلها، وظاهرهم في بعض مواقفهم رجال من ذوي الجاه والسلطان.

ومن هذه الآراء ما هو في الفقه، ومنها ما هو في العقيدة الدينية وعلم الكلام، ومنها ما هو في التصوف والفلسفة بصفة عامة التي كان يعاديها عداء شديدًا. ومن ذلك، كان خصومه عديدين، وكانت له مواقف كثيرة معهم، ونتج عن هذا ضروب من المحن والشدائد حاقت به حتى انتهى الأمر بوفاته وهو معتقل مسجون.

ونحن لا نتعرض هنا لكل مواقفه مع خصومه، ولا لكل آرائه التي خالفه فيها معاصروه، فربما تناولنا هذا فيما بعدُ في القسم الخاص بفقهه وآرائه في علم الكلام والفلسفة والتصوف، وغير هذا كله من العلوم والدراسات.

وحسبنا أن نتناول في هذا الفصل بعض المسائل الهامة التي كان له في كل منها موقف مع خصومه، وبخاصة التي كان لها أكبر الأثر فيما أصيب به من محن قابلها بالصبر والرضا حتى لحق بالرفيق الأعلى:
  • (١)
    يذكر صاحب «فوات الوفيات»٢ أن الشيخ العظيم أملى سنة ٦٩٨ المسألة المعروفة بالحموية في قعدة بين الظهر والعصر، وهي رسالة أجاب بها عن سؤال ورد من «حماة» في الصفات، وجرى له بسببها محنة، ولكن الله نصره وأذلَّ أعداءه.

    والواقع أن مسألة صفات الله تعالى، التي وصف بها ذاته في القرآن، أثارت وما تزال تثير خلافًا وجدلًا كثيرًا بين رجال علم الكلام.

    مثلًا، يقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، ويقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، ويقول: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. فهل هذه الآيات تدل على أنه تعالى استوى حقًّا على العرش، وأنه يجيء وينتقل، وأن له يدًا، مع ما في القول بذلك من التجسيم أو التشبيه؟ أو يجب تأويل الآية الأولى بأن المراد أنه استولى على العرش، والثانية بأنه جاء أمرنا، والثالثة بأن قدرته فوق قدرة البشر جميعًا. وبهذا التأويل نبعد الله سبحانه وتعالى عن شبهة التجسيم وعن مشابهة المخلوقات.

    يرى علماء السلف رضوان الله عليهم بأن علينا أن نؤمن بما جاء في القرآن من هذه الصفات دون تأويلها؛ لأن تأويلها وبيان المراد منها حقًّا فوق طاقتنا، مع الاعتقاد في الوقت نفسه بتنزيه الله عن مشابهته لبعض ما خلق.

    ويرى المتأخرون من رجال علم الكلام، وبخاصة الأشاعرة منهم، وجوب تأويل هذه الآيات وأمثالها على النحو الذي ذكرناه أو ما يشبهه، وبهذا انسدَّ باب التجسيم والتشبيه عن الله سبحانه وتعالى.

    وقد كان شيخ الإسلام سلفيًّا في كل آرائه، فاتُّهِم بلا حق بأنه يرى رأي المجسِّمة أو المشبِّهة، وأثار خصومُه الناسَ وبعض السلاطين والأمراء عليه بسبب آرائه في هذه المسألة التي جاءت في الرسالة الحموية، فكانت فتنة ومحنة نجَّاه الله منها كما ذكرها صاحب «فوات الوفيات».

    ويبسط ابن كثير القول قليلًا في هذه المسألة، فيذكر أنه في أواخر دولة الملك المنصور لاجين السلحداري قام على ابن تيمية جماعة من الفقهاء وأرادوا أن يحضر إلى مجلس القاضي الحنفي جلال الدين، ولكنه أبى أن يحضر، فشنعوا عليه بالمناداة في البلد ضد رأيه الذي أبانه في الرسالة الحموية.

    ولكن أحد الأمراء انتصر له وأرسل يطلب من قالوا ضده، فاختفى الكثيرون منهم، كما ضرب بعض من نادَوا عليه فسكت الباقون وسكنت الفتنة.

    ثم اجتمع الشيخ بالقاضي إمام الدين وعنده جماعة من العلماء والفضلاء، وبحثوه في الرسالة وناقشوه في مواضع منها، فأجاب الشيخ عما سألوه بما أسكتهم بعد كلام كثير، وكان القاضي إمام الدين مُعتَقَده حسنًا ومقصده صالحًا.٣
  • (٢)

    على أن خصومه لم يتركوه هادئًا، واستعْدَوا عليه ذوي السلطان متخذين عقيدته والطعن فيها لذلك سببًا يتذرعون به للنيل منه، وفي هذا يقول ابن رجب: ثم امتحن سنة ٧٠٥ بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان، فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ وسأله عن ذلك، فبعث الشيخ من أحضر من داره «العقيدة الواسطية»، فقرءوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سُنِّية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا.

    وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.٤

    وهنا نذكر أن هذه العقيدة الواسطية نشرت مرات كثيرة، وآخر نشرة لها سنة ١٣٨٠ﻫ/١٩٦١م بمطبعة المدني بالقاهرة، ومن الخير أن نأتي هنا ببعض افتتاحه لها، وذلك إذ يقول رحمه الله تعالى:

    «أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقَدَر خيره وشره.

    ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بل نؤمن بأن الله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيِّفون ولا يمثِّلون صفاته بصفات خلقه.
    لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له، ولا كُفْوَ له، ولا نِدَّ له، ولا يقاس بخلقه، سبحانه وتعالى؛ فإنه أعلمُ بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا من خلقه. ثم رسله صادقون مصدَّقون، بخلاف الذين يقولون عنه ما لا يعلمون.»٥
  • (٣)

    على أن الخصومة تجددت ثانيًا في السنة نفسها؛ أي سنة ٧٠٥، وإن اختلف الخصوم هذه المرة، فقد كانوا هم رجال الطائفة الأحمدية من أهل الطرق الذين يموِّهون على الناس بما يزعمون كرامات لهم، ومن هذه الكرامات أنهم يدخلون النار ولا تمسهم بأذًى.

    وكان الفارس المتهم المشكوُّ منه هو هو نفسه ابن تيمية الذي لا تفوت عليه هذه الحيل، والذي لا يجامل ولا يداهن، بل يقف دون البدع والدجَّالين صريحًا شجاعًا لا يخاف في قول الحق لومة لائم.

    ففي جمادى الأولى من هذا العام حضر جماعة من هذه الطائفة إلى نائب السلطنة، وحضر الشيخ ابن تيمية، فسأل الأولون من نائب السلطنة بحضرة الأمراء — كما يقول ابن كثير٦ — أن يكفَّ الشيخ عنهم وأن يتركهم وحالهم، فقال الشيخ: هذا ما لا يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولًا وفعلًا، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه. ومن أراد منهم أن يدخل النار منهم فليدخل أولًا الحمام ويغسل جسده جيدًا، ثم يدخل إلى النار بعد ذلك إن كان صادقًا.

    ولو فرض أن أحدًا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته، بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك!

    وهنا ابتدر شيخ منهم وقال: نحن أحوالنا إنما تنفُق عند التتار وليست تنفُق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد.

    ثم انتهى الحال على أن يخلعوا أطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

    وكان من أجل ذلك أن كتب الشيخ جزءًا في هذه الطريقة، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما فيها من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم وباطل ما كانوا يعملون.

  • (٤)

    وتقوم الفتنة مرة ثالثة بشأن عقيدته في هذه السنة نفسها، بحيث يصح لنا أن نسميها «سنة المحنة» أو «سنة المحن المتتابعة». وذلك أنه في أوائل رمضان من هذه السنة ورد إلى دمشق كتاب من السلطان يحمل ابن تيمية إلى القاهرة للكشف عما كان منه، فتوجه إليها على البريد وخرج معه خلق كثير من أصحابه باكين خائفين عليه من أعدائه.

    وكان من نائب السلطنة ابن الأفرم أن أشار عليه — كما يذكر ابن كثير٧ — بعدم الذهاب إلى مصر، وقال له: أنا أكاتب السلطان في ذلك وأصلح القضايا. فاعتذر الشيخ عن عدم قبول هذه المشورة، وذكر له أن الخير في الذهاب إلى مصر، وأن في ذلك مصالح كثيرة.

    فلما جاءت لحظة السفر إلى مصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته، «وهم بين باك وحزين من أجله، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه»، كما يقول ابن كثير. ووصل الشيخ إلى القاهرة في الثاني والعشرين من رمضان، وعقد له غداة يوم وصوله مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأقيم الشمس بن عدنان مدَّعيًا احتسابًا، ثم أخذوا في التحقيق معه.

    وهنا ينبغي أن نشير إلى ما ذكره ابن رجب بشأن هذه المسألة،٨ وهو أن المصريين هم الذين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث والجدل معه، وأجمعوا أمرهم على أن يعقد له مجلس ويُدَّعى عليه فيه وتقام عليه الشهادات.
    وكان القائمون في ذلك منهم بيبرس الجاشنكير الذي صار سلطانًا فيما بعد، ونصر المنبجي،٩ وكان خصمًا للشيخ لأكثر من سبب شديد المراس، وابن مخلوف قاضي المالكية.

    ومهما يكن من أمر، فقد عقد المجلس لمحاكمته، وادَّعى عليه المدعي بأنه يعتقد أن الله على العرش حقيقة، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية، وأنه يتكلم بحرف وصوت، ثم قال: أطلب التعزير على ذلك؛ التعزير البليغ، يشير إلى القتل على مذهب مالك.

    فقال القاضي ابن مخلوف: ما تقول يا فقيه؟ فأخذ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أسرع، ما جئت لتخطب، فقال: أَأُمنع من الثناء على الله تعالى! فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشيخ. فقال: أجب!

    فقال الشيخ له: من هو الحاكم فيَّ؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي فكيف تحكم فيَّ؟! وغضب، فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رُدَّ وقال: رضيت أن تحكم فيَّ، فلم يمكَّن من الجلوس.

    ويقال: إن أخاه شرف الدين ابتهل إلى الله ودعا عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ وأمره أن يقول: اللهم هب لي نورًا يهتدون به إلى الحق!

    ونعتقد نحن أنه رحمه الله كان يتأسى فيما أمر به أخاه بقوله ، وقد اشتد إعراض قريش وأذاهم له: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.»

    وكان بعد هذا أن حبسوه في برج أيامًا نقل بعدها ليلة عيد الفطر إلى السجن المعروف بالجب، وتلا ذلك إرسال كتاب سلطاني إلى الشام بالطعن عليه والحط منه وإلزام الناس — وبخاصة أهل مذهبه — بالرجوع عن عقيدته وإلا كان العزل والحبس مصيرهم، ونودي بهذا في الجامع والأسواق.

    وكان من الطبعي بعد ذلك أن ينال الحنابلة بمصر والشام أذًى كثير، حتى حبس بعضهم، وأخِذ خطوط بعضهم بالرجوع عن العقيدة التي حوكم الشيخ وعوقب بالحبس هو وأخوه شرف الدين من أجلها، كما جرت فتن كثيرة بسببها.

    ولبث في السجن عامًا وبضعة أشهر، ورفض الإفراج عنه على أن يرجع عن بعض عقيدته. حتى إذا كان شهر ربيع الأول سنة ٧٠٧ حضر حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر ودخل السجن وأخرج الشيخ بنفسه بعد أن استأذن في ذلك، وعقدت له مجالس حضرها أكابر الفقهاء وانتهت على خير كما يقول ابن رجب.١٠

    ولكنه بعد إطلاقه رفض العودة إلى دمشق، وأقام بالقاهرة يقرئ العلم على عادته ويتكلم في الجوامع والأماكن العامة، ويجتمع الناس للإفادة منه.

  • (٥)
    على أنه لم يخرج من السجن إلا ليعود إليه في العام نفسه بسبب شكاية تقدم بها الصوفية في شهر شوال ضده إلى القاضي (أو الحاكم كما جاء في بعض النصوص)، وذكروا في شكايتهم أنه يحمل على ابن عربي وغيره من أعلام التصوف،١١ وبعد سماع كلام الشيخ قال بعض الحاضرين إنه ليس عليه في هذا شيء.

    ولكن الدولة لم ترضَ بهذا (أغلب الظن أن ذلك كان بإشارة من الشيخ نصر المنبجي عدو ابن تيمية، والذي كان له التأثير الكبير على الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير) فخُيِّر بين أشياء، وهي — كما يقول ابن رجب: الإقامة بدمشق أو بالإسكندرية بشروط أو الحبس، فكان أن اختار الحبس مُؤثِرًا له على قبول تلك الشروط.

    إلا أن أصحابه رغبوا إليه في السفر إلى دمشق ملتزمًا ما شرطوه عليه، فأجابهم وركب فعلًا متوجهًا إليها، إلا أنه صدر الأمر برده، فَرُدَّ في الغد إلى القاهرة وحضر عند القاضي، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس، إلا أن أحدًا من القضاة لم يجرؤ على الحكم عليه؛ لأنه ما ثبت عليه شيء.

    ولما رأى الشيخ تحيرهم بين الحق وبين ما تريده الدولة، قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فأرسل إلى حبس القاضي المعروف، واستمر فيه على عادته من التعليم والإفتاء في الفتاوى المشكلة التي تأتيه من الأمراء وأعيان الناس، وكان أصحابه يدخلون عليه كلما أرادوا.

    وحينئذٍ لم يجدوا بدًّا من إخراجه إلى الإسكندرية، وبقي في حبس بها مدة سلطنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير. فلما عاد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى السلطنة، أمر بإحضار الشيخ إلى القاهرة في شوال سنة ٧٠٩، وأكرمه إكرامًا زائدًا، وقام إليه وتلقاه في مجلس حفل بالقضاة المصريين والشاميين وأعيان الدولة.

    ثم استشاره في خصومه؛ إذ كان همَّ بقتل بعضهم فصرفه عن ذلك وأثنى عليهم. وكان ابن مخلوف المالكي، يقول: ما رأينا أفتى (من الفتوة والمروءة) من ابن تيمية، سعينا في دمه، فلما قدر علينا عفا عنا.١٢

    واستمر الشيخ بالقاهرة على ما أخذ نفسه به من الاشتغال بالعلم والفتوى، والناس والأمراء والجند يترددون عليه، وكذلك الفقهاء الذين أخذ بعضهم في الاعتذار إليه. ثم عاد إلى دمشق بعد غيبته عنها أكثر من سبع سنين، وكان هذا سنة ٧١٢.

  • (٦)

    لبث الشيخ بعد أن عاد إلى دمشق بضع سنين لا يزعجه خصومه، فتفرغ لنشر العلم والتأليف والإفتاء، ولكنه تكلم في مسألة الحلف بالطلاق وهي من المسائل الفقهية التي تفرد في عصره بالقول بها، ورأيه أنه لا يقع الطلاق بالحلف به بدل الحلف بالله، ولكن على الحالف إذا حنث في يمينه كفارة اليمين المعروفة في القرآن. كما كان رأيه أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة رجعية.

    ولكن القوم وجدوا الأمر خطيرًا، فإن الحلف بالطلاق يقع به الطلاق عند الحنث في رأيهم، فصدر سنة ٧١٨ مرسوم سلطاني بمنعه من الفتوى بعدم وقوع الطلاق، وعُقد لذلك مجلس ونودي بذلك في البلد ليكون الناس على بينة من أمورهم.

    ولم يقفه هذا المرسوم عن الجهر برأيه لكل من يستفتيه، وقال: لا يسعني كتمان العلم، واستمر على هذا حتى حبس بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، ثم أخرج من السجن بعد ذلك وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال بالعلم والتعليم.١٣
    وقد أجمل ابن رجب ما كان في هذه المسألة بكلام واضح وذلك إذ يقول: ثم في سنة ٧١٨ ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير،١٤ وعُقد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك ونودي به في البلد.

    ثم في سنة ٧١٩ عُقد له مجلس أيضًا كالمجلس الأول، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تأكيد المنع.

    ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة لأجل ذلك مرة أخرى، ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم.١٥
  • (٧)

    وكاد الأمر ينتهي عند هذا الحد، لولا أن خصومه ظفروا بفتيا قديمة له في مسألة «شد الرحال» المعروفة، فكان اعتقال لم ينته إلا بوفاته.

    وذلك بأنه يرى أن الذي عليه أئمة المسلمين وجمهور العلماء هو أن السفر لأضرحة الأولياء، غير مشروع، بل هو معصية من أشنع المعاصي لقوله : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والأقصى، ومسجدي هذا.»

    على أنه يرى مع هذا أن السفر المشروع إلى مسجد النبي أو إلى المسجد الأقصى إنما يكون للصلاة التي ورد الحديث في فضلها في أحدهما، وليس لأحد أن يفعل في ذلك ما هو من خصائص البيت العتيق، كما يفعله بعض الضُّلال من الطواف بالصخرة أو الحجرة النبوية.١٦

    وكان من الطبعي أن تثير هذه الفتوى خصوم الشيخ؛ إذ رأوا فيها تنقصًا لمقامات الأنبياء والأولياء والصالحين، فرفعوا الأمر إلى السلطان، وهذا أصدر سنة ٧٢٦ مرسومًا باعتقال صاحبها.

    وسر الشيخ حين أخبر رسميًّا بهذا المرسوم، وقال: أنا كنت منتظرًا لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وفعلًا اعتقل بقاعة بالقلعة بدمشق، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ولكنه مُنع من الفتيا.

    ولم يقف الأمر عند هذا، بل حبس بسجن الحكم جماعة من أصحابه بأمر قاضي القضاة الشافعي، وذلك بمقتضى مرسوم نائب السلطنة وإذنه له بأن يعمل في أمرهم ما توجبه الشريعة، فعذَّر بعضهم ثم أطلقوا، سوى تلميذه الأشهر شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية، فإنه حبس بالقلعة أيضًا، وعلى هذا سكنت القضية إلى حين.١٧

    وأقبل الشيخ الصابر الراضي بقضاء الله وقدره على عبادة الله وقراءة كتابه والتأليف والرد على مخالفيه، كما كتب في المسألة التي حبس بسببها شيئًا كثيرًا، وكان فيما كتبه فيها سنة ٧٢٨ رد على ابن الإخنائي المالكي، وقد استجهله في هذا الرد وبين له أنه قليل البضاعة في العلم، كما يذكر ابن كثير.

    فكان هذا سببًا في أن رسم السلطان بحرمانه من الكتب وأدوات الكتابة، فأخرجوا في تاسع جمادى الآخرة من هذا العام كل ما كان عنده من الكتب والأوراق والدواة والقلم، وبذلك منع من الكتابة والمطالعة.

    وفي هذا يذكر صاحب «وفيات الوفيات» أنه كتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم، ثم بقي أشهرًا على ذلك، وزاد إقباله على التلاوة والعبادة والتهجد حتى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناس إلا نعيه؛ إذ ما كانوا علموا بمرضه عشرين يومًا.

وفاته

وأخيرًا، آن لابن تيمية العالم العابد الأوَّاب، والمجاهد في سبيل الدين والوطن، وفي سبيل كتاب الله وسنة رسوله، أن يلقى ربه الذي يعلم السر وأخفى، والذي لا يضيع أجر العاملين.

آن له أن ينطلق من سجنه، وأن يرتاح من خصومه، وأن يترك الدنيا وما فيها من متاع وزينة وجاه يتقاتل الناس من أجله، وقد كان ذلك كله على حبل الذراع لو أراد، ولكنه صدف عن كل ذلك، وقصر حياته على إقامة الدين ونشر العلم ابتغاء رضوان الله وحسن مثوبته.

وكانت وفاته — كما يقول علم الدين البرزالي في تاريخه — ليلة الإثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة ٧٢٨، وهو لا يزال في سجنه بقلعة دمشق، وكان انتقاله إلى الرفيق الأعلى من أكبر الأحداث التي أخذت على الناس أنفاسهم وقلوبهم.

وكان مشهد تشييعه إلى المقر الأخير أمرًا عظيمًا، فقد تزاحم الناس على جنازته، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والثناء عليه والدعاء له. ولم تصل الجنازة إلى مستقرها إلا قبيل وقت العصر مع أنها حُضِّرت في الساعة الرابعة من النهار؛ وذلك من كثرة الآتين للصلاة من أهل البساتين والغوطة والقرى وغيرهم.

ويذكر ابن كثير، فيما قال في وصف جنازته وكثرة مشيعيها، أنه لم يتخلف عن الحضور إلا من لم يستطع إلى ذلك سبيلًا، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألفًا غير اللاتي كن على الأسطحة وغيرهن، والجميع يترحمن ويبكين عليه. وأما الرجال فحُزروا بستين ألفًا، إلى مائة ألف، إلى أكثر من ذلك، إلى مائتي ألف.١٨

ولما قضيت الصلاة عليه من الناس جماعة بعد أخرى، حمل إلى مقبرة الصوفية، فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله.

رحم الله ابن تيمية، وأجزل ثوابه جزاء ما قدم للدين والعلم والأمة من خير، وجعله مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا.

وبعد:

فما كان ابن تيمية بائسًا حزينًا في سجنه، بل كان يراه قدرًا مقدورًا عليه وفيه خير كثير له، ووجده فرصة طيبة للتفرغ للعلم والعبادة، وكان يذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة الأخيرة من العلوم العظيمة والأهوال الجسيمة.

وكان من قوله في هذا كما ينقل ابن رجب: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المدة من معاني القرآن، ومن أصول العلم، بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن.

وكذلك كان يقول فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.» كما قال: «ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة!»

وكان في حبسه في القلعة يقول: «لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة.» أو قال: «ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير»، ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: «اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، ما شاء الله. وقال مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.»

ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: «فضُرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبله العذاب.»

وهذه كلمات قصار لابن تيمية في أيامه الأخيرة، ولكنها على وجازتها تظهرنا على إيمانه العميق بالله ورضائه من كل قلبه بقضائه وقدره، وتدلنا على فهمه حق الفهم للحياة وما تأتي به من نعيم وبؤس، وقدرته على أن ينظر من كل حدث إلى ما فيه من خير ونعمة، وبذلك يعيش قرير العين راضي النفس، وهكذا كان رضوان الله عليه.

بعض رثائه

ترك ابن تيمية الدنيا للراغبين فيها المتقاتلين في سبيلها، فكان طبعيًّا أن يشعر المسلمون وبخاصة أصحابه وتلاميذه بالحزن واللوعة لفقده، وأن تترجم ألسنتهم نثرًا وشعرًا عن هذا الألم والأسى؛ ولهذا كثر الذين قاموا برثائه شعرًا.

ونحن نذكر بعض هذا الذي رُثي به من الشعر، وهو إلا يكن من جيد الشعر ومشرقه من ناحية ألفاظه وأسلوبه، فإنه يعبر عن العاطفة الصادقة والتقدير العظيم للإمام الكبير.

فمن ذلك قصيدة للشيخ زين الدين عمر بن الودري، يقول فيها:١٩
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
تقيُّ الدين أحمد خير حبر
خُروق المعضلات به تخاط
توفي وهو محبوس فريد
وليس له إلى الدنيا انبساط
ولو حضروه حين قضى لألْفَوا
ملائكة النعيم به أحاطوا
فتًى في علمه أضحى فريدًا
وحلُّ المشكلات به يناط

ثم يقول:

فيا لله ما قد ضم لحد
ويالله ما غطَّى البلاط
هم حسدوه لما لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
وحبس الدر في الأصداف فخر
وعند الشيخ بالسجن اغتباط
بآل الهاشميِّ له اقتداء
فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا

ثم يقول:

ألم يك فيكمو رجل رشيد
يرى سجن الإمام فيستشاط؟!
إمام لا ولاية كان يرجو
ولا وقف عليه ولا رباط
ولا جاراكمو في كسب مال
ولم يُعهد له بكمُ اختلاط

ثم ينتهي بقوله:

فها هو قد مات واسترحتم
فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا
وحُلو واعقدوا من غير رد
عليكم، وانطوى ذاك البساط
ورثاه ابن فضل الله العمري بقصيدة طويلة، ونحن نذكر منها:٢٠
مثل ابن تيمية في السجن معتقل
والسجن كالغمد، وهو الصارم الذكر
مثل ابن تيمية تذوي خمائله
وليس يُلقط من أفنانه الزهَر
مثل ابن تيمية شمس تغيب سُدًى
وما ترقُّ بها الآصال والبكر
مثل ابن تيمية يمضى وما عبقت
بمسكه العاطر الأردانُ والطُّرَر

ثم يقول في حسَّاده ومناوئيه:

وهل فيهمو صادع للحق مِقْوَلُه
أو خائض للوغى والحربُ تستعر؟
رمى إلى نحر «غازان» مواجهة
سهامه من دعاء عَوْنُه القدر
بتلِّ راهطَ والأعداء قد غلبوا
على الشآم وطال الشعر والشرر
وشق في المرج والأسياف مصلتة
طوائفًا كلها أو بعضها تتر
هذا، وأعداؤه في الدار أشجعهم
مثل النساء بظل الباب مستتر

هذا قليل من كثير رُثي به الشيخ من عارفي فضله وحسن بلائه في سبيل الإسلام والمسلمين والوطن، بعد أن صار من المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

تراثه العلمي

تناول ابن تيمية علوم عصره بالدرس الواسع العميق، ثم بالتأليف بعد أن أحاط بها خُبْرًا، ورد على مخالفيه — وبخاصة علماء الكلام والمنطق والتصوف والفلسفة — برسائل لطيفة أحيانًا، وبكتب مطولة أحيانًا أخرى، وكانت نتيجة ذلك كله أن ترك عددًا ضخمًا من المؤلفات يقول أكثر من ترجموا له إنه يصل إلى خمسمائة.٢١

ويكتفي ابن الوردي بأن يذكر أنه ما يبعد أن تصانيفه إلى الآن خمسمائة مجلدة، ثم يقول: وله في غير مسألة مصنف مفرد كمسألة التحليل وغيرها، وله مصنف في الرد على ابن مطهر الرافضي الحلي (أو إمام الشيعة الإمامية في زمنه ابن المطهر الحلِّي البغدادي، كما يذكر بعض الباحثين) في ثلاثة مجلدات كبار، وتصنيف في الرد على «تأسيس التقديس» للرازي في سبعة مجلدات.

وكتاب في الرد على المنطق، وكتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدين، وقد جمع أصحابه من فتاويه ست مجلدات كبار … وله مصنف سماه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام».٢٢
وإذا كان ابن الوردي كان موجِزًا هكذا في بيان بعض مؤلفات شيخه الإمام، فإن ابن الكتبي كان مطيلًا في هذه الناحية، كما حاول أن يصنف ما ذكره من مؤلفاته حسب العلوم المختلفة؛ أي في التفسير، وأصول الدين، وأصول الفقه، وغيرها من العلوم والمعرفة.٢٣

هذا، وبالرجوع إلى دائرة المعارف الإسلامية نجد أن كاتب مادة «ابن تيمية» وهو الأستاذ محمد بن شنب يذكر أنه وصل إلينا من الخمسمائة مؤلف التي يقال إنه صنفها: (١) رسالة الفرقان بين الحق والباطل. (٢) معالم الأصول، وهو تفنيد لقول الفلاسفة والقرامطة الذين يذهبون إلى أن الأنبياء قد يكذبون في بعض الأحيان. (٣) التبيان في نزول القرآن. (٤) الوصية في الدين والدنيا (ويطلق عليه الوصية الصغرى). (٥) رسالة النية في العبادات.

(٦) رسالة العرش هل هو كُريٌّ أم لا؟ (٧) الوصية الكبرى. (٨) الإرادة والأمر. (٩) العقيدة الواسطية. (١٠) المناظرة في العقيدة الواسطية. (١١) العقيدة الحموية الكبرى. (١٢) رسالة في الاستغاثة. (١٣) الإكليل في المتشابه والتأويل. (١٤) رسالة الحلال. (١٥) رسالة في زيارة بيت المقدس.

(١٦) رسالة في مراتب الإرادة. (١٧) رسالة في القضاء والقدر. (١٨) رسالة في الاحتجاج بالقدر. (١٩) رسالة في درجات اليقين. (٢٠) كتاب بيان الهدى من الضلال في أمر الهلال. (٢١) رسالة في سنة الجمعة. (٢٢) تفسير المعوذتين. (٢٣) رسالة في العقود المحرمة. (٢٤) رسالة في معنى القياس. (٢٥) رسالة في السماع والرقص.٢٤
(٢٦) رسالة في الكلام على الفطرة. (٢٧) رسالة في الأجوبة عن أحاديث القُصَّاص. (٢٨) رسالة في رفع الحنفي يديه في الصلاة. (٢٩) كتاب مناسك الحج.٢٥ (٣٠) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. (٣١) الواسطة بين الخلق والحق. (٣٢) رفع الملام عن الأئمة الأعلام. (٣٣) كتاب التوسل والوسيلة.
(٣٤) كتاب جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن. (٣٥) الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح.٢٦ (٣٦) الرسالة البعلبكية. (٣٧) الجوامع في السياسة الإلهية والآيات النبوية. (٣٨) تفسير سورة النور. (٣٩) كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول. (٤٠) تخجيل أهل الإنجيل، وهو رد على النصرانية.

(٤١) المسألة النصيرية. (٤٢) العقيدة التدمرية. (٤٣) اقتضاء الصراط المستقيم ومجانبة أصحاب الجحيم، وهو في الرد على اليهود والنصارى. (٤٤)، (٤٥) كتاب الرد على النصارى، (٤٦) مسألة الكنائس، (٤٧) الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان. (٤٨) العقيدة المراكشية. (٤٩) مسألة العُلوِّ؛ أي في التحدث عن الله. (٥٠) نقد تأسيس الجهمية.

(٥١) رسالة في سجود القرآن. (٥٢) رسالة في سجود السَّهو. (٥٣) رسالة في أوقات النهي والنزاع في ذوات الأسباب وغيرها. (٥٤) كتاب في أصول الفقه. (٥٥) كتاب الفرق المبين بين الطلاق واليمين. (٥٦) مسألة الحلف بالطلاق. (٥٧) الفتاوى. (٥٨) السياسة الشرعية. (٥٩) جوامع الكلم الطيب في الأدعية والأذكار. (٦٠) رسالة العبودية.

(٦١) رسالة تنوع العبادات. (٦٢) رسالة في زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور. (٦٣) رسالة المظالم المشتركة. (٦٤) رسالة الحسبة في الإسلام.

تلك بعض رسائل ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها ما هو مطبوع ومنها ما لم يرَ النور بعد، فأي رجل عظيم كان!

وفي رأينا أنه يجب العناية به وبأمثاله كل العناية، ووجوب البحث والتنقيب عن كل مؤلفاته وطبعها طبعًا علميًّا دقيقًا كما ينبغي، حتى نعرف ونوقن ما لأجدادنا وأسلافنا العظماء من فضل لا يقادر قدره في العلم والحضارة الإسلامية والإنسانية، ولعلنا فاعلون بفضل الله تعالى وتوفيقه، والله لا يضيع أجر العاملين.

١  «طبقات ابن رجب»، ج٢: ٣٩٤.
٢  الجزء الأول، ص٥٠-٥١.
٣  «البداية والنهاية»، ج١٤: ٤، وراجع أيضًا: «طبقات ابن رجب»، ج٢: ٣٩٦.
٤  «الطبقات»، ج٢: ٣٩٦، وراجع تفصيل هذه الواقعة وتلك المجالس في «البداية والنهاية»، ج١٤: ٣٦-٣٧.
٥  وهي رسالة لطيفة قرابة ثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وتدل على سلامة عقيدة صاحبها، والتزامه في صفات الله ما جاء به القرآن والسنة، ومع هذا يتَّهم بالزيغ في العقيدة!
٦  «البداية والنهاية»، ج١٤: ٣٦.
٧  «البداية والنهاية»، ج١٤: ٣٧-٣٨.
٨  راجع «الطبقات»، ج٢: ٣٩٧-٣٩٨.
٩  كان المنبجي شيخ بيبرس الجاشنكير حاكم مصر، كما كان متصوفًا من أنصار مذهب الاتحاد والحلول كما يقول ابن كثير.
١٠  راجع «البداية والنهاية» ج١٤: ٤٥، ففيه زيادة تفصيل عن تصميم الشيخ على موقفه وتحير نائب السلطنة والفقهاء والقضاة في أمره.
١١  نقول: إن ابن عربي هو صاحب مذهب «وحدة الوجود» الذي لا يتفق مع عقل أو دين، وقد بيَّنا هذا المذهب ورددنا على الفكرة التي انبنى عليها في كتابنا «فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية».
١٢  راجع «طبقات ابن رجب»، ج٢: ٣٩٨–٤٠٠، «البداية والنهاية»، ج١٤: ٤٥ وما بعدها، و«فوات الوفيات» ج١: ٥١-٥٢ حيث ذكر ذلك بإيجاز.
١٣  راجع ابن الوردي ج٢ ص٢٦٧ ومواضع أخرى بعدها، الفوات ج١: ٥٢، ابن كثير ج١٤ ص٨٧ ومواضع أخرى بعدها.
١٤  يريد أن الحكم هو لزوم كفارة اليمين عند الحنث لا وقوع الطلاق.
١٥  «الطبقات» ج٢: ٤٠١.
١٦  راجع في الفتوى في هذه المسألة: «مجموع الفتاوى المصرية» لابن تيمية، تأليف الشيخ بدر الدين أبي عبد الله محمد بن علي الحنبلي البعلي المتوفى سنة ٧٧٧ﻫ، طبع مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة عام ١٣٦٨ﻫ/١٩٤٩م، ص٥٥١.
١٧  راجع ابن كثير ج١٤: ١٢٣، وراجع أيضًا في المسألة: ابن الوردي ج٢: ٢٧٩، والفوات ١: ٥٢، ابن رجب ج٢: ٤٠١-٤٠٢.
١٨  «البداية والنهاية» ج١٤ ص١٣٦.
١٩  راجع تاريخه، ج٢: ٢٨٥-٢٨٦.
٢٠  من «حياة شيخ الإسلام ابن تيمية» للشيخ محمد بهجة البيطار، ص٤٣.
٢١  ويقول الإمام الذهبي في بعض تآليفه بهذا الصدد، وإن كان قال في «تذكرة الحفاظ» (ج٤: ٢٧٩) ما نصه: وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاثمائة مجلد. ونحن نميل إلى التقدير الذي ذكرناه، فعليه ما يقارب الإجماع من مترجميه، وبه أخذ كاتب مادته في دائرة المعارف الإسلامية.
٢٢  راجع تاريخه، ج٢: ٢٨٧، وراجع أيضًا، في ذكر الكثير من مؤلفاته، «الطبقات» لابن رجب ج٢: ٤٠٣-٤٠٤، «جلاء العينين» ص٥.
٢٣  «فوات الوفيات»، ج١: ٥٤–٥٨.
٢٤  يريد ما يفعله أرباب الطرق من ذلك.
٢٥  هذه الرسائل الصغيرة جمعت في مجموعة عنوانها: مجموعة الرسائل الكبرى، طبع القاهرة سنة ١٣٢٢ﻫ.
٢٦  وهو رسالة في الرد على بطرس الرسول وأسقف صيداء، كما يقول كاتب المادة، وفيها هاجم المسيحية (بحق) ورفع من شأن الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤